لمّا انصرف الرشيد من مكّة فوافى الحيرة في المحرّم سنة سبع وثمانين، أقام في قصر عون العباديّ أيّاما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلمّا كانت ليلة السبت لانسلاخ المحرّم أرسل مسرورا الخادم في جماعة من خواصّه وقال:
« اذهب فأتنى بجعفر وانظر ألّا يحسّ حتى تقيّده أولا ثم تأتينى برأسه. » قال مسرور: فأتيته وعنده أبو زكّار الأعمى المغنّى وهو في لهوه ويغنّيه أبو زكّار:
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ** عليه الموت يطرق أو يغادى
قال: فقلت له:
« يا با الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك فأجب أمير المؤمنين. » قال: فرفع يديه، ثم وقع على رجليّ فقبّلهما وقال:
« حتى أدخل فأوصى. » قلت:
« أمّا الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت. » فتقدّم في وصيّته بما أراد، وأعتق مماليكه. ثم أتتنى رسل أمير المؤمنين يستحثّنى به. قال: فمضيت به إليه فأعلمته فقال لي وهو في فراشه:
« ائتني برأسه. » قال: فمضيت به إليه. فلمّا عرف أنّه مقتول، قال:
« الله الله يا با هاشم، والله ما أمرك بما أمرك به إلّا وهو سكران فدافع بالأمر حتى أصبح، فإنّه سيندم ويؤاخذك بي. » فقلت: « لا أجسر على ذلك. » قال: « فوامره فيّ ثانية. » فعدت لأوامره، فلمّا سمع حسّى قال:
« يا ماصّ بظر أمّه، ائتني برأس جعفر. » فعدت إلى جعفر، فقال:
« عاوده ثالثة. » فعدت فحذفنى بعمود ثم قال:
« نفيت من المهديّ، لئن لم تأتنى برأسه لأرسلنّ إليك من يأتينى برأسك أولا. » قال: فخرجت، فأتيته برأسه.
الإحاطة بيحيى بن خالد وسائر البرامكة
وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن كان منه بسبيل، فلم يفلت منهم أحد، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها. ووجّه من ليلته قوما إلى الرقّه في قبض أموالهم. وكتب إلى جميع البلدان وإلى العمّال بها في قبض أموالهم وأخذ وكلائهم.
فتحدّث السنديّ بن شاهك قال: إني لجالس يوما فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد ودفع إليّ كتابا صغيرا ففضضته فإذا كتاب الرشيد بخطّه فيه:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يا سنديّ، إذا نظرت في كتابي فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتى تصير إليّ. » قال السنديّ: فدعوت بدوابّى ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدّثني العبّاس بن الفضل بن الربيع قال: جلس الرشيد في الزوّ بالفرات ينتظرك حتى ارتفعت غبرة، فقال لي:
« يا عبّاسيّ، ينبغي أن يكون هذا السنديّ وأصحابه. » فقلت: « ما أشبهه أن يكون يا أمير المؤمنين. » قال: « فطلعت. » فقال السنديّ: فنزلت ووقفت، فأرسل إليّ الرشيد:
« ادن. » فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم:
« قوموا. » فقاموا، فلم يبق إلّا العبّاس بن الفضل وأنا. فمكث ساعة ثم قال للعبّاس: « اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزوّ. » ففعل ذلك. فقال لي: « ادن مني. » فدنوت منه، فقال: « تدرى فيم أرسلت إليك؟ » قلت: « لا والله يا أمير المؤمنين. » قال: « في أمر لو علم به زرّ قميصي رميت به في الفرات، يا سنديّ، من أوثق قوّادى عندي؟ » قلت: « هرثمة. » قال: « صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ » قلت: « مسرور الخادم الكبير. » قال: « صدقت، امض من ساعتك هذه، وجدّ في سيرك حتى توافى مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا على أهبة، فإذا انقطعت الرجل فصر إلى دور البرامكة فوكّل بكلّ باب من أبوابهم صاحب ربع ومره أن يمنع من يدخل ويخرج إلّا باب محمّد بن خالد حتى يأتيك رأيي. » قال: ولم يكن قد حرّك البرامكة في ذلك الوقت.
قال السنديّ: فجئت أركض حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي وفعلت ما أمرنى به، فلم ألبث أن قدم عليّ هرثمة بن أعين ومعه جعفر بن يحيى على بغل أكّاف مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرنى أن أشطره باثنين وأن أصلبه على ثلاثة جسور. ففعلت ذلك ولم يزل مصلوبا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلمّا مرّبه الرشيد التفت إليّ فقال: « ينبغي أن تحرق هذا - يعنى جعفرا. » فلمّا مضى الرشيد أحرقه.
