قال أبو مخنف لوط بن يحيى، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن سعد بن نفيل، قال: كان أول ما ابتدعوا به من أمرهم سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر.
فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتى مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان بين قتل الحسين وهلاك يزيد بن معاوية ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يزيد وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فجاء إلى سليمان أصحابه من الشيعة، فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك فأكثروا؛ فقال لهم سليمان بن صرد: رويدًا، لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون، فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون، وعلموا أنهم المطلوبون، كانوا أشد عليكم. ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا في عدوهم، وكانوا لهم جزرًا، ولكن بثوا دعاتكم في المصر، فادعوا إلى أمركم هذا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابةً منهم قبل هلاكه. ففعلوا؛ وخرجت طائفة منهم دعاةٌ يدعون الناس، فاستجاب لهم ناسٌ كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثنا الحصين بن يزيد، عن رجل من مزينة قال: ما رأيت من هذه الأمة أحدًا كان أبلغ من عبيد الله بن عبد الله المري في منطق ولا عظة، وكان من دعاة أهل المصر زمان سليمان بن صرد، وكان إذا اجتمعت إليه جماعةٌ من الناس فوعظهم بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ، ثم يقول: أما بعد، فإن الله اصطفى محمدًا على خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم باتباعه وأكرمكم بالإيمان به، فحقن به دماءكم المسفوكة، وأمن به سبلكم المخوفة، " وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ". فهل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقًا على هذه الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقًا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله، ما كان ولا يكون. لله أنتم! ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إياه بالدم، وتجرارهموه على الأرض! لم يرقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول ؛ اتخذوه للنبل غرضًا، وغادروه للضباع جزرًا، فلله عينا من رأى مثله! ولله حسين بن علي، ماذا غدروا به ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول المسلمين إسلامًا، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه. فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله لم يجعل لقاتله حجة، ولا لخاذله معذرةً، إلا أن يناصح لله في التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين؛ فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة؛ إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عند الله خيرٌ للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا.
قال: وكان يعيد هذا الكلام علينا في كل يوم حتى حفظه عامتنا. قال: ووثب الناس على عمرو بن حريث عند هلاك يزيد بن معاوية، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي. وهو دحروجة الجعل الذي قال له ابن همام السلولي:
اشدد يديك بزيدٍ إن ظفرت به ** واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وكان كأنه إبهامٌ قصرًا، وزيد مولاه وخازنه، فكان يصلي بالناس. وبايع لابن الزبير، ولم يزل أصحاب سليمان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حتى كثر تبعهم، وكان الناس إلى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن معاوية أسرع منهم قبل ذلك، فلما مضت ستة أشهر من هلاك يزيد ابن معاوية، قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة، فقدم في النصف من شهر رمضان يوم الجمعة. قال: وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي من قبل عبد الله بن الزبير أميرًا على الكوفة على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله الأعرج أميرًا على خراج الكوفة، وكان قدوم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي يوم الجمعة لثمانٍ بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين.
قال: وقدم المختار قبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بثمانية أيام، ودخل المختار الكوفة، وقد اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سليمان بن صرد فليس يعدلونه به، فكان المختار إذا دعاهم إلى نفسه وإلى الطلب بدم الحسين قالت له الشيعة: هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة، قد انقادوا له واجتمعوا عليه، فأخذ يقول للشيعة: إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن علي ابن الحنفية مؤتمنًا مأمونًا، منتجبًا ووزيرًا، فوالله ما زال بالشيعة حتى انشعبت إليه طائفةٌ تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسليمان أثقل خلق الله على المختار.
وكان المختار يقول لأصحابه: أتدرون ما يريد هذا؟ يعني سليمان بن صرد - إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصرٌ بالحروب، ولا له علمٌ بها.
قال: وأتى يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني عبد الله بن يزيد الأنصاري فقال: إن الناس يتحدثون أن هذه الشيعة خارجةٌ عليك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وهي أقل الطائفتين عددًا، والمختار فيما يذكر الناس لا يريد أن يخرج حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان بن صرد، وقد اجتمع له أمره، وهو خارج من أيامه هذه، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثم تنهض إليهم، وننهض معك، فإذا دفعت إلى منزله دعوته، فإن أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وقد جمعت له وعبأت وهو مغتر، فإني أخاف عليك إن هو بدأك وأقررته حتى يخرج عليك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره.
