قال: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعة المربد؛ أي أعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثم جاء النعمان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النعمان قيسًا أن هواه في ابن الأسود، ثم قال: إنا لا نستطيع أن نتكلم معًا، وأراده أن يجعل الكلام إليه، ففعل قيس وقد اعتقد أحدهما على الآخر، فأخذ النعمان على الناس عهدًا ليرضون بما يختار. قال: ثم أتى النعمان عبد الله ابن الأسود فأخذ بيده، وجعل يشترط عليه شرائط حتى ظن الناس أنه مبايعه، ثم تركه، وأخذ بيد عبد الله بن الحارث، فاشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر النبي وحق أهل بيته وقرابته، ثم قال: يأيها الناس، ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم ، وأمه هند بنت أبي سفيان! فإن كان فيهم فهو ابن أختكم؛ ثم صفق على يده وقال: ألا إني قد رضيت لكم به، فنادوا: قد رضينا؛ فأقبلوا بعبد الله بن الحارث إلى دار الإمارة حتى نزلها، وذلك في أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، واستعمل على شرطته هميان بن عدي السدوسي، ونادى في الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فقال الفرزدق حين بايعه:
وبايعت أقوامًا وفيت بعهدهم ** وببة قد بايعته غير نادم
قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، عن عمرو بن عيسى، قال: كان منزل مالك بن مسمع الجحدري في الباطنة عند باب عبد الله الإصبهاني في خط بني جحدر، الذي عند مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هو قاعد فيه - وذلك بعد يسيرٍ من أمر ببة - وافى الحلقة رجلٌ من ولد عبد الله عامر بن كريز القرشي يريد ببة، ومعه رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجلٌ من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثم من مضر وربيعة، وكثرتهم ربيعة الذين في الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبةٌ من ضبة ابن أد - كانوا عند القاضي - فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثم شدوا على الربعين فهزموهم، وبلغ ذلك شقيق بن ثور السدوسي - وهو يومئذ رئيس بكر بن وائل - فأقبل إلى المسجد فقال: لا تجدن مضريًا إلا قتلتموه، فبلغ ذلك مالك بن مسمع، فأقبل متفضلًا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرًا أو أقل، وكان رجل من بني يشكر يجالس رجلًا من بني ضبة في المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري. قال: ثم قال: ذهبت ظلفًا. فأحفظ الضبي بذلك، فوجأ عنقه، فوقذه الناس في الجمعة، فحمل إلى أهله ميتًا - أعني اليشكري - فثارت بكر إلى رأسهم أشيم بن شقيق، فقالوا: سر بنا؛ فقال: بل أبعث إليهم رسولًا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إليهم، فأبت ذلك بكر، فأتوا مالك بن مسمع - وقد كان قبل ذلك مملكًا عليهم قبل أبشيم، فغلب أشيم على الرياسة حين شخص أشيم إلى يزيد بن معاوية؛ فكتب له إلى عبيد الله بن زياد أن ردوا الرياسة إلى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافواهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن ربيعة بن نزار؛ أربع قبائل وأربع قبائل، وكان هذا الحلف في أهل الوبر في الجاهلية، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمةً، ثم تراضوا بحكم عمران بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إلى أشيم، فلما كانت هذه الفتنة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد، فطلب إلى الأزد أن يجددوا الحلف الذي كان بينهم قبل ذلك في الجماعة على يزيد بن معاوية، فقال حارثة بن بدر في ذلك:
نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ** تجر خصاها تبتغي من تحالف
وما بات بكريٌّ من الدهر ليلةً ** فيصبح إلا وهو للذل عارف
قال: فبلغ عبيد الله الخبر - وهو في رحل مسعود - من تباعد ما بين بكر وتميم، فقال لمسعود: الق مالكًا فجدد الحلف الأول؛ فلقيه، فترادا ذلك، وتأبى عليهما نفر من هؤلاء وأولئك، فبعث عبيد الله أخاه عبد الله مع مسعود، فأعطاه جزيلًا من المال، حتى أنفق في ذلك أكثر من مائتي ألف درهم على أن يبايعوهما، وقال عبيد الله لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف، وكتبوا بينهم كتابًا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما في الجماعة، فوضعوا كتابًا عند مسعود بن عمرو.
