لم أكن الوحيد الذي اشتاق لك بل كان أو كانت هناك من تنتظر عودتك بفارغ الصبر لا وبل كانت تأتي كل يوم وفي نفس الموعد تنتظر قدومك ثم تمضي بعد أن تسأل النادل عنك
ـ " سألته باستغراب " ومن تكون هذه الفتاة
ـ أنا لا أعرف من تكون لكنها جالسة ٌ على الطاولة التي خلفك تماماً وهي لم ترفع عينيها عنك منذ جلست
ـ ربما هي معجبة ٌ بلحيتي الطويلة فحسب .. ثم عزوة الأمر للصدفة البحتة
لا أخفيكِ لقد سرقت نظرة لتلك الفتاة نظرة فضول لا إلا
فلم أكن أتوقع أن هذا الحديث أو تلك النظرة ستحرك في مشاعري شعرة ً واحدة
ولكن ولما أخليت بوسادتي رأيت طيف تلك الفتاة يلوح حولي
تلك العيون العسلية الرائعة كأنها عيون مها وتلك الملامح الشرقية الهادئة وذاك الشعر الأسود الطويل شعر مها
كأنها ومها قد شربتا من ضرع الجمال ذاته إن بينهما شبهاً كبيراً لا أدري ربما رأيت أنا فيها مها عشقي الأول كل النساء كانت هي بنظري
لم أنم في تلك الليلة وفي اليوم التالي أطلعت أحمد على صورة مها دون أن أطلعه على هواجسي
فكان رده المباشر والسريع إنها تشبه فتاتنا من أين حصلت على هذه الصورة
لم أجبه بل توجهت فوراً نحو طاولتها وكانت قد أنهت طعامها للتو سحبت الكرسي ثم قلت لها
شادي ..شادي العربي قحطان
جاء النادل فقلت له قهوة وسط للآنسة وكالعادة لي
لم أتكلم وكذا فعلت جاءت القهوة وشربت فنجاني وأنا أطالع بريقاً غريباً بعينيها بريقاً يخفي جملة أسئلة تريد طرحها وأشياءً مبهمة ً لم استطع تفسيرها
بينما كانت عيوني تختفي خلف نظارة ٍ سوداء
كنت أريدها أن تتكلم , وما فعلت دفعت الحساب كاملاً وهممت بالذهاب وهي لا تزال واجمة بردت قهوتها ولم تشربها
صارعت رأسي الأفكار في تلك الليلة الماطرة أنا نفسي لم أعرف لماذا فعلت ذلك
ربما كنت أجرب نفسي أن كانت قادرة ً على ..على ماذا ..؟
أتراني أحببتها من أول نظرة ..؟
ثم هل تحررت من ماضيّ هل أستطيع أن أكون صادقاً إذ أعبر عن مشاعري لغير مها
قلبت الأمور يميناً ويسار إلى أن وصلت إلى قرار ليس بالضرورة أن تلك المشاعر والأحاسيس التي تخالجني هي مشاعر حب
وما دمت قد قررت اقتحام الحياة فعلي أن أستخدم كامل أسلحتي وعلى كل الجبهات دون أن أقامر بما لا أملك
فإما أن أستعيد ثقتي بقدرتي على الحب من جديد أو أسقط صريع الذكريات لأضيع في متاهات تجربة الحب الأول اللامنتهية
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
في اليوم التالي كنت هناك قبلها أجلس على طاولتها جاءت تدفع الخطى واثقة كأنما قد اتخذت قراراً ما
ألقت عليّ تحية الإسلام وجلست
إنها عربية وهذا رائع
عرفت عن نفسها وبنفس أسلوبي
بيسان حسن الساحر
ـ عربية؟
ـ والدي فلسطيني وأمي تونسية لكني لم أزر القدس ولا حتى أي بلدٍ عربي في حياتي ووالدي كان يرفض دائماً العودة للوطن من مطار يحمل اسم إرهابي ٍ سفاح أو يطأ أرض أجدادي وهي مدنسة بالاحتلال الذي قتل جدي وجدتي وشرد عائلتي
كان لقاء تعارف بسيط تبعه الكثير من اللقاءات والحوارات تعمقت معها وتوطدت علاقتنا
ثم بدأت رابطتنا تأخذ منحاً بل مناحي ثيرة غير تلك التي أسست عليها مع تدافع المواضيع والمواقف على دربنا
فعرفتني بيسان على السيد حسن الشاطر والسيدة أمينة المرزوقي والداها اللذان اعتبراني وعاملاني كولدهم مما خلق حولي جواً عائلياً حميماً كنت بأمس الحاجة له لإكمال عملية الانتقال التي عزمت على القيام بها
