يعتبر اقتصاد جمهورية الصين ثاني أكبر اقتصاد بعد اقتصاد الولايات المتحدة بناتج إجمالي يقدر بـ 8.8 تريليون دولار (2009)، وهو ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد اليابان بناتج محلي بسيط يقدر بـ 4.91 تريليون دولار (2009)، وتعتبر الصين بذلك أسرع اقتصاد كبير نامٍ، والأسرع في الثلاثين سنة الماضية.
هذه المكانة الاقتصادية التي تبوأتها الصين تدفعنا للتساؤل, كيف وصلت الدولة إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى, بل كيف سارعت وتيرة اقتصادها بحيث تعدّى اقتصاد العديد من دول العالم, بل معظمها, بالتأكيد وراء الأمر سرّ خطير, وفي سبيل كشف هذا السر فسأتوقف عند بعض الحقائق التي يعرفها الكثير منّا, والتي يمكن أن نطلق عليها "صدمات"، فهي في الحقيقة ستصدم البعض من بني قومنا.
ينادى كثير من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا بضرورة تعلم اللغة الانجليزية وتعميم تعليمها حتى على النشء لأنها لغة التقدم والحضارة فجاءت الصدمة من الصين، فالصينيون لا يعرفون الانجليزية، إلا قليل منهم، ولم يتجه بعضهم لتعلمها في الآونة الأخيرة إلا لضرورة التبادل التجاري بينهم وبين بعض من يفد إليهم من التجار، وما حققوه من تقدم تقني فهو بفضل الله الذي ألهمهم الجد والاجتهاد والمثابرة والاعتماد على الذات والثقة بالنفس والاستفادة من تجارب الآخرين المفيدة وغيرها، لا ما يظنه البعض من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا أن التقدم التقني والحضارة هو في تقليد الغرب التقليد الأعمى والتحدث بألسنتهم فتأتيك الحضارة تبعًا ويأتيك التقدم التقني بالبركة، فالبعض منا يظن أن مفتاح التقدم التقني هو تعلم اللغة الانجليزية أو الفرنسية، ونسوا أو تناسوا أن بعض الدول المتقدمة صناعياً - منها الصين - قد بلغت ما بلغت من تقدم تقني وهي لا ترعى للغات الأجنبية الأخرى الأهمية الكبرى كما هو الحال عندنا، فلو ذهبت إلى سوق من أسواقنا أو إلى مطعم لوجدت أن غالبية الشباب وغيرهم لا يتحدثون مع البائع إلا باللغة الانجليزية، مع أن البائع هو الذي جاء محتاجًا إلينا، وهو الذي يحتاج إلى أن يخاطبنا بلغتنا - ومنهم من يخاطبنا بلغتنا - ويفاجأ أن منّا من يرد عليه باللغة الانجليزية، وما ذاك إلا للهزيمة النفسية التي استقرت في قلوب البعض منّا، ظانّين أنهم بالتحدث بالانجليزية سيظهرون بمظهر المتحضر وسيبلغون التقدم التقني الذي بلغته سائر الأمم.الصدمة الأولى
فأغلب أمم الأرض تحرص على المحافظة على لغتها الأم، فمن طاف في بلاد أوروبا وغيرها وجد كيف أن أغلب دول أوروبا تعتز بلغتها الأم وتحافظ عليها وتحمي النشء من التأثر باللغات الأخرى (1)، فتجدها مثلاً تلزم الشركات - التي تورد البضائع المختلفة إليها - بوضع نشرات تعريفية للبضائع بلغتها، حتى لا يحتاج مواطنوها لغير لغتهم، وتقوم بعملية "دبلجة" المواد الإعلامية والأفلام الأجنبية التي يحبها الصغار وغيرهم حتى لا تغير من لغتهم الأم أو عاداتهم وتقاليدهم، وغير ذلك من إجراءات، حتى إنك لتجد رجل الشارع والعامي منهم يعتز بلغته ويرفض أن يتحدث بغيرها.
نحن كمسلمين ننتمي إلى أمة عظيمة، أمة الإسلام التي لها تاريخها وحضارتها المجيدة، كذلك مطالبون في وقتنا الحاضر - الذي نجابه به هجمة شرسة على خصائصنا ومبادئنا - بأن نحافظ على لغتنا العربية لغة القرآن، لأنها من ضرورات فهم القرآن وفهم هذا الدين العظيم الذي به سعادتنا في الدنيا والآخرة (2)، وإن كان هناك من ضرورة أو حاجة لتعلم اللغات الأخرى فذلك يقوم به المختصون فقط، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – زيد بن ثابت بتعلم العبرية حتى يخاطب اليهود ويأمن مكرهم، لا أن نعمم تعليم اللغة الانجليزية أو غيرها على كل الناس بحجة التقدم والحضارة، بل الحضارة والتقدم بعد التوكل على الله والاعتماد عليه يكون بالجد والاجتهاد والمثابرة والثقة بالنفس كما حدث في الصين وغيرها من بلاد لم يكن لها ذكر بين الدول والأمم قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، وهي الآن تنافس الدول المتقدمة، فاللغة الأجنبية هي وإن أضافت شيئًا إلى رصيد المعرفة لدى الأمم ولكن لا يكون ذلك على حساب كيان الأمم وخصائصها التي تتمثل في الدين واللغة والعادات والتقاليد وغيرها، فطريق التقدم والازدهار بعد التوكل على الله والاعتماد عليه يبدأ بالجد والاجتهاد والمثابرة والثقة بالنفس، لا بالتفلّت من ديننا ولغتنا العربية.