فقال عبد الله بن يزيد: الله بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حدثني ما يريد الناس؟ قال: يذكر الناس أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي؛ قال: فأنا قتلت الحسين! لعن الله قاتل الحسين! قال: وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عبد الله بن يزيد حتى صعد المنبر، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فقد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي: زعموا أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي، فرحم الله هؤلاء القوم، قد والله دللت على أماكنهم، وأمرت بأخذهم، وقيل: ابدأهم قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم؛ وعلام يقاتلونني! فوالله ما أنا قتلت حسينًا، ولا أنا ممن قاتله، ولقد أصبت بمقتله رحمة الله عليه! فإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا لهم على قاتله ظهير؛ هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، قد توجه إليكم؛ عهد العاهد به على مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضًا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذلك العدو غدًا وقد رققتم، وتلك والله أمنية عدوكم، وإنه قد أقبل إليكم أعدى خلق الله لكم، من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذي قتلكم، ومن قبله أتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم؛ إني آلكم نصحًا، جمع الله لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا!
قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن الموادع؛ والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قومًا يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة. فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه ثم قال: يابن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذل من ذلك؛ إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، والله إني لأرجو ألا يخرجك الله من بين ظهراني أهل هذا المصر حتى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولًا سديدًا، وإني والله لأظن من يريد هذا الأمر مستنصحًا لك، وقابلًا قولك.
فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: إي والله، ليقتلن وقد أدهن ثم أعلن. فقام إليه عبد الله بن وال التيمي، فقال: ما اعتراضك يا أخا بني تيم بن مرة فيما بيننا وبين أميرنا! فوالله ما أنت علينا بأمير، ولا لك علينا سلطان، إنما أنت أمير الجزية، فأقبل على خراجك، فلعم الله لئن كنت مفسدًا ما أفسد أمر هذه الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء.
قال: ثم أقبل مسيب بن نجبة وعبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد فقالا: أما رأيك أيها الأمير فوالله إنا لنرجو أن تكون به عند العامة محمودًا وأن تكون عند الذي عنيت واعتريت مقبولًا. فغضب أناسٌ من عمال إبراهيم بن محمد بن طلحة وجماعة ممن كان معه، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم.
فلما سمع ذلك عبد الله بن يزيد نزل ودخل، وانطلق إبراهيم بن محمد وهو يقول: قد داهن عبد الله بن يزيد أهل الكوفة، والله لأكتبن بذلك إلى عبد الله بن الزبير، فأتى شبث بن ربيع التميمي عبد الله بن يزيد فأخبره بذلك، فركب به وبيزيد بن الحارث بن رويم حتى دخل على إبراهيم بن محمد بن طلحة، فحلف له بالله ما أردت بالقول الذي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يزيد بن الحارث بكذا وكذا، فرأيت أن أقوم فيهم بما سمعت إرادة ألا تختلف الكلمة، ولا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هؤلاء القوم بينهم. فعذره وقبل منه.
قال: ثم إن أصحاب سليمان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.
ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير
وفي هذه السنة فارق عبد الله بن الزبير الخوارج الذين كانوا قدموا عليه مكة، فقاتلوا معه حصين بن نمير السكوني، فصاروا إلى البصرة، ثم افترقت كلمتهم فصاروا أحزابًا.
ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزبير والسبب الذي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم
حدثت عن هشام بن محمد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يحيى قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، قال: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال ما ركب، وقد كان قبل ذلك لا يكف عنهم ولا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزبير بمكة، وسار إليه أهل الشأم، فتذاكروا ما أتى إليهم، فقال لهم نافع بن الأزرق: إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم فيه الجهاد، واحتج عليكم بالبيان، وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قد ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل، فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو، وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في أمورنا. فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه على رأيهم، وأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش؛ فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية، وانصرف أهل الشأم عن مكة. ثم إن القوم لقي بعضهم بعضًا، فقالوا: إن هذا الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على رأيكم، إنما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي: يال ثارات عثمان! فأتوه وسلوه عن عثمان، فإن برىء منه كان وليكم، وإن أبى كان عدوكم. فمشوا نحوه فقالوا له: أيها الإنسان، إنا قد قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حتى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا ما مقالتك في عثمان؟ فنظر فإذا من حوله من أصحابه قليلٌ، فقال لهم: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم من ذلك الذي تريدون. فانصرفوا، وبعث إلى أصحابه فقال: البسوا السلاح، واحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وقد أقام أصحابه حوله سماطين عليهم السلاح، وقامت جماعةٌ منهم عظيمة على رأسه بأيديهم الأعمدة، فقال ابن الأزرق لأصحابه: خشي الرجل غائلتكم، وقد أزمع بخلافكم واستعد لكم؛ ما ترون؟ فدنا منه ابن الأزرق، فقال له: يابن الزبير، اتق الله ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذلك ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذلك فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم، وأذهبوا في الحياة الدنيا طيباتهم.
