ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما في بيوت أموال أبي أحمد، حتى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة وأدرّ على أصحابه أرزاقهم.
ولما نفد ما في بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل.
فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه.
انصراف أبي أحمد من الجبل إلى العراق
وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثم صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر:
« قد ضجرتم بحملي وبودّى إني كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى في عافية. » وقال يوما:
« أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا مني. » ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء في النهروان ثم في نهر ديالى ثم في دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته.
وكان تقدّم في حفظ أبي العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية فازداد إرجاف الناس بموته.
فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر أبو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.
فذكر الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال:
« إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي. » فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.
فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه.
ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله وليّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبي الصقر.
ثم بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حيّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبي الساج. ثم جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد.
فلمّا صحّ عند أبي الصقر حياة أبي أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبي أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبي الصقر وكلّ ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان في المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثم خلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى دار صاعد. ثم انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه.
وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقيّ وعيسى النوشرى الجانب الغربيّ.
وفاة أبي أحمد الموفق
وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن في الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثم للمفوّض ثم للمعتضد.
وقبض على أبي الصقر وأسبابه وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا.
وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة.
وبعث بمحمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب.
ابتداء امر القرامطة
وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده في الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه.
ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول اللهفلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم.
وكان يقعد إلى بقّال في القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:
« إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون. » فناظروه في ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقال علي ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا:
« ألم ترض أن أكلت تمرنا حتى بعت النوى؟ » فقال لهم البقّال:
« لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم. » وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم في حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثم مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه، وهو بالنبطية أى حارّ العينين فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتى برأ فكان يأوى إلى منزله.
ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم: « أنتم كحواريي عيسى بن مريم. »
فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته في العمارة.
فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس في بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته.
وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من في داره من الجواري يمينه فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا:
« رفع. » ثم ظهر في موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال:
« ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء. » فعظم في عيونهم.
ثم خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان في منزله: كرميثه ثم عرّب وخفّف فقيل قرمط. ثم كثر مذهبه بسواد الكوفة.
ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر في سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم في كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل.
ثم قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف في أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم.
مذهبهم كما جاء في كتاب لهم
ثم جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهديّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثم يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين في السنة: يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله. »
ثم قصد المعتضد مدينة يقال لها الحسنية وفيها رجل يقال له شدّاد في جيش عظيم يقال انّهم عشرة آلاف وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد فأخذه وهدم قلعته.
ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
المعتضد وتغيير موقع النيروز
وفيها أحدث المعتضد النيروز الذي يقع في اليوم الحادي عشر من حزيران وأنشأت الكتب إلى جميع العمّال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي كان للعجم.
وورد كتابه على يوسف بن يعقوب يعلمه أنّه إنّما أراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس ففعل. وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون في المصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيّوب سارع إلى ذلك وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن في قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.
فوجّه إليه المعتضد الجيوش، فصادفوا الحسن بن عليّ كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان محاصرين لها وفيها الحسين بن حمدان.
فلمّا رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان، فأومن وسلّم القلعة وصار إلى المعتضد فأمر بهدمها. وأعدّ الجيش في طلب حمدان وكان قد صار بباسورين من دجلة ونهر عظيم. فكان الماء زائدا فعبر الجيش إليه، فهرب وقتل أكثر أصحابه وألقى حمدان نفسه في زورق في دجلة مع كاتبه وحمل معه مالا وعبر إلى الجانب الغربيّ من دجلة وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده في الجانب الشرقي، وعبر في إثره نفر يسير من الجند فاقتصّوا اثره حتى أشرفوا على دير كان نزله. فلمّا بصر بهم خرج هاربا ومعه كاتبه وألقيا أنفسهما في زورق وخلّفا المال في الدير فحمل إلى المعتضد وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء.
فلحقوه فخرج من الزورق حاسرا إلى ضيعة له في شرقيّ دجلة فركب دابّة لوكيله وسار ليله أجمع حتى وافى مضرب إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به.
فأحضره إسحاق مضرب المعتضد فأمر بالاحتفاظ [ به ] وبثّ الخيل في طلب أصحابه وظفر بكاتبه وكثير من قراباته وغلمانه وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان.
نقل بنت خمارويه إلى المعتضد
وفيها نقلت بنت خمارويه بن أحمد إلى المعتضد ونودى في جانبي بغداد ألّا يعبر أحد دجلة وغلقت الأبواب التي تلى الشطّ ومدّ على الشوارع النافذة إلى دجلة الشرائج ووكّل بحافتى دجلة من يمنع الناس من أن يظهروا في دورهم على الشطّ.
