كنتأراها تكفن جثة حبيب في رواية, بذلك القدر من العناية, كما تلفلف الأم رضيعا بعدحمامه الأول.
عندما تقول امرأة عاقر: " في حياة الكاتب تتناسل الكتب", هي حتماتعني "تتناسل الجثث" وأنا كنت أريدها أن تحبل مني , أن أقيم في أحشائها, خشية أنأنتهي جثة في كتاب.
كنت مع كل نشوة أتصبب لغة صارخا بها: " احبلي .. إنها هنيهةالإخصاب"
وكانت شفتاي تلعقان لثما دمع العقم المنحدر على خديها مدرارا كأنهاعتذار.
أحاسيس لم أعرفها مع زوجتي التي كنت لسنوات أفرض عليها تناول حبوب منعالحمل, مهووسا بخوفي أن أغتال فتتكرر في طفلي مأساتي. فكرة أن أترك ابني يتيما كانتتعذبني, حتى انني في الفترة التي تلت اغتيال عبد الحق, كنت أستيقظ مذعورا كما علىصوت بكاء رضيع.
مع حياة ,اكتشفت أن الأبوة فعل حب, وهي التي لم أحلم بالإنجاب منسواها. كان لي معها دوما "حمل كاذب".
لكن, إن كنا لا ننجب من "حمل كاذب" , فإننانجهضه. بل كل إجهاض ليس سوى نتيجة حمل تم خارج رحم المنطق, وما خلقت الروايات إلالحاجتنا الى مقبرة تنام فيها أحلامنا الموءودة.
إن كنت أجلس اليوم لأكتب , فلأنها ماتت.
بعدما قتلتها, عدت لأمثل تفاصيل الجريمة في كتاب.
كمصور يترددفي اختيار الزاوية التي يلتقط منها صورته, لا أدري من أي مدخل أكتب هذه القصة التيالتقطت صورها من قرب, من الزوايا العريضة للحقيقة.
وبمنطق الصورة نفسها التيتلتقطها آلة التصوير معكوسة, ولا تعود الى وجهها الحقيقي الا بعدما يتم تظهيرها فيمختبر, يلزمني تقبل فكرة أن كل شيء يولد مقلوبا, وان الناس الذين نراهم معكوسين, همكذلك, لأننا التقينا بهم, قبل أن تتكفل الحياة بقلب حقيقتهم في مختبرها لتظهيرالبشر.
إنهم أفلام محروقة أتلفتها فاجعة الضوء, ولا جدوى من الاحتفاظ بهم. لقدولدوا موتى.
ليس ثمة موتى غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة. اذنيمكننا بالنسيان, أن نشيع موتا من شئنا من الأحياء, فنستيقظ ذات صباح ونقرر أنهم ماعادوا هنا.
بامكاننا أن نلفق لهم ميتة في كتاب, أن نخترع لهم وفاة داهمة بسكتةقلمية مباغتة كحادث
سير, مفجعة كحادثة غرق, ولا يعنينا ذكراهم لنبكيها, كما نبكيالموتى. نحتاج أن نتخلص من أشيائهم, من هداياهم, من رسائلهم, من تشابك ذاكرتنا بهم. نحتاج على وجه السرعة أن تلبس حدادهم بعض الوقت, ثم ننسى.
لتشفى من حالةعشقية, يلزمك رفاة حب, لاتمثالا لحبيب تواصل تلميعه بعد الفراق, مصرا على ذياكالبريق الذي انخطفت به يوما. يلزمك قبر ورخام وشجاعة لدفن من كان أقرب الناساليك.
أنت من يتأمل جثة حب في طور التعفن, لا تحتفظ بحب ميت في براد الذاكرة, أكتب , لمثل هذا خلقت الروايات.
أذكر تلك الأجوبة الطريفة لكتاب سئلوا لماذايكتبون. أجاب أحدهم " ليجاور الأحياء الأموات" , وأجاب آخر " كي أسخر من المقابر" , ورد ثالث " كي أضرب موعدا" .
أين يمكنك, الا في كتاب, أن تضرب موعدا لامرأة سبقأن ابتكرت خديعة موتها, مصرا على إقحام جثتها في موكب الأحياء, برغم بؤسالمعاشرة.
