وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج؛ وذلك أن بعض أصحابنا ذكر عن سلف زكرويه أنه قال: قال لي قرمط: صرت إلى صاحب الزنج، ووصلت إليه، وقلت له: إني على مذهب، وورائي مائة ألف سيف؛ فناظرني، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك.
وقلت له: تعطيني الأمان؟ ففعل.
قال: فناظرته إلى الظهر، فتبين لي في آخر مناظرتي إياه أنه على خلاف أمري، وقام إلى الصلاة، فانسللت، فمضيت خارجًا من مدينته، وصرت إلى سواد الكوفة.
ذكر خبر غزو الروم ووفاة يازمان في هذه الغزوة
ولخمس بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، دخل أحمد العجيفي مدينة طرسوس، وغزا مع يازمان غزاة الصائفة، فبلغ سلندو.
وفي هذه الغزاة مات يازمان، وكان سبب موته أن شظية من حجر منجنيق أصاب أضلاعه وهو مقيم على حصن سلندو؛ فارتحل المعسكر؛ وقد كانوا أشرفوا على فتحه، فتوفي في الطريق من غده يوم الجمعة، لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وحمل إلى طرسوس على أكتاف الرجال فدفن هناك.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من أمر السلطان بالنداء بمدينة السلام؛ ألا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر؛ وحلف والوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم.
وفي ذلك اليوم بويع للمعتضد بأنه ولى العهد من بعد المعتمد، وأنشئت الكتب بخلع جعفر وتوليه المعتضد، ونفذت إلى البلدان، وخطب يوم الجمعة للمعتضد بولاية العهد، وأنشئت عن المعتضد كتب إلى العمال والولاة؛ بأن أمير المؤمنين قد ولاه العهد، وجعل إليه ما كان الموفق يليه من الأمر والنهي والولاية والعزل.
وفيها قبض على جرادة، كاتب أبي الصقر لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وكان الموفق وجهه إلى رافع بن هرثمة، فقدم مدينة السلام قبل أن يقبض علية بأيام.
وفيها انصرف أبو طلحة منصور بن مسلم من شهرزور لست بقين من جمادى الأولى - وكانت ضمت إليه - فقبض عليه وعلى كاتبه عقامة، وأودعا السجن؛ وذلك لأربع بقين من جمادى الأولى.
ذكر خبر الفتنة بطرسوس
وفيها كانت الملحمة بطرسوس بين محمد بن موسى ومكنون غلام راغب مولى الموفق؛ في يوم السبت لتسع بقين من جمادى الأولى؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن طغج بن جف، لقي راغبًا بحلب، فأعلمه أن خمارويه بن أحمد يحب لقاءه، ووعده عنه بما يحب؛ فخرج راغب من حلب ماضيًا إلى مصر في خمسة غلمان له، وأنفذ خادمه مكنونًا مع الجيش الذي كان معه وأمواله وسلاحه إلى طرسوس.
فكتب طغج إلى محمد بن موسى الأعرج يعلمه أنه قد أنفذ راغبًا، وأن كل ما معه من مال وسلاح وغلمان مع غلامه مكنون، قد صار إلى طرسوس، وأنه ينبغي له أن يقبض عليه ساعة يدخل وعلى ما معه.
فلما دخل مكنون طرسوس وثب به الأعرج، فقبض عليه ووكل بما معه، فوثب أهل طرسوس على الأعرج، فحالوا بينه وبين المكنون، وقبضوا على الأعرج فحبسوه في يد مكنون، وعلموا أن الحيلة قد وقعت براغب؛ فكتبوا إلى خمارويه بن أحمد يعلمونه بما فعل الاعرج، وأنهم قد وكلوا به، وقالوا: أطلق راغبًا لينفذ إلينا حتى نطلق الاعرج، فأطلق خمارويه راغبًا، وأنفذه إلى طرسوس، وأنفذ معه أحمد بن طغان واليًا على الثغور، وعزل عنهم الأعرج، فلما وصل راغب إلى طرسوس أطلق محمد بن موسى الأعرج، ودخل طرسوس أحمد بن طغان واليًا عليها وعلى الثغور ومعه راغب، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شعبان.
