ذهبت دولة أصحاب البدع ** ووهى حبلهم ثم انقطع
وتداعى بانصداع شملهم ** حزب إبليس الذي كان جمع
هل لكم بالله في بدعتكم ** من فقيه أو إمام يتبع
مثل سفيان أخي الثوري الذي ** علم الناس خفيات الورع
أو سليمان أخي التيم الذي ** هجر النوم لهول المطلع
أو إمام الحرمين مالكا ** ذلك البحر الذي لا ينتزع
أو فقيه الشام أوزاعيها ** ذاك لو قارعه القرا قرع
أو فتى الإسلام أعني أحمدا ** ذاك حصن الدين إن حصن منع
لم يخف سوطهم إذ خوفوا ** لا ولا سيفهم حين لمع الرمل
أما هو حزبه من أهل الكلام فما ذكرهم إلا ذمهم والتحذير منهم والتنفير من مجالستهم والأمر بمباينتهم وهجرانهم وترك النظر في كتبهم لا يثبت لأحد منهم قدم في الولاية ولا يقوم لهم في الصالحين راية ولا يكون لأحد منهم كرامة ولا يرون ربهم في الآخرة ولا كرامه يكذبون بكرامات الصالحين وينكرون نعمة الله على عباده المؤمنين فهم في الدنيا ممقوتون وفي الآخرة معذبون لا يفلح منهم أحد ولا يوفق لاتباع رشد.
قال الإمام أحمد: لا يفلح صاحب كلام أبدا ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل.
وقال الإمام الشافعي: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه.
وقال أحمد بن إسحاق المالكي: أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري لا تقبل له شهادة ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها.
وذم أهل الكلام كثير، وابن عقيل من أهل الكلام وهو في هذه الحالة ينصر مذهبهم فلذلك تكلمنا عليه وذكرنا عيوبه لدخوله في جملتهم ودعايته إلى طريقهم.
فصل
وأما قوله فإن الأحمق من اغتر بأسلافه وسكن إلى مقالة أشياخه آنسا بتقليدهم من غير بحث عن مقالتهم فهذا كلام مسموم رديء يشير به إلى ذم اتباع طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم ويعيب ما مدحه أئمتنا رحمة الله عليهم وما أوصونا به من لزوم طريقهم والاهتداء بهديهم ويدعو إلى مقالة أهل الكلام والنظر في المعقولات وهو علم الكلام الذي ذكرنا عن الأئمة رحمة الله عليهم ذمه وإفضاءه بصاحبه إلى الزندقة والبدعة وعدم الفلاح.
وقد ظهر برهان قولهم في ابن عقيل فإنه حين اشتغل به وآثره على علم الأثر صار زنديقا داعية إلى ترك اتباع السلف المتفق على صوابهم المجمع على هدايتهم الذين أخبر الله تعالى برضاه عنهم واختياره لهم ومدحهم وأثنى عليهم وحسبك بمن مدحه الله تعالى وأثنى عليه وخبر من وصى بهم النبي وحث الناس على اتباعهم والاقتداء بهم.
ثم لم يزل أئمتنا وعلماؤنا يحثوننا على التمسك بهديهم والسير بسيرتهم فجاء هذا المسكين يحذرنا منهم ويريد منا أن نسيء الظن بهم.
ونهجر طريقتهم ونصير إلى اتباع أهل الكلام والاقتداء بهم وهذا من أدل الأشياء على ضلاله وقبح مقاله فإنه لولا مخالفته لهم وسلوكه غير طريقتهم لما نفرنا منهم.
على أنه قد قال في آخر هذه المقالة فالله الله الزموا طريقة السلف الصالح فناقض كلامه هذا تسترا بعد أن فضح نفسه وكشف الستر عنها بذمه لقولهم وتنفيره من اتباعهم ودعايته إلى مخالفتهم.
ولسنا ممن يقبل قوله في ذم من مدحه الله تعالى ورسوله والأئمة ولا نهجر طريقة من أمرنا بسلوكها لقوله.