أليس في هذه المفارقة سخرية من المقابر التي تضم تحت رخامها , وتتركالأموات يمشون ويجيئون في شوارع حياتنا.
وكنت قرأت أن (الغوليين) سكان فرنساالأوائل, كانوا يرمون الى النار الرسائل التي يريدون إرسالها الى موتاهم. وبمكاتيبمحملة بسلاماتهم وأشواقهم وفجيعتهم.
وحدها النار, تصلح ساعي بريد. وحدهابامكانها انقاذ الحريق. أكل ذلك الرماد, الذي كان نارا, من أجل صنع كتابجميل؟
حرائقك التي تنطفئ كلما تقدمت في الكتابة, لا بد أن تجمع رمادها صفحةصفحة, وترسله الى موتاك بالبريد المسجل, فلا توجد وسيلة أكثر ضمانا منكتاب.
تعلم اذن أن تقضي سنوات في انجاز حفنة من رماد الكلمات, لمتعة رمي كتابالى البحر, أن تبعثر في البحر رماد من أحببت, غير مهتم بكون البحر لا يؤتمن علىرسالة, تماما كما القارئ لا يؤتمن على كتاب.
فكتابة رواية تشبه وضع رسالة فيزجاجة والقائها في البحر. وقد تقع في أيدي أصدقاء أو أعداء غير متوقعين. يقولغراهام غرين, ناسيا أن يضيف أنه في أغلب الظن ستصطدم بجثث كانت لعشاق لنا يقبعون فيقعر محيط النسيان. بعد أن غرقوا مربوطين الى صخرة جبروتهم وأنانيتهم. ما كان لناالا أن نشغل أيدينا بكتابة رواية, حتى لا تمتد الة حتف انقاذهم. بامكانهم بعد ذلك, أن يباهوا بأنهم المعنيون برفاة حب محنط في كتاب.
ام حبا نكتب عنه, هو حب لم يعدموجودا, وكتابا نوزع آلاف النسخ منه, ليس سوى رماد
█║S│█│Y║▌║R│║█
عشق ننثره في المكتبات.
الذيننحبهم, نهديهم مخطوطا لا كتابا, حريقا لا رمادا. نهديهم ما لا يساويهم عندنابأحد.
بلزاك في أواخر عمره , وهو عائد من روسيا, بعد زواجه من السيدةهانكسا, المرأة الأرستقراطية التي تراسل معها ثماني عشرة سنة ومات بعد زواجه منهابستة أشهر, كان يقول لها والخيول تجر كهولته في عربة تمضي به من ثلوج روسيا الىباريس:
" في كل مدينة نتوقف فيها, سأشتري لك مصاغا أو ثوبا. وعندما سيتعذر عليذلك, سأقص عليك أحدوثة لن أنشرها".
ولأنه أنفق ماله للوصول اليها, ولأن طريقالرجعة كان طويلا, قد يكون قص عليها قصصا كثيرة.
حتما, أجمل روايات بلزاك هي تلكالتي لم يقرأها أحد, وابتكرها من أجل امرأة ما عادت موجودة هنالتحكيها.
ربما لهذا, أكتب هذا الكتاب من أجل الشخص الوحيد الذي لم يعدبامكانه اليوم أن يقرأه, ذلك الذي ما بقي منه الا ساعة أنا معصمها, وقصة أناقلمها.
ساعته التي لم أكن قد تنبهت لها يوما كانت له, والتي مذ أصبحت لي, كأنيلم أعد أرى سواها. فمنه تعلمت أن أشلاء الأشياء أكثر ايلاما من جثث أصحابها.
هوالذي أجاد الحب , وكان عليه أن يتعلم كيف يجيد موته. قال " لا أحب مضاجعة الموت فيسرير, فقد قصدت السرير دوما لمنازلة الحب, تمجيدا مني للحياة". لكنه مات على السريراياه. وترك لي كغيره شبهة حب, وأشياء لا أدري ماذا أفعل بها.
ساعته أماميعلى الطاولة التي أكتب عليها. وأنا منذ أيام منهمك في مقايضة عمري بها. أهديه عمراافتراضيا. وقتا اضافيا يكفي لكتاية كتاب. تائها في تقاطع أقدارنا, لا أملك الابوصلة صوته, لأفهم بأية مصادفة أوصلنا الحب معا الى تلك المرأة.
