والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه ونقله من طور إلى طور وتصويره وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث وكتابة رزقه وعمله وأجله وشقاوته وسعادته وملازمته في جميع أحواله وإحصاء أقواله وأفعاله وحفظه في حياته وقبض روحه عند وفاته وعرضها على خالقه وفاطره وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزخ وبعد البعث وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله والمعلمون له ما ينفعه والمقاتلون الذابون عنه وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة وهم الذين يرونه في منامه ما يخافه ليحذره وما يحبه ليقوى قلبه ويزداد شكرا وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه وينهونه عن الشر ويحذرونه منه
فهم أولياؤه وأنصاره وحفظته ومعلموه وناصحوه والداعون له والمستغفرون له وهم الذين يصلون عليه ما دام في طاعة ربه ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه وعند موته ويوم بعثه وهم الذين يزهدونه في الدنيا ويرغبونه في الآخرة وهم الذين يذكعرونه إذا نسي وينشطونه إذا كسل ويثبتونه إذا جزع وهم الذين يسعون في مصالح دنياه وآخرته
فهم رسل الله في خلفه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم
والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ومراتبهم كقوله: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم إلى آخر القصة. وقوله: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم وما بين هاتين السورتين من سور القرآن بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا أو تلويحا أو إشارة وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التي هي أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلنرجع إلى المقصود وهو أن حركات العالم العلوي والسفلي بالملائكة فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التي تحرك المريد إلى فعل ما يفعله والحركة الطبيعيه سببها ما في المتحرك من الميل والطلب بكماله وانتهائه كحركة النار وحركة النبات وحركة الرياح وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز ما لم يعقه عنه عائق وأما الحركة القسرية كحركته بالقسر إلى العلو فتابعة لإرادة القاسر له فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة
فصل
فإذا عرف ذلك فالمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يكمل بحصوله له فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان ومحب المتاع والأثمان ومحب الأوثان والصلبان ومحب النسوان والمردوان ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء فيتحرك عند ذكر محبوبه منها دون غيره ولهذا تجد محب النسوان والصبيان ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان ولا عند تلاوة القرآن حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره
فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها من محبة رسوله وكتابه ودينه وأوليائه فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه وإذا انقطعت علائق المحبين وأسباب توادعهم وتحابعهم لم تنقطع أسبابها قال تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: المودة
وقال مجاهد: تواصلهم في الدنيا
وقال الضحاك: يعني تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار
وقال أبو صالح: الأعمال
والكل حق فإن الأسباب هي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وأما أسباب الموحدي المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم فإن السبب تبع لغايته في البقاء والانقطاع
فصل
إذا تبين هذا فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها: هي محبته وحده لا شريك له المتصمنة لعبادته دون عبادة ما سواه فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذلع ولا يصلح ذلك إلا لله تعالى وحده
ولما كانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى: ما يختص به ويليق به كالعبادة والإنابة والإخبات ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى وقد يذكر لفظ المحبة كقوله: يحبهم ويحبونه وقوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله
ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن محبة ما يضادها وملازمتها وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين وذكر قصصهم ومآلهم ومنازلهم وثوابهم وعقابهم ولا يجد حلاوة الإيمان بل لا يذوق طعمه إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وفي لفظ لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار
وفي الصحيحين أيضا عنه قال: قال رسول الله والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين
ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم على عبادة الله وحده لا شريك له
وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة وإفراد الرب سبحانه بها فلا يشرك العبد به فيها غيره
والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هي الكلمة التي لا يدخل في الإسلام إلا بها ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر كما في صحيح ابن حبان عنه أفضل الذكر لا إله إلا الله والآيه المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة أي القرآن والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن وبها أرسل الله سبحانه جميع رسله وأنزل جميع كتبه وشرع جميع شرائعه قياما بحقها وتكميلا لها وهي التي يدخل بها العبد على ربه ويصير في جواره وهي مفزع أوليائه وأعدائه فإن أعداءه إذا مسهم الضر في البر والبحر فزعوا إلى توحيده وتبرءوا من شركهم ودعوه مخلصين له الدين وأما اولياؤه فهي مفزعهم في شدائد الدنيا والآخرة ولهذا كانت دعوات المكروب لا إلكه إلا الله العظيم الحليم لا إلكه إلا الله رب العرش العظيم لا إلكه إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ودعوة ذي النون التي مادعا بها مكروب إلا فرج الله كربه لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين
وقال ثوبان رضي الله عنه: كان رسول الله إذا راعه أمر قال: الله ربي لا أشرك به شيئا وفي لفظ قال: هو الله لا شريك له
وقالت أسماء بنت عميس: علمني رسول الله كلمات أقولها عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئا
وفي الترمذي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبي قال: دعوة يونس إذ نادى في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم في شيء إلا استجيب له
وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت
فالتوحيد ملجأ الطالبين ومفزع الهاربين ونجاة المكروبين وغياث الملهوفين وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضو
فصل
