مذكرات مغترب (8) ثقافة الاعتذار .... بقلم : محمد عبد الوهاب جسري



ما كان وليد أحد أصدقائي يوماً، عندما كنا نلتقي مصادفة نتبادل التحية والأسئلة العامة عن الصحة والعمل، كل منا يعرف أن الآخر ابن بلده لكن ظروفاً لم تجمعنا لنتحدث طويلاً ونتعارف أكثر....


عصر الجمعة الماضي التقينا في الحافلة، كان عائداً من عمله، دعاني لزيارته قائلاً


_ قرأت لك شيئاً من سلسلة مذكرات مغترب، أتمنى أن أقص عليك قصتي


_ لأكتبها ؟


_ ليس بالضرورة، لكنني أنا بحاجة إلى من يسمعني، أكاد أنفجر


قبلت دعوته دونما إبطاء....


عندما دخلنا شقته بدت الصورة واضحة من خلال أشياءه المبعثرة هنا وهناك، وبعض الفوضى في مطبخه الصغير، فالرجل يعيش وحيداً، حاول أن يبرر أسباب مظاهر الفوضى بأنه يستيقظ باكراً يتوجه إلى عمله ويترك الأمور على حالها إلى أن يعود ليبدأ رحلة عمل جديدة في ترتيب البيت واعداد الطعام.... فقلت له: لا تقلق يا صاحبي، كنت مثلك في يوم من الأيام


_ لا أظن أن أحداً مر بظروف مشابهة لظروفي سأقص عليك قصتي، سنشرب الشاي مارأيك ؟


_ موافق، املأ الابريق وهات ما عندك من زعتر أو جبن أو زيتون، سأذهب لأشتري خبزاً طازجاً.


ارتاح وليد لاقتراحي الذي قرب المسافة بيننا فخلقتْ تلك المائدة المتواضعة أجواءً شبه شرقية دفعتْ صاحبي للتنهد قبل أن يبدأ حديثه قائلا:


_ هل تعلم بأنه في هذا الوقت، في بلادنا، معظم أهالينا مشغولون في إعداد الشواء ؟


_ نعم صحيح فهو يوم الجمعة، لا تتحسر، سأدعوك إلى حفلة شواء في عطلة نهاية الاسبوع.


_ قبل أربع سنوات كنت بين أهلي، تزوجت زواجاً تقليداً، فهم الذين اختاروا لي شريكة حياتي، كنت من المحظوظين جداً لأنها كانت تناسبني لأبعد حد، لكن فرحتي لم تدم طويلاً


_ خيراً إن شاء الله ، ماذا حصل ؟؟


_ قبل الزفاف بعدة أيام حصل سوء تفاهم بين عائلتينا، كان من الممكن أن يحل بعبارات الاعتذار المتبادلة مع حسن النوايا. إلا أنه بدلاً من ذلك وُجد من تعمد أن يحول الأمر إلى خلاف شديد، هكذا بعناد وكبرياء غير مبرر، إلى أن أصبحتْ حفلتنا باهتة لا تحتوي الحد الأدنى من الفرحة والسرور، ومع ذلك فقد تم الأمر.


خلال ثلاثة أشهر نما فيها حبنا ووصل إلى ذروته، وجدتُ عندها السكينة والراحة والتفاني والاخلاص. وهي وجدتْ فيَّ ذلك الرجل الذي بذل أكثر مما يستطيع ليشعرها بالهناء والاطمئنان، لكن شيئاً آخر كان ينمو هناك بعيداً، شجرة كبيرة من الكراهية والبغضاء بين عائلتينا تـُروى من عصير تقاليد وعادات بالية، أغصانها التكبر وأوراقها العناد...


تحولت حياتنا إلى جحيم في صراعنا من أجل المحافظة على حبنا، على أسرة صغيرة بدأنا بتكوينها، مع الحفاظ على الحد الأدنى من إرضاء الجهتين. لكن العبث بحياتنا أصبح الشغل الشاغل لغيرنا، ربما لا يتسع لي المجال لأتكلم عن التفاصيل، إلى أن الأمور وصلت إلى حد جاء أهلها في غيابي وأخذوها عنوة وطلبوا مني أن أتجه إلى المحكمة من أجل الطلاق.


