وفي الليلة الخامسة والعشرين
قالت: بلغني أن بدر الدين تعجب وتحير، فعند ذلك قالت له ست الحسن: مالي أراك متعجباً متحيراً ما كنت في أول الليل؟ فضحك وقال عام لي غائب عنك؟ فقالت له سلامتك سم الله حواليك أنت إنما خرجت إلى الكنيف لتقضي حاجة وترجع فأي شيء جرى في عقلك، فلما سمع بدر الدين ذلك ضحك وقال لها صدقت ولكنني لما خرجت من عندك غلبني النوم في بيت الراحة، فحلمت أني كنت طباخاً في دمشق وأقمت بها عشرة سنين وكأنه جاءني صغير من أولاد الأكابر ومعه خادم وحصل من أمره كذا وكذا ثم أن حسن بدر الدين مسح بيده على جبينه فرأى أثر الضرب عليه. فقال والله يا سيدتي كأنه حق لأنه ضربني على جبيني فشبحه فكأنه في اليقظة ثم قال لعل هذا المناح حصل حين تعانقت أنا وأنت ونمنا، فرأيت في المنام كأني سافرت إلى دمشق بلا طربوش ولا عمامة ولا سروال وعملت طباخاً، ثم سكت ساعة وقال والله كأني رأيت أني طبخت حب رمان وفلفله قليل، والله ما كأني إلا نمت في بيت الراحة فرأيت هذا كله في المنام فقالت له ست الحسن بالله وعليك أي شيء رأيته زيادة على ذلك. فحكى لها جميع ما رآه، ثم قال والله لولا أني انتبهت لكانوا صلبوني على لعبة خشب. فقالت له على أي شيء فقال على قلة الفلفل في حب الرمان ورأيت كأنهم خرجوا دكاني وكسروا مواعيني وحطوني في صندوق وجاؤوا بالنجار ليصنع لي لعبة من خشب لأنهم أرادوا صلبي عليها فالحمد لله الذي جعل ذلك كله في المنام ولم يجعله في اليقظة فضحكت ست الحسن وضمته إلى صدرها وضمها إلى صدره ثم تذكر وقال: والله ما كأنه إلا في اليقظة فأنا ما عرفت أي شيء الخبر ولا حقيقة الحال، ثم إنه نام وهو متحير في أمره فتارة يقول رأيته في المنام وتارة يقول رأيته في اليقظة، ولم يزل كذلك إلى الصباح، ثم دخل عليه عمه الوزير شمس الدين فسلم عليه فنظر له حسن بدر الدين، وقال بالله عليك أما أنت الذي أمرت بتكتيفي وتسمير دكاني، من شأن حب الرمان لكونه قليل الفلفل. فعند ذلك قال الوزير اعلم يا ولدي أنه ظهر الحق وبان ما كان مختفياً، أنت ابن أخي وما فعلت ذلك حتى تحققت أنك الذي دخلت على ابنتي تلك الليلة، وما تحققت ذلك حتى رأيتك عرفت البيت وعرفت عمامتك وسروالك وذهبك والورقتين التي كتبتهما بخطك والتي كتبها والدك أخي فإني ما رأيتك قبل ذلك وما كنت أعرفك، وأما أمك فإني جئت بها معي من البصرة ثم رمى نفسه عليه وبكى فلما سمع حسن بدر الدين كلام عمه تعجب غاية العجب وعانق عمه وبكى من شدة الفرح، ثم قال له الوزير يا ولدي إن سبب ذلك كله ما جرى بيني وبين والدك وحكى له جميع ما جرى بينه وبين أخيه، وأخبره بسبب سفر والده إلى البصرة، ثم إن الوزير أرسل إلى عجيب فلما رآه والده قال لهذا الذي ضربني بالحجر فقال الوزير هذا ولدك فعند ذلك رمى نفسه عليه وأنشد هذه الأبيات:
ولقد بكيت على تفرق شملـنـا زماناً وفاض الدمع من أجفاني ونذرت أن أجمع المهيمن شملنا ما عدت أذكر فرقة بلسانـي هجم السرور علي حتـى أنـه من فرط ما قد سرني أبكانـي
فلما فرغ من شعره التفتت إليه والدته وألقت روحها عليه، وأنشدت هذين البيتين: الدهر أقسـم لا يزال مـكـدري حنثت يمينك يا زمان فـكـفـر لسعد وافى والحبيب مسـاعـدي فانهض إلى داعي السرور وشمر ثم إن والدته حكت له جميع ما وقع لها بعده، وحكى لها جميع ما قاساه فشكروا الله على جمع شملهم ببعضهم ثم أن الوزير طلع إلى السلطان وأخبره بما جرى له فتعجب وأمر أن يؤرخ ذلك في السجلات ليكون حكاية على ممر الأوقات ثم أن الوزير شمس الدين وأخيه نور الدين فقال الخليفة هارون الرشيد والله إن هذا الشيء عجاب ووهب للشاب سرية من عنده ورتب له ما يعيش به وصار ممن ينادمه، ثم إن لبنت قالت وما هذا بأعجب من حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع لهم قال الملك وما حكايتهم.
حكاية الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كانفي قديم الزمان وسالف العصر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على مرائب المنتزهات فخرجا يوماً من أول النهار ورجعا آخره إلى منزلهما عند المساء، فوجدا في طريقهما رجل أحدب رؤيته تضحك الغضبان وتزيل الهم والأحزان فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتقوزان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل قد أقبل، فاشترى سمكاً مقلياً وخبزاً وليموناً وحلاوة يتحلون بها ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون فأخذت امرأة الخياط جزلة سمك كبيرة ولقمتها للأحدب وسدت فمه بكفها وقالت والله ما تأكلهما إلا دفعة واحدة في نفس واحد ولم تمهله حتى يمضغها فابتلعها وكان فيها شوكة قوية فتصلبت في حلقه، لأجل انقضاء أجله فمات، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرون
قالت بلغني أيها الملك السعيد أن امرأة الخياط لما لقمت للأحدب جزلة السمك مات لانقضاء أجله في وقته فقال الخياط: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هذا المسكين ما كان موته إلا هكذا على أيدينا، فقالت المرأة وما هذا التواني أما سمعت قول الشاعر: مالي أعلل نفسي يا حمال على أمر يكون به هـم وأحـزان ماذا القعود على نار وما خمدت إن القعود في النيران خسران فقال لها زوجها وما أفعله قالت قم واحمله في حضنك وانشر عليه فوطة حرير وأخرج أنا قدامك وأنت ورائي في هذه الليلة وقل هذا ولدي وهذه أمه ومرادنا أن نوديه إلى الطبيب ليداويه، فلما سمع الخياط هذا الكلام قام وحمل الأحدب في حضنه وزوجته تقول يا ولدي سلامتك أين محل وجعك وهذا الجدري كان لك في أي مكان فكل من رآها يقول معهما طفل مصاب بالجدري ولم يزالا سائرين وهما يسألان عن منزل الطبيب حتى دلوهما على بيت طبيب يهودي فقرعا الباب فنزلت لهما الجارية وفتحت الباب ونظرت وإذا بإنسان حامل صغير وأمه معه، فقالت الجارية ما خبركم فقالت امرأة الخياط معنا صغير مرادنا أن ينظره الطبيب، فخذي الربع دينار وأعطيه لسيدك ودعيه ينزل ليرى ولدي فقد لحقه ضعف، فطلعت الجارية ودخلت زوجة الخياط داخل العتبة وقالت لزوجها دع الأحدب هنا ونفوز بأنفسنا فأوقفه الخياط وخرج هو وزوجته، وأما الجارية فإنها دخلت على اليهودي وقالت له في أسفل البيت ضعيف مع امرأة ورجل وقد أعطياني ربع دينار لك وتصف لهما ما يوافقه.