أستمع دون تعبالى حواراتنا المحفوظة الى الأبد في تلك الأشرطة, الى تهكمه الصامت بين الجمل, الىذلك البياض الذي كان بيننا, حتى عندما كنا نلوذ بالكلام. صوته! يا اله الكائنات, كيف أخذته وتركت صوته؟ حتى لكأن شيئا منه لم يمت. ضحكته تلك!
كيف ترد عنك أذىالقدر عندما تتزامن فاجعتان ؟ وهل تستطيع أن تقول انك شفيت من عشق تماما من دون أنتضحك, أو من دون أن تبكي!
ليس البكاء شأنا نسائيا.
لا بد للرجال أنيستعيدوا حقهم في البكاء, أو على الحزن إذن أن يستعيد حقه في التهكم.
وعليك أنتحسم خيارك: أتبكي بحرقة الرجولة, أم ككاتب كبير تكتب نصا بقدر كبير من الاستخفافوالسخرية! فالموت كما الحب أكثر عبثية من أن تأخذه مأخذ الجد.
لقد أصبح , لألفتهوحميميته, غريب الأطوار. وحدث لفرط تواتره, أن أفقدك في فترات ما التسلسل الزمنيلفجائعك, فأصبحت تستند الى روزنامته لتستدل على منعطفات عمرك, أو على حادث ما , معتمدا على التراتب الزمني لموت أصدقائك. وعليك الآن أن تردع نزعتك للحزن, كما لجمتمع العمر نزعتك الى الغضب,أن تكتسب عادة التهكم والضحك في زمن كنت تبكي فيه بسببامرأة, أو بسبب قضية, أو خيانة صديق.
مرة أخرى,الموت يحوم حولك إيغالا بالفتكبك, كلؤم لغم لا ينفجر فيك, وإنما دوما بجوارك. يخطئك, ليصيبك حيث لا ترى, حين لاتتوقع. يلعب معك لعبة نيرون, الذي كان يضحك, ويقول انه كان يمزح كلما انقض على أحدأصحابه ليطعنه بخنجره فأخطأه.
اضحك يا رجل, فالموت يمازحك ما دام يخطئك كل مرةليصيب غيرك!
الفصل الثاني
في مارس 1942 , سجن جان جنيهلسرقته نسخة نادرة لأحد دواوين بول فرلين, بعد أن تعذر عليه, وهو الفقير المشرد, شراءها.
وعندما سئل أثناء التحقيق:"أتعرف ثمن هذه النسخة التي سرقتها؟" أجابجنيه الذي لم يكن قد أصبح بعد أحد مشاهير الأدب الفرنسي المعاصر:"لا... بل أعرفقيمتها".
تذكرت هذه الحادثة, عندما بلغني أنني حصلت على جائزة العام, لأحسن صورةصحفية في مسابقة"فيزا الصورة" في فرنسا. ربما لأنني عندما سرقت تلك الصورة من فكالموت, لم أكن أعرف كم سيكون سعرها في سوق المآسي المصورة. ولكنني حتما كنت أعرفقيمتها, وأعرف كم يمكن لصورة أن تكون مكلفة, وقد كلفتني قبل عشر سنوات, عطبا فيذراعي اليسرى.
في صور الحروب التي أصبحت حرب صور, ثمة من يثرى بصورة, وثمةمن يدفع ثمنا لها.
وحدها صورة الحاكم الذي لا يمل من صورته, تمنحك راحة البال, إن كان لك شرف مطاردته يوميا في تنقلاته لالتقاطها. لكنك متورط في المأساة, وفيتاريخ كان ينادى فيه للمصور كما في اليمن السعيد في الخمسينات, ليلتقط لحظات إعدامالثوار وتخليد مشهد رؤوسهم المتطايرة بضربات السيوف في الساحات. أيامها, كان قطعالرؤوس أهم إنجاز, وعلى المصور الأول والأوحد في البلاد أن يبدأ بهمهنته.
ذات يوم, تنزل عليك صاعقة الصورة, تصبح مصورا في زمن الموتالعبثي.
كل مصور حرب, مشروع قتيل يبحث عن صورته وسط الدمار. ثمة مخاطرة في أنتكون مصورا للموت البشع. كأنه دمارك الداخلي. ولن يرمم خرابك عندذاك, حتى فرحةحصولك على جائزة.
