خروج الموفق لحرب صاحب الزنج
وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه عليّ بن أبان المهلّبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد.
فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار في فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه في جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم.
وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم في الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند في هيئة الحرب ثم سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثم سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثم سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى.
وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثم رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء.
فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات في الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما في المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتى وقعوا في البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن.
وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ.
وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة.
وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي سمّاها: المعمورة، في الموضع الذي يعرف بطميشا فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها.
دفن الجبائي وادعاء آخر لصاحب الزنج
وفي هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة.
ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتى دفن ثم أقبل على أصحابه وقال:
« قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إليّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه. » ثم إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه في المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان في المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام.
وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه أصحابه حتى استمالهم وكثر في أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها.
ذهاب الموفق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلبي
ثم رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبي واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص في خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه في السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى السوس وكاتب مسرورا في المبادرة إليه فقدم عليه في جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا.
وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبي وهو يومئذ بالأهواز في ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبي وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك في ذلك الوقت ما قدر على شيء منه.
وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث.
وتخلّف عن المهلّبي قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبي أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم وأحسن إليهم.
وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكرديّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه في جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبي أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك.
فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم حتى أصلحت القنطرة في يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم.
وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات.
فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك.
ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثم نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها في عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثم رحل حتى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبي أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبي أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبي أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم.
ثم كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل.
كتاب أبي أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادعى
وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول في الأمان والنزوع عمّا هو عليه من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات والمسلمين والفساد في الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب في هذا المعنى.
فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم في الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة:
المختارة، في نهر أبي الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه.
ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن.
واستأمن في تلك الحال سميريّتان فيها مقاتلة السودان ومعهما آلات الماء فأمر أبو أحمد للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلّاة ووصلهما، وأمر للملّاحين بخلع حرير حمر وثياب بيض وخضر وأمر لهم بصلات وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراه منه نظراؤهم. فكان هذا من أنجع المكائد التي كادهم بها، وذلك أنّهم لمّا رأوا ذلك حسدوهم على ما صاروا إليه من الإحسان مع الدعة والأمن فتنافسوا فيه وابتدروا إليه وحرصوا على المسارعة إليه.
فصار إلى أبي أحمد في يومه ذلك عدّة سميريات فأمر لأصحابها بمثل ما أمر لمن تقدّمهم. فتتابع القوم إلى الأمان رغبة ورهبة ثم استأمن أصحاب الشذاءات. وجاءه السودان والبيضان فكان يصلهم ويكتب أسماءهم ويضمّهم إلى ابنه أبي العباس.
ثم تقدم أبو أحمد إلى موضع يقرب من القصر يعرف بحطى بعد ما أصلح الطرق إليه وعقد القناطر على أنهارها - وعسكر أبي أحمد في ذلك الوقت زهاء خمسين ألفا وعسكر الخبيث زهاء ثلاثمائة ألف، ممّن يقاتل أو يدافع من بين ضارب بسيف وطاعن برمح ورام عن قوس وقاذف بحجر عن منجنيق أو عرّادة أو مقلاع - وأضعفهم الرماة باليد وهم النظّارة الذين يكثرون السواد والمعينون بالنعير والصياح فأمر أبو أحمد فنودي:
« إنّ الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلّا الخبيث. » وأمر بسهام فلفت عليها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودى به.
فأقبل إليه المستأمنة تترى.
حصانة مواضع صاحب الزنج ومطاولة أبي أحمد
ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة عدّته ما لا بدّ له من المطاولة والمحاصرة. فاستعدّ لذلك وفرّق أصحابه حول الخبيث ووكّل بكلّ ركن قوّادا وقوّاهم بالرجال والآلات وأنفذ إلى عمّاله في النواحي في حمل الأموال والمير وسائر الأمتعة، وبنى مدينة سمّاها: الموفّقية، وعمل فيها بيت مال وأمر بحمل الأموال إليه من جميع البلدان. وبنى دور الضرب فضرب فيها دنانير ودراهم وجلب إليها الذهب والفضّة، وأرسل إلى سيراف من يأتيه بآلات الماء ويبنى فيها السفن والشذاءات ويجلب متاع البحر وكان قد انقطع جلب البحر منذ أكثر من عشر سنين لإخافة الخبيث السبل.