قالت لي بيسان عندما سألتها عن سر اهتمامها بي وسؤالها المتكرر عني على الرغم أنه لم يجري أي حديثٍ بيننا قبل سفري للشام
قالت أن لمعة غريبة كانت تبرق بعيني أثارت فضولها وجلوسي دائماً في نفس الموعد على الطاولة التي تجاور طاولتها سمح لها باستراق السمع أحياناً لأحاديثي مع أحمد استفزها لكسر هالة الغموض وحاجز الوحدة الذي يحيطني
وقالت أيضاً أنها كانت تعتقد أنني فلسطيني الموطن لما أحسته من تأثر في طريقة غنائي وعزفي للكثير من الأغاني الوطنية التي كانت تميز فرقتنا الموسيقيا
فلسطين التي لم تعرفها سوى بلداً على خريطة هذا العالم أو ذكريات عجوز يحكي عن ساحاتٍ و زواريب وبيارات كان يلعب بينها يوم كان طفلاً صغيرة
لكنها ولما عرفت أنني سوري أدركت معنى أن يكون المرء عربياً وعمق الروابط التي تشد أبناء هذه الأمة إلى بعضهم
تشعبت الأمور كثيراً يا عزيزتي أمامي في حين نبتت تلك البذرة التي زرعناها لتستحيل شجرة تظلنا بأغصان الشوق والود والحب
نعم يبدو أني استعدت قدرتي على الطيران في سماء الحب وهنا طفت على السطح مشكلة كبيرة تمثلت في عدمت قدرتي على التحديد هل أنا أحب بيسان متحرراً من لعنة الحب الأول أم أن تلك اللعنة لم تعتقنا هي التي تدفعني للاعتقاد أني أحب بيسان بينما أنا استحضر صورة مها من خلال الشبه بينهما
كان لا بد من المواجهة فبعد ليلةٍ قلبت فيه الأمر على كل جانب قررت أخراج رقم هاتف مها من رقاده واتصلت بها واضعاً كل مشاعر تحت المحك والتجربة الأقوى
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
التي سأثبت بها قوتي على الزمن أو تثبت الأيام لي أنها قد هزمتني ودهست قامتي بجياد تقدمها
خير وسيلة للدفاع هي الهجوم هكذا كان يقول لي جدي رحمه الله
كلمتها واستطعت بإعجاز تمالك أعصابي رغم أني أحسست بالبراكين تثور في صدري فتحرق جنبات قلبي عندما سمعت صوتها للمرة الأولى مذ افترقنا آخر مرة ولا أنكر أن الشوق مزق المسافات بيننا مما دفعني أميل إلى الاستسلام
لكنني ولما كنت عازماً على وضع النقاط على الحروف راسماً معالم الطريق الذي سأسلكه انطلاقاً من هذه اللحظة قررت المضي في التحدي
حدثتها وسألتها عن أخبارها فطالت المكالمة وهدأت معها ثورة البراكين شيئاً فشيء وفتر الشوق إلى أن استودعتها الله وأنا اسمع صراخ رضيع ٍ إلى جوارها
أدركت بعد تلك المكالمة أنه صار لمها حياتها الخاصة مترفعة عن الماضي ورافعة ً ذكرياتها إلى رف الوحدة والتأمل للحظاتٍ كانت جميلة ولا يزال طعمه حلواً في قلوبنا
وأنه يجب أن يكون لي حياتية الخاصة أيضاً حسبي ما أضعته من سني عمري باكياً على الأطلال
كانت تجربة قاسية ً ومهمة في آن لكني خلصت في نهايتها للخلاص من جل العقد التي قيدتني زمناً طويلاً
إذاً أنا أحب بيسان لأنها بيسان جسداً وروحاً وفكر وقد لاحظت ـ ولا يحتاج ذاك للكثير من الحذق ـ أنها تبادلني نفس الشعور
لم أذهب إلى المقهى ذاك المساء لا وبل تركت منزلي وانزويت في فندق ٍ هادئ على ضفاف المتوسط ثلاثة أيام دون أن أخبر أحداً متعمداً أن استفز مشاعر المرآة في بيسان وأعدها لمواجهةٍ كبيرة
يجب أن أجج نار الشوق في قلبها وأرفع منسوب الحب في دمها وعلى طريقة الفاتحين العرب سآتيها فارساً نبيلاً يقتحم أخر المحميات الغربية فيها لأرمي سهم الهوى وأمضي على درب النوى
رصداً ردة الفعل الأولى كما أتيتها أول مرة غامضاً سأمد لها يدي لتمضي معي