شهر كامل من الأسى، لا أستطيع أن أراها، أن أتصل بها، أحسست أن سكان الكرة الأرضية جميعهم يقفون في وجهي ويضغطون علي، وفي لحظة ضعف قاسية مُرّة، في لحظة يأس من الحياة نفسها، طلقتها في المحكمة لكنني لم أطلقها من قلبي، كنت أحبها وأعلم أنها تحبني....وكانت تلك خطيئتي الأولى بحقها.


بذهول شديد كنت أستمع إلى قصة صاحبي، أراقبه كيف يحاول أن يجاريني ليبدو وكأنه يأكل معي، كم مرة اقتربت اللقمة من فمه وعادت بها يدُه لتستلقي على المنضدة وهو يغص في حديثه، ثم انتبهت أيضا إلى نفسي، فأنا أيضاً ما أكلت إلا بضع لقيمات. رأيت دموعه الجافة ولاحظت كيف كانت عيناه تشتكي من قسوة الظلم المقترن بالجهل والتخلف. لا أستطيع التعليق قبل أن أسمع باقي القصة فقلت له:


_ وهل قررتَ الرحيل بعد ذلك ؟ وهل هذا هو سبب وجودك هنا !! ؟؟


_ لا يا صاحبي، كنت أظن أنني فعلت ذلك لتهدأ كل العواصف، وتبرد الحرب الساخنة، فأتمكن مجدداً من رؤيتها والحديث إليها، فقصتنا لازالت في بدايتها.


في اليوم الذي ذهبتُ فيه إلى المحكمة لانهاء إجراءات الطلاق، استطعتُ عن طريق إحدى صديقاتها أن أرسل لها الرسالة التالية: تعلمين أنك أغلى من روحي، وما فعلت هذا إلا من أجل أن أحصل عليك مجدداً، أعدكِ بأننا سنكون معاً، أرجوكِ تظاهري بكراهيتك لي عندما ستسمعين الخبر، وقد ردت علي بعبارة واحدة: أثق بك ثقة مطلقة.


هكذا انتهى الأمر وأنا أيضاً تظاهرت بأنني تخلصت من بلية، لا بل وأشعتُ خبراً يفيد بأنني عاشق وأخطط للزواج بأخرى.


مرت شهور عدة أصبحتُ ألاحظ أنني أفشل في كل عمل أُقدمُ عليه، حصلتْ معي أشياء غريبة، من بينها أنني مرة كنت أمر بسيارتي في حيّها وكانت برفقتي والدتي، أطلتُ النظر إلى شرفة منزلها علني ألمحها لأفتح عيني وأنا في المشفى فعرفت أنني تسببت بحادث مروري، وأصبت بكسور، وعندما سألت عن والدتي قالوا لي إنها بخير وهي في مستشفى آخر وقد كُسر لها ثلاثة أضلاع، الغريب في الأمر أنه عندما خرجتُ من المشفى و لقيت أمي، عانقتني مبتسمة وهمست في أذني قائلة: الحمد لله أننا لقينا عقابنا في الدنيا.


كنت أتابع أخبارها من بعيد جداً عن طريق إحدى صديقاتها، إلى أن وصلني الخبر بأنها عادت إلى عملها في المدرسة وأصبح لديها هاتف جوال. هنا أحسست بأنني ولدت من جديد فقد امتلكت وسيلة الاتصال بها.


أمضينا فترة مراهقة حقيقية، نتواصل بحذر شديد، نتبادل خفية رسائل العاشقين، نلتقي خلسة ولو لدقائق، غمرتنا سعادة وصفناها بأنها تعم الكون، بقينا كذلك إلى أن أتى الربيع وبدأت الرحلات المدرسية فطلبت منها أن تذهب مع المدرسة في أول رحلة على أن تكون ضيفة لا مشرفة وأن تخبر المديرة بذلك، وهكذا حصل بالفعل، على الساحل أمضينا معاً أسعد يوم في حياتنا على الاطلاق، عندما مسكت يديها شعرتُ بأن روحها بدأت تسري في جسدي، وعندما ابتعدنا في الغابة وعانقتها غبتُ عن الدنيا، حلـّقتُ في عالم آخر..... وعندما أردت أن أقبلها وضعتْ راحة يدها على فمي قائلة:


_ توقف، فنحن لسنا..... ، أخشى أن يكون هذا حراماً


_ الحرام ما فعلوه بنا


_ أنا من جهتي لا زلت أشعر بأنك زوجي .... لكن....