خبر وفاة المعتمد
وفيها توفي المعتمد ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب، وكان شرب على الشط في الحسنى يوم الأحد شرابًا كثيرًا، وتعشى فأكثر، فمات ليلًا، فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وستة أيام - فيما ذكر.
خلافة المعتضد
وفي صبيحة هذه الليلة بويع لأبي العباس المعتضد بالله بالخلافة، فولى غلامه بدرًا الشرطة وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة ومحمد بن الشاد بن ميكال الحرس، وحجبة الخاصة والعامة صالحًا المعروف بالأمين، فاستخلف صالح خفيفًا السمرقندي.
ولليلتين خلتا من شعبان فيها قدم المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفار بهدايا، وسأل ولاية خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشري مع الرسول، ومعه خلع ولواء عقدة له على خراسان، فوصلوا إليه في شهر رمضان من هذه السنة، وخلع عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيام.
وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد، وقام بما كان إليه من العمل وراء نهر بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.
وفيها قدم الحسين بن عبد الله بن المعروف بابن الحصاص من مصر رسولًا لخمارويه بن أحمد بن طولون، ومعه هدايا من العين عشرون حملًا على بغال وعشرة من الخدم وصندوقان فيهما طراز وعشرون رجلًا على عشرين نجيبًا، بسروج محلاة بحلية فضة كثيرة، ومعهم حراب فضة، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاة وسبع عشرة دابة، بسروج ولجم، منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وسبع وثلاثون دابة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرافة، يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال، فوصل إلى المعتضد، فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه.
وسفر ابن الحصاص في تزويج ابنة خمارويه من علي بن المعتضد، فقال المعتضد: أنا أتزوجها، فتزوجها.
وفيها ورد الخبر بأخذ أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين من محمد بن إسحاق بن كنداج.
وفيها مات إبراهيم بن محمد بن المدبر، وكان يلي ديوان الضياع، فولى مكانه محمد بن عبد الحميد، وكان موته يوم الأربعاء لثلاث أو أربع عشرة بقيت من شوال.
وفيها عقد لراشد مولى الموفق على الدينور، وخلع علية يوم السبت لسبع بقين من شوال، ثم خرج راشد إلى عمله يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة.
وفي يوم النحر منها ركب المعتضد إلى المصلى الذي اتخذه بالقرب من الحسنى، وركب معه القواد والجيش، فصلى بالناس، فذكر عنه أنه كبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الركعة الثانية تكبيرة واحدة، ثم صعد المنبر، فلم تسمع خطبته، وعطل المصلى العتيق فلم يصل فيه.
وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربة رافع بن هرثمة ورافع الرى، فزحف إليه أحمد، فالتقوا يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة؛ فانهزم رافع بن هرثمة، وخرج عن الرى، ودخلها ابن عبد العزيز.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي؛ وكانت آخر حجة حجها، وحج بالناس ست عشرة سنة، من سنة أربع وستين إلى هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة - وكان شيلمة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه.
ثم لحق بالموفق في الأمان فأمنه - وكان سبب أخذه إياهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأعلمه أنه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه، وأنه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم، وأخذ معه رجل صيدناني وابن أخ له في المدينة، فقرره المعتضد فلم يقر بشيء، وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه، فلم يقر بشيء، وقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، ولو عملتني كردناك لما أخبرتك به؛ فأمر بنار فأوقدت، ثم شد على خشبة من خشب الخيم، وأدير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر الأسفل في الجانب الغربي.
وحبس ابن المهتدي إلى أن وقف على براءته، فأطلق، وكان صلبه لسبع خلون من المحرم.
فذكر أن المعتضد قال لشيلمة: قد بلغني أنك تدعو إلى ابن المهتدي، فقال: المأثور عني غير هذا، وإني أتولى آل ابن أبي طالب - وقد كان قرر ابن أخيه فأقر - فقال له: قد أقر ابن أخيك، فقال له: هذا غلام حدث تكلم بها خوفًا من القتل، ولا يقبل قوله.
