منور ماهر ر
كشـأن الأطفال جميعا كنا لا نعبث فحسـب بدُمانا بل كنا أيضا نقوم بتغييرها. إنك إذا كنت قد شـاهدت طفلا معه قطعة كرتون من الورق المقوى وعلبة مـن الأقلام الملونة وهـو يبدع سفينة فضـائية ذات لوحات تحكُّم باردة أو إذا اسـتمعت إلى قواعدهم المرتجلة مثـل: "إن السـيارات الحمراء يمكن أن تتخطى السـيارات الأخرى كلها" فستعرف عندئذ أن هذا الباعث القوى على جعل دمية تؤدي أشياء أكثر هو في أعماق كل لعبة طفولية مبتكرة، كما أنه هو جوهر الإبداع.
بالطبع لم يكن ما كنا نفعله في تلك الأيام سوى عبث، أو هكذا كنا نظن، لكن الدمية التي كانت لدينا- حسـنا، لقد تبين أنه دمية ما - رفض قليل منا ]بمن فيهم أنا[ أن يترك اللعب بها. أصبحنا في أذهان الكثيرين في المدرسة مرتبطين بالحاسـوب وأصبح هو مرتبطا بنا؛ طلب مني أحد المدرسين أن أساعد في تدريس برمجة الحاسوب وقد نال ذلك على ما يبدو موافقة الجميع لكن عندما حصـلت على الدور الرئيـسي في المسرحية المدرسية "الكوميديا السوداء" تمتم بعض الطلاب: "لماذا اختاروا صاحب الحاسوب؟".. ولازالت تلك أحيانا الطريقة التي أُعرف بها.
يبدو أن جيل كاملا منا في كل أنحاء العالم سـحب تلك الدمية المحببة معه إلى سـن الرشد فأحدث بذلك نوعا من الثورة السلمية أساسا - وها هو الحاسوب قد اتخذ مقاما له في مكاتبنا ومنازلنا. لقد انكمشت الحواسيب في الحجم وإزدادت في القدرة بينما انخفضت في السـعر انخفاضـا شـديدا وحدث كل ذلك بسرعة كبيرة إلى حد معقول. ومع أن تلك السـرعة لم تكن كما حسـبتها ذات مرة إلا أنها كانت كبيرة بدرجة لا بأس بهـا، وها هى الرقاقات الحاسوبية تظهر في المحركات والساعات والكوابح المضادة للقفل وأجهزة الفاكس والمصاعد ومضخات البنزين والصوّارات [آلات التصوير] والتيرموســتات والدواسـات وآلات البيع وأجهزة الإنذار ضد السرقة بل وحتى في بطاقات التحايا الناطقة ويقوم أطفال المدارس هذه الأيام بعمل أشـياء عجيبة بحواسـيب شخصـية لا تزيد في الحجم عن الكتب الدراسية وإن كانت تفوق في الأداء أكبر الحواسيب في جيل مضى.
الآن وقد بات استعمال الحواسيب غير مكلف بصورة مدهشة وصـارت الحواسـيب تسكن في كل جزء من حياتنا فإننا نقف على شفا ثورة أخرى. وهذه ستتضمن اتصالا رخيصا بصورة لم يسبق لها مثيل فجميع الحواسيب سترتبط معا لتتصل بنا ولنا وبترابطها دوليا فإنها سـتؤلف شـبكة تُسمى الآن "طريق المعلومات السـريع" ومن بوادرها المباشرة شبكة إنترنت الحالية التي هى مجموعة حواسيب متصلة تتبادل المعلومات مستعملة التقنية الراهنة.
وحول مدى هذه الشبكة الجديدة واستعمالها، وما تنطوي عليه من وعود ومخاطر، يدور هذا الكتاب.
إن كل جانب مما سيحدث وشـيكا يبدو مثيرا. لقد اقتنصت عندما كنت في التاسعة عشر نظرة إلى المستقبل وبنيت حياتي المهنية على ما رأيت وتبين أنني كنت على صواب، بيد أن بيل جيتس ابن التاسعة عشر كان في وضـع مختلف جدا عما أنا فيه الآن ففي تلك الأيام لم تكن لدىَّ فحسـب كل الثـقة التي لدى مراهق مغـتر بل أيضا لم يكن هناك من يراقبني وإذا أخفقت فماذا في ذلك؟ أما اليوم فأنا بدرجة أكبر بكثـير صرت في وضع عمالقة الحاسوب في السبعينيات وإن كنت أرجو أن أكون قد تعلمت بعض الدروس منهم.