فمن غريب ما سمع من أمره
إنّ بعض الكتّاب قال: كنت أنظر في ديوان النفقات وما يخرج من الخزائن، فانتهيت يوما إلى ورقة، فيها:
« وفي هذا اليوم أخرج إلى الأمير أبي الفضل جعفر بن يحيى أدام الله كرامته ما أمر أمير المؤمنين، بإخراجه إليه من الورق كذا، ومن العين كذا، ومن الفرش كذا، ومن الكسوة والطيب كذا، حتى بلغ ما مقداره ثلاثون ألف ألف درهم. » ثم تصفّحت الأوراق، فانتهيت إلى ورقة فيها:
« وفي هذا اليوم أخرج في ثمن البواري والنفط الذي أحرق به جعفر بن يحيى أربعة دراهم ونصف وربع. » وقال سلّام: لمّا دخلت على يحيى في ذلك الوقت وقد هتكت الستور وجمع المتاع قال لي:
« يا با سلمة، هكذا تقوم القيامة. » قال سلّام: فحدّثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق وبقي مفكّرا.
ووجدت في بعض الكتب: أنّ البرامكة قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، وكانوا يغرونه به حتى قالوا:
« لا بدّ من نكبته. » فقال: « ما كنت لأنكبه ولكني أبعده عنكم. » فقالوا: « ينفى؟ » قال: « لا، ولكني أوّليه ولاية دون قدره عندي وأخرجه إليها. » فرضوا بذلك، وكتبوا له على حرّان والرها فقط، وأمروه عن الخليفة بالخروج، قال عبد الله: فودّعتهم واحدا واحدا حتى إذا صرت إلى جعفر لأودّعه قال:
« ما على الأرض عربيّ أنبل منك يا با العبّاس، يغضب عليك الخليفة فيولّيك. » قلت: « فما ذنبي حتى غضب، وأيّ شيء جزاء ذنبي الذي ترضى أن يعمل بي؟ » فاستشاط من قولي ثم قال:
« ينبغي أن يضرب وسطك وتصلب نصفا في جانب ونصفا في جانب آخر. » فنهضت من عنده مغضبا، وأقبلت أتردد في أمري، إلّا أنّى لم أجد بدّا من الخروج، فقطعت طريقي بالهمّ والغمّ لأنّى كنت لا آمنهم مع غيبتي عليّ بالسعاية بي. فبينا أنا عشية على باب الدار التي كنت نزلتها، جالسا على كرسيّ، إذ أقبل إليّ مولى لي، فقال لي سرّا:
« قد قتل جعفر بن يحيى البرمكيّ. » فتوهّمت أنّه قد دسّه إليّ جعفر ليجد عليّ حجّة بكلام ينكبنى بها، فبطحته وضربته ثلاثمائة مقرعة، وحبسته بليلة طويلة على سطح دارى. فلمّا كان في السحر، إذا صوت حلق الحديد، فارتعت ونزلت عن السطح وقلت في نفسي:
إن هجم عليّ صاحب البريد فهي نكبة عظيمة وإن ترجّل واستأذن ففرح. فلمّا بصر بي صاحب البريد، ترجّل فطابت نفسي، ودفع إليّ كتابا من الرشيد يخبرني فيه بقتله البرامكة وقبضه عليهم، ويأمرنى بالشخوص إليه. فشخصت، فلمّا وصلت عاملني من الإنعام والإكرام ما زاد على أمنيّتى.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفرا قد ضرب وسطه، نصفه من جانب والنصف الآخر من جانب آخر، فأكثرت حمد الله وعجبت من الصنع اللطيف ورجوع الكيد عليه.
قال أيّوب بن هارون بن سليمان: كنت أميل إلى يحيى وأنزل معه، فكنت معه تلك العشيّة، فلمّا كان في السحر وافانا خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم، قال: فكتبت إلى يحيى أعزّيه، فكتب إليّ:
« أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلّا بذنوبهم وما ربّك بظلّام للعبيد. » وأكثرت الشعراء في مراثيهم وأطالت.