ثم أطلق ابن أخيه والصيدناني بعد مدة طويلة.
ذكر خبر قصد المعتضد بني شيبان وصلحه معهم
ولليلة خلت من صفر يوم الأحد شخص المعتضد من بغداد يريد بني شيبان، فنزل بستان بن هارون، ثم سار يوم الأربعاء منه، واستخلف على داره وبغداد صالحًا الأمين حاجبه، فقصد الموضع الذي كانت شيبان تتخذه معقلًا من أرض الجزيرة؛ فلما بلغهم قصده إياهم؛ ضموا إليهم أموالهم وعيالاتهم.
ثم ورد كتاب المعتضد أنه أسرى إلى الأعراب من السن، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الزابين، وأخذ النساء والذراري، وغنم أهل المعسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله، وأخذ من غنمهم وإبلهم ما كثر في أيدي الناس حتى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بالنساء والذراري أن يحفظوا حتى يحدروا إلى بغداد.
ثم مضى المعتضد إلى الموصل، ثم رجع إلى بغداد، فلقيه بنو شيبان يسألونه الصفح عنهم، وبذلوا له الرهائن، فأخذ منهم خمسمائة رجل - فيما قيل.
ورجع المعتضد يريد مدينة السلام، فوافاه أحمد بن أبي الاصبغ بما فارق عليه أحمد ابن عيسى بن الشيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداج وبهدايا ودواب وبغال في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول.
وفي شهر ربيع الأول ورد خبر بأن محمد بن أبي الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب غليظة كانت بينهم، وأنه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه، فقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله، ثم قتله بعد.
وفي شهر ربيع الآخر ورد خبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف.
وكانت وفاته في آخر شهر ربيع الأول، فطلب الجند أرزاقهم، وانتهبوا منزل إسماعيل بن محمد المنشيء، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر، ولم يكتب إليه المعتضد بالولاية.
وفيها افتتح محمد بن ثور عمان، وبعث برءوس جماعة من أهلها.
وذكر أن جعفر بن المعتمد توفي في يوم الأحد لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الآخر منها؛ وأنه كان مقامه في دار المعتضد لا يخرج ولا يظهر، وقد كان المعتضد نادمه مرارًا.
وفيها انصرف المعتضد إلى بغداد من خرجته إلى الأعراب.
وفيها، في جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول عمرو بن الليث نيسابور؛ في جمادى الأولى منها.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج وثلاثين نفسًا من الخوارج، من طريق الموصل، فضربت أعناق خمسة وعشرين رجلًا منهم، وصلبوا، وحبس سبعة منهم في الحبس الجديد.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس لغزاة الصائفة، لخمس خلون من رجب من قبل خمارويه، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعًا مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسور.
وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه - فيما ذكر - مدينة ملكهم، وأسره إياه وأمرأته خاتون ونحوًا من عشرة ألاف، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وغنم من الدواب دواب كثيرة لا يوقف على عددها، وأنه أصاب الفارس من المسلمين من الغنيمة في المقسم ألف درهم.
ولليلتين بقيتا من شهر رمضان منها، توفي راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل في تابوت إلى بغداد.
ولثلاث عشرة خلت من شوال منها مات مسرور البلخي.
وفيها - فيما ذكر - في ذي الحجة ورد كتاب من دبيل بانكساف القمر في شوال لأربع عشرة خلت منها، ثم تجلى في آخر الليل، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمة عليهم؛ فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديدة، فدامت إلى ثلث الليل؛ فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها إلا اليسير، قدر مائة دار، وأنهم دفنوا إلى حين كتب الكتاب ثلاثين ألف نفس يخرجون من تحت الهدم، ويدفنون، وأنهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات.
وذكر عن بعضهم أن جملة من أخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من موافاة ترك بن العباس عامل السلطان على ديار مضر مدينة السلام لتسع خلون من المحرم بنيف وأربعين نفسًا من أصحاب أبي الأغر صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير.