خطر لي ذات مرة أنني ربما أردت التخصص في الاقتصاد عنـدما كنت بالجامعة، ومع أنني غيرت رأيي في نهاية الأمر فإن تجربتي كلها في مجال الحاسـوب كانت على نحو ما سـلسـلة من دروس الاقتصاد؛ لقد رأيت بشكل مباشـر آثـار "اللولبات الإيجابية" ونماذج العمل غير المرنة وشـاهدت الطريقة التي تطورت بها مقاييـس هذه الصـناعة وشـهدتُ أهمية التوافق في التقنية وأهمية التغذية المرتدة والتحديـث المسـتمر.. وأعتقد أننا قد نكون على وشـك أن نشهد تحقيق سوق آدم سميث المثالي، أخيرا.
غير أنني الآن لا أستعمل تلك الدروس لمجرد التنظير حول هذا المستقبل إنما أنا أراهن عليه. لقد تصورت فيما مضى عندما كنت مراهقا الأثر الذي يمكن أن تتركه الحواسيب رخيصة الثمن فكان أن أصبحت رسالة شـركة مايكروسفت هى "حاسـوب على كل مكتب وفي كل بيت" وقد عملنا على الإسـهام في جعل ذلك أمرا ممكنا. الآن يجري ربط تلك الحواسيب بعضها ببعض ونقوم نحن ببناء البرمجيات - التعليمات التي تبين للمعدات الحاسوبية ما تفعله - وسـوف تسـاعد هذه البرمجيات الأفراد على جنى فوائد هذه القوة التكنولوجية المترابطة. إن من المستحيل التنبؤ بالضبط بما سيبدو عليه اسـتعمال هذه الشـبكة غير أننا سنتصل بها عن طريق طائفة من النبائط بما فيها البعض الذي يبدو كالأجهزة المرئية والبعض الذي يشبه حواسـيب اليوم الشخصية والبعض الذي يبدو كالهواتف والبعض الذي في حجم المحفظة ونوعا ما شـكلها.. وسـيكون في قلب كل نبيطة منها حاسـوب قوي موصَّل توصـيلا غير مرئي بملايين غيره.
سـيكون هناك يوم، ليس ببعيد، يمكنك فيه أن تزاول الأعمال وتدرس وتسـتكشف العالم وثقافاته وتستدعي أى عمل ترفيهي رائع وتصادق الناس وتحضر الأسواق المحلية وتعرض صورا على أقاربك عن بعد.. كل ذلك بدون أن تغادر مكتبك أو مقعدك. ولن تترك وسـيلة اتصـالك بالشبكة وراءك في المكتب أو حجرة الدراسة بل إنها ستكون أكثـر من مجرد شىء تحمله أو جهاز نقال تشتريه: سـوف تكون جواز مرورك إلى طريقة جديدة ووسيطة للحياة.
تتسم التجارب والمسرات المباشـرة بأنها شخصية و غير وسيطة [أي بلا واسطة]، فليس ثمة من سينتزع منك باسم التقدم تجربة الإنبطاح على شاطىء رملي أو السير في الغابة أو الجلوس في دار للعروض الكوميدية أو التسوق في سـوق للسـلع الرخيصة. بيد أن التجارب المباشرة ليست دائما مجزية فالانتظار في طابور، مثلا، هو تجربة مباشرة إلا أننا ظللنا نحاول اختراع طرق لاجتنابه منذ أول مرة إصطففنا فيه.
لقد تحقق جل التقدم البشـري لأن شـخصـا ما ابتكر أداة أفضـل وأقدر. والأدوات المادية تسرع العمل وتحرر الناس من الشـغل الشـاق فالمحراث والعجلة والرافعة والجرافة تزيد القدرات المادية لمن يستعملونها أما أدوات المعلومات فهى وسـائط رمزية تزيد القدرات العقلية لمستعمليها أكثر من قدراتهم العضلية. إنك تحصل الآن على تجربة وسيطة وأنت تقرأ هذا الكتـاب، فمع أننا لسنا فعلا في غرفة واحدة فأ نت تظل قادرا علـى معرفة ما في ذهني. ثـمة قدر كبير من العمل الآن يتضـمن المعرفة وصـنع القرار ولـذلك فقد أصـبحت أدوات المعلومات وسـتظل بإطراد بؤرة للمخترعين. وتماما كما أن أى نـص مكتوب يمكن تمثـيله بترتيب للحروف فإن هذه الأدوات تتيح تمثـيل المعلومات بأنواعها في شكل رقمي - في نمط من النبضات الكهربائية التي يسهل على الحواسيب التعامل معها. هناك اليوم في العالم أكثر من 100 مليون حاسـوب الغرض منها معالجة المعلومات، وهى الآن تساعدنا بأن تسهل لنا كثيرا تخزين وإرسال معلومات موجودة في صـورة رقمية سلفا لكنها في المستقبل القريب ستتيح لنا الوصول إلى أى معلومات تقريبا في العالم.