قال الله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }، وقال سبحانه وتعالى: { محمد رسول الله والذين معه } الآية.
وقال النبي: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم».
وقال النبي: «لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
وقال: «إن الله اختارني واختار أصحابي فجعل لي منهم أصهارا وأنصارا».
وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ».
وقال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر».
وقال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وقال حين ذكر الفرق إنها «كلها في النار إلا واحدة» قيل من الواحدة قال: «ما أنا عليه وأصحابي».
ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعده فاختارهم لصحبة نبيه ونصرته ولم يزل أئمتنا يحثوننا على اتباع سبيلهم والاهتداء بهديهم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقربها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وروي عن الحسن البصري رحمه الله تعالى بعض هذا الكلام أو قريب منه.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وقال رضي الله عنه:إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر.
وقال رضي الله عنه: أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فأنا اليوم على السنة.
وقال حذيفة بن اليمان: يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلام معناه: قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد قد كفوا وإنهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم مجسر لقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال الأوزاعي إمام أهل الشام رحمه الله تعالى: صبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم وقل بما قالوا وكف عما كفوا ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله اختارهم الله تعالى وبعثه فيهم ووصفهم فقال: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } الآية.
وسأل رجل الحسن بن زياد اللؤلؤي عن زفر بن الهذيل: أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم.
فهؤلاء الأئمة وهذا قولهم يحثوننا على اتباع سلفنا والاقتداء بهم. أفترانا نترك قول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله ووصية أئمتنا في ترك اتباع سلفنا ونقبل قول ابن عقيل في قوله دعوا الاقتداء بهم وقلدوني واتبعوا قولي وقول أمثالي من المتكلمين. ولسان حاله يقول أنا الكثير الزلات أنا المعروف بالبدع والضلالات أنا الكثير العثار أنا الجاهل بالآثار أنا المختار علم الكلام المذموم على علم نبينا المختار فاتبعوني ودعوا اتباعه فإنه يدعوكم إلى النجاة وأنا أدعوكم إلى النار.
ثم لا خلاف بيننا أن الإجماع حجة قاطعة، فإذا اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على أمر ثم اتبعهم عليه أئمة التابعين واقتدى بهم من بعدهم من الأئمة في كل عصر وزمان وحث بعضهم بعضا على التمسك به وحذروا أصحابهم من مخالفته فكيف يقال لمتبع ذلك أحمق مغتر إنما الأحمق المغتر المخطئ المبتدع هو المخالف لذلك الراغب عنه.
قال الله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }.
فإن قال إنما أمرتم بالاجتهاد والمصير إلى ما دل عليه الدليل ونهيتم عن التقليد المذموم؟
قلنا: الجواب عن هذا من أوجه:
أحدها أن طريق السلف قد ثبت بالدليل القاطع سلامته وصحة حجته من الكتاب والسنة والإجماع فلا حاجة إلى الكشف عن صحته بدليل آخر.
الثاني أن في هذا القول إلزاما للعامة بالاجتهاد في دقائق الأمور والاعتقادات وهذا خطأ من وجوه:
أحدها أن فيه تخطئة رسول الله فإن النبي لم يأمر أحدا من أمته بعلم الكلام والنظر في أدلة العقول ليعرف به صحة معتقده بل قنع منهم بمجرد الإسلام.
وقال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى. أفترى يكون النبي مخطئا في قبول ذلك منهم وقناعته بمجرد إسلامهم من أن يتعلموا علم الكلام وينظروا في العرض والجوهر والجسم ويكون المتكلمون هم المصيبون في خطأ من لم يتعلم ذلك ولم ينظر فيه فإن كان هذا هكذا فليدعوا لأنفسهم شريعة ودينا غير دين الإسلام ويدعوا دين محمد.
الثاني أن تكليف العامة الاجتهاد تكليف ما لا يطاق. فإنهم لو اشتغلوا بعلم ما يصيرون به مجتهدين لانقطعوا عن المعايش والحراثة والزراعة وخربت الدنيا وهلك الخلق وانقطع النسل وترك الجهاد وخربت الدنيا ولا سبيل إلى هذا وقد قال الله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }.