يا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن معه أمرنا الذي نحن عليه، والذي ندعو الناس إليه، فتقدم عبيدة بن هلال.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني أبو علقمة الخثعمي، عن قبيصة بن عبد الرحمن القحافي، من خثعم، قال: أنا والله شاهدٌ عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقًا قط ينطق كان أبلغ ولا أصوب قولًا منه، وكان يرى رأي الخوارج.
قال: وإن كان ليجمع القول الكثير، في المعنى الخطير، في اللفظ اليسير.
قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدًا يدعو إلى عبادة الله، وإخلاص الدين، فدعا إلى ذلك، فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله وأمره، حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رسول الله، فالحمد لله رب العالمين. ثم إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمي الأحماء، وآثر القربى، واستعمل الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول صلى الله عليه، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إليه طائفةٌ من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته، لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يابن الزبير؟ قال: فحمد الله ابن الزبير وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد فهمت الذي ذكرتم، وذكرت به النبي ، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق ما وصفته، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وقد فهمت الذي ذكرت به عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه، واستعتبوه فلم يدع شيئًا استعتبه القوم فيه إلا أعتبهم منه. ثم إنهم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه فيهم، يأمر فيه بقتلهم فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم؛ فإن لم تكن حلفت لكم؛ فوالله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه. ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خيرٍ أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني وليٌّ لابن عفان في الدنيا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قالوا: فبرىء الله منك يا عدو الله؛ قال: فبرىء الله منكم يا أعداء الله.
وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد الله بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد الله بن إباض أيضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عبد الله، وعبيد الله، والزبير، من بني سليط ابن يربوع، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن مالك بن بكر بن وائل وعبد الله بن ثور أبو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة ابن عامر الحنفي، فأما البصريون منهم فإنهم قدموا البصرة وهم مجمعون على رأي أبي بلال.
قال هشام: قال أبو مخنف لوط بن يحيى: فحدثني أبو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل البصرة، أنهم اجتمعوا فقالت العامة منهم: لو خرج منا خارجون في سبيل الله، فقد كانت منا فترة منذ خرج أصحابنا، فيقوم علماؤنا في الأرض فيكونون عند الله أحياء.
فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلثمائة رجل، فخرج، وذلك عود وثوب الناس بعبيد الله بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس في دم مسعود بن عمرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إلى الشأم، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فاتبعوهم وأخافوهم حتى خرج من بقي منهم بالبصرة، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلًا منهم ممن لم يكن أراد الخروج يومه ذلك، منهم عبد الله بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجالٌ معهما على رأيهما. ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تبتغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة له، فقال لأصحابه: إن الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصركم ما عمي عنه غيركم؛ ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فقالوا: بلى؛ فقال: أليس حكمكم في وليكم حكم النبي في وليه، وحكمكم في عدوكم حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عدوه، وعدوكم اليوم عدو الله وعدو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما أن عدو النبي يومئذ هو عدو الله وعدوكم اليوم! فقالوا: نعم؛ قال: فقد أنزل الله تبارك وتعالى: " براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ".
وقال: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم، ومواريثهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا، وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "، فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه.
فكتب: من عبيد الله نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن صفار وعبد اله ابن إباض ومن قبلهما من الناس. سلامٌ على أهل طاعة الله من عباد الله، فإن من الأمر كيت وكيت؛ فقص هذه القصة، ووصف هذه الصفة، ثم بعث بالكتاب إليهما. فأتيا به، فقرأه عبد الله بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فقال له عبد الله بن إباض: ما لك لله أبوك! أي شيء أصبت! أأن قد أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله!، أي رأي رأى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيًا وحكمًا فيما يشير به، وكانت سيرته كسيرة النبي في المشركين، ولكنه قد كذب وكذبنا فيما يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، ولا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام؛ فقال ابن صفار: برىء الله منك، فقد قصرت، وبرىء الله من ابن الأزرق فقد غلا، برىء الله منكما جميعًا؛ وقال الآخر: فبرى الله منك ومنه.
وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة.
ذكر الخبر عن مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة
قال أبو جعفر: وفي النصف من شهر رمضان من هذه السنة كان مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمه إليها
قال هشام بن محمد الكلبي: قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: كانت الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كان منه في أمر الحسن بن علي يوم طعن في مظلم ساباط، فحمل إلى أبيض المدائن، حتى إذا كان زمن الحسين، وبعث الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نزل دار المختار، وهي اليوم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الكوفة، وناصحه ودعا إليه من أطاعه، حتى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار في قرية له بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج على ميعاد من أصحابه، إنما خرج حين قيل له: إن هانىء بن عروة المرادي قد ضرب وحبس، فأقبل المختار في موالٍ له حتى انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب، وقد عقد عبيد الله بن زياد لعمرو بن حريث راية على جميع الناس، وأمره أن يقعد لهم في المسجد، فلما كان المختار وقف على باب الفيل مر به هانىء بن أبي حية الوادعي، فقال للمختار: ما وقوفك ها هنا! لا أنت مع الناس، ولا أنت في رحلك؛ قال: أصبح رأيي مرتجًا لعظم خطيئتكم؛ فقال له: أظنك والله قاتلًا نفسك، ثم دخل على عمرو بن حريث فأخبره بما قال للمختار وما رد عليه المختار.
قال أبو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي؛ قال: كنت جالسًا عند عمرو بن حريث حين بلغه هانىء بن أبي حية عن المختار هذه المقالة، فقال لي: قم إلى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هو! فلا يجعلن على نفسه سبيلًا، فقمت لآتيه، ووثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود، فقال له: يأتيك على أنه آمن؟ فقال له عمرو بن حريث: أما مني فهو آمن، وإن رقي إلى الأمير عبيد الله بن زياد شيء من أمره أقمت له بمحضره الشهادة، وشفعت له أحسن الشفاعة، فقال له زائدة بن قدامة: لا يكونن مع هذا إن شاء الله إلا خيرٌ.
قال عبد الرحمن: فخرجت، وخرج معي زائدة إلى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عمرو بن حريث، وناشدناه بالله ألا يجعل على نفسه سبيلًا، فنزل إلى ابن حريث، فسلم عليه، وجلس تحت رايته حتى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عقبة بن أبي معيط بذلك إلى عبيد الله بن زياد، فذكر له، فلما ارتفع النهار فتح باب عبيد الله ابن زياد وأذن للناس، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عبيد الله، فقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل! فقال له: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو بن حريث، وبت معه وأصبحت، فقال له عمرو: صدق أصلحك الله! قال: فرفع القضيب، فاعترض به وجه المختار فخبط به عينه فشترها وقال: أولى لك! أما والله لولا شهادة عمرو لك لضربت عنقك؛ انطلقوا به إلى السجن فانطلقوا به إلى فحبس فيه فلم يزل في السجن حتى قتل الحسين. ثم إن المختار بعث إلى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إلى عبد الله بن عمر بالمدينة فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية، فيكتب إلى عبيد الله بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إلى عبد الله بن عمر فقدم عليه، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وهي تحت عبد الله بن عمر، فبكت وجزعت، فلما رأى ذلك عبد الله بن عمر كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فإن عبيد الله بن زياد حبس المختار، وهو صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا الله وإياك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت. والسلام عليك.
فمضى زائدة على رواحله بالكتاب حتى قدم به على يزيد بالشأم، فلما قرأه ضحك ثم قال: يشفع أبو عبد الرحمن، وأهل ذلك هو. فكتب له إلى ابن زياد: أما بعد، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر في كتابي، والسلام عليك.
فأقبل به زائدة حتى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثم قال له قد أجلتك ثلاثًا، فإن أدركتك بالكوفة بعدها قد برئت منك الذمة. فخرج إلى رحله. وقال ابن زياد: والله لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إلى أمير المؤمنين حتى يأتيني بالكتاب في تخلية رجل قد كان من شأني أن أطيل حبسه، علي به. فمر به عمرو بن نافع أبو عثمان - كاتبٌ لابن زياد - وهو يطلب، وقال له: النجاء بنفسك، واذكرها يدًا لي عندك.