في الولايات المتحدة شبَّه البعض ربط كل هذه الحواسيب بمشروع ضخم آخر بدأ في عهد آيزنهاور وهو ربط البلاد بشبكة من الطرق السريعة فيما بين الولايات و لذلك سُميت الشبكة الإكترونية الجديدة "طريق المعلومات فائق السرعة" وقد أشاع هذه التسمية (آل جور) عندما كان عضو بمجلس الشيوخ. وكان والده هو من رعى في عام 1956 مشروع قانون "الدعم الفدرالي للطرق السريعة".
علـى أن التسـمية المجازيـة "الطريـق السـريع" ليسـت صـائبة تماما فهذه العبارة توحي بالأراضي الممتدة والجغرافيا، بالمسافة بين نقاط، وتنطوي على دلالة بأنك لا بد من أن ترتحل لتصل من مكان إلى آخر. ذلك في حين أن أحد الجوانب الأكثر لفتا للنظر في تقنية الاتصال الجديدة هذه هو أنها سـتزيل المسـافة فلن يهم إن كان من تتصل به موجودا في الغرفة المجاورة أم في قارة أخرى لأن هذه الشبكة الوسيطة جدا لن تعوقها أميال أو كيلومترات.
كذلك توحي عبارة "الطريق السريع" أن الكل يقودون سياراتهم ويتبعون الطريق نفسه أما شبكتنا هذه فهى أشبه بطرق ريفية كثـيرة حيث يستطيع كل شـخص أن يفعل أو ينظر إلى ما تشـير به اهتماماته الفردية. وهناك ايحاء آخر هو أن هـذا الطريق السـريع ربما ينبغي أن تبنيه الحكومة وهو ما أعتقد أنه سـيكون خطأ كبيرا في أغلب البلدان. بيد أن المشـكلة الحقيقية هى أن هـذه التسـمية المجازية تركِّز الأذهان على بنية المسـعى التحتية أكثـر من على تطبيقاته، هـذا بينما نحن في مايكروسـوفت نتحدث عن"معلومات طوع بنانك" وهو شـعار يركز على منفعة أكثـر من على الشبكة نفسـها. هنالك تعبير مجازي مختلف أعتقد أنه أقرب إلى وصـف كثـير من الأنشطة التي سـتحدث ألا وهو "السوق النهائي"؛ فالأسواق، من قاعات المتاجرة بالأوراق المالية إلى الأسـواق المسقوفة، هى أشـياء جوهرية للمجتمع الإنساني وأنا أعتقد أن هـذا السـوق الجديد سوف يكون في نهاية المطاف متجر العالم المركزي؛ ففيه سـنقوم نحن الحيوانات الاجتماعية بالبيع والمتاجرة والاسـتثـمار والمسـاومة والشـراء والمجادلة ومقابلة أناس جدد وإغلاق الخط في وجوه الآخرين. إذن عندما تسمع عبارة "طريق المعلومات السـريع" فعليك بدلا من رؤية طريق أن تتخيل ساحة سوق أو بورصة للأوراق المالية - تخيل التدافع والتنافس في سوق نيويورك للأوراق المالية أو في سوق للمزارعين أو في متجر لبيع الكتب مليء بأناس يبحثون عن قصص ومعلومات أخاذة - حيث يحدث كل سـلوك النشاط البشري، من معاملات ببلايين الدولارات إلى المغازلات، وهنالك معاملات كثـيرة سـتتضمن مالا مقدما في شـكل رقمي بدلا من في شكل نقدي لأن المعلومـات الرقمية بأنواعها كافة وليس المال فحسب ستكون الوسط الجديد للتبادل في هذا السوق. يتبع ...
مشكور ياغالي
ياريت ترفع الملف كلوا على شي مركز تحميل وترفقوا ليسهل القراءة
وهي تقييم
لتوصل معي على الفيس بوك بإمكان اضافتي على الحساب التالي :
https://www.facebook.com/Microsoft.Engineer
نصائح واستشارات امنية في مجال امن المعلومات والإتصالات
كبار استشاري امن المعلومات في شركة مايكروسوفت
يسلمو هالديات استاذ احمد وما قصرت ولك مني اجمل تحيه
Wanlii
كلما ادبني الدهر اراني ضعف عقلي .... وكلما ازدت علما زادني علما بجهلي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)