وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوة رسول الله بدرًا الأولى وغزوة بني قنينقاع ثلاث غزوات وسرية أسراها. وزعم أن النبي إنما غزاهم لتسع ليال خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله غزا بعد ما انصرف من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليالٍ بقين من رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان. ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع بني سليم وغطفان؛ فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها.
وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما قدم رسول الله ص من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر رمضان - أو في أول شوال - لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال؛ حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم؛ يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
وأما الواقدي، فزعم أن غزوة النبي ص الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها علي بن أبي طالب؛ وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة.
وقال بعضهم: لما رجع النبي ص من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم والرعاء ولم يلق كيدًا. وكان قدومه منها - فيما زعم - لعشر خلون من شوال، بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة بالغنيمة يوم السيت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وإن رسول الله ص أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن رسول الله ص غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق.
غزوة السويق
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص من غزوة الكدر إلى المدينة، أقام بها بقية شوال من سنة اثنين من الهجرة، وذا القعدة. ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة. قال: وولى تلك الحجة المشركون من تلك السنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان ومن لا أتهم، عن عبيد الله ابن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - قال: كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، ورجع فل قريش إلى مكة من بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا. فخرج في مائتي راكب من قريش، ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له تبت، من المدينة على بريد أو نحوه. ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب، فضرب عليه، بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فأبى فانصرف إلى سلام بن مشكم - وكان سيد النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم - فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه، وبطن له خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته، حتى جاء أصحابه، فبعث رجالًا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرقوا في أصوار، من نخل لها؛ ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين؛ ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله ص في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث؛ يتخففون منه للنجاة. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله ص: أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: نعم.
وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجًا من مكة إلى المدينة أبياتًا من شعر يحرض قريشًا:
كروا على يثربٍ وجمعهم ** فإن ما جمعوا لكم نقل
إن يك يوم القليب كان لهم ** فإن ما بعده لكم دول
آليت لا أقرب النساء ولا ** يمس رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس وال ** خزرج، إن الفؤاد مشتعل
فأجابه كعب بن مالك:
تلهف أم المسبحين على ** جيش ابن حربٍ بالحرة الفشل
إذ يطرحون الرجال من سئم الطير ** ترقى لقنة الجبل
جاءوا بجمعٍ لو قيس مبركه ** كا كان إلا كمفحص الدئل
عارٍ من النصر والثراء ومن ** أبطال أهل البطحاء والأسل
وأما الواقدي فزعم أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة اثنتين من الهجرة. قال: خرج رسول الله ص في مائتي رجل من أصحابه من المهاجرين والأنصار. ثم ذكر من قصة أبي سفيان نحوًا مما ذكره ابن إسحاق، غير أنه قال: فمر - يعنى أبا سفيان - بالعريض، برجل معه أجير له يقال له معبد بن عمرو، فقتلهما وحرق أبياتًا هناك وتبنًا، ورأى أن يمينه قد حلت، وجاء الصريخ إلى النبي ص، فاستنفر الناس، فخرجوا في أثره فأعجزهم. قال: وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخففون، وكان ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق.
وقال الواقدي: واستخلف رسول الله ص على المدينة أبا لبابة ابن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: ومات في هذه السنة - أعني سنة اثنتين من الهجرة - في ذي الحجة عثمان بن مظعون، فدفنه رسول الله ص بالبقيع وجعل عند رأسه حجرًا علامة لقبره.
وقيل: إن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ولد في هذه السنة.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه زعم أن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر، أن علي بن أبي طالب عليه السلام بنى بفاطمة عليها السلام في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهرًا.
قال أبو جعفر: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل.
وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله ص المعاقل فكان معلقًا بسيفه.
ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة
غزوة ذي أمر
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريبًا منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفرًا كله أو قريبًا من ذلك. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلًا منه.
ثم غزا يريد قريشًا وبني سليم، حتى بلغ بحران معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا.
خبر كعب بن الأشرف
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي ص سرية إلى كعب بن الأشرف؛ فزعم الواقدي أن النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من حديث ابن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر؛ وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله ص إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل من المشركين؛ كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أبي بردة بن أسير الظفري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، قال: كل قد حدثني بعض حديثه، قال: قال كعب بن الأشرف - وكان رجلًا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير؛ فقال حين بلغه الخبر: ويلكم أحقٌ هذا! أترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته؛ وجعل يحرض على رسول الله ص، وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل بنت الحارث، فقال:
أراحلٌ أنت لم تحلل بمنقبةٍ ** وتاركٌ أنت أم الفضل بالحرم!