قال أبو عبيدة: فحدثني بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فيه، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابًا عند الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وقد كان بينهمه قبل هذا حلف.
قال أبو عبيدة: وزعم محمد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كانت تكثر ربيعة بالبصرة، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بالبصرة، كانوا حيث مصرت البصرة، فحول عمر بن الخطاب رحمه الله من تنوخ من المسلمين إلى البصرة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثم لحقوا بالبصرة بعد ذلك في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد بن معاوية، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إلى هؤلاء قبل أن تسبقنا إليهم ربيعة، وقال الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لهم أتباعًا. فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يومئذ مسعود بن عمرو المعنى، فقال مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة في الجاهلية، وحلف بني ذهل بن ثعلبة في طيىء بن أدد من ثعل؛ فقال الأحنف: أما إذ أتوهم فلن يزالوا لهم أتباعًا أذنابًا.
قال أبو عبيدة: فحدثني هبيرة بن حدير، عن إسحاق بن سويد، قال: فلما أن جرت بكر إلى نصر الأزد على مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودًا عليهم.
قال أبو عبيدة: فحدثني مسلم بن محارب، قال: قال مسعود لعبيد الله: سر معنا حتى نعيدك في الدار؛ فقال: ما أقدر على ذلك، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عليها أدواتها وسوادها، وتزمل في أهبة السفر، وألقوا له كرسيًا على باب مسعود، فقعد عليه؛ وسار مسعود، وبعث عبيد الله غلمانًا له على الخيل مع مسعود، وقال لهم: إني لا أدري ما يحدث فأقول: إذا كان كذا؛ فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير ولا شر إلا أن أتاتي بعضكم به، فجعل مسعو دلا يأتي على سكة، ولا يتجاوز قبيلةً إلا أتى بعض أولئك الغلمان بخبر ذلك، وقدم مسعود ربيعة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعًا سكة المربد، فجاء مسعود حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة، فقيل له: إن مسعودًا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم! فقال: أبعدهم الله! لا والله لا أفسدت نفسي في إصلاحهم، وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول:
لأنكحن ببه ** جاريةً في قبه
تمشط رأس لعبه
فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سفيان كانت ترقصه وتقول هذا؛ فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود المنبر، خرج مالك بن مسمع في كتيبته حتى علا الجبان من سكة المربد، ثم جعل يمر بعدد دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء التي في صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة؛ قال: فبينا هو في ذلك إذ أتوه فقالوا: قتلوا مسعودًا، وقالوا: سارت بنو تميم إلى مسعود، فأقبل حتى إذا كان عند مسجد بني قيس في سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف.
قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، قال: حدثنا الضحاك - أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عبد الله بن دارم - قال: حدثني مالك بن دينار، قال: ذهبت في الشباب الذين ذهبوا إلى الأحنف ينظرون؛ قال: فأتيته وأتته بنو تميم، فقالوا: إن مسعودًا قد دخل الدار وأنت سيدنا، فقال: لست بسيدكم، إنما سيدكم الشيطان.
وأما هبيرة بن حدير، فحدثني عن إسحاق بن سويد العدوي، قال: أتيت منزل الأحنف في النظارة، فأتوا الأحنف فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد دخلوا الرحبة، فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم؛ ثم أتوه فقالوا: قد دخلوا الدار؛ فقال: لستم بأحق بالدار منهم؛ فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فقال: إلي يا معشر الفتيان، فإنما هذا جبسٌ لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبا بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فقال لهم سلمة: أين تريدون؟ قالوا: إياكم أردنا؛ قال: فتقدموا.
قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، عن ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة المسجد، قالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فقالت: ما لك وللرياسة! تجمر فإنما أنت امرأة؛ فقال: است امرأة أحق بالمجمر؛ فأتوه فقالوا: إن علية بنت ناجية الرياحي - وهي أخت مطر، وقال آخرون: عزة بنت الحر الرياحية - قد سلبت خلاخيلها من ساقيها، وكان منزلها شارعًا في رحبة بني تميم على الميضأة، وقالوا: قتلوا الصباغ الذي على طريقك، وقتلوا المقعد الذي كان على باب المسجد، وقالوا: إن مالك بن مسمع قد دخل سمى بني العدوية من قبل الجبان، فحرق دورًا، فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففي دون هذا ما يحل قتالهم؛ فشهدوا عنده على ذلك، فقال الأحنف: أجاء عباد؟ وهو عباد بن حصين بن يزيد بن عمرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان بن سعد بن الحارث الحبطة بن عمرو ابن تميم؛ قالوا: لا، ثم مكث غير طويل، فقال: أجاء عباد؟ قالوا: لا؛ قال: فهل ها هنا عبس بن طلق بن ربيعة بن عامر بن بسطام بن الحكم ابن ظالم بن صريم بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد؟ فقالوا: نعم؛ فدعاه، فانتزع معجرًا في رأسه، ثم جثا على ركبتيه، فعقده في رمح ثم دفعه إليه، فقال: سر. قالا: فلما ولي قال: اللهم لا تخزها اليوم، فإنك لم تخزها فيما مضى. وصاح الناس: هاجت زبراء - وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بها عنه - قالا: فلما سار عبس جاء عباد في ستين فارسًا فسأل، ما صنع الناس؟ فقالوا: ساروا؛ قال: ومن عليهم؟ قالوا: عبس بن طلق الصريمي؛ فقال عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان إلى أهله.
فحدثني زهير، قال: حدثنا أبو ريحانة العريني، قال: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عبد الله السعدي أعدو حتى بلغنا شريعة القديم.
قال إسحاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فقال لهم ماه أفريذو بالفارسية: ما لكم يا معشر الفتيان؟ قالوا: تلقونا بأسنة الرماح؛ فقال لهم بالفارسية: صكوهم بالفنجقان - أي بخمس نشابات في رمية، بالفارسية - والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة في دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا على باب المسجد، ودلفت التميمية إليهم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قالوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم؛ قال: ارموهم أيضًا؛ فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب على المنبر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يزيد بن فهدة، أحد بني كعب بن عمرو بن تميم، وكان يزيد بن فهدة فارسًا في الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتجز:
يا لتميمٍ إنها مذكوره ** إن فات مسعودٌ بها مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره
أي لا يهرب فيفوت.
قال إسحاق بن يزيد. فأتوا مسعودًا وهو على المنبر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وذلك في أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شيئًا، فانهزموا. وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربًا، فطعنه أحدهم، فنجا بها، ففي ذلك يقول الفرزدق:
لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ** وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذًا لصاحب مسعودًا وصاحبه ** وقد تهافتت الأعفاج والكبد
قال أبو عبيدة: فحدثني سلام بن أبي خيرة، وسمعته أيضًا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث في حلقة يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الحسن يقول في مجلسه في مسجد الأمير: فأقبل مسعود من ها هنا - وأشار بيده إلى منازل الأزد في أمثال الطير - معلمًا بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الفتنة: ألا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فوالله ما لبثوا إلا ساعةً حتى صار قمرهم قميرًا، فأتوه فاستنزلوه عن المنبر وهو عليه - قد علم الله - فقتلوه.
قال سلام في حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من ها هنا - وأشار بيده إلى دور بني تميم.
قال أبو عبيدة: فحدثني مسلمة بن محارب، قال: فأتوا عبيد الله فقالوا: قد صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه في ذلك يتهيأ ليجيء إلى الدار، إذ جاءوا فقالوا: قد قتل مسعود، فاغترز في ركابه فلحق بالشأم، وذلك في شوال سنة أربع وستين.