المشاهير من مصوري الحروب الذين سبقوك إلى هذا المجد الدامي, يؤكدون:" أنت لن تخرج سالما ولا معافى من هذه المهنة". لكنك تقع على اكتشاف آخر: لايمكنك أن تكون محايدا , وأنت تتعامل مع الرؤوس المقطوعة, واقفا وسط برك الدم لتضبطعدستك.
أنت متورط في تغذية عالم نهم للجثث, مولع بالضحايا, وكل أنواع الموتالغريب في بشاعته.
دكتاتورية الفرجة تفرض عليك مزيدا من الجثث المشوهة.
إنهميريدون صورا بدم ساخن, مما يجعلك دائم الخوف على صورك أن تبرد, أن يتخثر دمها ويجمدقبل أن ترسلها , هناك حيث من حنفية المآسي, تتدفق صور الإفناء البشري علىالوكالات.
أثناء ذلك, بإمكان الموتى أن يذهبوا إلى المقابر, أو أن ينتظروا فيالبرادات. لقد توقف بهم الموت, وجمدت صورتهم إلى الأبد على عدستك. ولن تدري أخلدتهمبذلك, أم أ،ك تعيد قتلهم ثانية.
لا يخفف من ذنبك إلا أنك خلف الكاميرا, لا تصورسوى احتمال موتك.
لكن هذا لا يرد الشكوك عنك. الجميع يشتبه في أمرك: " لصالح منأنت تعمل؟". أأنت هنا , لتمجيد إنجازات القتلة ومنحهم زهوا إعلاميا, أم بنقلك بشاعةجرائمهم تمنح الآخرين صك البراءة, وحق البقاء في الحكم؟ إلى أي حزب من أحزاب القتلىتنتمي؟ ولصالح من من القتلة ترسل صورك.. إلى الأعداء !
وستقضي وقتك في الاعتذارعن ذنوب لم تقترفها, عن جائزة لم تسع إليها, عن بيت محترم تعيش فيه, ولا بيت لغيركمن الصحافيين, عن صديقك الذي قتل, والآخر الذي ذات 13 حزيران قتل امرأته وانتحر.. بعد أن عجز عن أن يكون من سماسرة الصورة.
كنت دائم الاعتقاد أن الصورة, كماالحب, تعثر عليها حيث لا تتوقعها. إنها ككل الأشياء
█║S│█│Y║▌║R│║█
النادرة.. هديةالمصادفة.
المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية, وأنا في طريقي إلىالعاصمة, آتيا من قسنطينة بالسيارة, برغم تحذير البعض.
كنت مع زميل عندمااستوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها, ومازالت مذهولة أمام موتاها.
لم يكن ثمةمن خوف, بعد أن عاد الموت ليختبئ في الغابات المنيعة المجاورة, محاطا بغنائهوسباياه من العذراوات, ولن يخرج إلا في غارات ليلة على قرية أخرى, شاهرا أدوات قتلهالبدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه, مذ صدرت فتوى تبشر "المجاهدين" بمزيد من الثواب, إن هم استعملوا السلاح الأبيض الصدئ, من فؤوس وسيوف وسواطير, لقطعالرؤوس, وبقر البطون, وتقطيع الرضع إربا.
قلما كان القتلة يعودون, لأنهم قلماتركوا خلفهم شيئا يشي بالحياة. حتى المواشي كانت تجاوز جثث أصحابها, وتموت ميتةتتساوى فيها أخيرا بالإنسان.
كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها. ربما لأن لها مخزونا عاطفيا في ذاكرتي مذ كنت أزورها في مواكب الفرح الطلابي فيالسبعينات, مع قوافل الحافلات الجامعية, للاحتفال بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبابحضور رسمي لرئيس الدولة, ضمن مشروع ألف قرية اشتراكية.
كان لي دائما إحساسبأنني قد عرفتهم فردا فردا, لذا عز علي أن أصور موتهم البائس, مكومين أمامي جثثا فيأكياس من النايلون؟
هم الذين أولموا لنا بالقليل الذي كانوا يملكون, ما أحزننيأن أكون شاهد تصوير على ولائم رؤؤسهم المقطوفة.