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه
ذكر السبب في ذلك
كان لعبد الملك بن صالح ابن يقال له عبد الرحمن من رجال البأس له لسان على فأفأة فيه وكان كاتبه قمامة يصادقه فجرت بينهما وبين أبيه وحشة، فواطأ الكاتب قمامة، فسعيا به إلى الرشيد وقالا له:
« إنّه يطلب الخلافة ويطمع فيها. » فذكر أنّه دخل على الرشيد فقال له:
« أكفرا للنعمة وجحودا لجليل المنّة والتكرمة؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرّضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلّا بغى حاسد نافسني فيك مودّة القرابة وتقديم الولاية. إنّك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ، في أمّته، وأمينه على عترته لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبّت في حادثها والغفران لذنوبها. » فقال له الرشيد:
« أتضع لي من لسانك وترفع لي من جناحك؟ هذا كاتبك قمامة يخبر عنك بغلّك وفساد نيّتك، فاسمع كلامه. » فقال عبد الملك:
« أعطاك ما ليس في عقده، ولعلّه لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لا يعرفه مني » فأحضر قمامة، فقال له الرشيد:
« تكلّم غير هائب ولا خائف. » قال: « نعم يا أمير المؤمنين، إنّه عازم على الغدر بك والخلاف عليك. » فقال عبد الملك:
« أهو كذلك يا قمامة؟ » قال قمامة: « نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين. »
فقال عبد الملك:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« كيف لا يكذب عليّ من خلفي وهو يبهتني في وجهى؟ » فقال له الرشيد:
« وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوّك وفساد نيّتك ولو أردت أن أحتجّ عليك بحجّة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك؟ » فقال عبد الملك:
« هو مأمور أو عاقّ مجبور. فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا ففاجر كفور. أخبر الله بعداوته وحذّر منه بقوله: إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم. » قال: فنهض الرشيد وهو يقول:
« أمّا أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك، فإنّه الحكم بيني وبينك. » فقال عبد الملك:
« رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنّه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه. » فلمّا كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلّم لمّا دخل فلم يردد عليه، فقال عبد الملك:
« ليس هذا يوما أحتجّ فيه، ولا أجاذب منازعا وخصما. » قال: « ولم؟ » قال: « لأنّ أوّله جرى على غير السنّة، فأنا أخاف آخره. » قال: « وما ذاك؟ »
قال: « لم تردّ عليّ السلام، أنصف نصفة العوامّ. » قال: « السلام عليكم اقتداء بالسنّة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحيّة. » ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
أريد حباءه ويريد قتلى ** عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: « أمّا والله لكأنّى أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وعارضها وقد لمع، وكأنّى بالوعيد قد أورى نارا تستطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمّتها، ونذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرّجل. » فقال عبد الملك:
« اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، وفي رعيّته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وسددت أواخى ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوّك مشغولا بنفسه. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظنّ أفصح الكتاب لي بغضه أو ببغى باغ ينهس اللحم، ويالغ الدمّ فقد والله سهّلت لك الوعور، وذلّلت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور. فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيّق لك قمته، كنت فيه كما قال أخو بنى جعفر بن كلاب:
ومقام ضيّق فرّجته ** بلساني وبيانى وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ** زلّ عن مثل مقامي وزحل
ما ذكره زيد بن علي بن الحسين العلوي في الرشيد وحبسه ابن صالح
وذكر زيد بن عليّ بن الحسين العلويّ قال: لمّا حبس الرشيد عبد الملك بن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك وهو يومئذ على شرطه قال:
« أفي أذن أنا فأتكلّم؟ » قال: « تكلّم. » قال: « لا والله العظيم الرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلّا ناصحا فعلام حبسته؟ » قال: « ويحك، أوحشنى حتى لم آمنه أن يضرّب بين ابنيّ هذين - يعنى الأمين والمأمون، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس، أطلقناه. » قال: « أمّا إذا حبسته يا أمير المؤمنين فإني لست أرى في قرب المدّة أن تطلقه. ولكن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك. »
قال: « فإني أفعل. » قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال:
« امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه وقل له: انظر ما تحتاج إليه في محبسك. فآمر به أن يقام لك. » فذكر ما يحتاج إليه فأقيم له.
كلام بين الرشيد وابن صالح
وقال الرشيد يوما لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلّمه:
« ما أنت لصالح. » قال: « فلمن أنا؟ » قال: « لمروان الجعديّ. » قال: « ما أبالى أيّ الفحلين غلب عليّ. » ولم يزل محبوسا حتى توفّى الرشيد فأطلقه محمّد وعقد له على الشام.
