يعلمون بأن المحبة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت بغير معاونة الفصول. ولكن هل هو نيسان الذي جمعنا لأول مرة وهل هي هذه الساعة التي أوقفتنا في قدس أقداس الحياة؟ أما جمعت روحينا قبضة الله قبل أن تصيرنا الولادة أسيري الأيام والليالي؟ إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم". ورفعت سلمى يدها بلطف عن رأسي تاركة بين مغارس الشعر تموجات كهربائية يتلاعب بها نسيم الليل فيزيدها نمواً وحراكاً. فأخذت تلك اليد براحتي نظير متعبد يتبرك بلثم المذبح ووضعتها على شفتي الملتهبتين وقبلتها قبلة طويلة عميقة خرساء تذيب بحرارتها كل ما في القلب البشري من الإحساس، وتنبه بعذوبتها كل ما في النفس الإلهية من الطهر.
ومرت علينا ساعة كل دقيقة منها شغف ومحبة تساورنا سكينة الليل وتغمرنا أشعة القمر وتحيط بنا الأشجار والرياحين حتى إذا ما بلغنا تلك الحالة التي ينسى فيها الإنسان كل شيء سوى حقيقة الحب سمعنا وقع حوافر وهدير مركبة تقترب منا مسرعة فانتبهنا من تلك الغيبوبة اللذيذة وهبطت بنا اليقظة من عالم الأحلام إلى هذا العالم الواقف بمسيره بين الحيرة والشقاء فعرفنا بأن الوالد الشيخ قد عاد من دار المطران فنهضنا وسرنا بين الأشجار ننتظر وصوله.
وبلغت المركبة مدخل الحديقة فترجل فارس كرامة وسار نحونا منحني الرأس بطيء الحركة ونظير متعب رازح تحت حمل ثقيل تقدم نحو سلمى ووضع كلتا يديه على كتفيها وأحدق بوجهها طويلاً كأنه يخاف أن تغيب صورتها عن عينيه الضئيلتين. ثم انسكبت دموعه على وجنتيه المتجعدتين وارتجفت شفتاه بابتسامة محزنة وقال بصوت مخنوق "عما قريب يا سلمى، عما قريب تخرجين من بين ذراعي والدك إلى ذراع رجل آخر. عما قريب تسير بك سنة الله من هذا المنزل المفرد إلى ساحة العالم الوسيع فتصبح هذه الحديقة مشتاقة إلى وطء قدميك ويصير والدك غريباً عنك، لقد لفظ القدر كلمته يا سلمى فلتباركك السماء وتحرسك".
سمعت سلمى هذه الكلمات فتغيرت ملامحها وجمدت عيناها كأنها رأت شبح الموت منتصباً أمامها. ثم شهقت وتململت متوجعة كعصفور رماه الصياد فهبط على الحضيض مرتجفاً بآلامه ــ وبصوت تقطعه الغصات العميقة صرخت قائلة "ماذا تقول؟ ماذا تعني؟ إلى أين تريد أن تبعث بي؟".
ثم شخصت به كأنها تريد أن تزيل بنظراتها الغلاف عن مخبآت صدره. وبعد دقيقة مثقلة بعوامل ذلك السكون الشبيه بصراخ القبور قالت متأوهة "قد فهمت الآن... قد عرفت كل شيء... إن المطران قد فرغ من حبك قضبان القفص الذي أعده لهذا الطائر المكسور الجناحين فهل هذه هي إرادتك يا والدي؟".