فلمّا صليت العتمة وافت شذاة من دار المعتضد وفيها خدم معهم الشموع فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدّت أربع حرّاقات شدّت مع دار صاعد. فلمّا جاءت الشذاة حدرت الحرّاقات وصارت الشذاة بين أيديهم.
وأقامت الحرّة في يوم الاثنين في دار المعتضد وجليت عليه يوم الثلاثاء.
هروب يوسف بن أبي الساج إلى أخيه بالمراغة
وفيها هرب يوسف بن أبي الساج في من أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة ولقي مالا للسلطان في طريقه فأخذه فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكتب به إلى المعتضد:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب
معاملة المعتضد محمد بن زيد العلوي
وفيها وجّه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطّار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرّقها ببغداد والكوفة والمدينة على أهله. فسعى به وأحضر دار بدر وسئل عن ذلك فاعترف به، وذكر أنّه يوجّه إليه في كلّ سنة مثل هذا المال فيفرّقه على من يأمره بالتفرقة عليهم من أهله. فأعلم بدر المعتضدي صاحبه المعتضد بذلك وأعلمه أنّ الرجل والمال في يده. فقال المعتضد:
« يا بدر أما تذكر الرؤيا التي خبّرتك بها؟ » فقال: « لا يا أمير المؤمنين. » فقال: « ألا تذكر أنّ الناصر - يعنى الموفّق - دعاني وقال: إني أعلم أنّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل أبي طالب. » ثم قال: رأيت في النوم كأنّى خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيش وقد تشوّف الناس إليّ، إذ مررت على رجل واقف على تلّ يصلّى لا يلتفت إليّ، فعجبت منه، فلمّا فرغ من صلاته قال لي:
« أقبل. » فأقبلت إليه، فقال:
« أتعرفني؟ » قلت: « لا. » قال: « أنا عليّ بن أبي طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها الأرض. » لمسحاة بين يديه فأخذتها، فضربت بها ضربات. فقال:
« إنّه سيلي من ولدك هذا الأمر قدر ما ضربت، فأوصهم بولدي خيرا. » قال بدر: فقلت:
« بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت. » قال: فأطلق الرجل وأطلق المال، وتقدّم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجّه ما يوجّه به إليه ظاهرا وأن يفرّق هذا الرجل ما يفرّقه ظاهرا، وتقدّم بمعونته على ما يلتمسه.
ذبح خمارويه في مصر
وفيها ورد الخبر على المعتضد من مصر في أحد عشر يوما على طريق البرّ انّ خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه الخاصّة، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيّف وعشرون خادما.
وكان المعتضد بعث ابن الجصّاص إلى خمارويه بهدايا فلمّا بلغ سرّ من رأى اتصل خبر مهلك خمارويه بالمعتضد فكتب إليه يأمره بالرجوع، فرجع.
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
وفيها شخص المعتضد بسبب هارون الشاري إلى ناحية الموصل فظفر به.
ذكر هذا الظفر
وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون في خيل من الفرسان والرجّالة إليه.
فقال الحسين:
« نعم يا أمير المؤمنين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج يقضيها لي أمير المؤمنين. » فقال: « اذكرها. » قال: « أوّلها إطلاق أبي، وحاجتان أسألهما بعد مجيئي به. » فقال المعتضد:
« لك ذلك، فامض. » فقال الحسين:
« أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم أنا. » فمكّنه من ذلك وأنفذهم مع موشكير فقال:
« أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألّا يخالفني فيما آمره به. » فأمر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة فقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال:
« ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحنّ من هذا الموضع حتى يمرّ بك هارون أو أجيئك أنا أو يبلغك أنّى قد قتلت. »
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، فكانت بينهما قتلى وانهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيّام فقال له أصحابه:
« قد طال مقامنا بهذا القفر وأضرّ بنا ولسنا نأمن أن يأخذ الحسين الشاري فيكون الفتح له دوننا والصواب أن نمضي في آثارهم. » فأطاعهم ومضى وجاء هارون منهزما إلى المخاضة فعبر وجاء حسين في إثره فلم ير وصيفا ولا أحدا من أصحابه ولا عرف لهم خبرا ولا رأي لهم أثرا، وجعل يسأل عن خبر هارون حتى وقف على عبوره فعبر في أثره وجاء إلى حيّ من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموا أمره فهمّ بالإيقاع بهم ثم. قال:
« إنّ المعتضد في إثرى. » فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابّهم وترك دوابّه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت واتبع أثره فلحقه بعد أيّام والشاري في نحو من مائة. فناشده الشاري وتوعّده، فأبى إلّا محاربته فحاربه ورمى حسين بن حمدان بنفسه عليه وابتدره أصحاب الحسين، فأخذوه وجاء به إلى المعتضد سليما بغير عقد ولا عهد. فأمر المعتضد حين بلغه الخبر بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه إلى أن يقدم ابنه فيطلقه ويخلع عليه.