قال: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذلك. ثم إنه خرج في أناس من قومه حتى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسل بن عمرو الباهلي، فأخذا له من ابن زياد الأمان.
قال هشام: قال أبو مخنف: ولما كان اليوم الثالث خرج المختار إلى الحجاز، قال: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولىً لثقيف. قال: أقبلت من الحجاز حتى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجًا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت به، وعطفت إليه، فلما رأيت شتر عينه استرجعت له، وقلت له بعد ما توجعت له: ما بال عينك، صرف الله عنك السوء! فقال: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطةً صارت إلى ما ترى. فقلت له: ما له شلت أنامله! فقال المختار: قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأباجله وأعضاءه إربًا إربًا؛ قال: فعجبت لمقالته، فقلت له: ما علمك بذلك رحمك الله؟ فقال لي: ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه.
قال: ثم طفق يسألني عن عبد الله بن الزبير، فقلت له: لجأ إلى البيت، فقال: إنما أنا عائذٌ برب هذه البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرًا، ولا أراه إلا لو قد اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف؛ قال: أجل، لا شك في ذلك، أما إنه رجل العرب اليوم، أما إنه إن يخطط في أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فوالله ما أنا بدون أحد من العرب، يابن العرق، إن الفتنة قد أرعدت وأبرقت، وكأن قد انبعثت فوطئت في خطامها، فإذا رأيت ذلك وسمعت به بمكان قد ظهرت فيه فقل: إن المختار في عصائبه من المسلمين، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن علي، فوربك لأقتلن بقتله عدة القتلى التي قتلت على دم يحيى بن زكرياء عليه السلام؛ قال: فقلت له: سبحان الله! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى؛ فقال: هو ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه. ثم حرك راحلته، فمضى ومضيت معه ساعةً أدعو الله له بالسلامة، وحسن الصحابة. قال: ثم إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وسلمت عليه، وانصرفت عنهن فقلت في نفسي: هذا الذي يذكر لي هذا الإنسان، - يعني المختار - مما يزعم أنه كائن، أشيءٌ حدث به نفسه! فوالله ما أطلع الله على الغيب أحدًا، وإنما هو شيءٌ يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رأيه، فهذا والله الرأي الشعاع، فوالله ما كل ما يرى الإنسان أنه كائن يكون؛ قال: فوالله ما مت حتى رأيت كل ما قاله. قال: فوالله لئن كان ذلك من علمٍ ألقي إليه لقد أثبت له، ولئن كان ذلك رأيًا رآه، وشيئًا تمناه، لقد كان.
قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، قال: فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يوسف، فضحك ثم قال لي: إنه كان يقول أيضًا:
ورافعةٍ ذيلها ** وداعية ويلها
بدجلة أو حولها
فقلت له: أترى هذا شيئًا كان يخترعه، وتخرصًا يتخرصه، أم هو من علم كان أوتيه؟ فقال: والله ما أدري ما هذا الذي تسألني عنه، ولكن لله دره! أي رجل دينًا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كان!
قال أبو مخنف: فحدثني أبو سيف الأنصاري من بني الخزرج، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: قدم المختار علينا مكة، فجاء إلى عبد الله ابن الزبير وأنا جالسٌ عنده، فسلم عليه، فرد عليه ابن الزبير، ورحب به، وأوسع له، ثم قال: حدثني عن حال الناس بالكوفة يا أبا إسحاق؛ قال: هم لسلطانهم في العلانية أولياء، وفي السر أعداء؛ فقال له ابن الزبير: هذه صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عنهم شتموهم ولعنوهم؛ قال: فجلس معنا ساعةً، ثم إنه مال إلى ابن الزبير كأنه يساره، فقال له: ما تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك. وقام المختار فخرج، فلم ير حولًا؛ ثم إني بينا أنا جالسٌ مع ابن الزبير إذ قال لي ابن الزبير: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت له: ما لي به عهد منذ رأيته عندك عامًا أول؛ فقال: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئي بها بعد، فقلت له: إني انصرفت إلى المدينة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بالمدينة أشهرًا، ثم إني قدمت عليك، فسمعت نفرًا من أهل الطائف جاءوا معتمرين يزعمون أنه قدم عليهم الطائف، وهو يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قال: قاتله الله! لقد انبعث كذابًا متكهنًا، إن الله إن يهلك الجبارين يكن المختار أحدهم. فوالله ما كان إلا ريث فراغنا من منطقنا حتى عن لنا في جانب المسجد، فقال ابن الزبير: اذكر غائبًا تره؛ أين تظنه يهوى؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثم طاف بالبيت أسبوعًا، ثم صلى ركعتين عند الحجر، ثم جلس، فما لبث أن مر به رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إليه، واستبطأ ابن الزبير قيامه إليه، فقال: ما ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا أدري، وسأعلم لك علمه، فقال: ما شئت، وكأن ذلك أعجبه.