قال أبو عبيدة: فحدثني رواد الكعبي، قال: فأتى مالك بن مسمع أناسٌ من مضر، فحصروه في داره، وحرقوا، ففي ذلك يقول غطفان بن أنيف الكعبي في أرجوزة:
وأصبح ابن مسمع محصورا ** يبغي قصورًا دونه ودورا
حتى شببنا حوله السعيرا
ولما هرب عبيد اللهبن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبة، فانتهبوا ما وجدوا له، ففي ذلك يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد:
يا رب جبار شديد كلبه ** قد صار فينا تاجه وسلبه
منهم عبيد الله حين نسلبه ** جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه ** لو لم ينج ابن زيادٍ هربه
وقال جرهم بن عبد الله بن قيس، أحد بني العدوية في قتل مسعود في كلمة طويلة:
ومسعود بن عمرو إذ أتانا ** صبحنا حد مطرور سنينا
رجا التأمير مسعودٌ فأضحى ** صريعًا قد أزرناه المنونا
قال أبو جعفر محمد بن جرير: وأما عمر؛ فإنه حدثني في أمر خروج عبيد الله إلى الشأم، قال: حدثني زهير، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا الزبير بن الخريت، قال: بعث مسعود مع ابن زياد مائةً من الأزد، عليهم قرة بن عمرو بن قيس، حتى قدموا به الشأم.
وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، عن عمرو بن الزبير وخلاد بن يزيد الباهلي والوليد بن هشام، عن عمه، عن أبيه، عن عمرو بن هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قال؛ وحدثنيه علي بن محمد، قال - قد اختلفوا فزاد بعضهم على بعض - إن ابن زياد خرج من البصرة، فقال ذات ليلة: إنه قد ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي على ذي حافر؛ قال: فألقيت له قطيفةٌ على حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان في الأرض. قال اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتةً فأطالها، فقلت في نفسي: هذا عبيد الله أمير العراق أمس نائمٌ الساعة على حمار، لو قد سقط منه أعنته؛ ثم قلت: والله لئن كان نائمًا لأنغصن عليه نومه؛ فدنوت منه، فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا؛ قلت: فما أسكتك؟ قال: كنت أحدث نفسي؛ قلت: أفلا أحدثك ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: هات، فوالله ما أراك تكيس ولا تصيب، قال: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الحسين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت؛ قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت؛ قال: فقال: والله ما نطقت بصواب، ولا سكت عن خطإ، أما الحسين فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله على أن يقتلني؛ وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، وأرسل يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عليها مما لم أعنف فيه؛ وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف، فخيرني معاوية بين الضمان والعزل؛ فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إليه أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون في المطالبة منكم، مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدًا. وأما قولك في السخاء، فوا الله ما كان لي مال فأجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض، فيقولون: ما أسخاه! ولكني عممتكم، وكان عندي أنفع لكم. وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت؛ فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملًا هو أقرب إلى الله عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي؛ قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم الله لقد حرصت على ذلك؛ ولكن بني زياد أتوني فقالوا: إنك إذا قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدًا، وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره؛ فرفقت لهم فلم أقاتل. وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم، فأما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشأم ولم يبرموا أمرًا.
قال بعضهم: فقدم الشأم ولم يبرموا أمرًا، فكأنما كانوا معه صبيانًا؛ وقال بعضهم: قدم الشأم وقد أبرموا، فنقض ما أبرموا إلى رأيه.
وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث وعزلوه عنهم، واجتمعوا على عامر بن مسعود.
ذكر الخبر عن عزلهم عمرو بن حريث وتأميرهم عامرا
قال أبو جعفر: ذكر الهيثم بن عدي، قال: حدثنا ابن عياش، قال: كان أول من جمع له المصران: الكوفة والبصرة زيادًا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفًا، وحبس عبيد الله منهم أربعة آلاف، فلما هلك يزيد قام خطيبًا، فقال: إن الذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فإن أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم. وبعث بذلك إلى أهل الكوفة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته على الكوفة عمرو بن حريث، فقاما بذلك، فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني فقال: الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية، لا ولا كرامة! فأمر به عمرو فلبب ومضي به إلى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يزيد إلى أهله خائفًا، فأرسل إليه محمد بن الأشعث: إنك على رأيك، وتتابعت عليه الرسل بذلك، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في المسجد فقالوا: نؤمر رجلًا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فأجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينًا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فقال محمد بن الأشعث: جاء أمرٌ غير ما كنا فيه، وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره.