فإذا عرف أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة فلا بد من محبوب مراد لنفسه لا يطلب ويحب لغيره إذ كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور او التسلسل في العلل والغايات وهو باطل باتفاق العقلاء والشيء قد يحب من وجه دون وجه وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى وحده الذي لا تصلح الألوهية إلا له فلو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هي العبادة والتأليه ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به فإنه يلزم من الإقرار به الاقرار بتوحيد الالهية
فصل
وكل حي فله إرادة وعمل بحسبه وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه فوجوده بالله وحده وكماله أن يكون لله وحده فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم ولهذا قال تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولم يقل لعدمتا إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد لكن لا يمكن أن تكونا صالحتين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها فكل عمل فهو تابع لنية عامله وقصده وإرادته
وتقسيم الأعمال إلى صالح وفاسد هو باعتبارها في ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة
وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة فهو باعتبار متعلقها ومحبوبها ومرادها فإن كان المحبوب المراد هو الذي لا ينبغي أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو وحده محبوبه ومراده وغاية مطلوبه كانت محبته نافعة له وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة له وعذابا وشقاء
فالمحبة النافعة هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم والمحبة الضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء
فصل
إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته أو من فساد قصده وإرادته فالأول: جهل والثاني ظلم: والإنسان خلق في الأصل ظلوما جهولا ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه ويلهمه رشده فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل ونفعه بما علمه فخرج به عن الظلم ومتى لم يرد به خيراأبقاه على أصل الخلقة كما في المسند من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي قال: إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته لها تارة ولفساد قصدها تارة ولمجموعهما تارة وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم فقال: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى فأصل كل خير: هو العلم والعدل وأصل كل شر: هو الجهل والظلم
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا فمن تجاوزه كان ظالما معتديا وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه الذي خرج به عن العدل ولهذا قال سبحانه وتعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ] وقال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه: فمن ابتغى وراء ذلك فأولكئك هم العادون. وقال: ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم أو فساد القصد أو فسادهما جميعا
وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة وضعف عزمه عن اجتنابه يوقعه في ارتكابه ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه وترك ما يضره فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة وإنما معه من الايمان بحسب ذلك فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان حتى كأنه يراها لا يسلك طريقها الموصلة إليها فضلا عن أن يسعى فيها بجهده والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع أو التخلص منه من المضار
فصل
إذا تبين هذا فالعبد أحوج شيء إلى علم ما يضره ليجتنبه وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله فيحب النافع ويبغض الضار فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته وهذا من لوازم العبودية والمحبة ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه فنقصت عبوديته بحسب ذلك
وههنا طريقان: العقل والشرع أما العقل فقد وضع الله سبحانه في العقول والفطر استحسان الصدق والعدل والإحسان والبر والعفة والشجاعة ومكارم الأخلاق وأداء الأمانات وصلة الأرحام ونصيحة الخلق والوفاء بالعهد وحفظ الجوار ونصر المظلوم والإعانة على نوائب الحق وقرى الضيف وحمل الكل ونحو ذلك ووضع في العقول والفطر استقباح أضداد ذلك ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع ولبس ما يدفئه عند البرد فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها واستقباح أضدادها ومن قال: إن ذلك لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما عرف بمجرد السمع فقوله باطل قد بينا بطلانه في كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول والطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال: السمع وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة كما قال مجاهد: أفضل العبادة الرأي الحسن وهو اتباع السنة قال تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم: أهل الشبهات والأهواء لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم وهوى لا دين فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وغايته الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة وإنما ينتفي الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى واتباع الهوى يكون في الحب والبغض كما قال تعالى: يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وقال: ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى والهوى المنهي عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص في نفسه فقد يكون أيضا هوى غيره فهو منهي عن اتباع هذا وهذا لمضادة كل منهما لهدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه
فصل
فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها وقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة
وفي الصحيح عنه أنه سئل من أحب الناس إليك فقال: عائشة ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول إذا حدث عنها: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات
وصح عنه أنه قال: حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة ولذلك كان رسول الله يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل ويحب الخيل وكان أحب الثياب إليه القميص وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله ومحبة في الله ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله ومحبة ما يبغضه الله تعالى ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تبع لها
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا كان أبعد من عشق الصور ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء: العشق والفحشاء: الزنا فالمخلص قد خلص حبه لله فخلصه الله من فتنة عشق الصور والمشرك قلبه متعلق بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله تعالى
فصل
ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يمني أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ويأمره بمواخاته
