« أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول حظّ من عاجله، وأبين في الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عني مؤونة استزادتى. » وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذي الرئاستين:
« أمّا بعد، فإني وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأي لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة في عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى في أمركم نصيبا والسلام. » فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين:
« أمور قد كان الرأي أخبر عن غيبها. ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا. » ثم أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتى ورد الريّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة
مبادرات من الأمين والمأمون
وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره عليّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم في سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها في عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثم من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.
وعقد محمد الأمين لعليّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها:
نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته.
وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما في الكتاب وتكلّم بمثله. ثم تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ في القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد في الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال في آخر كلامه:
« إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم. » وانصرف الناس.
شخوص علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون
وفي هذه السنة شخص علي بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الريّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ عليّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام عليّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص واعد السير حتى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام إلى عليّ بن عيسى. ثم عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير في أصحابه ووجّه معه ألفي ألف درهم إلى عليّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار عليّ بن عيسى من همذان إلى الريّ قبل ورد عبد الرحمن بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين في أقلّ من أربعة آلاف.
وكان استأمن إلى عليّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أيّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع.
قال: « فأنت من جندي؟ » فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا في محاربته ونفورا منه.
وأقبل عليّ بن عيسى في جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن عليّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس.
قال أحمد بن هشام، وكان إذا ذاك على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر عليّ بن عيسى:
« هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية. » فقصد قصد القلب في سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم.
مقتل علي بن عيسى بيميني طاهر
قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر:
« ألا تذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟ »
فقال: « بلى. » فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت:
« الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم. » فقال عليّ بن عيسى:
« لك ذلك. » فقلت: « يا عليّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك. » فصاح عليّ بن عيسى
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« يا أهل خراسان من جاء به، فله ألف درهم. » قال: وكان معي قوم بخارية فزنّوه، فقالوا:
« نقتلك ونأخذ مالك. » وبرز من عسكر عليّ بن عيسى العباس بن الليث مولى المهدي، فشدّ عليه طاهر وجمع يديه على مقبض السيف فضربه فصرعه. وشدّ داود سياه على عليّ بن عيسى، فصرعه وهو لا يعرفه. فقال داود:
« تازى ايشان كشتم. » فعرفه رجل يعرف بطاهر الصغير بن الناجي فقال:
« أنت عليّ بن عيسى؟ » فقال: « نعم أنا عليّ بن عيسى. » وظنّ أنّه يهاب فلا يقدم عليه، فشدّ عليه فذبحه بسيفه وكانت ضربة طاهر هي الفتح فسمّى يومئذ: ذا اليمينين، لأنّه أخذ السيف بيديه جميعا.
التسليم على المأمون بالخلافة
ولمّا بشّر طاهر بن الحسين بقتل عليّ بن عيسى أعتق من كان بحضرته من غلمانه شكرا ثم جاءوا بعليّ بن عيسى وقد شدّ الأعوان يديه إلى رجليه وحمل على خشبة مدهق كما يحمل الحمار الميّت فأمر به فلفّ في لبد وألقى في بئر.
وكتب بالبشارة إلى ذي الرئاستين فسارت الخريطة، وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد ووردت عليهم يوم الأحد. ولمّا ورد الكتاب بالفتح على ذي الرئاستين فضّه فإذا فيه:
« أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنأك فداءك. كتابي إليك، ورأس عليّ بن عيسى بين يديّ، وخاتمه في اصبعى، والحمد لله ربّ العالمين. » فدخل به على المأمون حتى قرأه، فأمر بإحضار أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس فدخلوا، فسلّموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس عليّ يوم الثلاثاء وطيف به في خراسان.