صفراء رداعةٌ لو تعصر انعصرت ** من ذي القوارير والحناء والكتم
يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ** إذا تأتت قيامًا ثم لم تقم
أشباه أم حكيمٍ إذ تواصلنا ** والحبل منها متينٌ غير منجذم
إحدى بني عامر جن الفؤاد بها ** ولو تشاء شفت كعبًا من السقم
فرع النساء وفرع القوم والدها ** أهل التحلة والإيفاء بالذمم
لم أر شمسًا بليلٍ قبلها طلعت ** حتى تجلت لنا في ليلة الظلم
ثم شبب بنساء من نساء المسلمين حتى آذاهم؛ فقال النبي ص كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: من لى من ابن الأشرف! قال: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب. إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ص، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله، قلت قولا لا أدري أفي به أم لا! قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك! قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش - وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب من الرضاعة - وعباد ابن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أخو بني حارثة.
ثم قدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعرًا - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا بن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك؛ فاكتم علي، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل بلاءً علينا عادتنا العرب ورمونا عن قوسٍ واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا! فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول، فقال سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعامًا ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم! فقال: لقد أردت أن تفضحنا! إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه لك وفاء - وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها - فقال: إن في الحلقة لوفاء، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح فينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله ص إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع رسول الله ص إلى بيته في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته؛ فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محاربٌ؛ وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة؛ لو وجدني نائمًا لما أيقظني، قالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعى الفتى لطعنة أجاب؛ فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا له: هل لك يا بن الأشرف، أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه! قال: إن شئتم! فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيب عطرٍ قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن ثم مشى ساعة، فعاد لمثلها، فأخذ بفودى رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله؛ فاختلف عليه أسيافهم، فلم تغن شيئًا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولًا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصنٌ إلا أوقدت عليه نار. قال: فوضعته في ثندؤته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح في رأسه أو رجله، أصابه بعض أسيافنا.
قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله ص آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. قال: فقال رسول الله ص: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله - وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة - فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله! قتلته! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله! قال محيصة: فقلت له: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، وقال: لو أمرك محمد بقتلى لقتلتني! قال: نعم والله، لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب! فأسلم حويصة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق. قال: حدثني هذا الحديث مولى لبني حارثة، عن ابنة محيصة، عن أبيها.
قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس ابن الأشرف إلى رسول الله ص.
وزعم الواقدي أن في ربيع الأول من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله ص، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة، وأن في ربيع الأول من هذه السنة غزا رسول الله ص غزوة أنمار - ويقال لها: ذو أمر - وقد ذكرنا قول ابن إسحاق في ذلك قبل.
قال الواقدي: وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت النمر.
غزوة القردة
قال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم - فيما ذكر - زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرًا.
قال أبو جعفر: وكان من أمرها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سرية زيد بن حارثة التي بعثه رسول الله ص فيها حين أصاب عير قريش، فيها أبو سفيان بن حرب، على القردة، ماء من مياه نجد. قال: وكان في حديثها أن قريشًا قد كانت خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة؛ وهي عظم تجارتهم، واستأجروا رجلًا من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان، يدلهم على ذلك الطريق، وبعث رسول الله ص زيد بن حارثة، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله ص.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فزعم أن سبب هذه الغزوة كان أن قريشًا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. قال أبو زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لا هتدى. قال صفوان: من هو؟ فحاجتنا إلى الماء قليل؛ إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان؛ فدعواه فاستأجراه؛ فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على غمرة، وانتهى إلى النبي ص خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية؛ فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وافلت أعيان القوم؛ فكان الخمس عشرين ألفًا، فأخذه رسول الله ص، وقسم الأربعة الأخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرًا، فقيل: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله ص، فلما دعا به رسول الله ص أسلم، فأرسله.