وكتب بإثبات كلّ من يصلح للجندية إلى عمّاله في الأمصار، ورغّب في ذلك والمدينة الموفّقية تبنى والكتب تنفذ بما يعمرها والتجّار يجهزون إليها والأسواق تكثر وأقبلت إليها مراكب البحر.
وبنى أبو أحمد المسجد الجامع فصارت مدينة كبيرة وحملت إليها الأموال وأدّر العطاء في أوقاته ورغب الناس في حلولها والمصير إليها من كلّ أوب، والخبيث يرصد غرّة يصيب فيها فرصته من أبي أحمد فلا يجد لتيقّظ الناس وتحارسهم ولحفظ الموكّلين بالمواضع المخوفة مواضعهم.
وكان أبو العباس لا يغفل ليلا ولا نهارا وإذا أمكنه قصد ناحية أوقع بها وبمن رتّب فيها من الزنج وإن أتاه مستأمن قبله وأحسن إليه والخبيث ينفذ أصحابه ويبثّ رجاله في اقتطاع ما يرد المدينة من السفن وغيرها. فربّما أصاب من ذلك حاجته فيعوّض أبو أحمد التجّار ويشحن المواضع التي يقصد منها بالرجال. وندب لحفظ الطرق أبا العباس فكان يوقع بأصحاب الخبيث ويحمل رؤوسهم إلى الموفّقية ويرتّب الرجال في الماء والبرّ حتى ضاق الأمر بالخبيث، فعزم على كبس الموفّق.
فاستأمن بعض قوّاد الزنج وأخبر الموفّق بذلك فأعدّ له قوما، فلمّا أتاه البيان كان مستعدا، فظهر على الزنج وأصابه مثل ذلك مرّات في كلّ مرّة يجيئه من ينذره فيستعدّ لهم حتى ظفر يوما برجال بيّتوه وأسر وقتل من السودان نحوا من خمسة آلاف ونصب الرؤوس على سور الموفّقية.
فأشاع الخبيث في أصحابه أنّ ذلك زور وأنّ تلك رؤوس المستأمنة. فأمر الموفّق برمي تلك الرؤوس إليهم بالمنجنيقات والعرّادات التي كانت منصوبة في السفن معمولة لأوقات الحرب فتبيّن لأصحابه كذبه، وصار سببا لضعف نيّاتهم.
ثم زحف الموفق بنفسه إلى المدينة المختارة ذكر السبب في خروجه
كان السبب في خروجه أنّ قوّاد الخبيث كاتبوا أبا أحمد الموفّق يعلمونه أنّهم على الخروج إليه في الأمان وأنّهم ليس يجدون السبيل إلى ذلك وأنّه لو قدّم قوما إلى الحرب لخرجوا ووجدوا بهم سبيلا إلى مفارقة الخبيث. فأنهض الموفّق أبا العباس في آلات الماء والشذاءات وانتخب له الرجال الشجعان وأهل النجدة والبأس وقدّمه. ثم سار بنفسه مع نصير ورشيق وزيرك واستقبلهم أصحاب الخبيث في أكثر من معدّاتهم وآلاتهم وخرج ابن الخبيث انكلانى ومعه عليّ بن أبان وسليمان بن جامع مع السفن التي فيها المجانيق والعرّادات والقسّى الناوكية.
فلمّا التقى الجمعان أمر الموفّق أصحابه بالحملة والدنو من الركن الذي فيه الجمع الأكثر وبينه وبينهم نهر يعرف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء. فلمّا انتهوا إليه أحجموا، فصيح بهم وحرّضوا على العبور فعبروا سباحة والزنج يرمونهم بما استطاعوا من المجانيق والعرّادات والمقاليع والسهام وحجارة الأيدى فصبروا على جميع ذلك حتى عبروا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة ما كان أعدّ لهدمه. فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وتسنّموه وحصرهم بعض السلاليم بعد أن قتل فيهم مقتلة عظيمة ونصب هناك علم وأسلم الزنج سورهم وأحرق ما كان عليه من منجنيق وعرّادة وآلة حرب واستلحقوا الفعلة حتى وسّعوا المدخل في عدّة مواضع وملكوا السور الأوّل بعد مدافعات هلك فيها من الفريقين خلق ولا يعدم كلّ يوم مستأمنة يحسن إليهم فيتنصّحون ويأتون بالأخبار والتدابير التي يدبّرها الخبيث فينتقض عليه أمره.
ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين
استئمان جعفر السجان وهروب ريحان إلى أبي أحمد
وفيها استأمن جعفر السجّان وهرب ريحان بن صالح المغربيّ من عسكر الخبيث إلى أبي أحمد. فأمر لهما بجوائز وصلات وأقيمت لهما الأنزال وحملا حتى ظهرا لأصحاب الخبيث وعليهم الخلع فاستأمن ذلك اليوم خلق كثير.
ثم وقعت وقعات كثيرة بعد ذلك بعضها للزنج وبعضها للموفّق، إلى أن منع من ميرة السمك الذي كان يأتيه من البطيحة ومنع العرب من حمل الميرة من جهة البادية وقتل منهم خلق وسلبوا ما كان معهم ومن ظفر به ممّن يسفر أو يعين عليه أخذ وعوقب وعذّب ثم قتل حتى ضاق على الزنج الأمر وانقطعت عنهم كلّ مادّة وضعفوا جدا. فكان الأسير أو المستأمن إذا سئل عن الخبر تعجّب ويزعم بعضهم أنّ عهدهم به سنتين وأقلّ وأكثر. فولى الموفّق أن يتابع الإيقاع بهم ليزيدهم ضرا وجهدا.
وأمر الموفّق بعرض الزنج لمّا كثروا وصاروا أكثر من جنده فمن كان لا يستصلح للقتال مثل الشيخ الضعيف والمجروح والزمن ومن أشبه هؤلاء أن يوهب لهم شيء ويردّوا إلى عسكر الزنج فلمّا عادوا وصفوا خصب عسكر الموفّق وإحسانه إلى المستأمنة فخرج أيضا بهذا السبب خلق في الأمان.
ثم إنّ بهبوذ أخال بحيلة حتى ظفر بخيل للموفّق فقتلهم وأخذ شذاءات كثيرة ونقل ميرة كبيرة.
ذكر حيلته هذه
احتال بأن أخذ شذاءات كثيرة فنصب عليها أعلاما كأعلام الموفّق وحمل فيها فوجا في زيّ قومه ورجاله. ثم اجتهد في أن وقع إلى معترض يؤدّى إلى نهر اليهودي. ثم سلك نهر نافذ حتى خرج إلى نهر الأبلّة فانتهى إلى الشذاءات والسميريّات المرتّبة لحفظ النهر وهم غارّون، فأوقع بهم وقتل قتلا ذريعا وأسر الباقون وجمع شيئا كبيرا من الميرة وأتى أصحابه في معترضات وأنهار غامضة.
ثم إنّه طمع في المعاودة.
ذكر طمعه هذا
فأمره لصاحبه أن يسلك في مواضع غامضة إلى أن يوافى القندل والبرشان. ففعل ذلك فوقع على سميريّة فيها طعام فقصدها بهبوذ فحاربه أهلها فأصابته طعنه في بطنه هلك منها. فعظمت فجيعة الخبيث وأحضر الموفّق الغلام فوصله وطوّقه وزاد في أرزاقه، وأمر لمن كان معه في سميرية بجوائز وصلات.
ودخلت سنة تسع وستين ومائتين
ولمّا قتل بهبوذ طمع صاحبه في كنوزه وأمواله وكان قد صحّ عنده موضع مائتي ألف دينار وجواهر وضياعات ذهب لها قدر. فطلب أمواله وذخائره وحبس أولياءه وأصحابه وضربهم بالسياط وأباد دورا له وهدم أبنية من أبنيته طمعا في شيء يجده من دفائنه. فكان ذلك أحد ما أفسد قلوب أتباعه ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته.
فأمر أبو أحمد بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان فسارعوا إليه ووصلهم.
ورأى أبو أحمد أنّ هدم السور الذي يفضى إلى الخبيث قد امتنع عليه فأزمع أن يباشره بنفسه ليكون ذلك أدعى إلى جدّه أصحابه. فباشر الحرب حتى وصل إلى السور وأحرق قناطر كانت تحول بين أصحابه وبين السور ويعتصم بها الزنج، واستظهر ذلك اليوم.