الثالث أن الإجماع منعقد على أن العامة لا يكلفون الاجتهاد في أحكامهم وأن لهم تقليد العلماء في أمورهم وكذلك أمرهم الله تعالى بسؤال علمائهم فقال: { فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }.
الرابع أن في القول بوجوب الاجتهاد على الكل حكما على عامة الخلق بالضلال لتضييعهم الواجب عليهم. وإنما الذي قيل إنه لا يجوز لهم التقليد هو الأمر الظاهر الذي قد علموه لظهوره من غير احتياج إلى تعب ولا فكر ولا نظر كتوحيد الله سبحانه وتعالى ورسالة محمد ومعرفة وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وسائر الأركان التي اشتهر وجوبها وعلم ذلك بالإجماع عليها فلا يحتاج فيه إلى بحث ولا نظر فهذا لا يجوز تقليدهم فيه.
وأما دقائق الاعتقادات وتفاصيل أحكام العبادات والبياعات فما يقول بوجوب اجتهادهم فيها إلا جاهل وهو باطل بما ذكرناه.
ثم إن اغتر مغتر بقول ابن عقيل هذا ولم يقنع باتباع سلفه ولا رضي باتباع أئمته ولم يجوز تقليدهم في مثل السكوت عن تأويل الصفات التي وقع الكلام فيها فكيف يصنع فهل له سبيل إلى معرفة الصحيح من ذلك باجتهاد نفسه ونظر عقله ومتى ينتهي إلى حد يمكنه التمييز بين صحيح الدليل وفاسده فهذا ابن عقيل الذي زعم أنه استفرغ وسعه في علم الكلام مع الذكاء والفطنة في طول زمانه ما أفلح ولا وفق لرشد بل أفضى أمره إلى ارتكاب البدع المضلات والخطأ القبيح ومفارقة الصواب حتى استتيب من مقالته وأقر على نفسه ببدعته وضلالته.
فأنت أيها المغتر بقوله هذا متى تبلغ إلى درجته فإذا بلغتها فما الذي أعجبك من حالته حتى تقتدي به وقد ذكرنا ما قاله الأئمة في ذم الكلام وأهله ونسأل الله السلامة.
الوجه الخامس إننا إذا نظرنا في الدليل وجدناه يقضي خلاف ما دعا إليه ابن عقيل من الإيمان بالآيات وأخبار الصفات مع الإقرار والتسليم وترك التأويل والتعطيل والتشبيه والتمثيل على ما هو مذهب السلف الصالح والأئمة المرضيين رحمة الله عليهم أجمعين.
وبيان ذلك من وجوه تسعة:
أحدها قول الله سبحانه وتعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فذم متبع التأويل وقرنه بمبتغي الفتنة في الذم وجعل ابتغاءه لذلك علامة على الزيغ فدل ذلك على أن ابتغاءه غير جائز. ثم قطعهم عما أملوه وحجبهم عن بلوغ ما ابتغوه بقوله سبحانه وتعالى وما يعلم تأويله إلا الله. ثم قال سبحانه وتعالى: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب }. ثم سألوا ربهم أن لا يجعلهم مثل متبعي التأويل الزائغين فقالوا: { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }.
الوجه الثاني أنه لو كان تأويل ذلك واجبا لبينه النبي لأمته فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته ولأنه لو وجب علينا التأويل لوجب عليه فإنه مساو لنا في الأحكام ولو وجب عليه لما أخل به ولأنه حريص على أمته لم يكتم عنهم شيئا أمره الله به. وقد قال الله تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }.
الوجه الثالث أنه قد ثبت أن مذهب السلف رضي الله عنهم ومن بعدهم من الأئمة في هذه الآيات الإقرار والإمرار والرضاء والتسليم من غير تأويل ولا تعطيل وقد بينا بالدليل أن مذهبهم الحق وأنهم على الهدى المستقيم فلا يجوز مخالفة سبيلهم ولا العدول عن طريقهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)