فمضى بهم إلى دار المعتضد، ثم ردوا إلى الحبس الجديد فحبسوا به، وخلع على ترك، وانصرف إلى منزله.
وفيها ورد الخبر بوقعة كانت لوصيف خادم ابن أبي الساج بعمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وهزيمته إياه، ثم صار وصيف إلى مولاه محمد ابن أبي الساج، في شهر ربيع الآخر منها.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزاة الصائفة من قبل خمارويه يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة - فيما قيل - وغزا، فبلغ طرايون، وفتح ملورية.
ولخمس ليال بقين من جمادى الآخرة مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة، ودفن بها في موضع يقال له مسجد السهلة.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
ولليلتين خلتا من رجب منها شخص المعتضد إلى الجبل، فقصد ناحية الدينور، وقلد أبا محمد علي بن المعتضد الري وقزوين وزنجان وأبهر وقم وهمذان والدينور، وقلد كتبته أحمد بن أبي الاصبغ، ونفقات عسكره والضياع بالري الحسين بن عمرو الضراني، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج، وتعجل للانصراف من أجل غلاء السعر وقلة الميرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر رمضان.
وفيها أتستأمن الحسن بن علي كوره عامل رافع على الرى إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل، فوجهه إلى أبيه المعتضد.
وفيها دخل الأعراب سامرا فأسروا ابن سيما أنف في ذي القعدة منها وانتهبوا.
ذكر خبر الوقعة بين الأكراد والأعراب
ولست ليال بقين من ذي القعدة خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل عامدًا لحمدان بن حمدون؛ وذلك أنه بلغه أنه مايل هارون الشاري الوازقي، ودعا له.
فورد كتاب المعتضد من كرخ جدان على نجاح الحرمي الخادم بالوقعة بينه وبين الأعراب والأكراد؛ وكانت يوم الجمعة سلخ ذي القعدة:
" بسم الله الرحمن الرحيم ". كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة، وقد نصر الله - وله الحمد - على الأكراد والأعراب، وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم؛ ولقد رأيتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عامًا أولًا، ولم تزل الأسنة والسيوف تأخذهم، وحال بيننا وبينهم الليل، وأوقدت النيران على رءوس الجبال، ومن غد يومنا، فيقع الاستقصاء، وعسكري يتبعني إلى الكرخ.
وكان وقاعنا بهم وقتلنا إياهم خمسين ميلًا، فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرًا، فقد وجب الشكر لله علينا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم كثيرًا.
وكانت الأعراب والأكراد لما بلغهم من خروج المعتضد، تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا، وعبوا عسكرهم ثلاثة كراديس؛ كردوسًا دون كردوس، وجعلوا عيالاتهم وأولادهم في أخر كردوس، وتقدم المعتضد عسكره في خيل جريدة، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرق في الزاب منهم خلق كثير، ثم خرج إلى الموصل عامدًا لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان ابن حمدون، فلما بلغه مجيء المعتضد هرب وخلف ابنه بها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم من كان فيها يومهم ذلك؛ فلما كان من الغد ركب المعتضد، فصعد القلعة حتى وصل إلى الباب، ثم صاح: يا بن حمدون، فأجابه: لبيك! فقال له: افتح الباب، ويلك! ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وأمر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والاثاث، ثم أمر بهدمها فهدمت، ثم وجه خلف حمدان بن حمدون، فطلب أشد الطلب، وأخذت أموال كانت له مودعة.
وجيء بالمال إلى المعتضد، ثم ظفر به.
ثم مضى المعتضد إلى مدينة يقال لها الحسنية، وفيها رجل يقال له شداد، في جيش كثيف، ذكر أنهم عشرة آلاف رجل، وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد، فأخذه فهدم قلعته.
وفيها ورد الخبر من طريق مكة أنه أصاب الناس في المصعد برد شديد ومطر جود وبرد أصيب فيه أكثر من خمسمائة إنسان.
