وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة:
ولو شئت نجتني كميتٌ طمرةٌ ** ولم أحمل النعماء لابن شعوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم ** لدى غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعى يال غالبٍ ** وأدفعهم عني بركن صليب
فبكى ولا ترعى مقالة عاذلٍ ** ولا تسأمى من عبرةٍ ونجيب
أباك وإخوانًا له قد تتابعوا ** وحق لهم من عبرةٍ بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني ** قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرمًا نجيبًا ومصعبًا ** وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ** لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ** لهم خدبٌ من مغبطٍ وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم ** كفيًا ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ ** ولست لزورٍ قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ** نجيبًا وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرًا وعتبة وابنه ** وشيبة والحجاج وابن حبيب!
غداة دعا العاصي عليا فراعه ** بضربة عضبٍ بله بخضيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي ** لألفيت يوم النعف غير مجيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ** ضباعٌ عليه أو ضراء كليب
وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:
وإنك لو عاينت ما كان منهم ** لأبت بقلبٍ ما بقيت نخيب
لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ ** عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يومًا ببدر كمثله ** على سابحٍ ذي ميعة وشبيب
قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيًا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هندًا:
أشرت لكاع وكان عادتها ** لؤمًا إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معها ** هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ ** في القوم مقتبةً على بكر
بكرٍ ثفال لا حراك به ** لا عن معاتبةٍ ولا زجر
وعصاك استك تتقين بها ** دقى العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها ** من دأبها نصا على القتر
ظلت تداويها زميلتها ** بالماء تنضحه وبالسدر
أخرجت ثائرةً مبادرةً ** بأبيك وابنك يوم ذي بدر
وبعمك المستوه في ردعٍ ** وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشةً أتيت بها ** يا هند، ويحك سبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا ترةٍ ** منا ظفرت بها ولا نصر
زعم الولائد أنها ولدت ** ولدًا صغيرًا كان من عهر
قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم - فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله ص: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ص: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ص: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك! فقال: اعل هبل! اعل هبل! فقال رسول الله ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلًا لم آمر بها ولم تسؤني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله ص: إيته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمدًا. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت.
وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة؛ وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب، وهو يضرب في شدق حمزة يزج الرمح؛ وهو يقول ذق عقق! فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بأبن عمه كما ترون لحمًا! فقال: اكتمها، فإنها كانت زلة؛ فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام المقبل، فقال رسول الله ص لرجل من أصحابه: قل نعم هي بيننا وبينك موعد.
ثم بعث رسول الله ص علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون! فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل، وامتطوا الإبل؛ فإنهم يريدون مكة؛ وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل؛ فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؛ فلما اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة؛ وقد كان رسول الله ص قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني. قال عليٌ عليه السلام: فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح؛ ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله ص لما بي من الفرح؛ إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة.
وفرغ الناس لقتلاهم، فقال رسول الله ص - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخي بني النجار، أن رسول الله ص، قال: من رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ - وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج - أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل؛ فنظر فوجده جريحًا في القتلى به رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله ص أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته؛ وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ص وفيكم عينٌ تطرف. ثم لم أبرح حتى مات؛ فجئت رسول الله فأخبرته خبره. وخرج رسول الله ص - فيما بلغني - يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن رسول الله ص حين رأى بحمزة ما رأى، قال: لو لا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع وحواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله ص وغيظه على ما فعل بعمه، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلةً لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أخبرني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال ابن حميد، قال سلمة: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله ص وقول أصحابه: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين "، إلى آخر السورة، فعفا رسول الله ص وصبر ونهى عن المثلة.
قال ابن إسحاق: وأقبلت - فيما بلغني - صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة - وكان أخاها لأبيها وأمها - فقال رسول الله ص لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال لها: يا أمه؛ إن رسول الله ص يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله قليل! فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير رسول الله ص فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه؛ واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله ص به فدفن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فزعم بعض آل عبد الله بن جحش - وكان لأميمة بنت عبد المطلب خاله حمزة؛ وكان قد مثل به كما مثل بحمزة؛ إلا أنه لم يبقر عن كبده - أن رسول الله ص دفنه مع حمزة في قبره، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما خرج رسول الله ص إلى أحد وقع حسيل بن جابر - وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان - وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه؛ وهما شيخان كبيران: لا أبا لك! ما تنتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار؛ إنما نحن هامة اليوم أو غد؛ أفلا نأخذ أسيافنا، ثم نلحق برسول الله ص، لعل الله عز وجل يرزقنا شهادة مع رسول الله ص! فأخذا أسيافهما، ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما؛ فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر، اليمان، فاختلف عليه أسياف المسليمن فقتلوه؛ ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي! قالوا: والله إن عرفناه.
وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين! فأراد رسول الله ص أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسليمن، فزادته عند رسول الله ص خيرًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رجلًا منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد، فأتى به إلى دار قومه وهو يموت؛ فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولن من الرجال والنساء: أبشر يا بن حاطب بالجنة، قال: وكان حاطب شيخًا قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فقال: بأي شيء، تبشرونه، أبجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني به! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجلٌ أتى لا يدرى من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله ص يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار؛ فلما كان يوم أحد، قاتل قتالًا شديدًا، فقتل هو وحده ثمانيةً من المشركين أو تسعة، وكان شهمًا شجاعًا ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال: فجعل رجالٌ من المسلمين يقولن: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر! قال: بم أبشر! والله إن قاتلت إلا على أحساب قومي؛ ولولا ذلك ما قاتلت؛ فلما اشتدت عليه جراحته، أخذ سهمًا من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات؛ فأخبر رسول الله ص، فقال: أشهد أنى رسول الله حقًا! وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق اليهودي، وكان أحد بني ثعلبة ابن الفطيون، لما كان ذلك اليوم قال: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌ. قالوا: إن اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته. وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم غدا إلى رسول الله ص فقاتل معه حتى قتل؛ فقال رسول الله ص - فيما بلغني: مخيريق خير يهود.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وقد احتمل ناسٌ من المسلمين قتلاهم إلى المدينة، فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله ص عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة، أن رسول الله ص قال يومئذ حين أمر بدفن القتلى: انظروا عمرو بين الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد. قال: فلما احتفر معاوية القناة أخرجا وهما يثنيان كأنما دفنا بالأمس.
قال: ثم انصرف رسول الله ص راجعًا إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش - كما ذكر لي - فنعى لها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له؛ ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله ص: إن زوج المرأة منها لبمكان؛ لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها.
قال: ومر رسول الله ص بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله ص فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله ص بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله ص بأحد؛ فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ص؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان؛ هو بحمد الله كما تحبين؛ قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جللٌ! قال أبو جعفر: فلما انتهى رسول الله ص إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، وناولها عليٌ عليه السلام سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه؛ فوالله لقد صدقني اليوم. فقال رسول الله ص: لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وزعموا أن علي بن أبي طالب حين أعطى فاطمة عليهما السلام سيفه قال:
أقاطم هاك السيف غير ذميم ** فلست برعديدٍ ولا بمليم
لعمري لقد قاتلت في حب أحمدٍ ** وطاعة ربٍ بالعباد رحيم
وسيفي بكفي كالشهاب أهزه ** أجذ به من عاتقٍ وصميم
فما زلت حتى فض ربي جموعهم ** وحتى شفينا نفس كل حليم
وقال أبو دجانة حين أخذ السيف من يد رسول الله ص فقاتل به قتالًا شديدًا - وكان يقول: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولولت؛ فإذا امرأة؛ فأكرمت سيف رسول الله ص أن أضرب به امرأة - وقال أبو دجانة:
أن الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول ** أضرب بسيف الله والرسول
غزوة حمراء الأسد
وكان رجوع رسول الله ص إلى المدينة يوم السبت؛ وذلك يوم الوقعة بأحد؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، قال: كان يوم أحد يوم السبت؛ للنصف من شوال؛ فلما كان الغد من يوم أحد - وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال - أذن مؤذن رسول الله ص في الناس بطلب العدو؛ وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني؛ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله ص على نفسي؛ فتخلف على أخواتك. فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله ص، فخرج معه، وإنما خرج رسول الله ص مرهبًا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلًا من أصحاب رسول الله ص من بني عبد الأشهل كان شهد أحدًا، قال: شهدت رسول الله ص أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين؛ فلما أذن مؤذن رسول الله صص بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ص؛ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل؛ فخرجنا مع رسول الله ص - وكنت أيسر جرحًا منه - فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله ص، حتى انتهى إلى حمراء الأسد؛ وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثًا: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
وقد مر به - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - معبدٌ الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله ص بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئًا كان بها - ومعبد يومئذ مشرك - فقال: يا محمد؛ أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك؛ ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله ص بحمراء الأسد؛ حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ص وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؛ لنكرن على بقيتهم؛ فلفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدًا، قال ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط يتحرمون عليكم تحرمًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول! قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتًا من شعر، قال: وماذا قلت؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسدٍ كرام لا تنابلةٍ ** عند اللقاء ولا خرقٍ معازيل
فظلت عدوًا أظن الأرض مائلةً ** لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائكم ** إذا تغطمطت البطحاء بالجيل!