مقتل أبي رافع اليهودي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي - فيما قيل - وكان سبب قتله، أنه كان - فيما ذكر عنه - يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله ص، فوجه إليه - فيما ذكر - رسول الله ص في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثني إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله ص إلى أبي رافع اليهودي - وكان بأرض الحجاز - رجالًا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك - وكان أبو رافع يؤذي رسول الله ص ويبغي عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال لهم عبد الله بن عقبة - أو عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم، فإني أنطلق وأتلطف للبواب، لعلي أدخل! قال: فأقبل حتى إذا دنا من الباب، تقنع بثوبه؛ كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب. يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.
قال: فدخلت فكمنت تحت آري حمار؛ فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده في علالى؛ فلما ذهب عنه أهل سمره، فصعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله؛ لا أدري أين هو من البيت! قلت: أبا رافع! قال: من هذا؟ قال: فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنى شيئًا وصاح؛ فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد. ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل! إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه فأثخنه ولم أقتله. قال: ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه، حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أنى قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا، حتى انتهيت إلى درجة؛ فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض؛ فوقعت في ليلة مقمرة؛ فانكسرت ساقي، قال: فعصبتها بعمامتي، ثم إني انطلقت حتى جلست عند الباب، فقلت: والله لا أبرح الليلة حتى أعلم: أقتلته أم لا؟ قال: فلما صاح الديك، قام الناعي عليه على السور، فقال: أنعي أبا رافع رباح أهل الحجاز! قال: فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء! قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي ص، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي؛ فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله ص إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق إنما وجهها إليه في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة، وأن الذين توجهوا إليه فقتلوه، كانوا أبا قتادة، وعبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، والأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس.
وأما ابن إسحاق، فإنه قص من قصة هذه السرية ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، كان سلام بن أي الحقيق - وهو أبو رافع - ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله ص، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله ص وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله ص في قتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو بخيبر، فأذن لهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج؛ كانا يتصاولان مع رسول الله ص تصاول الفحلين؛ لاتصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله ص غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله ص في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. قال: وإذا فعلت الخزرج شيئًا، قالت الأوس مثل ذلك.
فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ص، قالت الخزرج: لا يذهبون فيها فضلًا علينا أبدًا. قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله ص في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر؛ فاستأذنوا رسول الله ص في قتله، فأذن لهم؛ فخرج إليه من الخزرج ثم من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود؛ حليف لهم من أسلم؛ فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله ص عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدًا أو امرأة.
فخرجوا حتى قدموا خيبر؛ فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلًا؛ فلم يدعوا بيتًا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفرٌ من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا؛ والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه؛ كأنه قبطية ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله ص؛ فيكف يده؛ ولولا ذاك فرغنا منها بليلٍ، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر؛ فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئًا شديدًا واحتملناه حتى نأتي به منهرًا من عيونهم، فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا؛ حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه؛ وهو يقضي بينهم. قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه. ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك؛ ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه. ثم قالت: فاظ وإله اليهود! قال: يقول صباحنا؛ فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله ص، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله؛ وكلنا يدعيه، فقال رسول الله ص: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. فقال حسان بن ثابت؛ وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن أبي الحقيق:
لله در عصابةٍ لاقيتهم ** يا بن الحقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ** مرحًا كأسدٍ في عرينٍ مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم ** فسقوكم حتفًا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم ** مستضعفين لكل أمرٍ مجحف
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي وعباس بن عبد العظيم العنبري، قالا: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن أباه حدثه عن أمه ابنة عبد الله بن أنيس، أنها حدثته عن عبد الله بن أنيس، أن الرهط الذين بعثهم رسول الله ص إلى ابن أبي الحقيق ليقتلوه: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، وحليف لهم، ورجل من الأنصار؛ وأنهم قدموا خيبر ليلًا.