وفي شوال منها غزا المسلمون الروم، فكانت بينهم الحرب اثني عشر يومًا، فظفر المسلمون وغنموا غنيمة كثيرة وانصرفوا.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر الاحداث التي كانت فيها
ذكر أمر النيروز المعتضدي
فمن ذلك ما كان من أمر المعتضد في المحرم منها بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي هو نيروز العجم، وتأخير ذلك إلى اليوم الحادي عشر من حزيران، وسمي ذلك النيروز المعتضدي، فأنشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها، وورد كتابه بذلك على يوسف بن يعقوب يعلمه أنه أراد بذلك الترفيه على الناس، والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس، ففعل.
وفيها قدم ابن الجصاص من مصر بابنه أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون التي تزوجها المعتضد، ومعها أكثر عمومتها، فكان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم، وأدخلت للحرم ليلة الأحد، ونزلت في دار صاعد ابن مخلد؛ وكان المعتضد غائبًا بالموصل.
وفيها منع الناس من عمل ما كانوا يعملون في نيروز العجم من صب الماء ورفع النيران وغير ذلك.
ذكر أمر المعتضد مع حمدان بن حمدون
وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه؛ فأما إسحاق بن أيوب فسارع إلى ذلك، وأما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه.
فوجه إليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما؛ فصادفوا الحسن بن علي كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من أرض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان.
فلما رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان فأومن.
صار الحسين إلى المعتضد، وسلم القلعة فأمر بهدمها، وأغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان؛ وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدًا، فعبر أصحاب وصيف إليه ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم، حتى قتل أكثرهم، فألقى حمدان نفسه في زورق كان معدًا له في دجلة، ومعه كاتب له نصراني يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالًا، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض ديار ربيعة، وقدر اللحاق بالأعراب لما حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي، وعبر في أثره نفر يسير من الجند فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله؛ فلما بصر بهم خرج من الدير هاربًا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل إلى المعتضد، وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرًا إلى ضيعة له بشرقي دجلة، فركب دابة لوكيله، وسار ليلة أجمع إلى أن وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرًا به، فأحضره إسحاق مضرب المعتضد، وأمر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعدة من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان؛ وذلك في آخر المحرم من هذه السنة.
وفي شهر ربيع الأول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
وفيها انتقلت ابنة خمارويه بن أحمد إلى المعتضد لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودي في جانبي بغداد ألا يعبر أحد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووكل بحافتي دجلة من يمنع أن يظهروا في دورهم على الشط.
فلما صليت العتمة وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا أحدرت الحراقات، وصارت الشذا بين أيديهم؛ وأقامت الحرة يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالًا لابن أبي دلف وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف يطلب منه جوهرًا كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددًا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن أبي الساج بمن أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة، ولقي مالًا للسلطان في طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطي ويحيي ويهرب
وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرى إلى أبي محمد أبنه.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار، ليفرقها على أهله ببغداد والكوفة؛ ومكة والمدينة، فسعى به، فأحصر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر أن يوجه إليه في كل سنة بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقة عليه من أهله.
فأعلم بدر المعتضد ذلك، وأعلمه أن الرجل في يديه والمال، واستطلع رأيه وما يأمر به.
فذكر عن أبي عبد الله الحسني أن المعتضد قال لبدر: يا بدر، أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: ألا تذكر أني حدثتك أن الناصر دعاني، فقال لي: أعلم أن هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل علي بن أبي طالب! ثم قال: رأيت في النوم كأني خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس إلي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي، لا يلتفت إلي، فعجبت منه ومن قلة اكتراثه بعسكري، مع تشوف الناس إلى العسكر، فأقبلت إليه حتى وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فأقبلت إليه، فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا علي بن أبي طالب؛ خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الأرض - لمسحاة بين يديه - فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: أنه سبيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فأوصهم بولدي خيرًا.
قال بدر: فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، قد ذكرت.