إني نذيرٌ لأهل البسل ضاحيةً ** لكل ذي إربةٍ منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشٍ قنابله ** وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر به ركبٌ من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله ص وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله ص وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل! قال أبو جعفر: ثم انصرف رسول الله ص إلى المدينة بعد الثالثة؛ فزعم بعض أهل الأخبار أن رسول الله ص ظفر في وجهه إلى حمراء الأسد بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبي عزة الجمحي؛ وكان رسول الله ص خلف على المدينة حين خرج إلى حمراء الأسد ابن أم مكتوم.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث من الهجرة - ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان.
وفيها علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما. وقيل: لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين إلا خمسون ليلة.
وفيها حملت - فيما قيل - جميلة بنت عبد الله بن أبي بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال.
ذكر الأحداث التي كانت في سنة أربع من الهجرة
غزوة الرجيع
ثم دخلت السنة الرابعة من الهجرة، فكان فيها غزوة الرجيع في صفر. وكان من أمرها ما حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ قال: قدم على رسول الله ص بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا له: يا رسول الله؛ إن فينا إسلامًا وخيرًا؛ فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث رسول الله ص معهم نفرًا ستة من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخا بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفًا لبنى ظفر من بلى.
وأمر رسول الله ص على القوم مرثد بن أبي مرثد، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجبع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلًا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف، قد غشوهم.
فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثلبت بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا ولا عقدًا أبدًا؛ فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم، فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل - وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه - ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة؛ فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر، فمنعته الدبر. فلما حالت بينهم وبينه، قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي. فاحتمل عاصمًا فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهدًا ألا يمسه مشركٌ ولا يمس مشركًا أبدًا، تنجسًا منه.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه، أن الدبر منعته: عجبا، لحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه، والذي قصه غيره من ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون العمري، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عمرو - أو عمر - بن أسيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله ص بعث عشرة رهط، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فبعثوا إليهم مائة رجل راميًا؛ فوجدوا مأكلهم حيث أكلوا التمر، فقالوا: هذه نوى يثرب، ثم اتبعوا آثارهم؛ حتى إذا أحس بهم عاصمٌ وأصحابه التجئوا إلى جبل، فأحاط بهم ألآخرون، فاستنزلوهم، وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم أخبر نبيك عنا. ونزل إليهم ابن الدثنة البياضي، وخبيب، ورجل آخر، فأطلق القوم أوتار قسيهم، ثم أوثقوهم، فخرجوا رجلًا من الثلاثة، فقال: هذا والله أول الغدر؛ والله لا أتبعكم. فضربوه فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة إلى مكة، فدفعوا خبيبًا إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد؛ فبينما خبيب عند بنات الحارث؛ إذ استعار من إحدى بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل، فما راع المرأة - ولها صبي يدرج - إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه، والموسى في يده؛ فصاحت المرأة؛ فقال خبيب: أتخشين أني أقتله! إن الغدر ليس من شأننا. قال: فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب؛ لقد رأيته وما بمكة من ثمرة؛ وإن في يده لقطفًا من عنب يأكله؛ إن كان إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا.
وبعث حي من قريش إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء، وقد كان لعاصم فيهم آثار بأحد؛ فبعث الله عليه دبرًا، فحمت لحمه، فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئًا، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذروني أصل ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين: فجرت سنة لمن قتل صبرًا أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزع لزدت، وما أبالي:
على أي شقٍ كان لله مصرعي
ثم قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع
اللهم أحصهم عددًا، وخذهم بددًا.
ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف؛ فضربه فقتله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)