فحكى عن واحد أنّه لمّا جاء نعيّ عليّ بن عيسى إلى محمد بن زبيدة، كان في وقته ذلك على الشطّ يصيد السمك مع خادمه كوثر، فقال للذي أخبره:
« ويلك دعني فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا بعد ما صدت شيئا. » ولمّا نهض من مجلسه ذلك، بعث إلى الفضل ومحمد فأنفذ إلى وكيل المأمون ببغداد وقيّمه في أهله وولده فأخذا منه المائة ألف الدرهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلّاته، ووجّه عبد الرحمن بن جبله الأبناوى بالعدة والقوّة فنزل همذان.
ذكر الحيلة التي احتال بها ذو الرئاستين حتى اختار محمد لحربه علي بن عيسى دون غيره
كانت كتب ذي الرئاستين ترد إلى دسيسة الذي كان الفضل بن الربيع يشاوره في أمره: إن أبي القوم إلّا عزمة الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعليّ بن عيسى. وإنّما خصّ عليّا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه وأنّ العامّة ترى حربه.
فلمّا شاور الفضل ذلك الرجل الذي كان يشاوره قال عليّ بن عيسى:
« إن فعل فلم ترمهم بمثله في بعد صوته وسخائه ومكانه من بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم. ثم هو شيخ الدعوة. » فاجتمعوا على توجيه عليّ، فكان من أمره ما كان.
وروى أنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون أشار عليه نصحاؤه أن يكاتبه ويسأله القدوم عليه، فإنّ ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته واجابته فكتب إليه:
كتاب الأمين إلى المأمون
« من عبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ردّا في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك وما يؤمّل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، فكّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك بها وإقرارك على ما صيّر إليك منها.
فرجا أمير المؤمنين ألّا يدخل عليه وكف في دينه ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إيّاك فيما يعود على المسلمين نفعه ويصل إلى عامّتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أنّ مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور وأصلح للجنود وأدّر للفيء وأردّ على العامّة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك مغيّبا عن أمير المؤمنين وما يحبّ الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولى ابنه موسى فيما يقلّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد أثر وأنفذ بصيرة، فإنّك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح لأهل ملّته وذمّته، والسلام. » ودفع الكتاب إلى العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ - وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى صالح صاحب المصلّى، وأمرهم أن يخرجوا إلى المأمون وألّا يدعوا وجها من الرفق، إلّا بلغوه وسهّلوا الأمر عليه، فيه وحمل معهم من الألطاف والهدايا والبرّ شيئا كثيرا وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة.
فتوجّهوا بكتابه، فلمّا وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث معهم من الأموال والهدايا. ثم تكلّم العبّاس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
كلام العباس عند المأمون
« أيّها الأمير، إنّ أخاك قد تحمّل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبءا جليلا، وقد صدقت نيّته في الخير فاعتوره الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأمّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك في برّه اتهاما لنظرك له، ولا نحضّك على طاعته تخوّفا لخلافك عليه وفي قدومك عليه أنس عظيم له، وصلاح لدولته وسلطانه. فأجب أيّها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعان بك من أمره، فإنّ في ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وعزّ الخلافة، عزم الله على الرشد في أموره وجعل له الخيرة في عواقب رأيه. » وتكلّم عيسى بن جعفر بكلام قريب المعنى من هذا الكلام، وكذلك محمد بن عيسى بن نهيك وصالح صاحب المصلّى. فلمّا قضوا كلامهم وسكتوا، تكلّم المأمون فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
كلام المأمون