فلم يجبها بغير التنهدات العميقة ثم أدخلها الدار وأشعة الحنو تنسكب من ملامحه المضطربة. فبقيت أنا واقفاً بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفي مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف. ثم اتبعتهما إلى القاعة ــ وكي لا أظهر بمظهر طفيلي يميل إلى استطلاع الخصوصيات أخذت يد الشيخ مودعاً ونظرت إلى سلمى نظرة غريق تلفت نحو نجم لامع في قبة الفلك. ثم خرجت دون أن يشعروا بخروجي ولكنني ما بلغت أطراف الحديقة حتى سمعت صوت الشيخ منادياً فالتفت وإذا به يتبعني فعدت إلى لقائه، ولما دنوت منه أمسك بيدي، وقال بصوت مرتعش "سامحني يا بني فقد جعلت ختام ليلتك مكتنفاً بالدموع، ولكنك سوف تجيء إليّ دائماً ــ أليس كذلك. ألا تزورني عندما يصير هذا المكان خالياً إلا من الشيخوخة المحزنة؟ إن الشباب الغض لا يستأنس بالشيخوخة الذابلة كما أن الصباح لا يلتقي المساء ــ أما أنت فسوف تجيء إليّ لتذكرني بأيام الصبا التي صرفتها بقرب أبيك، وتعيد على مسمعي أخبار الحياة التي لم تعد تحسبني من أبنائها.. أليس كذلك؟ ألا تزورني عندما تذهب سلمى، وأصبح وحيداً منفرداً في هذا المنزل البعيد عن المنازل؟"
لفظ الكلمات الأخيرة بصوت منخفض متقطع، ولما أخذت يده وهززتها صامتاً أحسست بقطرات الدموع السخينة قد تساقطت على يدي من أجفانه، فارتعشت نفسي في داخلي وشعرت نحوه بعاطفة بنوية عذبة محزنة تتمايل بين ضلوعي وتتصاعد كاللهاث إلى شفتي ثم تعود كالغصات إلى أعماق قلبي ــ ولما رفعت رأسي ورأى أن دموعه قد استدرت الدموع من أجفاني انحنى قليلاً ولمس بشفتيه المرتجفتين أعالي جبهتي، ثم قال محولاً وجهه نحو باب المنزل "مساء الخير .. مساء الخير يا بني".
إن دمعة واحدة تتلمع عن وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة. أما دموع الشيوخ فهي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق. هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة، الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة. أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الأرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة.
واختفى فارس كرامة وراء مصارع الباب وخرجت أنا من تلك الحديقة وصوت سلمى يتموج في أذني وجمالها يسير كالخيال أمام عيني ودموع والدها تجف ببطء على يدي. خرجت من ذلك المكان خروج آدم من الفردوس ولكن حواء هذا القلب لم تكن بجانبي لتجعل العالم كله فردوساً. . خرجت شاعراً بأن تلك الليلة التي ولدت فيها ثانية هي الليلة التي لمحت فيها وجه الموت لأول مرة.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
كل ما يفعله الإنسان سراً في ظلمة الليل يظهره الإنسان علناً في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثاً عمومياً. الأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غداً، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب من اجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينة التي بلغت مسمعي.
ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلة المقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين أو يخابره بأمور الأرامل والأيتام، بل أحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروساً لابن أخيه منصور بك غالب.
كان فارس كرامة رجلاً غنياً ولم يكن له وريث سوى ابنته سلمى، وقد اختارها المطران زوجة لابن أخيه لا لجمال وجهها ونبالة روحها بل لأنها غنية موسرة تكفل بأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الوسيعة على إيجاد مقام رفيع بين الخاصة والأشراف.
إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه من المجد والسؤدد بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدين به والمستدرين قواه وأمواله، إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الأخوة في حياته، وهكذا يصبح الإنسان كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة.
عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخ بغير السكوت العميق والدموع السخينة، وأي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانت ذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر ملك، أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة وهذبها صبية ورافقها امرأة. إن كآبة الوالدين لزواج الابنة تضارع فرحهم بزواج الابن لأن هذا يكسب العائلة عضواً جديداً أما ذاك فيسلبها عضواً قديماً عزيزاً.
أجاب الشيخ طلب المطران مضطراً وانحنى أمام مشيئته قهراً عما في نفسه من الممانعة وكان قد اجتمع بابن أخيه منصور بك وسمع الناس يتحدثون عنه فعرف خشونته وطمعه وانحطاط أخلاقه، لكن أي مسيحي يقدر أن يقاوم أسقفاً في سوريا ويبقى محسوباً بين المؤمنين؟ أي رجل يخرج عن طائعة رئيس دينه في الشرق ويظل كريماً بين الناس؟ أتعاند العين سهماً ولا تفقد أو تناضل اليد سيفاً ولا تقطع؟ وهب أن ذلك الشيخ كان قادراً على مخالفة المطران بولس والوقوف أمام مطامعه فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون والتآويل، وهل يظل اسمها نقياً من أوساخ الشفاه والألسنة؟ أو ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى.