ونحن مع وعد من الله تعالى بالعون والبركة والتمكين في الأرض إن نحن آمنّا به وعملنا صالحاً كما قال تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55)، وقال تعالى أيضًا: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (الأعراف:96). "ولا ننس أن السبب المادي ممّا يدعو إليه الإيمان بالله والتوكل عليه"، فهيا إلى الجد والاجتهاد والثقة بالنفس بعد التوكل على الله تعالى، ولنعتز بمبادئنا كمسلمين.
ينادي بعض منظري الدول العربية والإسلامية بضرورة الحد من النسل، لأن كثرة النسل عقبة تجابه الدول في طريق التقدم والازدهار، متبعين بذلك آراء بعض النظريات الغربية (نظرية مالتوس)، فجاءت الصدمة والمفاجأة من الصين، حيث إن بعض التحليلات الاستراتيجية تشير إلى أن قوة الصين الحالية من أبرز أسبابها الكثافة السكانية لدى الصين (ابحث إن شئت في أي محرك بحث على الشبكة عن كلمة "قوة الصين")، فقد نادت بعض الدول العربية والإسلامية بضرورة تحديد النسل، ورفعت شعار "أسرة صغيرة = أسرة سعيدة"، وخالفت بذلك شريعة ربها وهدي نبيها – صلى الله عليه وسلم – الذي نادى بتكثير النسل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» رواه أبو داود. وعندما نادى علماء الشريعة بضرورة تكثير نسل المسلمين لأن في التكثير قوة، فكان بعض أتباع الفكر الغربي يستهزئون، فجاءت الصدمة من الصين، فهي مثال حي يثبت أن تكثير النسل قوة (3).الصدمة الثانية
فإن في كثرة عدد السكان إيجابيات وفوائد كثيرة، منها: وفرة في العمالة، فهذا يعمل في الزراعة وهذا في الصناعة وهذا في التجارة... الخ، إلا أن بعض النظريات الغربية ترى أن كثرة العدد قد يكون عقبة في طريق التقدم والازدهار، فجاء الواقع المحسوس من الصين على عكس هذه النظرية، حتى إن بعض الدول الغربية وغيرها تسعى جاهدة الآن إلى زيادة خصوبة مواطنيها، وبالتالي زيادة عدد السكان، وتعتبر ذلك من القوة الاستراتيجية (والتي لا يمتلك المسلمون غيرها في وقتنا الحاضر، وهذا من بركة اتباع شرع الله تعالى)، بل إن دولة إسرائيل تعتقد أنها تواجه قنبلة سكانية (ديموغرافية) فلسطينية موقوتة، وذلك لأن معدل النمو الفلسطيني في فلسطين - والقدس بالذات - يفوق معدل النمو اليهودي مع ما يحدث من تقتيل وتهجير للفلسطينيين يقابله هجرة لليهود إلى فلسطين بحوافز وتشجيع، فجاء الواقع المحسوس يؤيد شريعة الرحمن ويثبت خطأ شريعة الشيطان !!
وهكذا الشأن، نرى – غالباً – اختلاف حكم شريعة الله على الأمور والقضايا الدنيوية الحساسة مع حكم ونظرة أهل الدنيا الماديين، كما قال تعالى: "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" (الروم:7) (4).
وتمر الأيام والسّنون ويظهر للناس صحة ما دعت إليه شريعة الرحمن وخطأ ما نادت به مذاهب الشيطان وتلك النظرة المادية التي فُسرت به الأشياء، ولكنه الجهل والعناد والاستكبار، قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ" (فصلت: 53-54)، فالله تعالى يريد من عباده المؤمنين كثرة النسل لحكم عظيمة، فأمرهم بالزواج ورغّبهم فيه وتكفل لهم برزقهم ورزق أولادهم كما جاءت بذلك آيات كثيرة كقوله تعالى: "وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (النور: 32)، وقوله تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا" (الإسراء: 31)، فلا يصدنّا عن ذلك من يريدنا أن نتبع أهواء الذين لايعلمون، قال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (الجاثية: 18-20)، فلا يخدعنا من لايريد بالمسلمين الخير فيخوفنا من كثرة النسل، فإن الخير كل الخير في اتباع شرع ربنا الذي يأمرنا بتكثير النسل، وعليه هو رزق العباد، ولنا في الصين دلالة وإشارة.
(1) قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًا بينا".بتصرف من اقتضاء الصراط 207.
(2) قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". اقتضاء الصراط 207.
(3) علماً بأن الصين تسعى لتحديد النسل وتثبيته، إلا أن الحقيقة الملموسة أن كثافة سكان الصين من أسباب قوتها.
(4) قال سيد قطب رحمه الله عند تفسيره لآية سورة الروم: "لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها، لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة؛ ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشئون، فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال". انتهى بتصرف يسير.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)