فبينا هو في جدّه وتشميره وقد ولج أصحابه السور وهدموا المسجد الجامع الذي بناه الخبيث ووصلوا إلى دواوينه وخزائنه وظهرت تباشير الفتح، إذ أتاه سهم غلام روميّ كان مع الخبيث يقال له: قرطاس، فأصاب صدر الموفّق فستر ذلك عن أصحابه وانصرف إلى موضعه من الموفّقية وعولج تلك الليلة.
فلمّا كان من الغد غادي الحرب على ما به ليشدّ من قلوب أوليائه ولئلّا يدخلهم وهن. فزاد ما حمله نفسه من الحركة في قوّة الجراحة فعظم أمرها حتى خيف عليه واضطرب العسكر والجند والرعيّة وخافوا قوّة الخبيث عليهم. فأشار الأطباء وأهل الشفقة بأن يرجع إلى مدينة السلام، فأبى وأشفق أن ينتظم أمر الخبيث بعد ما وهن، وبلغ الغاية. ولم يبق في أمره إلّا اليسير فأقام على صعوبة علّته وغلظ الحادثة في سلطانه إلى أن عوفي فظهر لخاصّته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم والخبيث في تلك الأيّام يعد أصحابه العدات ويمنّيهم الأمانى الكاذبة.
فلمّا استقل الموفّق وتماثل وقوى على النهوض للحرب جعل يحلف على منبره أنّ ذلك باطل لا أصل به وأنّ الذي ظهر لهم في الشذاءة مثال مموّه. وكان أعاد بناء ما خرّب من مدينته ودواوينه ودوره.
فركب الموفّق وعاود الموضع بالحرب ووصل إلى تلك المواضع فهدمها ثانية ووصل أصحابه إلى قصر من قصوره فانتهبوا ما كان فيه وأخربوه وأحرقوه واستنقذوا عددا من النساء المسلمات اللواتي كان سباهنّ وأخذوا خيلا له، ولم يبق إلّا الوصول إلى قصره.
فصعب مرام ذلك على الموفّق وكثر المحامون عليه، ووافت الحرب ودامت حتى وصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وحتى لقد عدّ الجرحى في بعض الأيّام فوجدوا زهاء ألفى جريح في أصحاب الموفّق وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كلّ واحد من الفريقين من الدنو من صاحبه، وكانت الشذاءات إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بحجارة المنجنيقات وغيرها وبالنشّاب، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، حتى أعدّ الموفّق للشذاءات أغطية طلاها بعقاقير تمنعها من الاحتراق وأحكمها وحمل فيها شجعان أصحابه وفتّاكهم، وأمر ابنه أبا العباس بقصد دار على شاطئ دجلة من نهر أبي الخصيب كانت بإزاء دار الخبيث ليشغل من فيها عن منعه من دار الخبيث، وأمر أصحاب الشذاءات المطليّة بما وصفنا أن يلصقوا شذاءاتهم بحائط القصر. فحاربهم الفسقة أشدّ حرب بالنيران وغيرها وصبر لهم من فيها حتى أزالوهم عن الرواشن وأحرقها غلمان الموفّق وسلم من كان فيها من الحجارة والرصاص المذاب، وتمكّنوا من دار الخبيث وأحرقوا البيوت التي كانت تشرع إلى دجلة من قصر الفاسق واتصلت النار بالستائر فقويت وأعجلت الخبيث ومن معه عن التّوقف على شيء من أمواله وذخائره وخرج هاربا على وجهه واستنقذ جماعة من النساء اللواتي استرقّهنّ.
وانصرف الموفّق وأبو العباس وقت المغرب بأجمل ظفر وغرق نصير في هذا اليوم.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
وكان سبب غرقه أنّه كان دخل في أوّل المدّ نهر أبي الخصيب فحمل الماء شذاءته فألصقها بالقنطرة ودخلت خلفه عدّة شذاءات فيها غلمان الموفّق ممّن لم يكن أمر بالدخول. فحملهم الماء فألقاهم على شذاة نصير فصكّت بعضها ببعض حتى لم يكن للاشتيامين والجذّافين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فأحاطوا بها من جانبي النهر فألقى الجذّافون أنفسهم في الماء ذعرا ودخل الزنج الشذاءات فقتلوا المقاتلة وغرق بعضهم وحاربهم نصير في شذاءته حتى خالف الأسر فقذف نفسه في الماء فغرق.