فلما رأى اليهودي الربع دينار فرح وقام عاجلاً ونزل في الظلام فأول ما نزل عثرت رجله في الأحدب وهو ميت فقال يا للعزيز للمولى والعشر كلمات يا لهرون ويوشع بن نون كأني عثرت في هذا المريض فوقع إلى أسف فمات فكيف أخرج بقتيلي من بيتي فحمله وطلع به من حوش البيت إلى زوجته وأعلمها بذلك فقالت له وما قعودك ههنا فإن قعدت هنا إلى طلوع النهار، راحت أرواحنا فأنا وأنت نطلع به إلى المطبخ ونرميه في بيت جارنا المسلم فإنه رجل مباشر على مطبخ السلطان وكثيراً ما تأتي القطط في بيته وتأكل مما فيه من الأطعمة والفئران، وإن استمر فيه ليلة تنزل عليه الكلاب من السطوح وتأكله جميعه فطلع اليهودي وزوجته وهما حاملان الأحدب وأنزلاه بيديه ورجليه إلى الأرض وجعلاه ملاصقاً للحائط ثم نزلا وانصرفا ولم يستقر نزول الأحدب إلا والمباشر قد جاء إلى البيت في وقته، وطلع البيت ومعه شمعة مضيئة فوجد ابن آدم واقفاً في الزاوية في جانب المطبخ. فقال ذلك المباشر ما هذا والله إن الذي يسرق حوائجنا ما هو إلا ابن آدم فيأخذ ما وجده من لحم أو دهن ولو خبأته من القطط والكلاب، وإن قتلت قطة الحارة وكلابها جميعاً لا يفيد لأنه ينزل من السطوح ثم أخذ مطرقة عظيمة ووكزه بها فصار عنده ثم ضربها على صدره فوقع فوجده ميتاً فحزن وقال لا حول ولا قوة إلا بالله وخاف على نفسه وقال لعن الله الدهن واللحم وهذه الليلة كيف فرغت منية ذلك الرجل على يدي، ثم نظر إليه فإذا هو أحدب فقال أما يكفي أنك أحدب، حتى تكون حرامياً وتسرق اللحم والدهن يا ستار استرني بسترك الجميل ثم حمله على أكتافه ونزل به من بيته في آخر الليل وما زال سائراً به إلى أول السوق، فأوقفه بجانب دكان في رأس عطفة وتركه وانصرف وإذا بنصراني وهو سمسار السلطان، وكان سكران فخرج يريد الحمام، فقال له سكره أن المسيح قريب فما زال يمشي ويتمايل حتى قرب من الأحدب وجعل يريق الماء قباله فلاحت منه التفاتة، فوجد واحداً واقفاً وكان النصراني قد خطفوا عمامته في أول الليل، فلما رأى الأحدب واقفاً اعتقد أنه يريد خطف عمامته فطبق كفه ولكم الأحدب على رقبته فوقع على الأرض وصاح النصراني على حارس السوق، ثم نزل على الأحدب من شدة سكره ضرباً وصار يخنقه خنقاً. فجاء الحارس فوجد النصراني باركاً على المسلم وهو يضربه فقال الحارس: قم عنه فقام فتقدم إليه الحارس فوجده ميتاً، فقال كيف يقتل النصراني مسلماً ثم قبض على النصراني وكتفه وجاء به إلى بيت الوالي والنصراني يقول في نفسه يا مسيح يا عذراء كيف قتلت هذا وما أسرع ما مات في لكمة قد راحت السكرة وجاءت الفكرة ثم أن الأحدب والنصراني باتا في بيت الوالي وأمر الوالي السياف أن ينادي عليه ونصب للنصراني خشبه وأوقفه تحتها وجاء السياف ورمى في رقبة النصراني الحبل وأراد أن يعلقه وإذا بالمباشر قد شق الناس فرأى النصراني وهو واقف تحت المشنقة، ففسح الناس وقال للسياف لا تفعل أنا الذي قتلته فقال الوالي لأي شيء قتلته قال إني دخلت الليلة بيتي فرأيته نزل من السطح وسرق مصالحي فضربته بمطرقة على صدره فمات فحملته وجئت به إلى السوق وأوقفته في موضع كذا في عطفة كذا ثم قال المباشر ما كفاني أني قتلت مسلماً حتى يقتل بسببي نصراني فلا تشنق غيري فلما سمع الوالي كلام المباشر أطلق صراح النصراني السمسار، وقال للسياف اشنق هذا باعترافه فأخذ الحبل من رقبة النصراني ووضعه في رقبة المباشر وأوقفه تحت الخشبه وأراد أن يعلقه وإذا باليهودي الطبيب قد شق الناس وصاح على السياف وقال لا تفعل فما قتله إلا أنا وذلك انه جاءني في بيتي ليداوى فنزلت إليه فتعثرت فيه برجلي فمات فلا تقتل المباشر واقتلني. فأمر أن يقتل اليهودي الطبيب فأخذ السياف الحبل من رقبة المباشر ووضعه في رقبة اليهودي الطبيب وإذا بالخياط جاء وشق الناس وقال للسياف لا تفعل فما قتله إلا أنا وذلك أني كنت بالنهار أتفرج وجئت وقت العشاء فلقيت هذا الأحدب سكران ومعه دف وهو يغني بفرحة فوقفت أتفرج عليه وجئت به إلى بيتي واشتريت سمكاً وقعدنا نأكل فأخذت زوجتي قطعة سمك ولقمة ودستهما في فمه فزور فمات لوقته فأخذته أنا وزوجتي وجئنا به لبيت اليهودي فنزلت الجارية وفتحت لنا الباب فقلت لها قولي لسيدك أن بالباب امرأة ورجلاً ومعهما ضعيف تعال أنظره وصف له دواء وأعطيتها ربع دينار فطلعت لسيدها وأسندت الأحدب إلى جهة السلم ومضيت أنا وزوجتي فنزل اليهودي فعثر فيه فظن أنه قتله ثم قال الخياط لليهودي أصحيح هذا؟ قال: نعم. والتفت الخياط للوالي وقال: أطلق اليهودي واشنقني، فلما سمع الوالي كلامه تعجب من أمر الأحدب وقال إن هذا أمر يؤرخ في الكتب ثم قال للسياف أطلق اليهودي واشنق الخياط باعترافه فقدمه السياف وقال هل نقدم هذا ونؤخر هذا ولا نشنق واحداً ثم وضع الحبل في رقبة الخياط فهذا ما كان من أمر هؤلاء وأما ما كان من أمر الأحدب، فقيل أنه كان مسخرة للسلطان لا يقدر أن يفارقه فلما سكر الأحدب غاب عنه تلك الليلة وثاني يوم إلى نصف النهار فسأل عنه بعض الحاضرين فقالوا له يا مولانا طلع به الوالي وهو ميت وأمر بشنق قاتله فنزل الوالي ليشنق القاتل فحضر له ثان وثالث وكل واحد يقول ما قتله إلا أنا وكل واحد يذكر للوالي سبب قتله له. فلما سمع الملك هذا الكلام صرخ على الحاجب وقال له انزل إلى الوالي، وائتني بهم جميعاً فنزل الحاجب فوجد السياف، كاد أن يقتل الخياط فصرخ عليه الحاجب وقال لا تفعل واعلم الوالي أن القضية بلغت الملك، ثم أخذه وأخذ الأحدب معه محمولاً والخياط واليهودي والنصراني
والمباشر، وطلع بالجميع إلى الملك فلما تمثل الوالي بين يديه قبل الأرض وحكى له جميع ما جرى مع الجميع فلما سمع الملك هذه الحكاية تعجب وأخذه الطرب وأمر أن يكتب ذلك بماء الذهب وقال للحاضرين هل سمعتم مثل قصة هذا الأحدب فعند ذلك تقدم النصراني وقال يا ملك الزمان إن أذنت لي حدثتك بشيء جرى لي وهو أعجب وأطرب من قصة الأحدب فقال الملك حدثنا بما عندك فقال النصراني اعلم يا ملك الزمان أني لما دخلت تلك الديار أتيت بمتجر وأوقعني المقدور عندكم وكان مولدي بمصر وأنا من قبطها وتزينت بها وكان والدي سمساراً فلما بلغت مبلغ الرجال توفي والدي فعملت سمساراً مكانه. فبينما أنا قاعد يوماً من الأيام وإذا بشاب أحسن ما يكون وعليه أفخر ملبوس وهو راكب حماراً فلما رآني سلم علي فقمت إليه تعظيماً له فأخرج منديلاً وفيه قدر من السمسم وقال: كم يساوي الأردب من هذا؟ فقلت له: مائة درهم. فقال لي: خذ التراسين والكيالين واعمد إلى خان الجوالي في باب النصر تجدني فيه وتركني ومضى وأعطاني السمسم بمنديله الذي فيه العينة فدرت على المشترين فبلغ ثمن كل أردب مائة وعشرين درهماً، فأخذت معي أربعة تراسين ومضيت إليه فوجدته في انتظاري فلما رآني قام إلى المخزن وفتحه فكيلناه فجاء جميع ما فيه خمسين أردباً فقال الشاب: لك في كل أردب عشرة دراهم سمسرة واقبض الثمن واحفظه عندك وقدر الثمن خمسة آلاف لك منها خمسمائة ويبقى لي أربعة آلاف وخمسمائة فإذا فرغ بيع حواصلي جئت إليك وأخذتها فقلت له: الأمر كما تريد ثم قبلت يديه ومضيت من عنده. فحصل لي في ذلك اليوم ألف درهم وغاب عني شهراً، ثم جاء وقال لي: أين الدراهم؟ فقلت: هاهي حاضرة، فقال: احفظها حتى أجيء إليك فآخذها فقعدت أنتظره فغاب عني شهراً ثم جاءني وقال لي: أين الدراهم؟ فقمت وأحضرت له الدراهم وقعدت أنتظره فغاب عني شهراً ثم جاء وقال لي: بعد هذا اليوم آخذها منك، ثم ولى فقمت وأحضرت له الدراهم وقلت له: هل لك أن تأكل عندنا شيئاً؟ فأبى وقال لي: احفظ الدراهم، حتى أمضي وأجيء فآخذها منك، ثم ولى وقعدت أنتظره فغاب عني شهراً فقلت في نفسي: إن هذا الشاب كامل السماحة ثم بعد الشهر جاء وعليه ثياب فاخرة فلما رأيته قبلت يديه ودعوت له وقلت له: يا سيدي أما تقبض دراهمك؟ فقال: مهلاً علي حتى أفرغ من قضاء مصالحي وآخذها منك ثم ولى فقلت في نفسي: والله إذا جاء لأضيفنه لكوني انتفعت بدراهمه وحصل لي منها مال كثير، فلما كان آخر السنة جاء وعليه بدلة أفخر من الأولى فحلفت عليه أن ينزل عندي، ويضيفني فقال: بشرط أن ما تنفقه من مالي الذي عندك، قلت: نعم وأجلسته ونزلت فهيئأت ما ينبغي من الأطعمة والأشربة وغير ذلك وأحضرته بين يديه وقلت له: باسم الله، فتقدم إلى المائدة ومد يده الشمال وأكل معي فتعجبت منه فلما فرغنا غسل يده وناولته ما يمسحها به وجلسنا للحديث فقلت: يا سيدي فرج عني كربة لأي شيء أكلت بيدك الشمال لعل في يدك اليمين شيئاً يؤلمك، فلما سمع كلامي أنشد هذين البتين: خليلي لا تسأل على ما بمهجـتـي من اللوعة الحرى فتظهر أسقـام وما عن رضا فارقت سلمى معوضاً بديلاً ولكن للـضـرورة أحـكـام ثم أخرج يده من كمه وإذا هي مقطوعة زنداً بلا كف فتعجبت من ذلك فقال لي: لا تعجب ولا تقل في خاطرك. إني أكلت معك بيدي الشمال عجباً ولكن لقطع يدي اليمين سبب من العجب فقلت: وما سبب ذلك؟ فقال: اعلم أني من بغداد ووالدي من أكابرها، فلما بلغت مبلغ الرجال سمعت السياحين والمسافرين والتجار يتحدثون بالديار المصرية فبقي ذلك في خاطري حتى مات والدي فأخذت أموالاً كثيرة وهيأت متجراً من قماش بغدادي وموصلي ونحو ذلك من البضائع النفيسة وحزمت ذلك وسافرت من بغداد وكتب الله السلامة لي حتى دخلت مدينتكم هذه. ثم بكى وأنشد هذه الأبيات: قد يسم الأكمه من حفـرة يسقط فيها الناصر الناظر ويسلم الجاهل من لفـظة يهلك فيها العالم الماهـر ويعسر المؤمن في رزقه ويرزق الكافر الفاجـر ماحيلة الإنسان ما فعلـه هو الذي قدره الـقـادر
فلما فرغ من شعره، قال: فدخلت مصر وأنزلت القماش في خان سرور وفككت أحمالي وأدخلتها وأعطيت الخادم دراهم ليشتري لنا بها شيئاً نأكله ونمت قليلاً فلما قمت ذهبت بين القصرين ثم رجعت وبت ليلتي فلما اصبحت فتحت رزمة القماش وقلت في نفسي أقوم لأشق بعض الأسواق وأنظر الحال فأخذت بعض القماش وحملته لبعض غلماني وسرت حتى وصلت قيسرية جرجس فاستقبلني السماسرة وكانوا علموا بمجيئي فأخذوا مني القماش ونادوا عليه فلم يبلغ ثمنه رأس ماله فقال لي شيخ الدلالين: يا سيدي أنا أعرف لك شيئاً تستفيد منه وهو أن تعمل مثل ما عمل التجار فتبيع متجرك إلى مدة معلومة بكاتب وشاهد وصيرفي وتأخذ ما تحصل من ذلك في كل يوم خميس واثنين فتكسب الدراهم كل درهم اثنين وزيادة على ذلك تتفرج على مصر ونيلها فقلت: هذا رأي سديد، فأخذت معي الدلالين وذهبت إلى الخان فأخذوا القماش إلى القيسرية فبعته إلى التجار وكتبت عليهم وثيقة إلى الصيرفي وأخذت عليه وثيقة بذلك ورجعت إلى الخان وأقمت أياماً كل يوم أفطر على قدح من الشراب وأحضر اللحم الضاني والحلويات حتى دخل الشهر الذي استحقت فيه الجباية فبقيت كل خميس واثنين أقعد على دكاكين التجار ويمضي الصيرفي والكاتب فيجيآن بالدراهم من التجار ويأتياني بها، إلى أن دخلت الحمام يوماً من الأيام وخرجت إلى الخان ودخلت موضعي وأفطرت على قدح من الشراب ثم نمت وانتبهت فأكلت دجاجة وتعطرت وذهبت إلى دكان تاجر يقال له: بدر الدين البستاني فلما رآني رحب بي وتحدث معي ساعة في دكانه. فبينما نحن كذلك وإذا بامرأة جاءت وقعدت بجانبي وعليها عصابة مائلة وتفوح منها روائح الطيب فسابت عقلي بحسنها وجمالها، ورفعت الأزرار فنظر إلي بأحداق سود ثم سلمت على بدر الدين فرد عليها السلام ووقف وتحدث معها فلما سمعت كلامها تمكن حبها من قلبي فقالت لبدر الدين: هل عندك تفصيلة من القماش المنسوج من خالص الذهب، فأخرج لها تفصيلة فقالت للتاجر: هل آخذها وأذهب ثم أرسل إليك ثمنها؟ فقال لها التاجر: لا يمكن يا سيدتي لأن هذا صاحب القماش وله علي قسط فقالت: ويلك إن عادتي أن آخذ منك كل قطعة قماش بجملة دراهم وأربحك فيها فوق ما تريد ثم أرسل إليك ثمنها فقال: نعم ولكني مضطر إلى الثمن في هذا اليوم فأخذت التفصيلة ورمته بها في صدره وقالت: إن طائفتكم لا تعرف لأحد قدراً ثم قامت مولية فظننت أن روحي راحت معها، فقمت ووقفت وقلت لها: يا سيدتي تصدقي علي بالالتفات وارجعي بخطواتك الكريمة فرجعت وتبسمت وقالت: لأجلك رجعت وقعدت قصادي على الدكان فقلت لبدر الدين: هذه التفصيلة كم ثمنها عليك؟ قال: ألف ومائة درهم فقلت له: ولك مائة درهم فائدة، فهات ورقة فاكتب لك فيها ثمنها. فأخذت التفصيلة منه وكتبت له ورقة بخطي وأعطيتها التفصيلة وقلت لها: خذي أنت وروحي وإن شئت هاتي ثمنها لي في السوق، وإن شئت هي ضيافتك مني فقال: جزاك الله خيراً ورزقك مالي وجعلك بعلي، فتقبل الله الدعوة وقلت لها: يا سيدتي اجعلي هذه التفصيلة لك ولك أيضاً مثلها ودعيني أنظر وجهك. فكشفت القناع عن وجهها فلما نظرت وجهها أعقبتني ألف حسرة وتعلق قلبي بمحبتها فصرت لا أملك عقلي ثم رخت القناع وأخذت التفصيلة وقالت: يا سيدي لا توحشني وقد ولت وقعدت في السوق إلى بعد العصر وأنا غائب العقل وقد تحكم الحب عندي، فمن شدة ما حصل لي من الحب سألت التاجر عنها حين أردت القيام فقال: إن هذه صاحبة مال وهي بنت أمير مات والدها وخلف لها مالاً كثيراً.