فكان مقيما بالرقّه وجعل لمحمّد عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حيّ لا يعطى المأمون طاعة أبدا. فمات قبل محمّد، فدفن في دار من دور الإمارة. فلمّا صار الأمر إلى المأمون أرسل إلى ابن له:
« حوّل أباك من دارى. » فنبش وحوّل.
استعلام الرشيد يحيى بن خالد في عبد الملك بن صالح
وكان الرشيد بعث في بعض أيّامه إلى يحيى بن خالد:
« أنّ عبد الملك بن صالح أراد الخروج عليّ ومنازعتي في الملك، وقد صحّ عندي ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنّك إن صدقتني أعدتك إلى حالك. » فقال:
« والله يا أمير المؤمنين، ما اطّلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطّلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأنّ ملك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني والخير والشرّ كان فيه عليّ، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك مني، وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك بي أعيذك بالله أن تظنّ بي هذا الظنّ. ولكنّه كان رجلا محتملا يسرّنى أن يكون في أهلك مثله فولّيته لما أحمدت من مهذبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. » قال: فلمّا أتاه الرسول بهذا، أعاده إليه، فقال:
« إن أنت لم تقرّ عليه قتلت الفضل ابنك. » فقال له: « أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت على أنّه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فما يدخل الفضل في هذا. » فقال الرسول للفضل:
« قم، فإنّه لا بدّ لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك. » فلم يشكّ أنّه قاتله، فودّع أباه وقال:
« ألست راضيا؟ » قال: « بلى، فرضي الله عنك. » ففرّق بينهما ثلاثة أيّام فلمّا لم يجد عنده في ذلك شيئا، جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل لما كان أعداؤهم يقرفونهم به.
أسئلة وأجوبة بين الرشيد وعبد الملك بن صالح
وكان عبد الملك حاضر الجواب، جيّد الرويّة، وهو الذي قال للرشيد وقد مرّ به بمنبج مستقر عبد الملك. فسأله:
« أهذا منزلك؟ » قال: « هو لك يا أمير المؤمنين ولى بك. » قال: « كيف هو؟ » قال: « دون بناء أهلى، وفوق منازل منبج. » قال: « كيف ليلها. » قال: « سحر كلّه. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
انتقاض الصلح بين المسلمين والروم
وفي هذه السنة انتقض الصلح بين المسلمين وبين الروم لأنّ ملك الروم الذي كان صالح المسلمين على الجزية وحمل مال للصلح قتل وملك الروم نقفور.
وكان نقفور هذا من أولاد جفنة من غسّان، فلمّا ملك واستوسقت له الأمور، كتب إلى الرشيد:
« من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أمّا بعد، فإنّ الملك الذي كان قبلي كان يحمل إليك من أمواله ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليه، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أمواله وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك وإلّا فالسيف بيننا وبينك. » فلمّا قرأ الرشيد الكتاب، استفزّه الغضب حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه خوفا من زيادة قول يكون منهم، واستعجم الرأي على الوزير أن يشير عليه أو يتركه برأيه.
فدعا هارون بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
« بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام. » ثم شخص من يومه وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم واصطفى وأفاد واصطلم وخرّب وأحرق. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤدّيه كل سنة فأجابه إلى ذلك. فلمّا رجع من غزوته وصار بالرقّة نقض نقفور العهد وخان الميثاق، وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عمّا أخذ عليه، فما تهيّأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرّة في مثل تلك الأيّام، فاحتيل له بشاعر فقال:
نقض الّذى أعطيته نقفور ** وعليه دائرة البوار تدور
في أبيات كثيرة. فلمّا فرغ من إنشاده، قال:
« أو قد فعل نقفور؟ » وعلم أنّ الوزراء قد احتالوا له في ذلك. فكّر راجعا في أشدّ محنة وأعظم كلفة حتى أناخ بفنائه فلم يبرح حتى رضى وبلغ ما أراد.
قتل عثمان بن نمهيك
وفي هذه السنة قتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك.
ذكر السبب في ذلك
كان إبراهيم بن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم وحبّا لهم إلى أن خرج من حدّ البكاء ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوى عليه النبيذ قال:
« يا غلام سيفي ذو المنيّة. » فيجيئه غلامه بالسيف، ثم يقول:
« وا جعفراه، وا سيّداه، والله لأقتلنّ قاتلك ولأثأرنّ برمك. » فلمّا كثر هذا من فعله جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله.