وأصاب الموفّق علّة فاشتغل بها عن الخبيث فأعاد القنطرة التي لجّج فيها نصير وأحكم ما كان هدم من قصره، وأفاق الموفّق من علّته فعاود الحرب وخرج الخبيث بنفسه للقتال مع ابنه انكلائى وعلي بن أبان وسليمان بن جامع واشتبكت الحرب وقاتلوا أشدّ قتال رئي، وقطعت القنطرة وأحرقت واستعلى عند ذلك أصحاب الموفّق ونشط غلمانه فوسّعوا المسلك وظفروا بدوره وقصوره فأحرقوها. وانتقل الخبيث من غربيّ نهر أبي الخصيب إلى شرقيّه وجمع عياله وولده حوله وضعف أمره ضعفا شديدا.
تفاقم الجوع وأكل بعضهم بعضا
وتهيّب الناس جلب الميرة إليهم. فبلغ الرطل من الخبز عشرة دراهم فأكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل يتفاقم الأمر بهم إلى أن أكلوا لحوم الناس فكان الزنج يتبعون الناس فإذ خلا أحدهم بامرأة أو صبي وثب عليه فأكله، ثم قوى ذلك فصار بعضهم يأكل بعضا، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم.
فقصدهم الموفّق وأحرق الشرقيّ من جانب النهر كما أحرق الغربيّ وقصده من ثلاثة أوجه. فطرحوا فيها النيران فاحترق الناس من أصحاب الخبيث مع منازلهم وأسواقهم وهرب من أطاق ذلك فأخذته السيوف وهرب الخبيث وحاز أصحاب الموفّق جميع ما كان في نهر أبي الخصيب من الشذاءات والمراكب البحرية والسفن الصغار والحرّاقات والزلّالات وغيرها. وصار بعد ذلك رؤساء أصحاب الخبيث إذا وكّلهم بحراسة موضع أسلموه واستأمنوا حتى استأمن الشعراني وشبل وكانا من قدماء أصحابه وذوي البصائر في طاعته، وأمرهما الموفّق لمحاربة الخبيث لما علم أنّه لا وجه لهما عنده وضمّ إليهما قوما فكانا يأتيانه من الوجوه التي يأمنها حتى كثر القتل في أصحابه وذعره أمرهما ومنع ذلك أصحابه النوم ودخلهم له وحشة.
هزيمة الزنج وهروب صاحبهم
عظيمة ثم جمع الموفّق السفن وفيها عشرة آلاف من الملّاحين وعرض الجند وحرّضهم حتى شحذ نيّاتهم وهجم على مدينة الخبيث واستقبله الخبيث في جميع أصحابه فاشتدّ القتال وحامى الخبثاء عن ديارهم وعيالاتهم فمنح الله الموفّق النصر، وهزم الزنج وقتلوهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وأسروا منهم جمعا كبيرا وأتى الموفّق بالأسرى فضرب أعناقهم.
وقصد دار الخبيث فدافع عنها ثم لم يغنه ذلك شيئا فأسلمها فانتهب ما كان فيها من الأموال والأثاث وأخذوا حرمه وأولاده فبلغ عدّتهم أكثر من مائة امرأة وصبي، وتخلّص الخبيث ومضى هاربا نحو دار المهلّبي لا يلوى على أهل ولا مال وأحرقت داره، وأتى الموفّق بنسائه وأولاده، فوكّل بهم وأمر بالإحسان إليهم فحملوا إلى الموفّقيّة.
وفي ذي الحجّة من هذه السنة وافى صاعد بن مخلد كاتب الموفّق حضرته منصرفا إليه من سرّ من رأى ووافى معه بجيش كثيف بلغ عدد الفرسان والرجّالة فيها عشرة آلاف. فأمر الموفّق بإزاحة عللهم في أرزاقهم وأمرهم بتجديد أسلحتهم والتأهّب لحرب الزنج. فهم في ذلك إذ ورد عليه كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون وكان فارق صاحبه يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه ليشهد حرب الفاسق فأجابه وأذن له وأخّر ما كان عزم عليه من مناجزة الخبيث انتظارا للؤلؤ وكان لؤلؤ بالرقّة في جمع عظيم من نخبة أصحاب ابن طولون.