فودعته وانصرفت وجئت إلى الخان فقدم لي العشاء فتذكرتها فلم آكل شيئاً ونمت فلم يأتني نوم فسهرت إلى الصباح ثم قمت فلبست بدلة غير التي كانت علي وشربت قدحاً من الشراب وأفطرت على شيء قليل وجئت إلى دكان التاجر فسلمت عليه وجلست عنده فجاءت الصبية وعليها بدلة أفخر من الأولى ومعها جارية، فجلست وسلمت علي دون بدر الدين وقالت لي بلسان فصيح ما سمعت أعذب ولا أحلى منه: أرسل معي من يقبض ألف والمائة درهم ثمن التفصيلة فقلت لها: ولا شيئ؟ فقالت: لا أعدمناك وناولتني الثمن وقعدت أتحدث معها فأوميت إليها بالإشارة ففهمت أني أريد وصالها، فقامت على عجل منها واستوحشت مني وقلبي متعلق بها وخرجت أنا خارج السوق في أثرها وإذا بجارية أتتني وقالت: يا سيدي كلم سيدتي فتعجبت لها وقلت: ما يعرفني هنا أحد فقالت الجارية: ما أسرع مانسيتها سيدتي التي كانت اليوم على دكان التاجر فلان. فمشيت معها إلى الصيارف فلما رأتني زوتني لجانبها وقالت: يا حبيبي وقعت بخاطري وتمكن حبك من قلبي ومن ساعة رأيتك لم يطلب لي نوم ولا أكل ولا شرب فقلت لها: عندي أضعاف ذلك والحال يغني عن الشكوى، فقالت: يا حبيبي أجيء لعندك؟ فقلت لها: أنا رجل غريب ومالي مكان يأويني إلا الخان فإن تصدقت علي بأن أكون عندك يكمل الحظ. قالت: نعم لكن الليلة ليلة جمعة ما فيها شيء إلا إن كان في غد بعد الصلاة فصل واركب حمارك واسأل عن الحبانية فإن وصلت فاسأل عن قاعة بركات النقيب المعروف بأبي شامة فإني ساكنة هناك ولا تبطئ فإني في انتظارك. ففرحت فرحاً زائداً ثم تفرقنا وجئت للخان الذي أنا فيه وبت طول الليل سهران فما صدقت أن الفجر لاح حتى قمت وغيرت ملبوسي وتعطرت وتطيبت وأخذت معي خمسين ديناراً في منديل ومشيت من خان مسرور إلى باب زويلة فركبت حماراً وقلت لصاحبه: امض بي إلى الحبانية فمضى في أقل من لحظة فما أسرع ما وقف على درب يقال له درب المنقري فقلت له: ادخل الدرب واسأل عن قاعة النقيب فغاب عليلاً وقال: أنزل فقلت: امش قدامي إلى القاعة فمشى حتى أوصلني إلى المنزل فقلت له: في غد تجيئني هنا وتوديني فقال الحمار: بسم الله فناولته ربع دينار ذهباً فأخذه وانصرف فطرقت الباب فخرج لي بنتان صغيرتان وبكران منهدتان كأنهما قمران فقالتا: ادخل إن سيدتنا في انتظارك لم تنم الليلة لولعها بك. فدخلت قاعة مغلقة بسبعة أبواب وفي دائرها شبابيك مطلة على بستان فيه من الفواكه جميع الألوان وبه أنهار دافقة وطيور ناطقة وهي مبيضة بياضاً سلطانياً يرى الإنسان وجهه فيها وسقفها مطلي بذهب وفي دائرها طرزات مكتبة بالازورد قد حوت أوصاف حسنة وأضاءت للناظرين وأرضها مفروشة بالرخام المجزع وفي أرضها فسقية وفي أركان تلك الفسقية الدر والجوهر مفروشة بالبسط الحرير الملونة والمراتب، فلما دخلت جلست، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرون
قد بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب التاجر قال للنصراني: فلما دخلت وجلست لم أشعر إلا والصبية قد أقبلت وعليها تاج مكلل بالدر والجوهر وهي منقشة مخططة فلما رأتني تبسمت في وجهي وقالت: أصحيح أتيت عندي أم هذا منام؟ فقلت لها: أنا عبدك فقالت أهلاً ومرحباً،والله من يوم رأيتك ما لذني نوم ولا طاب لي طعام فقلت: وأنا كذلك ثم جلسنا نتحدث وأنا مطرق برأسي إلى الأرض حياء ولم أمكث قليلاً حتى قدمت لي سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق دجاج محشو فأكلت معها حتى اكتفينا ثم قدموا إلى الطشط والإبريق فغسلت يدي ثم تطيبنا بماء الورد والمسك، وجلسنا نتحدث فأنشدت هذين البيتين: لو علمنا بقدومكم لفـرشـنـا مهجة القلب مع سواد العيون ووضعنا حدودنا لـلـقـاكـم وجعلنا المسير فوق الجفون وهي تشكو إلي ما لاقت وأنا أشكو إليها ما لقيت وتمكن حبها عندي وهان علي جميع المال، ثم أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أقبل الليل فقدمت لنا الجواري الطعام والمدام فإذا هي خضرة كاملة فشربنا إلى نصف الليل ثم اضطجعنا ونمنا فنمت معها إلى الصباح فما رأيت عمري مثل هذه الليلة.
فلما أصبح الصباح قمت ورميت لها تحت الفراش المنديل الذي فيه الدنانير وودعتها وخرجت فبكت وقالت: يا سيدي متى أرى هذا الوجه المليح؟ فقلت لهاك أكون عندك وقت العشاء فلما خرجت أصبت الحمار الذي جاء بي بالأمس على الباب ينتظرني فركبت معه حتى وصلت خان مسرور فنزلت وأعطيت الحمار نصف دينار وقلت له: تعالى فيوقت الغروب قال: على الرأس فدخلت الخان وأفطرت ثم خرجت أطالب بثمن القماش، ثم رجعت وقد عملت لها خروفاً مشوياً وأخذت حلاوة ثم دعوت الحمال ووصفت له المحل وأعطيته أجرته ورجعت في أشغالي إلى الغروب فجاءني الحمار فأخذت خمسين ديناراً وجعلتها في منديل ودخلت فوجدتهم مسحوا لرخام وحلوا النحاس وعمروا القناديل وأوقدوا الشموع وغرفوا الطعام وروقوا الشراب. فلما رأتني رمت يديها على رقبتي وقالت: أوحشتني، ثم قدمت الموائد فأكلنا حتى اكتفينا ورفعت الجواري المائدة وقدمت المدام، فلم نزل في شراب وتقبيل وحظ إلى نصف الليل فنمنا إلى الصباح ثم قمت وناولتها الخمسين ديناراً على العادة وخرجت من عندها فوجدت الحمار فركبت إلى الخان فنمت ساعة ثم قمت جهزت العشاء فعملت جوزاً ولوزاً وتحتهم أرز مفلفل وعملت قلقاساً مقلياً ونحو ذلك وأخذت فاكهة نقلاً ومسموماً وأرسلتها وسرت إلى البيت وأخذت خمسين ديناراً في منديل وخرجت فركبت مع الحمار على العادة إلى القاعة فدخلت ثم أكلنا وشربنا وبتنا