« إنّكم عرّفتمونى من حقّ أمير المؤمنين - أبقاه الله - ما لا أنكره، ودعوتموني من البرّ والإحسان والمؤازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا بالطاعة لأمير المؤمنين خليق وعلى المسارعة إلى ما سرّه ووافقه حريص، وفي الرؤية تبيان الرأي وفي إعمال الرأي يصحّ الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخّر عنه تثبّطا ومدافعة، ولا أتقدّم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوّه، شديدة شوكته، فإن أهملت أمره لم آمن دخول المكروه والضرر على الجند والرعيّة، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحبّ من معونة أمير المؤمنين وإيثار طاعته، وانصرفوا حتى أنظر في أمري ويصحّ الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. »
ذكر مشاورة المأمون أصحابه وما أشار به الفضل بن سهل
ولمّا انصرف القوم تعاظم المأمون ما ورد عليه وأكبره ودعا الفضل بن سهل وقال:
« ما عندك من الرأي؟ » قال: « أرى أن تتمسّك بموضعك، وألّا تمكّن من نفسك، ولا تجعل عليك سبيلا وأنت تجد من ذلك بدّا. »
قال: « وكيف يمكنني التمسّك بموضعي مع كثرة جنود محمد وعظم خزائنه وكثرة أمواله، مع ما فرّق في أهل بغداد من صلاته، وإنّما الناس مائلون مع الذهب والفضّة، منقادون لهما، لا يرغبون في وفاء بعهد ولا أمانة. » فقال الفضل:
« إذا وقعت التهمة حقّ الاحتراس. وأنا متخوّف عليك من محمد ومن شرهه إلى ما في يديك، ولأن يكون في جندك وعزّك مقيما بين ظهرانيّ أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر حددت له وناجزته وكايدته فإمّا أعطاك الله الظفر عليه وإمّا متّ محافظا متكرّما غير ملق يديك ولا ممكّن عدوّك من الاحتكام في دينك. » قال المأمون:
« لو كان أتانى ذلك وأنا في قوّة من أمري وصلاح من الأمور، لكان خطبه يسيرا والاحتيال في دفعه ممكنا ولكنّه أتانى بعد انتشار خراسان واضطراب عامرها وغامرها ومفارقة جبغويه الطاعة والتواء خاقان وتهيّؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة وما لي بواحدة من هذه يد وأنا أعلم أنّ محمدا لم يطلب قدومى إلّا لشرّ يريده بي وما أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به فبالحرى أن آمن على نفسي وامتنع ممّن أراد قهري والغدر بي. »
فقال له الفضل:
« أيّها الأمير إنّ عاقبة الغدر شديدة ومغبّة الظلم والبغي غير مأمون شرّها وربّ مستذلّ قد عاد عزيزا ومقهور عاد مستطيلا وليس النصر بالكثرة وجرح الموت أيسر من جرح الذلّ والضيم فأمّا جبغويه وخاقان فاكتب إليهما وولّهما بلادهما وعدهما التقوية لهما على محاربة الملوك، وأمّا ملك كابل فابعث إليه بعض طرف خراسان وهاده وسله الموادعة تجده حريصا على ذلك، وأمّا ملك ابراز بنده فسلّم له ضريبته في هذه السنة وصيّرها صلة منك له وصلته بها. ثم اجمع إليك أطرافك واضمم إليك من شذّ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال، بالرجال فإن ظفرت فذاك، وإلّا كنت على اللحاق بخاقان قادرا. » فقال المأمون:
« أنا أعمل في هذا وغيره بما ترى. » وفرّق الكتب وأرسل إلى أولئك العصاة، فأذعنوا ورضوا وكتب إلى قوّاده وجنوده في الأطراف فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وكان يومئذ بالريّ عاملا من قبل المأمون أن يضبط ناحيته ويجمع إليه أطرافه ويكون على حذر من جيش إن طرقه أو عدوّ إن هجم عليه.
وكان الفضل نظر في النجوم وكان جيد المعرفة بأحكامها، فرأى الغلبة لعبد الله، فوطّن نفسه على محاربة محمد الأمين ومناجزته.
كتاب من المأمون إلى الأمين
فلمّا فرغ المأمون ممّا ذكرناه كتب إلى محمد:
« لعبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين وإنّما أنا عامل من عمّال أمير المؤمنين وعون من أعوانه أمرنى الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كاد أهله من عدوّ أمير المؤمنين، ولعمري أنّ مقامي به أردّ على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعم الله عليه. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّنى على عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل، إن شاء الله. » ثم دعا العبّاس بن موسى بن عيسى وعيسى بن جعفر وصالحا فدفع الكتاب إليهم وأحسن صلتهم وجوائزهم وحمل إلى محمد ما تهيّأ له من الألطاف الموجودة بخراسان وسألهم أن يحسّنوا أمره عنده ويقوموا بعذره.