فشخص لؤلؤ حتى ورد مدينة السلام، ثم وافى عسكر أبي أحمد فجلس له أبو أحمد وحضر ابنه أبو العباس وصاعد بن مخلد والقوّاد على مراتبهم وأدخل عليه لؤلؤ في أحسن زيّ فأمره أبو أحمد أن ينزل معسكرا كان أعدّ له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدّم إليه في مباكرة دار الموفّق ومعه قوّاده وأصحابه للسلام. فغدا مع أصحابه في السواد فوصل وسلّم وقرّبه وأدناه ووعده وأصحابه الإحسان، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قوّاده وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلّاة بالذهب والفضّة وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدر ما يحمله مائة غلام، وأمر لقوّاده من الصلات والكسوة على قدر محل كلّ إنسان منهم، وأقطعه ضياعا جليلة وصرفه إلى معسكره وأعدّت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات وأمره برفع جرائد لأصحابه ليعطوا رسومهم عند رفع الجرائد. ثم تقدّم إلى لؤلؤ في التأهّب للعبور إلى غربيّ دجلة لمحاربة الخبيث.
وكان الخبيث لمّا غلب على نهر أبي الخصيب أحدث سكرا في النهر من جانبيه وجعل في وسط السكر بابا ضيّقا ليتحدّ فيه جرية الماء فيمنع الشذاءات من دخوله في الجزر ويتعذّر خروجها في المدّ.
فرأى أبو أحمد الموفّق أنّ الحرب لا تتم إلّا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك فرام أمرا صعبا بمحاماة الزنج عليه فهم يزيدون فيه كلّ يوم وهو متوسط دورهم، فالمؤونة تسهل عليهم وتغلظ على من حاوله. فرأى الموفّق أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليضروا بمحاربة الزنج ولينظر إلى مقدار غنائهم وشدّة بأسهم. فأمر لؤلؤا بأن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر وأمر بإحضار الفعلة لقلعه. ففعل.
فرأى الموفّق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدّة اليسيرة في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سرّه، وكره أن يبذلهم فيكون الحرّة بهم ثم الظفر ألّا خير لهم فيذهبوا باسم الفتح. فأمر لؤلؤا أن يصرف أصحابه وأظهر إشفاقا عليهم وضنّا بهم، ووصلهم وردّهم إلى معسكرهم.
ثم ألحّ الموفّق على السكر فهو يخرّب وهم يبنون والمستأمنة يكثرون إلى آخر هذه السنة.
وفي هذه السنة أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمّى صاعد ذا الوزارتين.
المعتمد يريد اللحاق بمصر
وفيها شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وذلك قبل انحدار صاعد إلى الموفّق. وقدم قائدان لابن طولون من الرقّة في ذلك. فلمّا صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وهو العامل على الموصل والجزيرة، وثب عليه ابن كنداجيق وعلى جميع من معه، فقيّدهم وأخذ جميع ما صحبهم من مال ورقيق.
وكان كتب إليه في القبض على المعتمد ومن معه وأقطع ضياع فارس بن بغا ومن صحب المعتمد من القوّاد. فاحتال ابن كنداجيق وأظهر أنّه معهم، وفي طاعة المعتمد إذ كان الخليفة ولا يجوز له الخلاف عليه وسار معهم فلمّا نزل موضعا بينه وبين عمل ابن طولون منزلان ارتحل التّبّاع ومن شخص مع المعتمد إلّا القوّاد وأشخص ابن كنداجيق فقال لهم ابن كنداجيق:
« إني أحبّ أن أخلو بكم وأشير عليكم بما في نفسي. » وقال لهم:
« قد قربتم من ابن طولون والمقيم بالرّقّة من قوّاده وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره وأنتم من تحت يده. أفترضون بذلك وقد علمتم أنّه اليوم كواحد منكم؟ » وأطال مناظرتهم حتى تعالى النهار فقال لهم ابن كنداجيق:
« قوموا بنا، فإنّ الشمس قد ارتفعت حتى نتمّ حديثنا في غير هذا الموضع ونكرم مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت. » وكان المعتمد في مضربه ومضرب ابن كنداجيق وسائر المضارب قد سارت فأدخلهم إلى مضرب نفسه. وكان قد تقدّم قبل ذلك إلى فرّاشيه وغلمانه وحاشيته في ذلك اليوم ألّا يبرحوا. فلمّا صاروا إلى مضربه دخل جلد غلمانه وأصحابه على القوّاد ومعهم القيود فقيّدوهم.