وهذا من جنس المخادنة بل هو مخادنة باطنة كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن: محصنات غير مسافحات ولا متخذان أخدان. وقال في حق الرجال: محصنين غير مسافحين ولا متخذي آخران فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى ويبطنون اتخاذها خدنا يتلذذون بها فعلا أو تقبيلا أو تمتعا بمجرد النظر والمخادنة والمعاشرة واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له وذلك من نوع الشرك والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حبك فيه: كفر وشرك كاعتقاد محبي الأوثان في أوثانهم
وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب وأنه ساع في دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه وأن من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدينا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
فصل
ثم هم بعد هذا الضلال والغي أربعة أقسام قوم يعتقدون أن هذا لله وهذا كثير في طوائف العامة والمنتسبين إلى الفقر والتصوف وكثير من الأتراك وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا
وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك لما يرجى لهم من التوبة ومن وجه أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة ووقع في ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة
القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله تعالى وأن الفاحشة معصية فيقولون: نفعل شيئا لله تعالى ونفعل أمرا لغير الله تعالى وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك فيجمعون بين الكذب والفاحشة وهم في هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين وقد يزيد عليه تارة في الكم والكيف وقد ينقص عنه وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين في الله لكن الذين آمنوا أشد حبا لله فإن المتحابين في الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية ثم قد يشتد بينهما الإتصال حتى يسمونها زواجا ويقولون: تزوج فلان بفلان كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة ويقرهم الحاضرون على ذلك ويضحكون منه ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح وأنه المراد بقوله إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه الحديث وأنه توضع له المحبة في الأرض فيعجبه أن يحب ويفتخر بذلك بين الناس ويعجبه أن يقال: هو معشوق أو حظوة البلد وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق
وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة
وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر ومملوك ومعشوق خاص فالأول: بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن والثاني: بإزاء الأمة والسرية والثالث: بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة
وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان واستفراشهم على النساء من وجوه وهذا مضادة ومحادة لله ودينه وكتبه ورسله وصنف بعضهم كتابا في هذا الباب وقال في أثنائه: باب في المذهب المالكي وذكر فيه الجماع في الدبر من الذكور والإناث
وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأسدهم مذهبا في هذا الباب حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدا بكرا كان أو ثيبا وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص واتفق عليه أصحاب رسول الله وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين بابا واحدا وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة
ونظير هذا: ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن يكون صغيرة من الصغائر وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب بل من صغائرها وهذا ظن كاذب فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره فان جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم
وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فحش هذا مركوز في طباع الأمم فاكتفي فيه بالوازع الطبعي كما اكتفي بذلك في أكل الرجيع وشرب البول والدم ورتب الحد على شرب الخمر لكونه مما تدعو إليه النفوس والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك فالحد فيه أولى من الحد في الزنا ولذلك وجب الحد على من وطىء أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان في النفوس وازع وزاجر طبعي عن ذلك بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا في أصح الأقوال وهو مذهب أحمد وغيره هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان ونظير هذا الظن الكاذب والغلط الفاحش: ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة أو أنها أيسر من ارتكابها من الحرع وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك وأدخلت المملوك في قوله: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها وتتأول القرآن على ذلك كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق عمر رضي الله عنه بينهما وأدبها وقال: ويحك إنما هذا للرجال لا للنساء ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم على ذلك قال: وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول: اختلافهم شبهة وهذا كذب وجهل فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك بل ولا في دين من أديان الرسل وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر
قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحدع فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين وطاعة الشيطان ومعصية رب العالمين فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك والخروج عن جملة الشرائع بالكلية
ولما سهل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده وأنه لم يطأه سواه كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه أو مؤاخيه أو معلمه وكذلك كثير من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذي هو قرينه وعشيره كالزوجة أو عما سوى مملوكه الذي هو كسريته ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على فعل الفاحشة فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به
قال شيخنا: وحكى لي من أثق به: أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد فقال: والله هو ارتضى بذلك وما أكرهته ولا غصبته فكيف أعاقب فقال نصير المشركين وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب
ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة وحفظ النفس كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير في المخمصة
وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التداوي وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر
ولاريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات كما قال تعالى: هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون وقال: ولكلع درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون وقال: إنما النيىء زيادة في الكفر وقال: فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ونظائره في القرآن كثيرة