إلى الصباح، ولما قمت رميت لها المنديل وركبت إلى الخان على العادة، ولم أزل على تلك الحالة مدة إلى أن بت لا أملك درهماً ولا دينار، فقلت في نفسي هذا من فعل الشيطان وأنشدت هذه الأبيات: فقر الـفـتـى يذهـب أنـواره مثل اصفرار الشمس عند المغيب إن غاب لا يذكـر بـين الـورى وإن أتى فما له مـن نـصـيب يمر في الأسواق مسـتـخـفـياً وفي الفلا يبكي بدمع صـبـيب والله ما الإنـسـان مـن أهـلـه إذا ابتلى بالـفـقـر إلا غـريب ثم تمشيت إلى أن وصلت بين القصرين ولا زلت أمشي حتى وصلت إلى باب زويلة فوجدت الخلق في ازدحام والباب منسد من كثرة الخلق فرأيت بالأمر المقدر جندياً فزاحمته بغير اختياري، فجاءت يدي على جيبه فجسيته فوجدت فيه صرة من داخل الجيب الذي دي عليه فعمدت إلى تلك الصرة فأخذتها من جيبه فأحس الجندي بأن جيبه خف فحط يده في جيبه فلم يجد شيئاً والتفت نحوي ورفع يده بالدبوس وضربني على رأسي فسقطت إلى الأرض فأحاط الناس بنا وأمسكوا لجام فرس الجندي وقالوا: أمن أجل الرحمة تضرب هذا الشاب هذه الضربة؟ فصرخ عليهم الجندي وقال: هذا حرامي سارق فعند ذلك أفقت ورأيت الناس يقولون: هذا الشاب مليح لم يأخذ شيئاً، فبعضهم يصدق بعضهم يكذب وكثر القيل والقال وجذبني الناس وأرادوا خلاصي منه فبأمر المقدر جاء الوالي هو وبعض الحكام في هذا الوقت ودخلوا من الباب فوجدوا الخلق مجتمعين علي وعلى الجندي، فقال الوالي: ما الخبر؟ فقال الجندي: والله يا أمير المؤمنين إن هذا حرامي وكان في جيبي كيس أزرق فيه عشرون ديناراً فأخذه وأنا في الزحام، فقال الوالي للجندي: هل كان معك أحد؟ فقال الجندي: لا فصرخ الوالي على المقدم وقال: أمسكه وفتشه فأمسكني وقد زال الستر عني فقال له الوالي: أعره من جميع ما عليه، فلما أعراني وجدوا الكيس في ثيابي فلما وجدوا الكيس أخذه الوالي وفتحه وعده فرأى فيه عشرين ديناراً كما قال الجندي. فغضب الوالي وصاح على أتباعه وقال: قدموه فقدموني بين يديه فقال: يا صبي قل الحق هل أنت سرقت هذا الكيس؟ فأطرقت برأسي إلى الأرض وقلت في نفسي: إن قلت ما سرقته فقد أخرجه من ثيابي وإن قلت سرقته وقعت في العناء ثم رفعت رأسي وقلت: نعم أخذته فلما سمع مني الوالي هذا الكلام تعجب ودعا الشهود فحضروا وشهدوا على منطقي هذا كله في باب زويلة فأمر الوالي السياف بقطع يدي فقطع يدي اليمنى فرق قلب الجنيد وشفع في عدم قتلي وتركني الوالي ومضى وصارت الناس حولي وسقوني قدح شراب وأما الجندي فإنه أعطاني الكيس وقال: أنت شاب مليح ولا ينبغي أن تكون لصاً، فأخذته منه وأنشدت هذه الأبيات: والله ما كنت لصاً يا أخا ثـقة ولم أكن سارقاً يا أحسن الناس ولكن رمتني صروف الدهر عن عجل فزاد همـي ووسـواس إفـلاسـي وما رمـيت ولـكـن الإلـه رمـى سهماً فطير تاج الملك عـن رأسـي فتركني الجندي وانصرف بعد أن أعطاني الكيس وانصرفت أنا ولقيت يدي في خرقة وأدخلتها عني وقد تغيرت حالتي واصفر لوني مما جرى لي فتمشيت إلى القاعة وأنا على غير استواء ورميت روحي على الفراش فنظرتني الصبية متغير اللون فقالت لي: ما وجعك وما لي أرى حالتك تغيرت؟ فقلت لها: رأسي توجعني وما أنا طيب، فعند ذلك اغتاظت وتشوشت لأجلي وقالت: لا تحرق قلبي يا سيدي، اقعد وارفع رأسك وحدثني بما حصل لك اليوم فقد بان لي في وجهك كلام، فقلت: دعيني من الكلام فبكت وصارت تحدثني وأنا لا أجيبها حتى أقبل الليل فقدمت لي الطعام فامتنعت وخشيت أن تراني آكل بيدي الشمال فقلت: لا أشتهي أن آكل في مثل هذه الساعة فقالت: حدثني بما جرى لك في هذا اليوم ولأي شيء أراك مهموماً مكسور الخاطر والقلب؟ فقلت في هذه الساعة أحدثك على مهلي فقدمت لي الشراب وقالت: دونك فإنه يزيل همك فلا بد أن تشرب وتحدثني بخبرك فقلت لها: إن كان ولا بد فاسقيني بيدك فملأت القدح وشربته وملأته وناولتني إياه فتناولته منها بيدي الشمال وفرت الدمعة من جفني فأنشدت هذه الأبيات: إذا أراد الله أمـراً لأمـرئ وكان ذا عقل وسمع وبصر أصم أذنيه وأعمى قـلـبـه وسل منه عقله سل الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكـمـه رد إليه عقله لـيعـتـبـر فلما فرغت من شعري تناولت القدح بيدي الشمال وبكيت، فلما رأتني أبكي صرخت صرخة قوية وقالت: ما سبب بكائك، قد أحرقت قلبي وما لك تناولت القدح بيدك الشمال؟ فقلت لها إن بيدي حبة، فقالت أخرجاه حتى أفقها لك فقلت: ما هو وقت فقعها لا تطيلي علي فما أخرجها في تلك الساعة ثم شربت القدح ولم تزل تسقيني حتى غلب السكر علي فنمت مكاني فأبصرت يدي بلا كف ففتشتني فرأت معي الكيس الذي فيه الذهب، فدخل عليها الحزن ما لا يدخل على أحد ولا زالت تتألم بسببي إلى الصباح فلما أفقت من النوم وجدتها هيأت لي مسلوقة وقدمتها فإذا هي أربعة من طيور الدجاج، وأسقتني قدح شراب فأكلت وشربت وحطيت الكيس وأردت الخروج فقالت: أين تروح؟ فقلت: إلى مكان كذا لأزحزح بعض الهم عن قلبي فقالت: لا تروح بل اجلس فجلست فقالت لي: وهل بلغت محبتك إياي إلى أن صرفت جميع مالك علي وعدمت كفك فأشهدك علي والشاهد الله أني لا أفارقك وسترى صحة قولي ولعل الله استجاب دعوتي بزواجك وأرسلت خلف الشهود فحضروا فقالت لهم: اكتبوا كتابي على هذا الشاب واشهدوا أني قبضت المهر فكتبوا كتابي عليها ثم قالت: اشهدوا أن جميع مالي الذي في هذا الصندوق وجميع ما عندي من المماليك والجواري لهذا الشاب فشهدوا عليها وقبلت أنا التمليك وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة. ثم أخذتني من يدي وأوقفتني على خزانة وفتحت صندوقاً كبيراً وقالت لي: انظر هذا الذي في الصندوق فنظرت فإذا هو ملآن مناديل، فقالت: هذا مالك الذي أخذته منك فكلما أعطيتني منديلاً فيه خمسون ديناراً ألقه وأرميه في هذا الصندوق فخذ مالك فقد رده الله عليك وأنت اليوم عزيز فقد جرى عليك القضاء بسبب حتى عدمت يمينك وأنا لا أقدر على مكافأتك ولو بذلت روحي لكان ذلك قليلاً ولك الفضل ثم قالت لي: تسلم مالك فتسلمته ثم نقلت ما في صندوقها إلى صندوقي وضمت مالها إلى مالي الذي كنت أعطيتها إياه وفرح قلبي وزال هي فقمت فقبلتها وسكرت معها فقالت: لقد بذلت جميع مالك ويدك في محبتي فكيف أقدر على مكافأتك والله لو بذلت روحي في محبتك لكان ذلك قليل وما أقوم بواجب حقك علي ثم إنها كتبت لي جميع ما تملك من ثياب بدنها وصيغتها وأملاكها، بحجة وما نامت تلك الليلة إلا مهمومة من أجلي حين حكيت لها ما وقع لي وبت معها. ثم أقمنا على ذلك أقل من شهر وقوي بها الضعف، وزاد بها المرض وما مكنت غير خمسين يوماً ثم صارت من أهل الآخرة فجهزتها وواريتها في التراب وعملت لها ختمات وتصدقت عليها بجملة من المال، ثم نزلت من التربة فرأيت لها مالاً جزيلاً وأملاكاً وعقارات، ومن جملة ذلك تلك المخازن السمسم التي بعت لك منها ذلك المخزن وما كان اشتغالي عنك هذه المدة إلا لأني بعت بقية الحواصل وإلى الآن لم أفرغ من قبض الثمن فأرجو منك أنك لا تخالفني فيما أقوله لك لأني أكلت زادك فقد وهبتك ثمن السمسم الذي عندك، فهذا سبب أكلي بيدي الشمال فقلت له: لقد أحسنت إلي وتفضلت علي فقال لي: لا بد أن تسافر معي إلى بلادي فإني اشتريت متجراً مصرياً واسكندرانياً فهل لك في مصاحبتي؟ فقلت: نعم وواعدته على رأس الشهر ثم بعت جميع ما أملك واشتريت به متجراً وسافرت أنا وذلك الشاب إلى هذه البلاد التي هي بلادكم فباع الشاب متجره واشترى متجراً عوضه من بلادكم ومضى إلى الديار المصرية فكان نصيبي من قعودي هذه الليلة حتى حصل من غربتي فهذا يا ملك الزمان ما هو أعجب من حديث الأحدب فقال الملك: لا بد من شنقكم كلكم: وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الليلة الثامنة والعشرون
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الصين لما قال: لا بد من شنقكم فعند ذلك تقدم المباشر إلى ملك الصين وقال: إن أذنت لي حكيت لك حكاية وقعت لي في تلك المدة قبل أن أجد هذا الأحدب وإن كانت أحب من حديثه تهب لنا أرواحنا فقال الملك: هات ما عندك فقال: اعلم أني كنت تلك الليلة الماضية عند جماعة عملوا ختمة وجمعوا الفقهاء فلما قرأوا المقرؤون وفرغوا مدوا السماط فمن جملة ما قدموا زرباجة فقدمنا لنأكل الزرباجة فتأخر واحد منا وامتنع عن الأكل منها فحلفنا عليه فأقسم أنه لا يأكل منها فشددنا عليه فقال: لا تشددوا على فكفاني ما جرى لي من أكلها فأنشدت هذا البيت:
إذا صديق أنكرت جانـبـه لم تعيني على فراقه الحيل
فلما فرغنا قلنا له: بالله ما سبب امتناعك عن الأكل من هذه الزرباجة؟ فقال: لأني لا آكل منها غلا إن غسلت يدي أربعين مرة، فعند ذلك أمر صاحب الدعوى غلمانه فأتوا بالماء الذي طلبه فغسل يديه كما ذكر، ثم تقدم وهو متكره وجلس ومد يده وهو مثل الخائف ووضع يده في الزرباجة وصار يأكل وهو متغصب ونحن نتعجب منه غاية التعجب ويده ترتعد فنصب إبهام يده فإذا هو مقطوع وهو يأكل بأربعة أصابع فقلنا له: بالله عليك ما لإبهامك هكذا أهو خلقة الله أم أصابه حادث؟ فقال: يا إخواني أهو هذا الإبهام وحده ولكن إبهام الأخرى وكذلك رجلاي الاثنين ولكن انظروا ثم كشف إبهام يده الأخرى فوجدناها مثل اليمين وكذلك رجلاه بلا إبهامين. فلما رأيناه كذلك ازددنا عجباً وقلنا له: ما بقي لنا صبر على حديثك، والأخبار بسبب قطع إبهامي يديكورجليك وسبب غسل يديك، مائة وعشرين مرة فقال: اعلموا أن والدي كان تاجر من التجار الكبار وكان أكبر تجار مدينة بغداد في أيام الخليفة هارون الرشيد وكان مولعاً بشرب الخمر وسماع العود فلما مات لم يترك شيئاً فجهزته، وقد عملت له ختمات وحزنت عليه أياماً وليالي ثم فتحت دكانه فما وجدته خلف إلا يسيراً ووجدت عليه ديوناً كثيرة فصبرت أصحاب الديون وطيبت خواطرهم وصرت أبيع وأشتري وأعطي من الجمعة أصحاب الديون ولا زلت على هذه الحالة إلى أن وفيت الديون وزدت على رأس مالي. فبينما أنا جالس يوماً من الأيام إذا رأيت صبية لم تر عيني أحسن منها عليها حلي وحلل فاخرة وهي راكبة بغلة وقدامها عبد وورائها عبد فأوقفت البغلة على رأس السوق ودخلت ورائها خادم، وقال: يا سيدتي اخرجي ولا تعلمي أحداً فتطلقي فينا النار ثم حجبها الخادم فلما نظرت إلى دكاكين التجار لم تجد أفخر من دكاني، فلما وصلت إلى جهتي والخادم خلفها وصلت إلى دكاني وسلمت علي فما وجدت أحسن من حديثها ولا أعذب من كلامها، ثم كشفت عن وجهها فنظرتها نظرة أعقبتني ألف حسرة وتعلق قلبي بمحبتها، وجعلت أكرر النظر إلى وجهها وأنشد: جودي علي بزورة أحيا بـهـا ها قد مددت إلى نوالك راحتي فلما سمعت إنشادي أجابتني بهذه الأبيات:
عدمت فؤادي في الهوى أن سلاكم فإن فـؤادي لا يحـب سـواكـم
وإن نظرت عيني إلى غير حسنكم فلا سرها بعد العبـاد لـقـاكـم حلفت يميناً لست أسلـوا هـواكـم وقلبي حزين مغـرم بـهـواكـم سقاني الهوى كأساً من الحب صافياً فيا ليته لما سقـانـي سـقـاكـم خذوا رمقي حيث استقرت بكم نوى وأين حللتم فادفنـونـي حـداكـم وإن تذكروا اسمي عند قبري يجيبكم أنين عظامي عند رفـع نـداكـم فلو قليل لي ماذا على الله تشتهـي لقلت رضا الرحمن ثم رضـاكـم