فدخل الفضل، فأخبر الرشيد فقال:
« هاته. » فدخل، فقال:
« ما الذي قال الفضل عنك؟ » فأخبره بقول أبيه وفعله. » فقال له الرشيد:
« فهل سمع هذا أحد معك؟ » قال: « نعم، خادمه نوال. » فدعا خادمه سرّا، فسأله، فقال:
« قد قال غير مرّه. » فقال الرشيد:
« ما يحلّ لي أن أقتل وليّا من أوليائى بقول غلام وخصيّ لعلّهما تواطئا على ذلك بمنافسة الابن علي المرتبة، ومعاداة الخادم، وملله طول الصحبة. » فترك ذاك أيّاما، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشكّ عن قلبه، والخاطر عن وهمه. فدعا الفضل بن الربيع فقال:
« إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب وقل له: أحبّ أمير المؤمنين أن ينادمك إذ كنت منه بالمحلّ الذي أنت به، فإذا شرب، فانصرف وخلّنى وإيّاه. » ففعل ذلك الفضل بن الربيع، وقعد إبراهيم للشرب، ثم وثب حين وثب الفضل للقيام، فقال له الرشيد:
« مكانك يا إبراهيم. » فقعد، فلمّا طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان، فتنحّوا عنه، ثم قال:
« يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السرّ منك؟ » قال: « يا سيّدي، إنّما أنا أدون عبيدك وأطوع خدمك. » قال: « إنّ في نفسي أمرا من الأمور أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به وأسهرت له ليلى. » قال: « يا سيّدي، إذا لا يرجع عني إليك أبدا، أخفيه عن جيبي ونفسي. » قال: « ويحك، إني قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أنّى خرجت من ملكي وأنّه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم منذ فارقته ولا لذّة العيش منذ قتلته. » قال: فلمّا سمعها إبراهيم أسبل دموعه وأذرى عبرته ولم يملك نفسه وقال:
« رحم الله أبا الفضل وتجاوز عنه، والله يا سيّدي، لقد أخطأت في قتله وأوطئت العشوة في أمره ولن يوجد في الدنيا مثله، وقد كان منقطع القرين زينا في الناس أجمعين. » فقال الرشيد:
« قم عليك لعنة الله يا بن الفاجرة. فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمّه وقال:
« يا أمّ، ذهبت والله نفسي. » قالت: « كلّا إن شاء الله، وما ذاك يا بنيّ؟ » قال: « إنّ الرشيد امتحنني محنة. والله ولو كانت لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. » فما كان بين هذا وبين أن أدخل عليه فضرب بالسيف إلّا ليال وقتله.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة
ولم يجر فيها ما يثبت.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائة. شخوص الرشيد إلى الري وسببه
وفي هذه السنة شخص الرشيد إلى الريّ، وكان سبب ذلك أنّ الرشيد كان استشار يحيى في تولية عليّ بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألّا يفعل، فإنّه غشوم، فخالفه الرشيد وولّاه إيّاها. فلمّا شخص عليّ بن عيسى إليها، ظلم الناس وعسف عليهم وجمع مالا جليلا، ووجّه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قطّ من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال. فقعد هارون بالشماسيّة على دكّان مرتفع حين وصل إليه ما بعث به عليّ إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه فعظمت في عينه وجلّ قدرها عنده وإلى جانبه يحيى بن خالد، فقال له:
« يا با عليّ، هذا الذي كنت تشير علينا إلّا نولّيه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة - وهو كالمازح معه وكان إذ ذاك على مرتبته الجليلة وموضعه اللطيف - فقد ترى الآن ما صحّ من رأينا فيه وفال من رأيك. » فقال يحيى:
« يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك أنا وإن كنت أحبّ أن أصيب في رأيي وأوّفق في مشورتي، فأنا أحبّ مع ذلك أن يكون رأى أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه من سوء عاقبته وتباع مكروهه. » قال: « وما ذاك؟ » قال: « ذاك أنّى أحسب هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الأشراف وأخذ أكثرها ظلما وتعدّيا، ولو أمرنى أمير المؤمنين لأتيته بأضعافها الساعة من بعض تجّار الكرخ. » قال: « وكيف ذاك؟ » قال: « قد ساومنا عونا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، فأعطيناه به سبعة آلاف ألف فأبى أن يبيعه. فابعث إليه الساعة بحاجبى، فأمر أن يردّه إلينا لنعيد فيه نظرنا فإذا جاء به جحدناه وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم نفعل هذا بتاجرين من كبار التّجار، وعلى أنّ هذا أسلم عاقبة وأستر أمرا من فعل عليّ بن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعى وأيسر أمر وأجمل جباية كما جمع عليّ في ثلاث سنين. » فوقرّت في نفس الرشيد، وأمسك عن ذكر عليّ بن عيسى، فلمّا عاث عليّ بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها فأخذ أموالهم واستخفّ برجالهم، خفّت رجال من كبرائها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى أصحابها وقراباتها ببغداد، تشكو سوء سيرته وخبث طعمته ورداءة مذهبه وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحبّ من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقوّاده.