وأما عوانة بن الحكم؛ فإنه قال فيما ذكر هشام بن محمد عنه: لما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لعبيد الله بن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشدٍ ما أتياكم.
فقام عمرو بن مسمع، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد حتى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم؛ وقد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدًا، فإنما الكوفة من البصرة والبصرة من الكوفة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوًا من كلام صاحبه. قال: فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني - وهو ابن رويم - فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا ولا كرامة؛ فشرفت تلك الفعلة يزيد في المصر ورفعته، ورجع الوفد إلى البصرة فأعلم الناس الخبر فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه! فوثب به الناس، وقال: ما كان في ابن زياد وصمةٌ إلا استجارته بالأزد.
قال: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عمرو الأزدي، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يومًا بعد موت يزيد، ثم خرج إلى الشأم، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالًا منهم معه حتى أوردوه الشأم، فاستخلف حين توجه إلى الشأم مسعود بن عمرو على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نرضى ولا نجيز ولا نولي إلا رجلًا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذلك أبدًا؛ فخرج في قومه حتى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد؛ قال: ودخل المسجد فمه! إنما هو لكم ولهم، وأنتم تدخلونه؛ قالوا: فإنه قد دخل القصر، فصعد المنبر. وكانت خوارج قد خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله بن زياد إلى الشأم، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل البصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا به! فجاءت عصابةٌ منهم حتى دخلوا المسجد، ومسعود بن عمرو على المنبر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال له: مسلم من أهل فارس، دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم في بعض فقالوا: قتل مسعود بن عمرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذلك؛ فإذا أناسٌ منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو العتكي، ثم ازدلفوا إلى بني تميم وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم. وأقبلت تميم إلى الأحنف يقولون: قد جاء القوم، اخرج. وهو متمكث، إذ جاءته امرأةٌ من قومه بمجمر فقالت: يا أحنف اجلس على هذا، أي إنما أنت امرأة؛ فقال: استك أحق بها، فما سمع منه بعد كلمةٌ كانت أرفث منها، وكان يعرف بالحلم. ثم إنه دعا برايته فقال: اللهم انصرها ولا تذللها، وإن نصرتها ألا يظهر بها ولا يظهر عليها؛ اللهم احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا. ثم سار وسار ابن أخيه إياس بن معاوية بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثرة، فقالت لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينةٌ أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلًا، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم. فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس في وجوه مضر إلى زياد بن عمرو العتكي، فقال: يا معشر الأزد، أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد أتيناكم في رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتمك، ولكم الحكم مرسلًا، فقولوا على أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم؛ فانصرف الناس واصطلحوا؛ فقال الهيثم بن الأسود:
أعلى بمسعودٍ الناعي فقلت له ** نعم اليماني تجروا على الناعي
أوفى ثمانين ما يسطيعه أحدٌ ** فتىً دعاه لرأس العدة الداعي
آوى ابن حرب وقد سدت مذاهبه ** فأوسع السرب منه أي إيساع
حتى توارت به أرضٌ وعامرها ** وكان ذا ناصرٍ فيها وأشياع
وقال عبيد الله بن الحر:
ما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها ** تقصر عن بنيانها المتطاول
أيقتل مسعودٌ ولم يثأروا به ** وصارت سيوف الأزد مثل المناجل
وما خير عقلٍ أورث الأزد ذلةً ** تسب به أحياؤهم في المحافل
على أنهم شمطٌ كأن لحاهم ** ثعالب في أعناقها كالجلاجل
واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرًا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرًا، ثم جعلوا ببة - وهو عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب - فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرًا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله، فوليها الحارث وهو القباع.