فلما فرغت من شعرها قالت: يا فتى أعندك تفاصيل ملاح؟ فقلت: يا سيدتي مملوكك فقير، ولكن اصبري حتى تفتح التجار دكاكينهم وأجيء لك بما تريدينه ثم تحدثت أنا وإياها وأنا غارق في بحر محبتها تائه في عشقها، حتى فتحت التجار دكاكينهم فقمت وأخذت لها جميع ما طلبته، وكان ثمن ذلك خمسة آلاف درهم وناولت الخادم جميع ذلك فأخذه الخادم وذهبا إلى خارج السوق فقدموا لها البغلة فركبت ولم تذكر لي منأين هي واستحيت أن أذكر لها ذلك والتزمت الثمن للتجار،وتكلفت خمسة آلاف درهم وجئت البيت وأنا سكران من محبتها، فقدموا لي العشاء لأكلت لقمة وتذكرت حسنها وجمالها فأشغلني عن الأكل، وأردت أن أنام فلم يجيئني نوم ولم أزل على هذه الحالة أسبوعاً وطالبتني التجار بأموالهم فصبرتهم أسبوعاً آخر، فبعد الأسبوع أقبلت وهي على البغلة ومعها خادم وعبدان: فلما رأيتها زال عني الفكر ونسيت ما كنت فيه وأقبلت تحدثني بحديثها الحسن ثم قالت: هات الميزان وزن مالك فأعطتني ثمن ما أخذته بزيادة، ثم انبسطت معي في الكلام فكدت أن أموت فرحاً وسروراً ثم قالت لي: هل لك أنت زوجة؟ فقلت: لا إني لا أعرف امرأة ثم بكيت فقالت لي: مالك تبكي؟ فقلت: من شيء خطر ببالي ثم أني أخذت بعض دنانير وأعطيتها للخادم وسألتها أن يتوسط في الأمر فضحك وقال: هي عاشقة لك أكثر منك وما لها بالقماش حاجة وإنما هي لأجل محبتها لك فخاطبها بما تريد فإنها لا تخالفك فيما تقول فرأتني وأنا أعطي الخادم الدنانير فرجعت وجلست ثم قلت لها: تصدقي على مملوكك واسمحي له فيما يقول ثم حدثتها بما في خاطري فأعجبها ذلك وأجابتني وقالت: هذا الخادم يأتي برسالتي واعمل أنت بما يقول لك الخادم ثم قامت ومضت وقمت وسلمت التجار أموالهم وحصل لهم الربح، إلا أنا فإنها حين ذهبت حصل لي الندم من انقطاع خبرها عني ولم أنم طول الليل. فما كان إلا أيام قلائل وجاءني خادمها فأكرمته وسألته عنها، فقال: إنها مريضة فقلت للخادم: اشرح لي أمرها قال: إن هذه الصبية ربتها السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد وهي من جواريها، وقد اشتهت على سيدتها الخروج والدخول فأذنت لها في ذلك فصارت تدخل وتخرج حتى صارت قهرمانة، ثم أنها حدثت بك سيدتها وسألتها أن تزوجها بك، فقالت سيدتها: لا أفعل حتى أنظر هذا الشاب فإن كان يشبهك زوجتك به ونحن نريد في هذه الساعة أن ندخل بك الدار فإن دخلت ولم يشعر بك أحد وصلت تزويجك إياها وإن انكشف أمرك ضربت رقبتك فماذا تقول؟ فقلت: نعم أروح معك وأصبر على الأمر الذي حدثتني به فقال لي الخادم: إذا كانت هذه الليلة فامض إلى المسجد الذي بنته السيدة زبيدة على الدجلة فصل فيه وبت هناك فقلت: حباً وكرامة فلما جاء وقت العشاء مضيت إلى المسجد وصليت وبت هناك. فلما كان وقت السحر رأيت الخادمين قد أقبلا في زورق ومعهما صناديق فارغة فأدخلوها في المسجد وانصرفوا وتأخر واحد منهما فتأملته وإذا هو الذي كان واسطة بيني وبينها فبعد ساعة صعدت غلينا الجارية صاحبتي فلما أقبلت قمت إليها وعانقتها فقبلتني وبكت تحدثنا ساعة فأخذتني ووضعتني في صندوق وأغلقته علي ولم أشعر إلا وأنا في دار الخليفة وجاؤوا إلي بشيء كثير من الأمتعة بحيث يساوي خمسين ألف درهم ثم رأيت عشرين جارية أخرى وهن نهد أبكار وبينهن الست زبيدة وهي لم تقدر على المشي مما عليها من الحلي والحلل فلما أقبلت تفرقت الجواري من حواليها فأتيت إليها وقبلت الأرض بين يديها فأشارت لي بالجلوس فجلست بين يديها ثم شرعت تسألني عن حالي وعن نسبي فأجبتها عن كل ما سألتني عنه ففرحت وقالت: والله ما خابت تربيتنا في هذه الجارية، ثم قالت لي: اعلم أن هذه الجارية عندنا بمنزلة ولد الصلب وهي وديعة الله عندك.
فقبلت الأرض قدامها ورضيت بزواجي إياها ثم أمرتني أن أقيم عندهم عشرة أيام فأقمت عندهم هذه المدة وأنا لا أدري من هي الجارية إلا أن بعض الوصائف تأتيني بالغداء والعشاء لأجل الخدمة، وبعد هذه المدة استأذنت السيدة زبيدة زوجها أمير المؤمنين في زواج جاريتها فأذن لها وأمر لها بعشرة آلاف دينار فأرسلت السيدة زبيدة إلى القاضي والشهود وكتبوا كتابي عليها وبعد ذلك عملوا الحلويات والأطعمة الفاخرة وفرقوا على سائر البيوت ومكثوا على هذا الحال عشرة أيام أخر وبعد العشرين يوماً أدخلوا الجارية الحمام لأجل الدخول بها ثم أنهم قدموا سفرة فيها طعام من جملته خافقية زرباجة محشوة بالسكر وعليها ماء ورد ممسك وفيها أصناف الدجاج المحمرة وغيره من سائر الألوان مما يدهش العقول فوالله حين حضرت المائدة ما أمهلت نفسي حتى نزلت على الزرباجة وأكلت منها بحسب الكفاية ومسحت يدي ونسيت أن أغسلها ومكثت جالساً إلى أن دخل الظلام وأوقدت الشموع، وأقبلت المغنيات بالدفوف ولم يزالوا يجلون العروسة وينقطون بالذهب حتى طافت القصر كله وبعد ذلك أقبلوا علي ونزعوا ما عليها من الملبوس. فلما خارت بها في الفراش وعانقتها وأنا لم أصدق بوصالها شمت في يدي رائحة الزرباجة فلما شمت الرائحة صرخت فنزل لها الجواري من كل جانب فارتجفت ولم أعلم ما الخبر فقالت الجواري: ما لك يا أختنا؟ فقالت لهن: أخرجوا هذا المجنون فأنا أحسب أنه عاقل، فقلت لها: وما الذي ظهر لك من جنوني؟ فقالت: يا مجنون لأي شيء أكلت من الزرباجة ولم تغسل يدك فوالله لا أقبلك على عدم عقلك وسوء فعلك وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)