فلمّا فرغ منهم مضى إلى المعتمد فعذله على شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو فيها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وإزالة ملكهم، ثم حمله ومن معه مقيّدين إلى سرّ من رأى.
تسمية كنداجيق بذي السيفين
وفيها خلع على ابن كنداجيق وقلّد سيفين بحمائل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وسمّى ذا السيفين وخلع عليه أيضا بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان وتوّج بتاج وقلّد سيفا، كلّ ذلك مرصّع بالجوهر.
وشيّعه هارون بن الموفّق وصاعد بن مخلد والقوّاد إلى منزله وتغدّوا عنده.
ودخلت سنة سبعين ومائتين
مقتل صاحب الزنج وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني
وفيها قتل الخبيث وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق، وذلك بعد حروب كبيرة ومنازلات شديدة ومباشرة للحرب منه ومن الموفّق بأنفسهما، ومخاطرات منهما عظيمة لم يكن في جميعها ما يستفاد منه تجربة سوى احتمال المكاره في الحروب والصبر على شدائدها وأخطارها.
وحمل رأس هذا الخائن إلى بين يدي الموفّق في صفر من هذه السنة وهو يحارب مع أهل الشدّة والبأس من أصحابه، فقتل وهو يجاهد على حاله غير مستسلم ولا معط بيده، وكان قد بذل له الأمان مرارا فأباه وأقام على حاله صابرا حتى أسلمه رجاله وخانه ثقاته وذاب ذوبا حتى هلك ومضى مقتولا.
ثم تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث إلى آخر أمره وصبروا معه حتى وافى ذلك اليوم الذي قتل فيه ألف من الأبطال. فرأى الموفّق أن يبذل لهم الأمان لمّا رأى من كثرتهم وشجاعتهم ولئلّا يبقى منهم بقية يخاف معرّتهم ويجتمعون على رئيس يعظم خطبه بهم.
ثم وافى من الزنج في غد هذا اليوم خمسة آلاف زنجي وانقطع منهم نحو ألفى زنجي إلى البرّ فماتوا عطشا، وظفر الأعراب بقوم منهم فاسترقّوهم. فأمّا من قتل وغرق وأسر في الوقعة فخلق لا يوقف على عددهم.
وانتهى إلى الموفّق خبر المهلّبي وانكلائى ومقامهما بحيث أقاما فيه مع من تبعهما من جلّة قوّادهم ورجالهم فبثّ أبطال أصحابه في طلبهم فلمّا علموا ألّا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم فظفر بهم الموفّق فلم يشذّ منهم أحد وأمر الموفّق بحبس المهلّبي وانكلاى والاستيثاق منهما.
استئمان درمويه
وفيها استأمن درمويه، الزنجي وكان أحد الأنجاد الأبطال وكان الخبيث قبل هلاكه بمدّة طويلة وجّهه إلى أواخر نهر الفهرج وهي من البصرة في غربيّ دجلة.
فلمّا هلك الخبيث أقام درمويه هناك في موضع وعر كثير الدغل والآجام متصل بالبطيحة فكان يقطع الطريق بمن معه في زواريق خفاف اتخذوها، فإذا طلبهم الشذاءات ولجوا في الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذّر عليهم مسلك نهر لضيقه خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم ولجؤوا إلى هذه المواضع الممتنعة، وفي خلال ذلك يغيرون على ما قرب منهم من القرى ويسلبون من ظفروا به. فكان ذلك دأب درمويه قبل هلاك الخبيث وبعده.
وقد كان ابتدأ شرار الناس وفسّاقهم يصيرون إليه للمقام معه على مثل ما هو عليه، وكان الموفّق عزم على المقام عليه حتى وافاه رسوله يطلب الأمان لنفسه وأصحابه، فرأى الموفّق أن يؤمنه ليقطع مادّة الشرّ الذي كان فيه الناس من الخبيث وأتباعه.
ولمّا ورد عليه الأمان وافى قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبهم بؤس الحصار وضرّه لما كان يصل إليهم من أموال الناس. فذكر أنّ درمويه لمّا أؤمن وأحسن إليه وإلى أصحابه أظهر كلّ ما في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم وردّ كلّ شيء إلى أهله ردّا ظاهرا مكشوفا، فظهرت أمانته، فاستدعاه الموفّق وقرّبه وخلع عليه وعلى وجوه أصحابه ووصلهم وضمّهم إلى ابنه أبي العباس.
