أما طاوس فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره في باب يمين المكره فحمله على الحلف بالطلاق مكرها وهذا فاسد فإن الحجة ليست في الترجمة وإنما الاعتبار بما يروى في أثناء الترجمة ولا سيما المتقدمين كابن أبي شيبة وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم فإنهم يذكرون في أثناء الترجمة آثارا لا تطابق الترجمة وإن كان لها بها نوع تعلق وهذا في كتبهم لمن تأمله أكثر وأشهر من أن يخفى وهو في صحيح البخاري وغيره وفي كتب الفقهاء وسائر المصنفين ثم لو فهم عبد الرزاق هذا وأنه في يمين المكره لم تكن الحجة في فهمه بل الأخذ بروايته وأي فائدة في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك بل كل مكره حلف بأي يمين كانت فيمينه ليست بشيء
أما عكرمة فقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة: في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق قال: لا يجلد غلامه ولا يطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان
فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه إلى أثر ابن عباس فيمن قالت لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حتر إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه في هذا الباب
فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات كالحج والصوم والصدقة والهدي والمشي إلى مكة حافيا ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار
فإذا ارتفعت درجة أخرى ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة تبين لك الراجح من المرجوح ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان ومن يقول: حكمت وثبت عندي فالله المستعان
الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو على فعل نفسه أو على غير الزوجة فيقول: إن قال لامرأته: إن خرجت من الدار أو كلمت رجلا أو فعلت كذا فأنت طالق فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك وإن حلف على فعل نفسه أو غير امرأته وحنث لزمه الطلاق
وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق وهو أشهب بن عبد العزيز ومحله من الفقه والعلم غير خاف ومأخذ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها لم يقع به الطلاق معاقبة لها بنقيض قصدها وهذا جار على أصول مالك وأحمد ومن وافقهما في معاقبة الفار من التوريث والزكاة وقاتل مورثه والموصي له ومن دبره بنقيض قصده وهذا هو الفقه لا سيما وهو لم يرد طلاقها إنما أراد حضها أو منعها وأن لا تتعرض لما يؤذيه فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أذاه وهو لم يتملكها ذلك بالتوكيل والخيار ولا ملكها الله إياه بالفسخ فكيف تكون الفرقة إليها إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها وأي شيء أحسن من هذا الفقه وأطرد على قواعد الشريعة
الطريق الخامسة: طريق من يفصل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء والحلف بصيغة الالتزام
فالأول: كقوله: إن فعلت كذا أو إن لم أفعله فأنت طالق
والثاني: كقوله: الطلاق يلزمني أو لي لازم أو علي الطلاق إن فعلت أو إن لم أفعل فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم إذا حنث دون الأول
وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعي وهو المنقول عن أبي حنيفة وقدماء أصحابه ذكره صاحب الذخيرة وأبو الليث في فتاويه قال أبو الليث: ولو قال: طلاقك علي واجب أو لازم أو فرض أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية نواه أو لم ينوه ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى والفارق: العرف
قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو قال: لازم ففعلت وذكر القدوري في شرحه: أن على قول أبي حنيفة: لا يقع الطلاق في الكل وعند أبي يوسف: إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد: أنه يقع في قوله: لازم ولا يقع في: واجب
واختار الصدر الشهيد الوقوع في الكل وكان ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل هذا كله لفظ صاحب الذخيرة
وأما الشافعية: فقال ابن يونس في شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لي ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية وهذا اللفظ محتمل فجعل كناية وقال الروياني: الطلاق لازم لي: صريح وعد ذلك في صرائح الطلاق ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق وقال القفال في فتاويه: ليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة ولم يتحقق هذا لفظه
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد
فقد صار الخلاف في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم
ولهذا التفريق مأخذ آخر أحسن من هذا الذي ذكره الشارح وهو أن الطلاق لا يصح التزامه وإنما يلزم التطليق فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة وهو اللازم لها وإنما الذي يلتزمه الرجل: هو التطليق فالطلاق لازم لها إذا وقع
إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو فلله علي أن أطلقك أو فتطليقك لازم لي أو واجب علي وحنث لم يقع عليه الطلاق فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمني لأنه إنما التزم التطليق لا يقع بالتزامه والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق وهو خروج البضع من ملكه وإنما يلزمه حكمه إذا وقع فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه وهو التطليق فحيئنذ يلزمه حكمه وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب وإنما أتى به معلقا له والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم فكيف يلزم بالتعليق والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح وبالله التوفيق
فصل