قال أبو جعفر: وأما عمر بن شبة؛ فإنه حدثني في أمر عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عمر بن عبيد الله غير ما قال هشام عن عوانة. والذي حدثني عمر بن شبة في ذلك أنه قال: حدثني علي بن محمد، عن أبي مقرن عبيد الله الدهني، قال: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم على ببة بعض أهل المدينة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبًا منه، فأتى هميان دارًا للفيل مولى زياد التي في بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إياه، وقد كان هرب وأقبل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حتى قاتلوه، واستصرخوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه في السلاح حتى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عبد الملك من الغد إلى دار الإمارة ليسلم على ببة، فلقيه على الباب رجلٌ من بني قيس بن ثعلبة، فقال: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها؛ ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عامر فرجع، وغضبت له مضر فاجتمعت وأتت بكر بن وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل ومعه مالك بن مسمع حتى صعد المنبر فقال: أي مضري وجدتموه فاسلبوه. وزعم بنو مسمع أن مالكًا جاء يومئذ متفضلًا في غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه. ثم انصرفت بكر وقد تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذلك، فحالفوا بكرًا، وأقبلوا مع مسعود إلى المسجد الجامع، وفزعت تميم إلى الأحنف، فعقد عمامته على قناة، ودفعها إلى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حتى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الفتنة، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام حتى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عبد الله بن الحارث بيته، وكان يتدين، وقال: ما كنت لأصلح الناس بفساد نفسي.
قال عمر: قال أبو الحسن: فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب إلى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بالناس، فصلى بهم أربعين يومًا.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: كتب ابن الزبير إلى عمر ابن عبيد الله بن معمر التيمي بعهده على البصرة، ووجه به إليه، فوافقه وهم متوجه يريد العمرة، فكتب إلى عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم حتى قدم عمر.
حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت محمد بن الزبير، قال: كان الناس اصطلحوا على عبد الله بن الحارث الهاشمي، فولي أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إلى الأهواز، فقال الناس لعبد الله: إن الناس قد أكل بعضهم بعضًا؛ تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حتى تفضح؛ قال: فتريدون ماذا؟ قالوا: تضع سيفك، وتشد على الناس؛ قال: ما كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثم لحق بأهله، وأمر الناس عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي؛ قال أبي، عن الصعب بن زيد: إن الجارف وقع وعبد الله على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إلى حفرتها، وهو الأمير يومئذ.
حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: كان ببة قد تناول في عمله على البصرة أربعين ألفًا من بيت المال، فاستودعها رجلًا، فلما قدم عمر بن عبيد الله أميرًا أخذ عبد الله بن الحارث فحبسه، وعذب مولىً له في ذلك المال حتى أغرمه إياه.
حدثني عمر قال: حدثني علي بن محمد، عن القافلاني، عن يزيد ابن عبد الله بن الشخير، قال: قلت لعبد الله بن الحارث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فقال: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم.
ذكر الخبر عن ولاية عامر بن مسعود على الكوفة
وفي هذه السنة ولى أهل الكوفة عامر بن مسعود أمرهم، فذكر هشام ابن محمد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أنهم لما ردوا وافدي أهل البصرة اجتمع أشراف أهل الكوفة، فاصطلحوا على أن يصلي بهم عامر بن مسعود - وهو عامر بن مسعود بن خلف القرشي، وهو دحروجة الجعل الذي يقول فيه عبد الله بن همام السلولي:
اشدد يديك بزيدٍ إن ظفرت به ** واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وكان قصيرًا - حتى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة وأهل البصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشأم، وأهل الجزيرة إلا أهل الأردن.
خلافة مروان بن الحكم
وفي هذه السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بالشأم.