كلام زبيدة لعلي بن عيسى في المأمون
فلمّا يئس محمد الأمين من انقياد عبد الله له، ندب له عليّ بن عيسى في خمسين ألف فارس وراجل، ومكّنه من بيوت الأموال والسلاح. فلمّا أراد عليّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب زبيدة أمّ جعفر، فودّعها، فقالت:
« يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري فإني على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنّما ابنى ملك نافس أخاه في سلطانه وعازّه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره. فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام، فلست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع منه جارية ولا غلاما ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلّ على دابّتك، حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا ترادّه. » ثم دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت:
« إذا صار في يدك فقيّده بهذا القيد. » فقال لها:
« سأقبل قولك وأعمل بطاعتك. » فلمّا ركب عليّ بن عيسى إلى معسكره بالنهروان وخرج معه محمد يشيّعه وحشدت الأسواق والصنّاع والفعلة بلغ عسكره فرسخا بفساطيطه وأبنيته وأثقاله. فذكر مشايخ أهل بغداد أنّهم لم يروا عسكرا قطّ كان أكثر رجالا وأفره كراعا وأظهر سلاحا وأتمّ عدّة وأكمل هيئة من عسكره.
فذكر أنّ منجّمه أتاه فقال:
« أصلح الله الأمير لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر فإنّ النحوس غالبة عليه. » فقال: « إنّا لا ندري فساد القمر من صلاحه، غير أنّه من نازلنا نازلناه ومن وادعنا وادعناه ومن قاتلنا لم يكن عندنا إلّا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتدّ بفساد القمر ما وطّنّا أنفسنا على صدق اللقاء. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ثم سار عليّ بن عيسى مستهينا بمن يلقاه فإذا لقيته القوافل من خراسان سألها عن الأخبار فيقولون له: طاهر مقيم بالريّ يعرض أصحابه ويرمّ آلته فيضحك ثم يقول لأصحابه:
« وما طاهر والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان وهل مثل طاهر يتولّى الجيوش ويلقى الحروب وهل تقوى السخال على نطاح الكباش أو تصير الثعالب على لقاء الأسد. » ثم أمر أصحابه بطيّ المنازل والمسير، وقال لأصحابه:
« إنّ نهاية القوم الريّ، فلو قد صيّرناها وراء ظهورنا فتّ ذلك في أعضادهم وانتشر نظامهم وتفرّقت جماعتهم. » ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وأهدى إليها التيجان والأسورة والسيوف المحلّاة بالذهب ووعدها الصلات والجوائز وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد فأجابوه إلى ذلك وسار حتى صار في أوّل بلاد الريّ وأتاه صاحب مقدّمته فقال:
« لو كنت - أبقى الله الأمير - أذكيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتّخذ خندقا كان أبلغ في الرأي وآنس للجند. » فقال: « لا، ليس مثل طاهر ومن معه استعدّ له بالمكائد والتحفّظ إنّ حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالريّ فيبيّته أهلها فيكفونا مؤونته أو يخلّيها ويدبر راجعا أو قد قربت منه. » وأتاه يحيى بن عليّ فقال:
« أيّها الأمير اجمع عسكرك فإنّه متفرّق، واحذر البيات فإنّ العساكر لا تساس بالتواني والحروب لا تدبّر بالاغترار ولا تقل المحارب لي طاهر.