وممن ذكر الفرق بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق: القاضي أبو الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام فقال في كتاب الطلاق من ديوانه وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك في الأيمان اللازمة ثم قال: ولا ينبغي أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليديا إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى منها: الفرق بين الطلاق إيقاعا وبين اليمين بالطلاق وفي المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق والثاني للأيمان بالطلاق ووراء هذا الفن فقه على الجملة وذلك أن الطلاق صورته في الشرع: حل وارد على عقد واليمين بالطلاق عقد فليفهم هذا وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل نية ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته فقد نجمت هذه المسألة في أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه وحقائقه ومجازاته في أيمان البيعة وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح وكناية
فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حكمه تحديدا
والكناية: على ضربين كناية غالبة وكناية غير غالبة
فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق في موضوع اللغة أو الشرع كقوله: الحقي بأهلك واعتدي
وغير الغالبة: كل ما لا يشعر بثبوت الطلاق في وضع اللغة والشرع كقوله: ناوليني الثوب وقال: أردت بذلك الطلاق
فإذا عرضنا لفظ الأيمان على صريح الطلاق لم تكن من قسمه وإن عرضناها على الكناية لم تكن من قسيمها إلا بقرينة من شاهد حال أو جارى عرف أو نية تقارن اللفظ فإن اضطرب شاهد الحال أو جاري العرف باحتمال يحتمله فقد تعذر الوقوف على النية ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني فإن الحكم إن لم يقع مستوضحا عن نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغني في هذه اليمين من كلام العلماء ورأيته من أقوال الفقهاء وهي يمين محدثة لم تقع في الصدر الأول
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في الحلف بالأيمان اللازم والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق والحلف بالطلاق وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما ومقاصدهما وألفاظهما فيجب افتراقهما حكما أما افتراقهما بالحقيقة فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ واليمين عقد والتزام فهما إذن حقيقتان مختلفتان قال تعالى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان
ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقدا لم يحصل بها حل إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها في العقد والحل فتصير كناية في الوقوع وقد نواه فيقع به الطلاق لأن هذا العقد صالح للكناية وقد اقترنت به النية فيقع الطلاق أما إذا نوى مجرد العقد ولم ينو الطلاق البتة بل هو أكره شيء إليه فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي ولا نقلها عنه الشارع فلا يلزمه غير موجب الأيمان
فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق ويخرج قلبه ساعة من التصعب والتقليد واتباع غير الدليل
والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ فيجب اختلافهما في الحكم أما الحقيقة فما تقدم
وأما القصد فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع أو التصديق أو التكذيب والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب فالتسوية بينهما لا يخفى حالها
وأما اختلافهما لفظا فإن لفظ اليمين لابد فيها من التزام قسمي يأتي فيه بجواب القسم أو تعليق شرطي يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط وإن كان يكرهه ويقصد انتفاءه فالمقدم في الصورة الأولى مؤخر في الثانية والمنفي في الأولى ثابت في الثانية ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئا من ذلك ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق في هذه المسألة والله الموفق
الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة فيزول بزوالها وهذا مطرد على أصول الشرع وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد في اليمين تعميما وتخصيصا وإطلاقا وتقييدا فإذا حلف: لا أكلم فلانة وكان سبب اليمين الذي هيجها كونها أجنبية يخاف الوقوع في عرضه بكلامها فتزوجها لم يحنث بكلامها إعمالا لسبب اليمين وما هيجها في التقييد بكونها أجنبية هذا إذا لم يكن له نية ما دامت كذلك أما إذا كانت له نية فلا إشكال في تقييد اليمين بها ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلانا ولا يعاشره لكونه صبيا فصار رجلا وكان نيته وسبب يمينه لأجل صباه ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يظن به التهمة لدخولها فمات أو سافر فدخلها لم يحنث وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لادخلت دار فلان هذه ولا كلمت عبده هذا فباع فلان العبد والدار
ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا والحامل له على اليمين كونه تاركا للصلاة أو مرابيا أو خمارا أو واليا فتاب من ذلك كله وزالت الصفة التي حلف لأجلها لم يحنث بكلامه
وكذلك إذا حلف لاتزوجت فلانة والحامل له على اليمين صفة فيها مثل كونها بغيا أو غير ذلك فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها
كل هذا مراعاة للمقاصد التي الالفاظ دالة عليها فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه في غد وقصده أو السبب: أن لا يجاوزه فقضاه قبله لم يحنث ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث ولو حلف: أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي والنية أو السبب: يقتضي التقييد ما دام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه
وكذلك لو حلف على زوجته أو عبده أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه فطلق أو أعتق أو باع لم يحنث بخروجهم بغير إذنه لأن اقتضاء السبب والقصد بتقييد في غاية الظهور