قال: فعمدنا إلى أبوابهم نغلقها من خارج، ونأخذ المفاتيح، حتى أغلقنا عليهم أبوابهم، ثم أخذنا المفاتيح فألقيناها في فقير، ثم جئنا إلى المشربة التي فيهخ ابن أبي الحقيق، فظهرت عليها أنا وعبد الله بن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن عبد الله بن عتيك؛ فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت عبد الله بن عتيك. قال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك! عبد الله بن عتيك بيثرب؛ أين هو عندك هذه الساعة! افتحي لي؛ إن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة. فقامت ففتحت. فدخلت أنا وعبد الله على ابن أبي الحقيق، فقال عبد الله بن عتيك: دونك، قال: فشهرت عليها السيف، فأذهب لأضربها بالسيف فأذكر نهى رسول الله ص عن قتل النساء والولدان، فأكف عنها، فدخل عبد الله بن عتيك على ابن أبي الحقيق. قال: فأنظر إليه في مشربة مظلمة إلى شدة بياضه، فلما رآني ورآى السيف، أخذ الوسادة فاتقاني بها، فأذهب لأضربه فلا أستطيع، فوخزته بالسيف وخزًا.
ثم خرج إلى عبد الله بن أنيس، فقال: أقتله؟ قال: نعم، فدخل عبد الله بن أنيس فذفف عليه. قال: ثم خرجت إلى عبد الله بن عتيك؛ فانطلقنا، وصاحت المرأة: وابياتاه وابياتاه! قال: فسقط عبد الله بن عتيك في الدرجة، فقال: وارجلاه وارجلاه! فاحتمله عبد الله بن أنيس؛ حتى وضعه إلى الأرض. قال: قلت: انطلق ليس برجلك بأس. قال: فانطلقنا، قال عبد الله بن أنيس: جئنا أصحابنا فانطلقنا، ثم ذكرت قوسي أنى تركتها في الدرجة؛ فرجعت إلى قوسي؛ فإذا أهل خيبر يموج بعضهم في بعض؛ ليس لهم كلام إلا من قتل ابن أبي الحقيق؟ من قتل ابن أبي الحقيق؟ قال: فجعلت لا أنظر في وجهي إنسان، ولا ينظر في وجه إنسان إلا قلت: من قتل ابن أبي الحقيق؟ قال: ثم صعدت الدرجة؛ والناس يظهرون فيها؛ وينزلون؛ فأخذت قوسي من مكانها، ثم ذهبت فأدركت أصحابي، فكنا نكمن النهار ونسير الليل؛ فإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا ناطورًا ينظر لنا؛ فإن رأى شيئًا أشار إلينا؛ فانطلقنا حتى إذا كنا بالبيضاء كنت - قال موسى: أنا ناطرهم، وقال عباس: كنت أنا ناطرهم - فأشرت إليهم فذهبوا جمزًا وخرجت في آثارهم، حتى إذا اقتربنا من المدينة أدركتهم، قالوا: ما شأنك؟ هل رأيت شيئًا؟ قلت: لا، إلا أني قد عرفت أن قد بلغكم الإعياء والوصب، فأحببت أن يحملكم الفزع.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تزوج النبي ص حفصة ينت عمر في شعبان؛ وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي في الجاهلية، فتوفي عنها.
وفيها كانت غزوة رسول الله ص أحدًا؛ وكانت في شوال يوم السبت لسبع ليالٍ خلون منه - فيما قيل - من سنة ثلاث من الهجرة.
غزوة أحد
قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله ص ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورءوسائهم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا؛ كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: لما أصيبت قريش - أو من قاله منهم - يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه سلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة؛ وكل أولئك قد استعووا على حرب رسول الله ص.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله ص يوم بدر. وكان فقيرًا ذا بنات، وكان في الأسارى، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك! فمن عليه رسول الله ص، فقال صفوان ابن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤٌ شاعرٌ، فاعنا بلسانك، فأخرج معنا. فقال: إن محمدًا قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه، فقال: بلى فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بنى كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله ص، ودعا جبير بن مطعم غلامًا له يقال له وحشى، كان حبشيًا يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ.
فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب - وهو قائد الناس، معه هند بنت عتبة ابن ربيعة - وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة - قال أبو جعفر: وقيل ببرة - بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله ابن صفوان - وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد - وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم - وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير، وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة؛ وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: إيهٍ أبا دسمة! اشف واشتف - وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال: رسول الله ص للمسلمين: إني قد رأيت بقرأ فأولتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله ص حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد. فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال؛ وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله ص، يرى رأي رسول الله ص في ذلك: ألا يخرج إليهم؛ وكان رسول الله ص يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس؛ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فلم يزل الناس برسول الله ص الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله ص، فلبس لأمته؛ وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار، فصلى عليه رسول الله ص؛ ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله ص ولم يكن ذلك لنا.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)