ومن أخف هؤلاء جرما: من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه وأنه إذا قضى حاجته قال: أستغفر الله فكأن ما كان لم يكن
فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق كتلاعب الصبيان بالكرة وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها فالمتخذ خدنا من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد والمستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدث للناس به فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه ثم يصبح يكشف ستر الله عنه يقول: يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيبيت ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عن نفسه أو كما قال
وفي الحديث الآخر عنه من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله
وفي الحديث الآخر إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة
وكذلك الزنا بالمرأة التي لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه وإفساد فراشه عليه وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا أو دونه والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار لما اقترن بذلك من أذى الجار وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به
وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثما عندالله من الزنا بغيرها ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له: خذ من حسناته ما شئت وكما تختلف درجاته بحسب المزني بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال وبحسب الفاعل فالزنا في رمضان ليلا أو نهارا أعظم إثما منه في غيره
وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من الحر أقبح منه من العبد ولهذا كان حده على النصف من حده ومن المحصن أقبح منه من البكر ومن الشيخ أقبح منه من الشاب ولهذا كان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: الشيخ الزاني ومن العالم أقبح منه من الجاهل لعلمه بقبحه وما يترتب عليه وإقدامه على بصيرة ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز
فصل
ومما ينبغي أن يعلم: أنه قد يقترن بالأيسر إثما ما يجعله أعظم إثما مما هو فوقه مثاله: أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب المعشوق وتأليهه له وتعظيمه والخضوع له والذل له وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة
فإن المحبوبات لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد كقوله في الحديث الصحيح: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطى رضي وإن منع سخط رواه البخاري فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا عبيدا لهذه الأشياء لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك
ولهذا يجعلون الحب مراتب أوله: العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ثم العشق وآخر ذلك: التتيم وهو التعبد للمعشوق فيصير العاشق عبدا لمعشوقه والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين فحكاه عن امرأة العزيز وكانت مشركة على دين زوجها وكانوا مشركين وحكاه عن اللوطية وكانوا مشركين فقال تعالى في قصتهم: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وأخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص فقال: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين وقال عن عدوه إبليس: أنه قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والغاوي ضد الراشد والعشق المحرم من أعظم الغي ولهذا كان أتباع الشعراء أهل السماع الشعري غاوين كما سماهم الله تعالى بذلك في قوله: والشعراء يتبعهم الغاوون فالغاوون يتبعون الشعراء وأصحاب السماع الشعري الشيطاني وهؤلاء لا ينفكون عن طلب وصال أو سؤال نوال كما قال أبو تمام لرجل: أما تعرفني فقال: ومن أعرف بك مني
أنت بين اثنتين تبرز للنا... س وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالبا لوصال... من حبيب أو راجيا لنوال
أي ماء يبقى لوجهك هذا... بين ذل الهوى وذل السؤال
والزنا بالفرج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة كالنظرة والقبلة والمس لكن إصرار العاشق على محبة الفعل وتوابعه ولوازمه وتمنيه له وحديث نفسه به: أنه لا يتركه واشتغال قلبه بالمعشوق قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير فإن
الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربى عليها وأيضا فإن تعبد القلب للمعشوق شرك وفعل الفاحشة معصية ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية
وأيضا فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه كما قال القائل: تالله ما أسرت لواحظك امرء... إلا وعز على الورى استنقاذه بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين والغي اتباع الهوى والشهوات كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات
وأصل الغي من الحب لغير الله فإنه يضعف الإخلاص به ويقوى الشرك بقوته
فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك لما فيهم من الإشراك بالله ولما فاتهم من الإخلاض له ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق متيما فيه يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده فهو أعظم ذكرا له من ربه وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه وكفى به شاهدا بذلك على نفسه بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنيه لقربه أعظم تمنيه لقرب ربه وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه يسخط ربه بمرضاة معشوقه ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه فإن فصل من وقته فضلة وكان عنده قليل من الإيمان صدق تلك المفضلة في طاعة ربه وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة
وخسيس فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته وخالص ماله وربه على الفضلة قد اتخذه وراءه ظهريا وصار لذكره نسيا إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ناصحا له فيها خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة والباطنة والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله ما لا يعلمون فإن هذا من لوازم الشرك فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر ومن قتل النفوس تغايرا على المعشوق وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق ومن الفاحشة والكذب والظلم ما لا خفاء به
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له والتشريك بينه وبين غيره في المحبة ومن محبة ما يحب لغير الله فيقوم ذلك بالقلب ويعمل بموجبه بالجوارح وهذا هو حقيقة اتباع الهوى وفي الأثر ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون
وإذا تأملت حال عشاق الصور المتيمين فيها وجدت هذه الآية منطبقة عليهم مخبرة عن حالهم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)