قال: فأطلق المال، وأطلق الرجل وتقدم إليه إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يوجه به إليه ظاهرًا، وأن يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرًا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
وفي شعبان لإحدى عشرة بقيت منها، توفي أبو طلحة المنصور بن مسلم في حبس المعتضد.
وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادمًا من الرى، فخلع عليه المعتضد.
ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جارية أم قاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنًا سماه جعفر، فسمى المعتضد هذه الجارية شغب.
وفيها قدم إبراهيم ابن أحمد الماذرائي لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في أحد عشر يومًا، فأخبر المعتضد أن خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من الخاصة، وقيل: إن قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجة.
وقيل أن إبراهيم وافى بغداد من دمشق سبعة أيام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادمًا.
وكان المعتضد كان قد بعث مع ابن الجصاص إلى خمارويه بهدايا، وأودعه إليه رسالة، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب إليه يأمره بالرجوع إليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هارون الشاري والظفر به
فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم منها - بسبب الشاري هارون - إلى ناحية الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان سبب ظفره به أنه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه؛ وذكر أن الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إياهما بعد مجيء به إليه.
فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألا يخالفني فيما أمره به، فأمر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون؛ فتمنعه العبور، وأجيئك أنا، أو يبلغك أني قد قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا؛ والصواب أن نمضي في أثارهم.
فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون الشاري منهزما إلى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفًا وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف هارون خبرًا، ولا رأى له أثرًا، وجعل يسأل عن هارون حتى وقف عبوره، فعبر في أثره، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسألهم عنه فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم، وأعلمهم أن المعتضد في أثره؛ فأعلموه أنه اجتاز بهم، فأخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم - وكانت قد كلت وأعيت - واتبع أثره، فلحقه بعد أيام والشاري في نحو من مائة، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى إلا محاربته، فحاربه؛ فذكر أن حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه، وجاء به إلى المعتضد سلمًا بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعة عليه والإحسان إليه أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه؛ فلما أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعًا إلى مدينة السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية، وعبأ الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من رؤساء أهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشاري على الفيل كالمحفة، وأقعد فيها، وألبس دراعه الديباج، وجعل على رأسه برنس حرير طويل.
ولعشر بقين من جمادى الأولى منها، أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وصرف عمالها؛ فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر.
وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وأبيه، فقال: اللهم أصلح الداعي إلى الحق؛ فرجع عمرو إلى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرًا أهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأخرى منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق ابن كنداجيق وخاقان المفلحي ومحمد بن كمشجور المعزوف ببندقة وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعة من القواد من مصر في الأمان.
وذكر أن سبب مجيئهم إلى المعتضد في الأمان كان أنهم أرادوا أن يفتكوا بجيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فسعى بهم إليه، وكان راكبًا وكانوا في موكبه، وعلموا أنه قد وقف على أمرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البرية، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيامًا، ومات منهم جماعة من العطش وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفة بمرحلتين أو ثلاثة.
ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى الكوفة حتى كتب أسماؤهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفة فلما قربوا من بغداد، خرجت إليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا إلى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم وحمل كل قائد منهم على دابة بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلًا.
وفي يوم السبت لأربع عشرة بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان.
خبر حصر الصقالبة القسطنطينية
وفيها - فيما ذكر - ورد كتاب من طرسوس أن الصقالبة غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيرة حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، وأغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغية الروم إلى ملك الصقالبة أن ديننا ودينكم واحد؛ فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبة أن هذا ملك آبائي، ولست منصرفًا عنك إلا بغلبة أحدنا صاحبه؛ فلما لم يجد ملك الروم خلاصًا من صاحب الصقالبة، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا، وكشفوا الصقالبة، فلما رأى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث إليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح وفرقهم في البلدان، حذرًا من أن يجنوا عليه.