قال: فقمت فمررت به كأني أريد الخروج من المسجد، ثم التفت إليه، فأقبلت نحوه ثم سلمت عليه، ثم جلست إليه، وأخذت بيده، فقلت له: أين كنت؟ وأين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فقال لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إليه، فناجيته، فقلت له: مثلك يغيب عن مثل ما قد اجتمع عليه أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت ولا قبيلة إلا وقد جاء زعيمهم وعميدهم فبايع هذا الرجل، فعجبًا لك ولرأيك ألا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هذا الأمر! فقال لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عليه بالرأي، فطوي أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه والله لهو أحوج إلي مني إليه؛ فقلت له: إنك كلمته بالذي كلمته وهو ظاهر في المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك؛ فقال لي: فإني فاعل إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر.
قال: فنهضت من عنده، فخرجت ثم رجعت إلى ابن الزبير، فأخبرته بما كان من قولي وقوله، فسر بذلك، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثم خرجنا حتى أتينا منزل ابن الزبير، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فقلت: أخليكما؟ فقالا جميعًا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزبير قد أخذ بيده، فصافحه ورحب به، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعًا غير طويل.
فقال له المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ في أول منطقه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه لا خير في الإكثار من المنطق، ولا في التقصير عن الحاجة، إني قد جئتك لأبايعك على ألا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون في أول من تأذن له، وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك. فقال له ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه ؛ فقال: وشر غلماني أنت مبايعه على كتاب الله وسنة نبيه ، ما لي في هذا الأمر من الحظ ما ليس لأقصى الخلق منك؛ لا والله لا أبايعك أبدًا إلا على هذه الخصال.
قال عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزبير، فقلت له: اشتر منه دينه حتى ترى من رأيك؛ فقال له ابن الزبير: فإن لك ما سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث معه حتى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة؛ فقاتل في ذلك اليوم، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاءً، وأعظمهم غناءً. فلما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، نادى المختار: يا أهل الإسلام، إلي إلي! أنا ابن أبي عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين؛ إلي يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار. فحمي الناس يومئذ، وأبى ل وقاتل قتالًا حسنًا.
ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحو من ثلثمائة أحسين قتال قاتله أحدٌ من الناس، إن كان ليقاتل حتى يتبلد، ثم يجلس ويحيط به أصحابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشأم إلا ضاربهم حتى يكشفهم.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف محمد بن ثابط، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: تولى قتال أهل الشأم يوم تحريق الكعبة عبد الله بن مطيع وأنا والمختار، قال: فما كان فينا يومئذ رجلٌ حسن بلاءً من المختار.
قال: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشأم على موت يزيد بن معاوية بيوم قتالًا شديدًا، وذلك يوم الأحد لخمس عشرة لية مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وكان أهل الشأم قد رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة.
قال: وخرج ابن الزبير، فبايعه رجالٌ كثير على الموت؛ قال: فخرجت في عصابة معي أقاتل في جانب، والمختار في عصابة أخرى يقاتل في جميعةٍ من أهل اليمامة في جانب، وهم خوارج، وإنما قاتلوا ليدافعوا عن البيت، فهم في جانب، وعبد الله بن المطيع في جانب.