هكذا قبض القدر على سلمى وقادها عبدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات الناعسات. وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملؤه أشعة القمر وتعطره رائحة الأزاهر.
إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين. تلك الخزائن الوسيعة التي يملؤها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوساً ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطاناً يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلو لم يكن فارس كرامة رجلاً غنياً لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.
مر أسبوع وحب سلمى يجالسني في المساء منشداً على مسمعي أغاني السعادة وينبهني عند الفجر ليريني معاني الحياة وأسرار الكيان. حب علوي لا يعرف الحسد لأنه غني ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملآ القلب بالاكتفاء. عاطفة تولد الشوق ولكنها لا تثيره، فتون جعلني أرى الأرض نعيماً والعمر حلماً جميلاً. فكنت أسير صباحاً في الحقول وأرى في يقظة الطبيعة رمز الخلود، وأجلس على شاطئ البحر وأسمع من أمواجه أغاني الأبدية وأمشي في شوارع المدينة وأجد في طلعات العابرين وحركات المشتغلين محاسن الحياة وبهجة العمران.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
تلك الأيام مضت كالأشباح واضمحلت كالضباب ولم يبق لي منها سوى الذكرى الأليمة ــ فالعين التي كنت أرى بها جمال الربيع ويقظة الحقول لم تعد تحدق بغير غضب العواطف ويأس الشتاء. والأذن التي كنت أسمع بها أغنية الأمواج لم تعد تصغي لغير أنة الأعماق وعويل الهاوية. والنفس التي كانت تقف متهيبة أمام نشاط البشر ومجد العمران لم تعد تشعر بغير شقاء الفقراء وتعاسة الساقطين. فما أحلى أيام الحب وما أعذب أحلامها، وما أمرّ ليالي الحزن وما أكثر مخاوفها. وفي نهاية الأسبوع وقد سكرت نفسي بخمرة عواطفي سرت مساء إلى منزل سلمى كرامة ــ ذلك الهيكل الذي أقامه الجمال وقدسه الحب لتسجد فيه النفس مصلية ويركع القلب خاشعاً ــ ولما بلغته ودخلت إلى تلك الحديقة الهادئة أحسست بوجود قوة تستهويني وتستميلني وتبعدني عن هذا العالم وتدنيني ببطء إلى عالم سحري خال من العراك والجهاد، ومثل متصوف جذبته السماء إلى مسارح الرؤيا وجدتني سائراً بين تلك الأشجار المحتبكة والزهور المتعانقة، حتى إذا ما اقتربت من باب الدار التفت وإذا سلمى جالسة على ذلك المقعد بظلال شجرة الياسمين حيث جلسنا منذ أسبوع في تلك الليلة التي اختارتها الآلهة من بين الليالي وجعلتها بدء سعادتي وشقائي ــ فدنوت منها صامتاً فلم تحترك ولم تتكلم كأنها علمت بقدومي قبل قدومي، ولما جلست بجانبها أحدقت بعينيّ دقيقة وتنهدت تنهدة طويلة عميقة ثم عادت ونظرت إلى الشفق البعيد حيث تعبث أوائل الليل بأواخر النهار، وبعد هنيهة مملوءة بتلك السكينة السحرية التي تضم نفوسنا إلى مواكب الأرواح غير المنظورة، حولت سلمى وجهها نحوي وأخذت يدي بيد مرتعشة باردة، وبصوت يشابه تأوه جائع لا يقوى على الكلام قالت "أنظر إلى وجهي يا صديقي، أنظر إلى وجهي جيداً وتأمله طويلاً واقرأ فيه كل ما تريد أن تفهمه مني بالكلام... أنظر إلى وجهي يا حبيبي... أنظر جيداً يا أخي...".