فالشرارة الخفيّة ربّما صارت ضراما والثلمة من السيل ربّما تهون بها فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لما كان يتأخّر إلى يومه هذا. » قال: « اسكت فإنّ طاهرا ليس في هذا الموضع الذي ترى وإنّما تتحفّظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعدّ المناوئ لها أكفاؤها ونظراؤها. »
استشارة طاهر
واستشار طاهر أصحابه لمّا قرب منه عليّ، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الريّ ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل ومن يتولّى الحرب دونه وقالوا:
« مقامك بمدينة الريّ أرفق بك وبأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكنّ من البرد وأقوى لك على المماطلة والمطاولة إلى أن يأتيك مدد. » فقال طاهر:
« إنّ الرأي ليس ما رأيتم. إنّ أهل الريّ لعليّ هائبون ومن معرّته متّقون، ولست آمن إن حاصرنا أن يدعو أهلها خوفه إلى الوثوب بنا ومعاونته على قتالنا، مع أنّه لم يكن قوم قطّ زوحموا في ديارهم وتورّد عليهم إلّا وهنوا وذلّوا واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأي إلّا أن نصيّر مدينة الريّ وراء ظهورنا فإن أعطانا الله الظفر وإلّا عوّلنا عليها، فقاتلنا في سككها وتحصّنّا بمنعتها إلى أن يأتينا مدد من خراسان. » فقالوا: « الرأي ما رأيت. » فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الريّ، وأتاه محمد بن العلاء فقال له:
« أيّها الأمير، إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه. فلو أقمت حتى تشامّهم أصحابك ودافعت بالقتال إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم. » فقال: « إني لا أوتى من تجربة وحزم، وإنّ أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن دافعت بالقتال وأخّرت المناجزة لم آمن أن يطّلعوا على قلّتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة فينفضّ عني أصحابي ويخذلني أهل الحفاظ والصبر ولكن ألفّ الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل واعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر، فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست بأوّل من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل. » وقال عليّ بن عيسى لأصحابه:
« بادروا القوم، فإن عددهم قليل ولو قد زحفتم إليهم لم يصبروا على حرارة السيوف ووقع السهام وطعن الرماح. » وعبّأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا وصيّرها كثيفة عظيمة، ثم نصب عشر رايات في كلّ راية ألف رجل. وقدّم الرايات راية راية وصيّر بين كلّ راية وراية غلوة وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فصبرت وجمّت وطال بها القتال، أن تقدّم التي تليها وتتأخّر التي قاتلت، حتى ترجع إليها أنفسها وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة.
ثم صيّر أصحاب الدروع والجواشن والخبرة أمام الرايات. ووقف في القلب في غرر أصحابه أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم، وكتّب طاهر بن الحسين كتائبه وجعلهم كراديس صفوفا، وجعل يمرّ بقائد قائد وجماعة جماعة ويقول:
« يا أولياء الله ويا أهل الوفاء، إنّكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل الغدر والنكث. إنّ هؤلاء ضيّعوا ما حفظتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم. فلو قد غضضتم الأبصار وثبّتم الأقدام لأنجزتم لله وعده، وفتح عليكم أبواب عزّه ونصره. فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار، وادفعوا بحقّكم باطلهم. فإنّما هي ساعة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. » وقلق قلقا شديدا وحرص حرصا عظيما وجعل يقول:
« يا أهل الوفاء والصدق والصبر، الصبر الصبر، الحفاظ الحفاظ. » فهو على ذلك حتى وثب أهل الريّ فأغلقوا أبواب المدينة فنادى طاهر:
« يا أولياء الله اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم فإنّه لا ينجيكم إلّا الجدّ والصدق. » ثم كان من أمرهم ما حكيناه قبل.
ولمّا ورد الخبر بغداد بقتل عليّ بن عيسى كثرت الأراجيف ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فقالوا:
« إنّ عليّا قد قتل ولسنا نشكّ أنّ محمدا سيحتاج إلى الرجال واصطناع الصنائع وإنّما ترفع الرجال رؤوسها في وقت البأس. فليأمر كلّ رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلّنا نصيب في هذه الحرّة منه ما يصلحنا ويصلح جندنا. » فاتّفق رأيهم على ذلك وأصبحوا بباب الجسر، فكبّروا وطلبوا الأرزاق وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب في أصحابه وفي جماعة كثيرة من قوّاد العرب فتراموا بالنشّاب والحجارة واقتتلوا قتالا يسيرا، وسمع محمد الضجّة والتكبير، فأرسل من يأتيه بالخبر فأعلمه أنّ الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)