ذكر السبب في البيعة له
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: لما بويع عبد الله بن الزبير ولى المدينة عبيدة بن الزبير، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر، وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشأم - وعبد الملك يومئذ ابن ثمان وعشرين - فلما قدم حصين بن نمير ومن معه إلى الشأم أخبر مروان بما خلف عليه ابن الزبير، وأنه دعاه إلى البيعة، فأبى فقال له ولبين أمية: نراكم في اختلاط شديد، فأقموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم، فتكون فتنة عمياء صماء؛ فكان من رأي مروان أن يرحل فينطلق إلى ابن الزبير فيبايعه، فقدم عبيد الله بن زياد واجتمعت عنده بنو أمية، وكان قد بلغ عبيد الله ما يريد مروان، فقال له: استحييت لك مما تريد! أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنعه! فقال: ما فات شيءٌ بعد؛ فقام معه بنو أمية ومواليهم، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيءٌ بعد؛ فقدم دمشق ومن معه، والضحاك بن قيس الفهري قد بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم؛ ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع أمر أمة محمد.
وأما عوانة فإنه قال - فيما ذكر هشام عنه - إن يزيد بن معاوية لما مات وابنه معاوية من بعده، وكان معاوية بن يزيد بن معاوية - فيما بلغني - أمر بعد ولايته فنودي بالشأم: الصلاة جامعة! فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلًا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستةً في الشورى مثل ستة عمر، فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس، وتغيب حتى مات. فقال بعض الناس: دس إليه فسقي سمًا، وقال بعضهم: طعن.
رجع الحديث إلى حديث عوانة. ثم قدم عبيد الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قيس الفهري، فثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لعبد الله بن الزبير، وبايع النعمان بن بشير الأنصاري بحمص لابن الزبير، وكان حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملًا لمعاوية بن أبي سفيان، ثم ليزيد ابن معاوية بعده، وكان يهوى هوى بني أمية، وكان سيد أهل فلسطين، فدعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي روح بن زنباع الجذامي، فقال: إني مستخلفك على فلسطين، وأدخل هذا الحي من لخم وجذام، ولست بدون رجل إذ كنت عينهم قاتلت بمن معك من قومك. وخرج حسان بن مالك إلى الأردن واستخلف روح بن زنباع على فلسطين، فثار ناتل بن قيس بروح بن زنباع فأخرجه، فاستولى على فلسطين، وبايع لابن الزبير، وقد كان عبد الله بن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن ينفي بني أمية من المدينة، فنفوا بعيالاتهم ونسائهم إلى الشأم، فقدمت بنو أمية دمشق وفيها مروان بن الحكم، فكان الناس فريقين: حسان بن مالك بالأردن يهوى هوى بني أمية، ويدعو إليهم؛ والضحاك ابن قيس الفهري بدمشق يهوى هوى عبد الله بن الزبير، ويدعو إليه. قال: فقام حسان بن مالك بالأردن، فقال: يا أهل الأردن، ما شهادتكم على ابن الزبير وعلى قتلي أهل الحرة؟ قالوا: نشهد أن ابن الزبير منافق وأن قتلى أهل الحرة في النار؛ قال: فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟ قالوا: نشهد أن يزيد على الحق، وأن قتلانا في الجنة؛ قال: وأنا أشهد لئن كان دين يزيد بن معاوية وهي حي حقًا يومئذ إنه اليوم وشيعته على حق؛ وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل إنه اليوم على باطل وشيعته؛ قالوا له: قد صدقت، نحن نيايعك على أن نقاتل من خالفك من الناس، وأطاع ابن الزبير، على أن تجنبنا هذين الغلامين، فإنا نكره ذلك - يعنون ابني يزيد بن معاوية عبد الله وخالدًا - فإنهما حديثةٌ أسنانهما، ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي. وقد كان الضحاك ابن قيس بدمشق يهوى هوى ابن الزبير؛ وكان يمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرًا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل، فكتب إلى الضحاك كتابًا يعظم فيه حق بني أمية، ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني أمية عنده وصنيعهم إليه، ويدعوه إلى طاعتهم، ويذكر ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه، ويذكر أنه منافق، قد خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس. ودعا رجلًا من كلب يدعى ناغضة فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس، وكتب حسان بن مالك نسخة ذلك الكتاب، ودفعه إلى ناغضة، وقال: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا فقم فاقرأ هذا الكتاب على الناس؛ وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه ودفع كتاب بني أمية إليهم، فلما كان يوم الجمعة صعد الضحاك المنبر فقام إليه ناغضة، فقال: أصلح الله الأمير! ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس، فقال له الضحاك: اجلس، فجلس؛ ثم قام إليه الثانية فقال له: اجلس؛ ثم قام إليه الثالثة فقال له: اجلس، فلما رآه ناغضة لا يفعل أخرج الكتاب الذي معه فقرأه على الناس، فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فصدق حسانًا وكذب ابن الزبير وشتمه، وقام يزيد بن أبي النمس الغساني. فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير، وقام سفيان بن الأبرد الكلبي فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير.
وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وأثنى على ابن الزبير، واضطرب الناس تبعًا لهم، ثم أمر الضحاك بالوليد بن عتبة ويزيد بن أبي النمس وسفيان ابن الأبرد الذين كانوا صدقوا مقالة حسان وشتموا ابن الزبير فحبسوا، وجال الناس بعضهم في بعض، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه وحرقوه بالنار، وخرقوا ثيابه.
وقام خالج بن يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر وهو يومئذ غلام، والضحاك بن قيس على المنبر، فتكلم خالد بن يزيد بكلام أوجز فيه لم يسمع مثله، وسكن الناس ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، ثم دخل فجاءت كلب فأخرجوا سفيان بن الأبرد، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس، فقال الوليد بن عتبة: لو كنت من كلب أو غسان أخرجت.
قال: فجاء ابنا يزيد بن معاوية: خالج وعبد الله؛ معهما أخوالهما من كلب فأخرجوه من السجن، فكان ذلك اليوم يسميه أهل الشأم يوم جيرون الأول. وأقام الناس بدمشق، وخرج الضحاك إلى مسجد دمشق، فجلس فيه فذكر يزيد بن معاوية، فوقع فيه، فقام إليه شابٌّ من كلب بعصًا معه فضربه بها، والناس جلوس في الحلق متقلدي السيوف، فقام بعضهم إلى بعض في المسجد، فاقتتلوا؛ قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد، ويتعصبون ليزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة، وأصبح الناس فلم يخرج إلى صلاة الفجر، وكان من الأجناد ناس يهوون هوى بني أمية، وناس يهوون هوى ابن الزبير، فبعث الضحاك إلى بني أمية فدخلوا عليه من الغد، فاعتذر إليهم، وذر حسن بلائهم عند مواليه وعنده، وأنه ليس يريد شيئًا يكرهونه.
قال: فتكتبون إلى حسان ونكتب، فيسير من الأردن حتى ينزل الجابية، ونسير نحن وأنتم حتى نوافيه بها فنبايع لرجل منكم، فرضيت بذلك بنو أمية، وكتبوا إلى حسان، وكتب إليه الضحاك، وخرج الناس وخرجت بنو أمية واستقبلت الرايات، وتوجهوا يريدون الجابية، فجاء ثور بن معن بن يزيد ابن الأخنس السلمي إلى الضحاك، فقال: دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يزيد! فقال له الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر وندعو إلى طاعة ابن الزبير، ونقاتل عليها، فمال الضحاك بمن معه من الناس فعطفهم، ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط.
واختلف في الوقعة التي كانت بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان ابن الحكم، فقال محمد بن عمر الواقدي: بويع مروان بن الحكم في المحرم سنة خمس وستين، وكان مروان بالشأم لا يحدث نفسه بهذا الأمر حتى أطمعه فيه عبيد الله بن زياد حين قدم عليه من العراق، فقال له: أنت كبير قريش ورئيسها، يلي عليك الضحاك بن قيس! فذلك حين كان ما كان، فخرج إلى الضحاك في جيش، فقتلهم مروان والضحاك يومئذ في طاعة ابن الزبير، وقتلت قيس بمرج راهط مقتلةً لم يقتل مثلها في موطن قط.
قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، قال: قتل الضحاك يوم مرج راهط على أنه يدعو إلى عبد الله بن الزبير، وكتب به إلى عبد الله لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه.
وقال غير واحد: كانت الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان في سنة أربع وستين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)