في زمن الهوس المرئي بالمذابح, وبالميتات المبيتة الشنيعة, من يصدق النوايا الحسنة لمصور تتيح له الصورة حق ملاحقةجثث القتلى ببراءة مهنية؟ ليست أخلاق المروءة, بل أخلاق الصورة, هي التي تجعلالمصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك.
في محاولة إلقاء القبض على لحظة الموتالفوتوغرافي, بإمكان المصور القناص مواصلة إطلاق فلاشاته على الجثث بحثا عن "الصورةالصفقة".
فهو يدري أن للموت مراتب أيضا, وللجثث درجات تفضيل لم تكن لأصحابها فيحياتهم.
ثمة جثث من الدرجة الأولى, لأغلفة المجلات. وأخرى من الدرجة الثانية, للصفحات الداخلية الملونة. وثمة أخرى لن تستوقف أحدا , ولن يشتريها أحد. إنها صوريطاردك نحس أصحابها.
هاهوذا الموت ممد أمامك على مد البصر. أيها المصور..قمفصور!
ثم رأيته..
ماذا كان يفعل هناك ذلك, الصغير الجالس وحيدا على رصيفالذهول؟
كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى. خمس وأربعون جثة. تجاوز عددها مايمكن لمقبرة قرية أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة.
في مذبحةبن طلحة, كان يلزم ثلاث مقابر موزعة على ثلاث قرى, لدفن أكثر من ثلاثمائة جثة. فهلالموت هذه المرة كان أكثر لطفا, وترك لفرط تخمينه بعض الأرواح تنجو من بينفكيه؟
كان الصغير جالسا كما لو أنه يواصل غيبوبة ذهوله. أخبرني أحدهم أنهم عثرواعليه تحت السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده. حيث تسلل من مطرحه الأرضيالذي كان يتقاسمه مع أمه وأخويه, وانزلق ليختبئ تحت السرير. أو ربما كانت أمه هيالتي دفعت به هناك لإنقاذه من الذبح. وهي حيلة لا تنطلي دائما على القتلة, حيث انهفي قرية مجاورة, قامت أم بإخفاء بناتها تحت السرير, غير أنهم عثروا على مخبئهن, نظرا لبؤس الغرفة التي كان السرير يشغل نصف مساحتها, فشدوهن من أرجلهن, وسحبوهم نحوساحة الحوش حيث قتلوهن ونكلوا بجثثهن.
ماذا تراه رأى ذلك الصغير, ليكون أكثرحزنا من أن يبكي؟
لقد أطبق الصمت على فمه, ولا لغة له إلا في نظرات عينيهالفارغتين اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى شيء يراه وحده. حتى انه لم ينتبه لجثةكلبه الذي سممه الإرهابيون ليضمنوا عدم نباحه, والملقاة على مقربة منه, في انتظارأن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكلفوا بعد ذلك بمواراة الحيوانات.
كان يجلس وهويضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره. ربما خوفا, أو خجلا , لأنه تبول في ثيابه أثناءنومه أرضا تحت السرير, وما زالت الآثار واضحة على سرواله البائس.
هو الآن مستندإلى جدار كتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفك طلاسمها, لأنه لم يتعلمالقراءة بعد.ولأنه لم يغادر مخبأه, فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقع القتلةجرائمهم, بكلمات كتبت بخط عربي رديء, وبحروف مازال يسيل من بعضها الدم الساخن. أبدمأمه, أم أبيه , أم بدم أحد إخوته؟
هو لن يعرف شيئا. ولا حتى بأية معجزة نجا منبين فكي الموت, ليقع بين فكي الحياة. وأنت لا تعرف بأية قوة, ولا لأي سبب, تركتالموت في مكان مجاور, ورحت تصور سكون الأشياء بعد الموت, وصخب الدمار في صمته, ودموع الناجين في خرسهم النهائي.
█║S│█│Y║▌║R│║█
لك تكن تصور ما تراه أنت, بل ما تتصور أن ذلكالطفل رآه حد الخرس.
عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل, حضرني قول مصور أمريكيأمام موقف مماثل:"كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟"
ولم أكنبعد لأصدق, أنك كي تلتقط صورتك الأنجح, لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة, بقدرحاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة.