دخلت المقهى متأخراً عن موعدي المعتاد نصف ساعة وأربعة أيام بعد أن تأكدت أنها قد ملت الصبر وهي تنتظر وصولي بين لحظةٍ وتلواها
بلهفة وشوق قالت لي :
أين كنت لقد أنشغل بالي عليك
وبثقة وهدوء أجبتها وأنا أجلس طالباً من النادل فنجاني قهوة :
ستعلمين لاحقاً بكل شيء ولكنك الآن يجب أن تطلعي على شيءٍ مهم
ـ وما هو يا ترى الذي دفع للانقطاع عنا أربعة أيام دون أن تكلف نفسك عناء اتصال ٍ هاتفي سريع
ـ قلت لكِ ستعلمين كل شيء في وقته المناسب والآن اسمعي وعي ما سأقول
كان ذاك من عدة سنين عندما كنت شاباً لم يقطف الزهرة الثانية والعشرين من عمره بعد أملك الكثير من الأحلام الوردية مفعماً بالاندفاع نحو المستقبل المشرق
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
يوم قابلت مها أول مرة ورويت لها قصتي مع مها إلى أن افترقنا كنت أتكلم وأرقب نار الغيرة والغيظ تقدح من عينيها ـ كان لسان حالها يقول وآسفا ا وبعد كل هذا الحب الذي أكنه له يأتي بكل برود ليرمي في أحضاني مآسي قلبه المولع بفتاةٍ ثانية ـ " وبنما هي على هذا الحال أخرجت من جيبي صورة مها وأعطيتها إياها "
وقبل أن تؤتي بأي ردة فعل ٍ أو تعليق غير الجمود الذي أصابها تابعت وأنا أخرج الولاعة من جيبي
دمرت الظروف قصة حبي الأول وسحقتها ,وأحرقت الأيام آمالي وأحلامي الليلكية آنذاك وسلبت الأقدار حتى النور من نجوم سمائي
وفجأة ً طلعتي علي أنتِ كل البدر تبنين على ركام ما حطمته الأيام صروحاً براقة
وها أنا وبيدي أحرق دمعة ذكرياتي " وأشعلت النار بالصورة" لأتقدم نحوكِ غراً طاهراً لا يملك ألا مشاعره الصادقة يهديكِ إياها حباً وعشقّ َ لو تقبلي دعوتي للوطني
إني أحبك ... أحبك ..
قامت بل قفزت من مقعدها كمن أدركتها صاعقة وشدتني من يدي قائلة : قم هيا قم الآن إلى والدي لتطلب يدي قبل أن تغير رأيك قبل أن أموت أنا من الفرح
وهذا ما فعلته فعلاً لكني عرضت على عمي أن يكون حفل الزفاف في نهاية الشهر القادم في الشام حيث سينتهي عقد عملي وسنعود لنقضي أحلى أيامنا على أرض الوطن فوافق ووافقت
مرت الأيام سريعة ً ممتعة وبدأت أحس بصداع مرعب يفتك برأسي فذهبت سراً إلى أحد المشافي وأجريت هناك بعض التحاليل والفحوص وقالوا لي هناك أنه ناتجٌ عن بعض الإرهاق والصدمات النفسية والعصبية وسيذهب لحال سبيله مع الراحة والالتزام بالدواء
لم أعير الأمر كثيراً من الاهتمام خصوصاً أن ذاك الصداع كان يأتي على شكل نوبات متباعدة وسرعان ما يذهب مع تعاطي الدواء والركون إلى الراحة عدنا إلى تراب الوطن نحمل أحلاماً وآمال كبيرة مؤمناً أن أجمل الأيام هي تلك التي لم نحياها بعد
حطت بنا الطائرة لأهبط شابكاً يدي بيد بيسان متقدماً نحو مستقبلي أرى الدمع يرقرق في عيني أمي وأنا أقبل يدها دمعة فرح ٍبعودتي ودمعة سعادة برؤية بيسان التي عرفتها بشقيقة الروح من جسدي وحبي الأجمل لهم في رسالتي الأخيرة
بارك لي الأهل نيتي على الزواج كان كل شيءٍ جميلاً وبدا لي كأن الدنيا بدأت تريني وجهها الجميل أخيراً فلا شيء ينغص عليّ فرحي اليوم إلا اضطرار هادي للسفر كي يحضر مؤتمراً طبياً في السويد
قرر حسن الشاطر أخذ أبنته ليعرفها على أعمامها وأبناء عمومتها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان فانتهزت أنا الفرصة للتفرغ لإكمال ترتيب أمور عرسي إلا أن ذاك الصداع عاد يفتك برأسي وبقوة أعلى هذه المرة راجعت طبيباً
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)