وأقام الموفّق بعد ذلك بالموفّقيّة حتى أنس الناس وعاودوا أوطانهم ووثقوا بالراحة من أسباب الخبيث.
وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة من حمد مذهبه ووقف على حسن سيرته وولّى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد.
ثم قدّم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث فطيف به.
وكان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل سنة سبعين ومائتين.
وفيها مات أحمد بن طولون والحسن بن زيد العلوي.
ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وقعة الطواحين
وفيها كانت بين أبي العباس ابن الموفّق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين فهزم أبو العباس خمارويه فركب حمارويه حمارا وهرب إلى مصر. ووقع أصحاب أبي العباس في النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه وهو لا يرى انّه بقي له طالب، فخرج كمين خمارويه كان كمنه وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا. فشدّ كمين خمارويه عليهم فانهزموا وتفرّق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس منهزما وذهب كلّ ما في العسكرين: عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب الجميع.
ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين
وفيها أخرج أهل طرسوس أبا العباس ابن الموفّق من طرسوس لخلاف وقع بين يازمار وبينه فخرج يريد بغداد فقدمها.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس ودخل واسطا. فأمر الموفّق جميع أصحابه من القوّاد أن يستقبلوه، فترجّلوا له وقبّلوا يده وكمّه.
ثم قبض عليه الموفّق وعلى أسبابه كلّهم ببغداد وسرّ من رأى في يوم واحد، فاستكتب الموفّق إسماعيل بن بلبل.
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين قدوم لؤلؤ من مصر
وفيها قيّد أبو العباس لؤلؤا القادم عليه من مصر ووجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ أنّه لا يعرف لنفسه ذنبا إلّا كثرة ماله وأثاثه.
وفيها كانت بين أبي الساج وبين إسحاق بن كنداجيق وقعة فانهزم إسحاق. ثم واقعه وقعة أخرى فانهزم إسحاق أيضا.
ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
ولم يحدث فيها حادثة تكتب.
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين حبس الموفّق ابنه
وفيها حبس الموفّق ابنه أبا العباس فشغب أصحابه وحملوا السلاح وركب غلمانه واضطربت بغداد فركب أبو أحمد الموفّق حتى بلغ باب الرصافة وقال لأصحاب أبي العباس وغلمانه:
« ما شأنكم، أترونكم أشفق على ابني مني؟ هو ولدي واحتجت إلى تقويمه. » فانصرف الناس وهدأت بغداد.
ودخلت سنة ستّ وسبعين ومائتين
شخوص أبي أحمد
وفيها شخص أبو أحمد من بغداد إلى الجبل وكان سبب ذلك انّ المادرائى كاتب اذكوتكين أخبره انّ له هناك مالا عظيما، وأنّه إن شخص صار ذلك إليه. فشخص أبو أحمد، فلم يجد من ذلك شيئا.
فشخص من هناك إلى الكرج ثم إلى إصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز فتنحّى، له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله وترك له داره بفرشها وآلتها لينزلها إذا قدم. وكان مع الموفّق محمد بن أبي الساج، وذلك أنّه قدم عليه هاربا من ابن طولون قبل شخوص الموفّق عن بغداد بعد أن كانت بينه وبين ابن طولون وقعات كثيرة ضعف ابن أبي الساج في آخرها عن مقاومته.
لقلّة من كان معه وكثرة من مع ابن طولون، فلحق بأبي أحمد فخلع عليه أبو أحمد وأخرجه معه إلى الجبل.
انفراج تل عن سبعة أقبر
وفيها ورد الخبر بانفراج تلّ بنهر الصلة يعرف بتلّ بنى شقيق عن سبعة أقبر، فيها أبدان صحيحة وعليها أكفان جدد، لها أهداب تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شابّ له جمّة وجبهته وأذناه وخدّاه وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينه صحيحة وعلى شفتيه بلل كأنّه شرب الماء فأخرج الثقات لينظروا إلى ذلك فأخبروا أنّهم شاهدوا ذلك وانّ بعضهم جذب شعر بعضهم فوجده قويّ الأصل قريبا من شعر الحيّ.
وكان هذا التلّ انفرج عن شبه حوض من حجر في لون المسنّ عليه كتاب لا يدرى ما هو. فأحضر أصحاب الأديان فلم يعرف أحد منهم الخطّ.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)