_ هل نذهب إلى المأذون الآن ؟؟؟


_ هذا ليس حلاً، دعنا نبحث عن حل منطقي، بكل تأكيد لن يتركونا بحالنا، سيقتلوننا


_ أنا فكرت بالهجرة


_ وأنا أيضاً كنت سأقترح عليكَ ذلك، لكن يجب أن تكون إلى بلاد بعيدة لا يصلون إلينا


_ تعلمين أننا لن نتمكن من إجراء عقد الزواج ثانية هنا


_ أعرف، إن وصلنا إلى بلد آخر نذهب إلى السفارة وهناك نجري العقد


كنا معاً نفكر ببراءة الأطفال لايجاد طريقة تجمعنا من جديد، وهكذا اتفقنا على أن أهاجر في أقرب فرصة وعندما أتمكن من ترتيب أموري ستلحق بي، وكان هذا الاتفاق هو الخطأ الثاني الذي ارتكبتـُه بحقنا معاً، ما كان يجب أن أتركها وأهاجر لوحدي


تنقلتُ في البلاد بحثاً عن عمل وعن قليل من الاستقرار إلى أن وصلتُ إلى هنا، كل الصعوبات التي كنت أواجهها تتحول مرارتها إلى حلاوة عندما أُذكّرُ نفسي بأنها في سبيل حبنا، وأحلمُ بأن اللقاء سيكون قريباً.


مضى على رحيلي أكثر من عامين حتى وجدتُ نوعاً من الاستقرار هنا، وطلبتُ منها أن تعد نفسها للسفر وتعلمني عندما تكون جاهزة لآتي دون علم أحد ونغادر معاً.


رغم أننا كنا على اتصال دائم لكنها كانت تشفق عليّ فتخفي عني محاولات كثيرة من أهلها ليزوجوها، إلا أن هذه المرة أصبح الأمر جدياً جداً، فقد علموا بأنها حصلت سراً على جواز سفر، فأخذوه ومزقوه وتعرضت للضرب وأجبروها على الزواج....أخبرني قلبي بهذا قبل أن يصلني الخبر من صديقتها، أخبرني عندما صار جوالها خارج التغطية لمدة خمسة أيام متواصلة....في اليوم السادس أرسلتْ إلي رسالة من رقم جديد تطلب مني أن أبقى على عهدي فرددت عليها بأنني سأُغير رقم هاتفي ولن أساعدك على خيانة زوجك وهكذا فعلتُ وكانت هذه خطيئتي الثالثة بحقها.


كم حاولت أن أنساها، ذهبت إلى بنات الليل علني أنسى لكن نفسي لم تقبل أية منهن، أنا الآن شبه محطم وهي محطمة بالكامل بين زوج لا ترتضيه وترفع في وجهه راية العصيان وبين أهل همهم الوحيد أن يتخلصوا من همها الذي صنعوه بأنفسهم.


كلما أعدتُ شريط الذاكرة لقصتي أعود لأتحدث عن ثقافة الاعتذار، التي لو تعلمناها بحق وصدق لأغنتنا عن الكثير الكثير من مشاكلنا.


نهض وليد وتوجه إلى النافذة يراقب غياب الشمس، ثم التفت إلي قائلاً:


_ هل أكملُ لك ؟؟ هل ستكتب قصتي ؟


_ لا أدري ، لكنني أشعر بأن قصتك لم تنته بعد ....


_ معك حق ، هي الآن في بيت أهلها مطلقة للمرة الثانية، هي تنتظرني، وأنا لا أنام الليل أفكر بحل، يجب أن نكون معاً، لكن كيف ؟ ؟ ؟ فأنا لا أريد أن أخطأ للمرة الرابعة......