لا تحتاج إلى تقنيات متقدمة في انتقاءالألوان, بل إلى فيلم بالأبيض والأسود, مادمت هنا بصدد توثيق الأحاسيس لاالأشياء.
أول فكرة راودتني, عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضلصورة صحفية للعام, هي العودة إلى تلك القرية, للبحث عن ذلك الطفل.
كانت فكرةلقائي به تلح علي, وتتزايد يومابعد آخر, لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا, وأحيانا أخرشكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة.
حتى قبل أن أحصلعلى مال تلك الجائزة, كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك الصغير على الخروج منمحنة يتمه. ونويت بيني وبين نفسي, أن أتكفل به مادمت حيا, بالقدر الذيأستطيعه.
لا أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل: أيتمنا المشترك؟ أمكونه أصبح ابنا لآلة التصوير بالتبني؟
وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مالكانت تفوح منه رائحة مريبة,لجريمة كان جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الآخرين. كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله, مما علق به من دم , باقتسامه مع الضحيةنفسها.
طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزةالعالمية للصورة, عن صورته الشهيرة لامرأة تنتحب, سقط شالها لحظة ألم, فتبدت فيوشاح حزنها جميلة ومكابرة وعزلاء أمام الموت, حد استدراجك للبكاء. لكأنها تمثال" العذراء النائحة" لمايكل أنجلو.
وكان حسين, عند وصوله إلى قرية بن طلحة, وجدنفسه أمام أكثر من ثلاثمائة جثة ممدة في أكفانها. فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذصورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب, والتي قيل له إنها فقدت أولادها السبعة في تلكالمذبحة.
بعد ذلك, عندما انتشرت الصورة وجابت العالم, اكتشف حسين أن المرأةماكانت أم الأولاد بل خالتهم.
كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته. فكل عبثيةالحرب كانت تختصر في صورة لامرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور, وأطفال وجدوا مصادفةحيث براثن الموت.
الموت, كما الحب, فيه كثير من التفاصيل العبثية. كلاهماخدعة المصادفات المتقنة.
أما الأكثر غرابة فكون تلك المرأة , التي لم تقم دعوىضد القتلة, ولا طالبت الدولة بملاحقة الجزارين الذين نحروا الأجساد الصغيرةلأقاربها السبعة, جاء من يقنعها بأن ترفع دعوى على المصور الذي صنع "مجده" وثراءهبفجيعتها, عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا في الغرب لا يملكها صاحبها في العالمالعربي. فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على المجلات العالمية الكبرى التي نشرت الصورة, بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو ينتحب بعد مرور الموت!
لا أصعب على البعض منأن يرى جزائريا آخر ينجح. فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها في حقه. ولذا قد يغفرللقتلة جرائمهم, لكنه لن يغفر لك نجاحاتك.
وكلما , بحكم المهنة أو بحكم الجوار, ازدادت قرابته منك, ازدادت أسباب حقده عليك, لأنه لا يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء, تنجح حيث أخفق هو.
جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة, لو غرقت لجازف بحياتهلإنقاذك من الغرق. لكنك لو نجحت في البكالوريا, ورسب فيها, وستذهب إلى الجامعة, ويبقى هو مستندا إلى حائط الإخفاق. وذات يوم , ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيلامكفنا بنجاحاتك.
عندما ظهر خبر نيلي الجائزة, أسفل الصفحة الأولى من الجريدةالأكثر انتشارا, تحت عنوان" جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا", وتلاهفي الغد مقال آخر في جريدة بالفرنسية عنوانه" فرنسا تفضل تكريم كلاب الجزائر", أدركت أن ثمة مكيدة تتدبر, وأن الأمر يتجاوز مصادفة الاتفاق في وجهة نظر.
كانتلعنة النجاح قد حلت بي, وانتهى الأمر.
لكن, كان لا بد أن يمر بعض الوقت, لأكتشفأن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد "صديق". كان جاري في قسنطينة وتوسطت لهلينتقل إلى العمل في العاصمة, في الجريدة نفسها التي أعمل فيها, فوفر علي بكيده كلطعنات الأعداء, وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب من الوفاء ما يغني عن إخلاص الأصدقاء, بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لأجعل منه عدوا.
غير أن الموضوع عاد بعدذلك ليشغلني في طرحه الآخر:
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)