ونظائر ذلك كثيرة جدا
وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه في كثير من المواضع وهذا هو الصواب لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلاتها على المقاصد فإذا ظهر القصد كان الاعتبار له وتقيد اللفظ به ولهذا لو دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضي غيره
وقد أخبر النبي أن الأعمال بالنيات: وإنما لكل امرىء ما نوى وما لم ينوه بيمينه أو كان السبب لا يقتضيه لا يجوز أن يلزم به مع القطع بأنه لم يرده ولا خطر على باله
وقد أفتى غير واحد من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك أو قد زنت بفلان فقال: هي طالق ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت وأن الذي رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها أو أنه حين رميت به كان ميتا ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن فإنه لا يقع عليه الطلاق لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب فهو كالشرط في طلاقها
وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق وقال: أردت إن قمت دين ولم يقع به الطلاق فهذا مثله سواء ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال فقال: أنت حر فبان أن المال الذي أعطاه مستحق أو زيوف لم يقع العتق وإن كان قد صرح به ذكره أصحاب أحمد والشافعي لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض ولم يسلم له وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة يزول بزوالها
وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر
فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث وهي أنواع
أحدها التسريح
الثاني: خلع اليمين
الثالث: التحيل لفساد النكاح إما بكون الولي كان قد فعل ما يفسق به أو الشهود كانوا جلوسا على مقعد حرير ونحو ذلك فيكون النكاح باطلا فلا يقع فيه الطلاق
الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه بتغيير اسمه أو صفته أو نقله من مالك إلى مالك ونحو ذلك
فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسئول بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها وليقم لله ناظرا ومناظرا متجردا من العصبية والحمية فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب والله ولي التوفيق
فصل
وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول: إنه لو حلف: ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه وإن علم أنها لم تمسه لم يبر وإن شك لم يحنث ولو كان هذا موجبا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ويضرب بها ضربة واحدة وهذا إنما يجزى في حق المريض كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال يسقط عنه الحد واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها قال: فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله وكان ذلك الرجل مسلما فقال: اضربوه حده فقالوا: يا رسول الله: إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة ففعلوا
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه فلما لقيها الشيطان وقال ما قال: أخبرت أيوب عليه السلام بذلك فقال: إنه الشيطان ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ولم يكن في شرعهم كفارة فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير ولم يحتج إلى ضربها فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة وامرأة أيوب كانت معذورة لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان وإنما قصدت الإحسان فلم تكن تستحق العقوبة فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع الله له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة
فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى فلا يتعدى بها عن محلها
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة وكانا معذورين لاذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ
قيل: قد جعل الله له مخرجا بالكفارة ويجب عليه أن يكفر عن يمينه ولا يعصي الله بالبر في يمينه ههنا ولا يحل له أن يبر فيها بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد هل تقولون: ينفعه ذلك قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر والبرد الشديد والمرض اليسير فهذا ينتظر زواله ثم يحد الحد الواجب كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن أمة لرسول الله زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله فقال: أحسنت اتركها حتى تماثل
فصل
وأما حديث بلال في شأن التمر وقول النبي له: بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا
فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أن النبي أمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث
فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة
قلت: ونظير ذلك: أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب أو على البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاث أو على البيع بشرط البراءة وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها ويقول المنازع: الشارع قد أطلق الإذن في البيع ولم يقيده
وحقيقة الأمر أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح
الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال: وابتع بالدراهم جنيبا والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم: هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله: بع هذا الثوب لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ولا بكذا وكذا ولا بهذه السوق أو هذا فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها
وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا غلط بين فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفي ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما ضرورة وقوعه جزئيا مشخصا فذلك من لوازم الواقع لا أنه مقصود الأمر وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل
وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال: لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على جواز أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة ونحو ذلك فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح بل هو من أبطل الاستدلال إذ لا تعرض في اللفظ لذلك ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه وكذلك من استدل بقوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم على جواز نكاح الزانية قبل التوبة وصحة نكاح المحلل وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة كان استدلاه باطلا
وكذلك من استدل بقوله تعالى: وأحل الله البيع على حل بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه فاستدلاله باطل فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شيء فهذا غير صحيح وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفو على حل كل مأكول ومشروب
وبمنزلة الاستدلال بقوله من استطاع منكم الباءة فليتزوج على حل الأنكحة المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن على جواز جمع الثلاث ونفوذه وعلى صحة طلاق المكره والسكران
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن على صحه النكاح بلا ولي وبلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء على حل كل نكاح اختلف فيه فيستدل به على صحة نكاح المتعة والمحلل والشغار والنكاح بلا ولي وبلا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها ونكاح الزانية والنكاح المنفي فيه المهر وغير ذلك وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة
ومن العجب أن ينكر من يسلكه على ابن حزم استدلاله بقوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذكلك على وجوب نفقة الزوج على زوجته إذا أعسر بالنفقة وكان لها ما تنفق منه فإنها وارثة له وهذا أصح من تلك الاستدلالات فإنه استدلال بعام لفظا ومعنى وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظا ولا معنى ولم يقصد بها تلك الصور التي استدلوا بها عليها إذا عرف هذا فالاستدلال بقوله: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا لا يدل على جواز بيع العينة بوجه من الوجوه فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل
وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال: هذه الصورة غالبة بل الغالب أن من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة أو حيث يقصد أو ينادى عليه وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها وقد لا تكون
ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لوكيله: بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتر بثمنها جديدة لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بعينه بل يشتري من حيث وجد غرضه ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده
فإن قيل: فهب أن الأمر كذلك فهلا نهاه عن تلك الصورة وإن لم يدخل في لفظه فإطلاقه يقتضي عدم النهي عنه
قيل: إطلاق اللفظ لا يقتضي المنع منها ولا الإذن فيها كما تقدم بيانه فحكمها إذنا ومنعا يستفاد من مواضع أخر فغاية هذا اللفظ: أن يكون قد سكت عنها فقد علم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العينة
الوجه الثالث: أن قوله: بع الجمع بالدراهم إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد فإنه لو قال: بع هذا الثوب أو بعت هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل ولا بيع التلجئة وإنما يفهم منه البيع الذي يقصد به نقل ذلك العوض وقد تقدم تقرير هذا يوضحه: أن مثل هذين قد يتراوضان أولا على بيع التمر بالتمر متفاضلا ثم يجعلان الدراهم محللا غير مقصودة والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين ومعلوم أن الشارع لا يأذن في مثل هذا فضلا عن أن يأمر به ويرشد إليه
الوجه الرابع: أن النبي نهى عن بيعتين في بيعة ومتى تواطآ عل أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث إذ المنهى عنه لا يتناوله المأذون فيه
يبين ذلك الوجه الخامس: وهو أنه قال: بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الإذن بل في حديث النهي
الوجه السادس: أنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه فتضعف دلالته وتخص منه الصورة التي ذكرناها بالأدلة التي هي نصوص أو كالنصوص فاخراجها من العموم من أسهل الأشياء وبالله التوفيق
فصل
وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة بقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما
فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التي شرعها لعباده ونصبها لمصالحهم في معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن حفظا لأموالهم وتخلصا من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالة لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان
فالمراد بالتجارة الدائرة: البيعات التي تقع غالبا بين الناس
ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا أهل التفسير ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية
ومما يدل عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود والله سبحانه قال: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فاستثنى هذا من قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك فأين هي من التجارة الحاضرة التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا
فالتجارة في كلام الله ورسوله ولغة العرب وعرف الناس: إنما تنصرف إلى البياعات المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمن وأما ما توطآ فيه على الربا المحض ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما ألبتة يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة فهذا ليس من التجارة المأذون فيها بل من الربا المنهي عنه والله أعلم
فصل
وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل فما أبطله من استدلال فأين المعاريض التي يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التي يسقط بها ما فرض الله تعالى ويستحل بها ما حرم الله فالمعرض تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ ومعاريض النبي ومزاحه عامته كان من هذا الباب كقوله: نحن من ماء وإنا حاملوك على ولد الناقة ووزوجك الذي في عينه بياض ولا يدخل الجنة عجوز وأكثر معاريض السلف كانت من هذا فالمعرعض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له في الجملة فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفرد والمشترك والمتباين والمترادف وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد وتارة بحسب التأليف فأين هذا من الحيل التي يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلا ولا هو مقتضاه ولا موجبه شرعا ولا حقيقة
وفرق ثان وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلا ولا محرما بخلاف المحتال فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرما باطلا فإن المرابي بالحيلة لو قال: بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة كان حراما باطلا وذلك عين مقصوده ومقصود الآخر
وكذلك المقرض لو قال: أقرضتك ألفا على أن تعيدها إلي ومعها زيادة كذا وكذا كان حراما باطلا وذلك نفس مقصوده
وكذلك المحلل لو قال: تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثا
والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراما فأين أحدهما من الآخر
وفرق ثالث: وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله ولا جعل مقتضيا له لا شرعا ولا عرفا ولا حقيقة
وفرق رابع: وهو أن المعرض مقصده صحيح ووسيلته جائزة فلا حجر عليه في مقصوده ولا في وسيلته إلى مقصوده بخلاف المحتال فإن قصده أمر محرم ووسيلته باطلة كما تقدم تقريره
وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة والذي يدخل في الحيل المذمومة إنما هو الأول فالمعرض قاصد لدفع الشر والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه
ومثل أن يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه
ومثل أن يظهر ضعفا وعجزا يتخلص به من تسخيره وأذاه ونحو ذلك
وقد يكون التعريض بالقول والفعل معا كما قال سليمان عليه السلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع وبإظهار النوم وإظهار الشبع وإظهار الغنى بحيث يحسبه الجاهل غنيا
وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما أعطى النبي عمر رضي الله عنه حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال: لم أعطكها لتلبسها فكساها أخا له مشركا بمكة
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة وفي الأفعال تارة وفيهما معا تارة ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله ليقبله ولا يرده عليه أو ليتخلص به من شره وظلمه كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات وأوهمها أنه يقرأ القرآن فتخلص بذلك من شرها
وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح ولكن لا يقبل منه لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله فإذا عرض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض كما علمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه حين شكوا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة فيبادرون بالإنكار فقال: قولوا لهم المسألة فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع فقولوا: هذا قول أبي حنيفة وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرا
فصل
وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره
فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم في هذا الباب وليس كما زعموا والاستدلال بذلك من أبطل الباطل
فإن المحتجين بذلك لا يجوزون شيئا مما في هذه القصة البتة ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به ولا يسوغه بوجه من الوجوه والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءا لإخوته وعقوبة لهم على ما فعلوا به ونصرا له عليهم وتصديقا لرؤياه ورفعة لدرجته ودرجة أبيه
وبعد ففي قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة
أحدها قوله: لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها: أنه تخوف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها
ومنها أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم
ومنها: أنه رأى لؤما أخذ الثمن منهم
ومنها: أنه أراهم كرمه في ردع البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود
وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها منفعة لهم ولأبيهم وله وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء وأيضا فلو عرفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابا من المحن والبلايا والمشاق فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد وكما أدخل رسوله إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه
وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام فهو سبحانه وصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وربما كان مكروه النفوس إلى... محبوبها سببا ما مثله سبب
وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره وخلق النار وحفها بالشهوات
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)