فنظرت إلى وجهها ــ نظرت طويلاً فرأيت تلك الأجفان التي كانت منذ أيام قليلة تبتسم كالشفاه وتحترك كأجنحة الشحرور قد غارت وجمدت واكتحلت بخيالات التوجع والألم. رأيت تلك البشرة التي كانت بالأمس ثنايا الزنبقة البيضاء الفرحة بقبلات الشمس قد اصفرت وذبلت وتبرقعت بنقاط القنوط. رأيت الشفتين اللتين كانتا كزهرة أقاح تسيل عليهما الحلاوة قد يبستا وصارتا كوردتين مرتجفتين أبقاهما الخريف على طرف الغصن، رأيت العنق الذي كان مرفوعاً كعمود العاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادراً على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
رأيت هذه الانقلابات الموجعة في ملامح سلمى: ــ رأيتها جميعها، ولكنها لم تكن في نظري إلا كسحابة رقيقة توشح القمر فتزيد منظره حسناً وهيبة. إن الملامح التي تبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالاً وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة. أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسقة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشف بلورها عن لون الخمر، فسلمى كرامة كانت في عشية ذلك النهار كأس طافحة من خمرة علوية تمتزج بدقائقها مرارة العيش بحلاوة النفس ــ كانت تمثل على غير معرفة منها حياة المرأة الشرقية التي لا تغادر منزل والدها المحبوب إلا لتضع عنقها تحت نير زوجها الخشن. ولا تترك ذراعي أمها الرؤوف إلا لتعيش في عبودية والدة زوجها القاسية.
وبقيت محدقاً بوجه سلمى مصغياً لأنفاسها المتقطعة صامتاً مفكراً، شاعراً متألماً معها ولها، حتى أحسست أن الزمن قد وقف عن مسيره والوجود قد انحجب واضمحل ولم أعد أرى سوى عينين كبيرتين محدقتين بأعماقي، ولا أشعر بغير يد باردة مرتعشة تضم يدي، ولم أفق من هذه الغيبوبة حتى سمعت سلمى تقول بهدوء "تعال نتحدث الآن يا صديقي. تعال نحاول تصوير المستقبل قبل أم يحمل علينا بمخاوفه وأهواله. لقد ذهب والدي إلى منزل الرجل الذي سيكون رفيقاً لي حتى القبر ــ قد ذهب الرجل الذي اختارته السماء سبباً لوجودي ليلتقي بالرجل الذي انتقته الأرض سيداً على أيامي الآتية، ففي قلب هذه المدينة يجتمع الآن الشيخ الذي رافق شبيبتي بالشاب الذي سيرافق ما بقي لي من السنين، وفي هذه الليلة يتفق الوالد والخطيب على يوم القران الذي سيكون قريباً مهما جعلاه بعيداً فما أغرب هذه الساعة وما أشد تأثيرها... في مثل هذه الليلة من الأسبوع الغابر، وفي ظلال هذه
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الياسمينة قد عانق الحب روحي لأول مرة بينما كان القدر يخط أول كلمة من حكاية مستقبلي في دار المطران بولس غالب. وفي هذه الساعة وقد جلس والدي وخطيبي ليضفرا إكليل زواجي أراك جالساً بجانبي وأشعر بنفسك متموجة حولي كطائر ظامئ يحوم مرفرفاً فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف فما أظلم هذه الليلة وما أعمق أسرارها". فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحاً مظلماً قابضاً على عنق حبنا ليميته في طفولته "سيظل هذا الطائر حائما مرفرفاً فوق الينبوع حتى يضنيه العطش فيرديه أو يقبض عليه الثعبان المخيف فيمزقه ويلتهمه".
فقالت متأثرة وصوتها يرتجف كالأوتار الفضية "لا. لا يا صديقي فليبق هذا الطائر حياً. ليبق هذا البلبل مغرداً حتى المساء، حتى ينتهي الربيع، حتى ينتهي العالم، حتى تنتهي الدهور لا تخرصه لأن صوته يحييني ولا توقف جناحيه لأن حفيفهما يزيل الضباب عن قلبي".
فهمست متنهداً "الظمأ يقتله يا سلمى والخوف يميته".