فدعا يحيى بن خالد، وشاوره في أمر عليّ بن عيسى وفي صرفه وقال:
« أشرّ عليّ برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق. » فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته.
ثم دخلت سنة تسعين ومائة
ظهور رافع بن الليث بسمرقند مخالفا هارون
وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بن سيّار بسمرقند مخالفا هارون وخالعا له، ونزع يده من طاعته.
ذكر السبب في ذلك
كان يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوّج بخراسان بنتا لعمّه، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام وتركها بسمرقند وبلغها أنّه قد اتّخذ أمّهات أولاد، وطال عليها أمره، فالتمست شيئا للتخلّص منه، فعيّ عليها وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدسّ إليها من قال لها: إنّه لا سبيل لها إلى التخلّص من صاحبها إلّا أن تشرك بالله وتحضر لذلك قوما عدولا وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحلّ للأزواج، ففعلت ذلك وتزوّجها رافع، وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى عليّ بن عيسى يأمره أن يفرّق بينهما وأن يعاقب رافعا بجلد الحدّ ويقيّده، ثم يطوف به مدينة سمرقند مقيّدا على حمار حتى يكون عظة لغيره.
فدرأ سليمان بن حميد الأزدي عنه الحدّ وحمله على حمار مقيّدا حتى طلّقها، ثم حبسه في حبس سمرقند، فهرب من الحبس ليلا من عند حميد بن المسيح وهو يومئذ على شرطة سمرقند، فلحقّ بعليّ بن عيسى ببلخ فطلب الأمان فلم يجبه عليّ إليه وهمّ بضرب عنقه، فكلّمه فيه ابنه عيسى بن عليّ، وجدّد طلاق المرأة، وإذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها.
ووثب بسليمان بن حميد عامل عليّ بن عيسى فقتله. فوجّه إليه عليّ بن عيسى ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فوثب على رافع فقيّده، واجتمع الناس عليه فقيّدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من كان بوراء النهر، ووافاه عيسى بن عليّ بن عيسى، فلقيه رافع، فهزمه ثم قتله، فأخذ عليّ بن عيسى في فرض الرجال والتأهّب للحرب.
فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم
وفي هذه السنة فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم وكان دخلها في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق سوى الأتباع وسوى المطوّعة ومن لا ديوان له. ووجّه داود بن عيسى بن موسى سائحا في أرض الروم في سبعين ألفا، وأخرب هارون الرشيد هرقلة وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها، وولّى حميد بن معيوف سواحل بحر الشام إلى مصر فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرّق وسبى من أهلها ستّة عشر ألفا فأقدمهم الرافقة فتولّى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفى دينار، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه ووليّ عهده وبطارقته وأهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه دينارين، وعن الباقين على حسب مراتبهم.
كتاب نقفور لهارون في جارية من سبى هرقلة
وكتب نقفور مع بطريق من بطارقته في جارية من سبى هرقلة كتابا نسخته:
« لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم، سلام عليك، أمّا بعد، أيّها الملك، إنّ لي إليك حاجة لا تضرّك في دينك ولا دنياك، هيّنة يسيرة أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة قد كنت خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفنى بحاجتي فعلت، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. » واستهداه طيبا وسرادقا من سرادقاته.
فأمر الرشيد بطلب الجارية فأحضرت وزيّنت وأجلست على فراش في مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلّمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور وبعث إليه أيضا بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والزبيب والأخبصة والترياق. فسلّم ذلك إليه رسول الرشيد فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلاميّة وحمله على بزدون كميت، فكان مبلغ المال خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيّا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين.
وكان نقفور اشترط ألّا يخرّب ذا الكلاع، ولا صملّة، ولا حصن سنان، واشترط الرشيد عليه إلّا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
أرجو أن ينال أعجابكم
أخوتي الكرام
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)