خلاف جند جيش بن خمارويه عليه
وللنصف من رجب من هذه السنة ورد الخبر من مصر أن الجند من المغاربة والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرض بك أميرًا علنيًا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذي ذكروا أنهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بأرؤسهما إليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها أمر المعتضد بكري دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبني بذلك من أرباب الضياع والإقطاعات أربعة آلاف دينار، وكسر - فيما ذكر - وأنفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي أحمد بن طغان، وذكر أن الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": أعلمك أن أحمد بن طغان نادي في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وأنه قد خرج إلى لامس - وهو معسكر المسلمين - يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زي، فلم يزل الناس خارجين إلى لامس إلى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثني عشر يومًا؛ وكانت جملة من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، وأطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج - فيما ذكر أحمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، أوخلف دميانه على علمه على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردي على طرسوس ولم يرجع هو إليها.
ذكر أمر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وأخيه بكر
وفي يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنة قرىء كتاب على المنبر بمدينة السلام في مسجد جامعها؛ بأن عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إلى بدر وعبيد الله بن سليمان في الأمان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعًا مطيعًا منقادًا لأمير المؤمنين، مذعنًا بالطاعة والمصير معهما إلى بابه، وأن عبيد الله بن سلمان خرج إليه فتلقاه، وصار به إلى مضرب بدر، وأخذ عليه وعلى أهل بيته وأصحابه البيعة لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من أهل بيته، فانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الأمان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على أن يخرج إليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في طاعة السلطان؛ وإنما كنا وليناك عمله على أنه عاص، والآن فأمير المؤمنين أعلى عينًا فيما يرى من أمركما، فامضيا إلى بابه.
وولى عيسى النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في أصحابه، فكتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام بموضعه إلى أن يعرف خبر بكر وما إليه يصير أمره؛ فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى محمد علي بن المعتضد بالرى، ولحق بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالأهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفًا موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه - فيما ذكر - ولم يواقعه، وباتا؛ وكل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بكر وعربه، فتقدم بدر إلى عيسى النوشري بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
عني ملامك ليس حين ملام ** هيهات أحدث زائدًا للوام
طارت غيايات الصبا عن مفرقي ** ومضى أوان شراستي وعرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ** وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ** مرمى البعيد الأرحام
وتشعب العرب الذين تصدعوا ** فذببت عن أحسابهم بحسامي
فيه تماسك ما وهي من أمرهم ** والسمر عند تصادم الأقوام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ** قرعًا يهد رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ** ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ** بقرارة لمواطىء الأقدام
يا بدر إنك لو شهدت مواقفي ** والموت يلحظ والصفاح دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ** ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإنما ** حركت من حصني جبال تهام
وعجمتني فعجمت مني مرجمًا ** خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ** يخلو بغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ** في عيشة رغد وعز نامي
حتى إذا حلئت عنه نابني ** ما نابني وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ** ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبو حفص يدي وذخيرتي ** للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني، وهززته ** فهززت حد الصارم الصمصام
من رام أن يغضي الجفون على القذى ** أو يستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعًا ** والبيض مصلته لضرب الهام
وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشري منبين يديه ويعير وصيفا بالأحجام عنه ويتهدد بدرًا:
قالت البيض قد تغير بكر ** وبدا بعد وصله منه هجر
ليس كالسيف مونس حين يعرو ** حادث معضل ويفدح أمر
أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ** ثم حاصوا، فأين منها المفر!
وبغوا شرنا فهذا أوان ** قد بدا شره ويتلوه شر
قد رأى النوشري لما التقينا ** من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ** صولة دونها الكماة تهر
ولواء الموشجير أفضى إلينا ** رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدرًا حلمي وفضل أناتي ** واحتمالي، وذاك مما يغر
سوف يأتينه شوذاب قب ** لاحقات البطون جون وشقر
يتبارين كالسعالي عليها ** من بني وائل أسود تكر
لست بكرًا إن لم أدعهم حديثًا ** ما سرى كوكب وما كر دهر
وفي يوم الجمعة لسبع خلون من شوال من هذه السنة مات علي بن محمد ابن أبي الشوارب، فحمل إلى سامرا من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينة أبي جعفر ستة أشهر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)