فأجابت والكلام يتدفق بسرعة من بين شفتيها المرتعشتين "إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد. ولكن اسمع يا حبيبي ــ اسمعني جيداً ــ أنا واقفة الآن في باب حياة جديدة لا أعرف عنها شيئاً. أنا مثل عمياء تتلمس بيدها الجدران مخافة السقوط. أنا جارية أنزلني مال والدي إلى ساحة النخاسين فابتاعني رجل من بين الرجال. أنا لا أحب هذا الرجل لأنني أجهله وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان ولكنني سوف أتعلم محبته، سوف أطيعه وأخدمه وأجعله سعيداً سوف أهبه كل ما تقدر المرأة الضعيفة أن تهب الرجل القوي، أما أنت فلم تزل في ربيع العمر. أمامك الحياة طريقاً وسيعة مفروشة بالأزهار والرياحين، سوف تخرج إلى ساحة العالم حاملا ً قلبك مشعلاً متقداً، سوف تفتكر بحرية، وبحرية تتكلم وتفعل سوف تكتب على وجه الحياة لأنك رجل، سوف تعيش سيداً لأن فاقة والدك لا تجعلك عبداً، وأمواله لا تنزل بك إلى سوق النخاسين حيث تباع البنات وتشترى، سوف تقترن بالصبية التي تختارها لنفسك من بين الصبايا فتسكنها صدرك قبل أن تسكنها منزلك وتشاركها بأفكارك قبل أن تساهمها الأيام والليالي.
وسكتت دقيقة كيما تسترجع أنفاسها ثم زادت بصوت تتابعه الغصات " ولكن أههنا تفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلى أمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة؟ أهكذا ينقضي الحلم الجميل وتندثر الحقيقة العذبة؟ أهكذا تبتلع اللجة نغمة الشحرور وتنثر الرياح أوراق الوردة وتسحق الأقدام كأس الخمر؟ أباطلاً أوقفتنا تلك الليلة أمام وجه القمر وباطلاً ضمنا الروح في ظلال هذه الياسمينة؟ هل تسرعنا بالصعود نحو الكواكب فكلت أجنحتنا وهبطت بنا إلى الهاوية؟ هل فاجأنا الحب نائماً فاستيقظ غاضباً ليعاقبنا أم هيجت أنفسنا نسمات الليل فانقلبت ريحاً شديدة لتمزقنا وتجرفنا كالغبار إلى أعماق الوادي؟ لم نخالف وصية ولم نذق ثمراً فكيف نخرج من هذه الجنة ــ لم نتآمر ولم نتمرد فلماذا نهبط إلى الجحيم.. لا لا وألف لا ولا. إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال، والشعاع الذي أنار نفسينا هو أقوى من الظلام، فإن فرقتنا العاصفة على وجه هذا البحر الغضوب فالأمواج تجمعنا على ذلك الشاطئ الهادئ وإن قتلتنا هذه الحياة فذاك الموت يحيينا.... إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلاً ولكنه لا يموت، قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة، ويظل فيه الربيع ربيعاً والخريف خريفاً إلى نهاية الدهور... والآن قد قضي الأمر فماذا نفعل؟ قل ماذا نفعل وكيف نفترق وأين ومتى نلتقي؟ هل نحسب الحب ضيفاً غريباً أتى المساء وأبعده الصباح، أتحسب هذه العاطفة النفسية حلماً أبانه الكرى ثم أخفته اليقظة؟ أتحسب هذا الأسبوع ساعة سكر ما لبثت أن قضت بالصحو والانتباه؟ ارفع رأسك لأرى عينيك يا حبيبي. افتح شفتيك لأسمع صوتك. تكلم أخبرني، حدثني هل تذكرني بعد أن تغرق العاصفة سفينتي أيامنا؟ هل تسمع حفيف أجنحتي في سكينة الليل؟ هل تشعر بأنفاسي متموجة على وجهك وعنقك؟ هل تصغي لتنهداتي متصاعدة بالتوجع منخفضة بالمغصات؟ هل ترى خيالي قادماً مع خيالات الظلام مضمحلاً مع ضباب الصباح؟ قل لي يا حبيبي ــ قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نوراً لعيني ونغمة لأذني وجناحاً لروحي، ماذا تكون؟".
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)