قال: فشد أهل الشأم علي، فحازوني في أصحابي حتى اجتمعت أنا والمختار وأصحابه في مكان واحد، فلم أكن أصنع شيئًا إلا صنع مثله، ولا يصنع شيئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد منه قط؛ قال: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشأم، فاضطروني وإياه في نحو من سبعين رجلًا من أهل الصبر إلى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل:
لا وألت نفس امرىءٍ يفر
قال: فخرج المختار، وخرجت معه، فقلت: ليخرج منكم إلي رجل فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إلى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إلى صاحبه فقتله، ثم صحنا بأصحابنا، وشددنا عليهم، فوالله لضربناهم حتى أخرجناهم من السكك كلها، ثم رجعنا إلى صاحبينا اللذين قتلنا. قال: فإذا الذي قتلت رجلٌ أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الذي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فقال لي المختار: تعلم والله إني لأظن قتيلينا هذين عبدين؛ ولو أن هذين قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هذان وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، ولا أخرج بعد يومي هذا لرجل أبدًا إلا لرجل أعرفه؛ فقلت له: وأنا والله لا أخرج إلا لرجل أعرفه.
وأقام المختار مع ابن الزبير حتى هلك يزيد بن معاوية. وانقضى الحصار، ورجع أهل الشأم إلى الشأم، واصطلح أهل الكوفة على عامر بن مسعود، بعد ما هلك يزيد يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام يرضونه، فلم يلبث عامر إلا شهرًا حتى بعث ببيعته وبيعة أهل الكوفة إلى ابن الزبير، وأقام المختار مع ابن الزبير خمسة أشهر بعد مهلك يزيد وأيامًا.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد ال ملك بن نوفل بن مساحق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: والله إني لمع عبد الله بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أمية بن خلف، ونحن نطوف بالبيت. إذ نظر ابن الزبير فإذا هو بالمختار. فقال لابن صفوان: انظر إليه؛ فوالله لهو أحذر من ذئب قد أطافت به السباع؛ قال: فمضى ومضينا معه. فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فقال لابن صفوان: ما الذي ذكرني به ابن الزبير؟ قال: فكتمه، وقال: لم يذكرك إلا بخير؛ بلى ورب هذه البنية إن كنت لمن شأنكما، أما والله ليخطن في أثري أو لأقدنها عليه سعرًا. فأقام معه خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحدٌ من الكوفة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم.
قال أبو مخنف: فحدثني عطية بن الحارث أبو روق الهمداني؛ أن هانىء ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله وحال الناس بالكوفة وهيئتهم؛ فأخبره عنهم بصلاح واتساق على طاعة ابن الزبير، إلا أن طائفة من الناس إليهم عدد أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يومٍ ما؛ فقال له المختار: أنا أبو إسحاق أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مر الحق. وأنفي بهم ركبان الباطل. وأقتل بهم كل جبار عنيد؛ فقال له هانىء بن أبي حية: ويحك يابن أبي عبيد! إن استطت ألا توضع في الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الفتنة أقرب شيء أجلًا، وأسوأ الناس عملًا؛ فقال له المختار: إني لا أدعو إلى الفتنة إنما أدعو إلى الهدى والجماعة، ثم وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الكوفة حتى إذا كان بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان - وكان من أشجع العرب، وكان ناسكًا - فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار؛ ثم قال لسلمة بن مرثد: حدثني عن الناس بالكوفة؛ قال: هم كغنمٍ ضل راعيها؛ فقال المختار بن أبي عبيد: أنا الذي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها؛ فقال له سلمة: اتق الله واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزيٌّ بعملك إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، ثم افترقا. وأقبل المختار حتى انتهى إلى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فيه، وادهن دهنًا يسيرًا، ولبس ثيابه واعتم. وتقلد سيفه، ثم ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة؛ لا يمر بمجلس إلا سلم على أهله. وقال: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم ما تحبون، وأقبل حتى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثم أحدًا، ووجد الناس قد راحوا إلى الجمعة، فأقبل حتى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عمرو البدي من كندة، فسلم عليه، ثم قال: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عمرو على رأي حسن، لن يدع الله لك معه مأثمًا إلا غفره، ولا ذنبًا إلا ستره - قال: وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبًا لعلي رضي الله عنه، وكان لا يصبر عن الشراب - فلما قال له المختار هذا القول قال له عبيدة: بشرك الله بخير إنك قد بشرتنا، فهل أنت مفسرٌ لنا؟ قال: نعم، فالقني في الرحل الليلة ثم مضى.
قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عمرو قال: قال لي المختار هذه المقالة، ثم قال لي: القني في الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هذا عني أنهم قومٌ أخذ الله ميثاقهم على طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثم مضى فقال لي: كيف الطريق إلى بني هند؟ فقلت له: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وقد أسرج لي فركبته؛ قال: ومضيت معه إلى بني هند، فقال: دلني على منزل إسماعيل بن كثير. قال: فمضيت به إلى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب به، وصافحه وبشره، وقال له: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عمرو فإني قد أتيتكم بكل ما تحبون؛ قال: ثم مضى ومضينا معه حتى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثم مضى إلى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد واستشرف له الناس، وقالوا: هذا المختار قد قدم، فقام المختار إلى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حتى أقيمت الصلاة، فصلى مع الناس ثم ركد إلى سارية أخرى فصلى ما بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن المختار مر على حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فقال: أبشروا، فإني قد قدمت عليكم بما يسركم، ومضى حتى نزل داره، وهي الدار التي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إليها وإليه فيها.
قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيد بن عمرو، وإسماعيل بن كثير من بني هند، قالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عليه وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا له: إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرًا حتى يخرج؛ قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أما بعد، فإن المهدي ابن الوصي، محمد بن علي، بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا ومنتخبًا وأميرًا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.
قال أبو مخنف: قال فضيل بن خديج: فحدثني عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق الله إجابةً وضربًا على يده، وبايعاه. قال: وأقبل المختار يبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد، فيقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء؛ إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو عشمة من العشم وحفشٌ بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علمٌ بالحروب؛ إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم. إني إنا أعمل على مثال قد مثل لي، وأمرٍ قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا؛ فإني لكم بكل ما تأملون خير زعيم. قال: فوالله ما زال بهذا القول ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة، وكانوا يختلفون إليه ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يومئذ ورؤساؤهم مع سليمان بن صرد، وهو شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون به أحدًا؛ إلا أن المختار قد استمال منهم طائفةً ليسوا بالكثير، فسليمان بن صرد أثقل خلق الله على المختار، وقد اجتمع لابن صرد يومئذ أمره، وهو يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، ولا أن يهيج أمرًا حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان، رجاء أن يستجمع له أمر الشيعة، فيكون أقوى له على درك ما يطلب، فلما خرج سليمان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربيع ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله ابن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله: إن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد، إن سليمان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وقد خرج عن بلادكم؛ وإن المختار إنما يريد أن يثب عليكم في مصركم، فسيروا إليه فأوثقوه في الحديد، وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إليه في الناس، فما شعر بشيء حتى أحاطوا به وبداره فاستخرجوه، فلما رأى جماعتهم قال: ما بالكم! فوالله بعد ما ظفرت أكفكم! قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله لعبد الله بن يزيد: شده كتافًا، ومشه حافيًا؛ فقال له عبد الله بن يزيد: سبحان الله! ما كنت لأمشيه ولا لأحفيه ولا كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا عدواةً ولا حربًا، وإنما أخذناه على الظن. فقال له إبراهيم بن محمد: ليس بعشك فادرجي، ما أنت وما يبلغنا عنك يابن أبي عبيد! فقال له: ما الذي بلغك عني إلا باطلٌ، وأعوذ بالله من غشٍّ كغش أبيك وجدك! قال: قال فضيل: فوالله إني لأنظر إليه حين أخرج وأسمع هذا القول حين قال له، غير أني لا أدري أسمعه منه إبراهيم أم لم يسمعه؛ فسكت حين تكلم به؛ قال: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فقال إبرهيم لعبد الله بن يزيد: ألا تشد عليه القيود؟ فقال: كفى له بالسجن قيدًا.
قال أبو مخنف: وأما يحيى بن أبي عيسى فحدثني أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدًا؛ قال: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهندٍ بتار، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
قال: فكان إذا أتيناه وهو في السجن ردد علينا هذا القول حتى خرج منه؛ قال: وكان يتشجع لأصحابه بعد ما خرج ابن صرد.
ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت قد مال حيطانها مما رميت به من حجارة المجانيق، فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إبراهيم بن موسى حدثه عن عكرمة بن خالد، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه، وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إلى موضع، وجعل الركن الأسود عنده في تابوت في سرقةٍ من حرير، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت، حتى أعادها لما أعاد بناءه.
قال محمد بن عمر: وحدثني معقل بن عبد الله، عن عطاء؛ قال: رأيت ابن الزبير هدم البيت كله حتى وضعه بالأرض.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير.
وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله ابن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال فيما ذكر عنه: أنا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)