فلمّا وصل الشاري إلى المعتضد انصرف راجعا إلى بغداد فنزل باب الشماسية، وعبّأ الجيش هناك وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوق ذهب، وخلع على جماعة من أهله وزيّن الفيل وأدخل الشاري عليه مشهرا ببرنس حرير طويل.
غزو الصقالبة الروم
وفيها ورد الخبر من طبرستان أنّ الصقالبة غزت الروم في خلق عظيم، فقتلوا منهم وهزموا ملكهم حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، ثم وجّه ملك الروم إلى ملك الصقالبة:
« إنّ ديننا ودينك واحد فعلام نقتل الناس بيننا؟ » فأجابه ملك الصقالبة:
« إنّ هذا ملك آبائي ولست منصرفا عنك إلّا بغلبة أحدنا الآخر. » فلمّا لم يجد ملك الروم مخلصا عنه جمع من عنده من المسلمين، وسألهم معونته على الصقالبة، فأجابوه إليه، فأعطاهم السلاح فهزموا الصقالبة. فلمّا رأى ملك الروم ذلك خافهم على نفسه. فبعث إليهم فردّهم وأخذ منهم السلاح وفرّقهم في البلدان فرقا من أن يجنوا عليه.
وثوب الجيش في مصر
وورد الخبر من مصر أنّ الجند وثبوا على جيش ابن خمارويه وقالوا:
« لا نرضى بك أميرا علينا فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك. » فكلّمهم كاتبه عليّ بن أحمد الماذرائى وسألهم أن ينصرفوا يومهم ذلك فانصرفوا، وعادوا من غد، فعدا جيش على عمّه الذي ذكروا أنّهم يؤمّرونه، فضرب عنقه وعنق عمّ له آخر ورمى برؤوسهما إليهم. فهجم الجند على جيش ابن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمّه وانتهبوا داره وانتهبوا مصر وأحرقوها، ثم أقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفيها ورد كتاب بدر وعبيد الله بن سليمان وكانا بالجبل قرئ في مسجد الجامع ببغداد: « انّ عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إليهما في الأمان منقادا لأمير المؤمنين بالطاعة، وانّ عبيد الله بن سليمان تلقّاه وخلع عليه وعلى رؤساء أهل بيته وأخذ عليهم البيعة.
وكان بكر بن عبد العزيز قبل ذلك استأمن إليهما، فولّياه عمل أخيه عمر على أن يمضى فيحاربه. فلمّا دخل عمر في الأمان قالا لبكر:
« إنّ أخاك قد دخل في طاعة السلطان وإنّما ولّيناك عمله على أنّه عاص والرأي لكما أن تمضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه في أمركما. » وولّى عيسى النوشرى إصبهان على أنّه من قبل عمر، فهرب بكر وكتب إلى المعتضد بخبره. فكتب إلى بدر يأمره بالمقام إلى أن يعرف خبر بكر.
وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الريّ وبها عليّ بن المعتضد ولحق بكر بالأهواز فوجّه المعتضد في طلبه وصيفا موشكير فخرج إليه.
فلمّا قرب منه رجع بكر ومضى إلى إصبهان ورجع وصيف إلى بغداد. فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فتقدّم بدر إلى عيسى النوشرى بمحاربته فخرج إليه وحاربه وقتل أصحاب بدر وهزم بكرا.
ودخل عمر بن عبد العزيز [ بغداد ] قادما من إصبهان فأمر المعتضد باستقباله فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقوّاد وقعد له المعتضد فوصل إليه وخلع عليه وحمله على دابّة بسرج ولجام محلّى بالذهب وخلع على ابنين كانا له وعلى أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى قوم من قوّاده وأنزل في دار كانت لعبيد الله بن عبد الله [ عند ] رأس الجسر وكانت فرشت له.
وفيها ورد كتاب من عمرو بن الليث بأنّه واقع رافع بن هرثمة فهزمه ووجّه في أثره بقوّاده وكان صار إلى طوس من نيسابور فانهزم ولحق بخوارزم فقتل بخوارزم وإنّه يحمل رأسه.
يتلوه في المجلّدة الخامسة: « ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين، وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة في المحرّم ». والحمد لله وصلواته على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، طه طسم. فرغ من انتساخه محمد بن عليّ بن محمد... البلخي في السابع عشر من رجب سنة خمس وخمسمائة. فرغ من انتساخه محمد بن حسن بن منصور في... والعشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. نقله عليّ بن حنظلة.
أخوكم فلله عاشق الوطنية
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)