من عاصر الأشغانيين من ملوك العرب
فكان أوّل من ملك منهم:
مالك بن فهم، وملوك الفرس طوائف، وقد دخل الوهن عليهم، وطمع فيهم.
ثم ملك أخوه عمرو بن فهم.
ثم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، فقوى أمره، وكان جيّد الرأي، شديد النكاية في الأعداء بعيد المغار. فاستجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وعظّمته العرب، وكنت - عن برص به - ب « الأبرش » وب « الوضّاح »، فكان تفد عليه الوفود، وتجبى إليه الأموال.
وكان عنده غلام من إياد يقال له: عديّ بن نصر بن ربيعة، وضيء، له جمال وظرف، يلي شرابه. فعشقته أخت جذيمة رقاش، وما زالت تحتال، وتواطئه، حتى زوّجها الملك بعديّ في سكره. فوطئها من ليلته وعلقت منه. فلما أصبح جذيمة وعرف الخبر، ندم ندامة شديدة. وعرف عديّ الخبر، فهرب، ولحق بإياد حتى هلك. واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما وسمّته عمرا. فترعرع الغلام وحسن وبرع، فالبسته وحلّته، وأزارته خاله جذيمة، فأعجب به، وأحبّه، وخلطه بولده، وأمر فطوّق، وهو أوّل عربيّ ألبس طوقا. ثم تزعم العرب أنّ الجنّ استهوته زمانا إلى أن عاد إلى جذيمة. وله خبر.
عمرو بن ظرب
وكان قد ملك بأرض الحيرة ومشار [ ف ] بلاد الشام، عمرو بن ظرب بن حسّان العمليقى. فجمع جذيمة جموعه من العرب ليغزوه. وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام. فالتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وفضّت جموعه، وغنمه جذيمة وانصرف موفورا. فملكت من بعده ابنته:
الزباء
واسمها نائلة. وكان جنودها بقايا من العماليق، والعاربة الأولى، وقبائل من قضاعة. فلمّا استحكم حكمها، أجمعت على غزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها. واستشارت أهل الرأي، فأشير عليها بالعدول عن الحرب إلى المكر، وأعلموها أنّها امرأة، والحرب سجال بين الرجال، وأنّها لو قد هزمت كان البوار، وأعلموها من غبّ مباشرة مثلها للحرب، ما كرهته.
وأشارت عليها أختها « زنيبة » وكانت ذات دهاء وإرب - أن تأتى الأمر من جهة الخدع والمكر، وأن تكتب إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها.
فقبلت ذلك وكتبت إليه:
أنها لم تجد ملك النساء إلّا إلى قبح في السماع، وضعف في السلطان وقلّة ضبط للمملكة، وأنّها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا « غيرك. فهلمّ إليّ، واجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتولّ تدبيري كلّه وأمري، لتموت الضغائن والأحقاد، وتزول عن قلوب الناس ما خامرها من العداوات. » فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها بمخاطبات شبيهة بهذا المعنى، استخفّه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع أهل الرأي من أصحابه، فاستشارهم. فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولى على ملكها.
وكان فيهم رجل يقال له:
قصير بن سعد
وكان سعد هذا تزوّج أمة تخدم لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان حازما، أريبا، أثيرا عند جذيمة. فخالفهم في ما أشاروا به عليه، وقال:
« رأى فاتر وغدر حاضر. » - فذهب مثلا.
فنازعوه الرأي، فقال لجذيمة:
« أكتب إليها: فلتقبل إليك إن كانت صادقة. فإن لم تفعل. لم تسر إليها ممكّنا [ إيّاها ] من نفسك وقد وترتها، وقتلت أباها. » فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال جذيمة:
« أنت امرؤ رأيك في الكنّ، لا في الضحّ » - فذهبت مثلا.
دعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ، فاستشاره، فشجّعه على المسير، وقال:
« هناك نمارة قومي، ولو قد رأوك، صاروا معك. » فأطاعه وعصى قصيرا. فقال قصير:
« لا يطاع لقصير أمر. » وفي ذلك يقول الشعراء ما حذفناه طلب الإيجاز.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه وسلطانه. وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربيّ. فلمّا نزل رحبة مالك بن طوق - وكان تدعى في ذلك الزمان « الفرضة» - دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ »
فقال: « ببقّة تركت الرأي. »
فذهبت مثلا. واستقبلته رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: « يا قصير كيف ترى؟ » قال:
« خطر يسير في خطب كبير - فذهبت مثلا - وستلقاك الخيل، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك، فالقوم غادرون، فاركب العصا، فإني مسايرك عليها. » وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولّيا على متنها، فقال:
« ويل أمّه حزما على ظهر العصا. » - فذهبت مثلا.
ونجا قصير، وأدخل على الزبّاء. فلما رأته كشفت له عن إسبها، فإذا هو مضفور. فقالت:
« يا جذيمة! أدأب عروس ترى؟ » - فذهبت مثلا.
فقال: « بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى. » - فذهبت مثلا.
فتمّت حيلتها على جذيمة، حتى قتلته بأن قطعت راهشيه، في خبر طويل، وأمثال محفوظة. فهلك جذيمة، وخرج قصير حتى قدم على عمرو بن عديّ
وهو بالحيرة.
فقال له قصير: « أداثر، أم ثائر؟ » فقال: « بل ثائر سائر. » - فذهبت مثلا.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر حيلة لقصير على الزباء تمت له عليها
كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا:
« نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين. » ووصفوا قصيرا وعمرو بن عديّ، وقالوا:
« لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون. » فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني.
ثم دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت:
« سر حتى تقدم على عمرو بن عديّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثم أثبت عمرو بن عديّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إليّ. » فانطلق المصوّر، حتى قدم على عمرو بن عديّ وبلغ جميع ما وصّته به، ثم رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته.
ثم إنّ قصيرا قال لعمرو: « إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها. » فقال عمرو: « وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ مني لذلك. » فقال قصير: « خلّ عني إذا وخلاك ذمّ. » فذهبت مثلا.
فقال له عمرو: « فأنت أبصر. » فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء.
فسار قصير حتى قدم على الزبّاء. فقيل لها: « إنّ قصيرا بالباب. » فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب.
فقالت: « ما الذي أرى بك يا قصير؟ » قال: « زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. » فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها:
« إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق. » فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت:
« انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها. » فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال:
« جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك، وتقتل عدوّك. » فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عديّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها.
ثم عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو:
« اجمع إليّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لي الغرائر والمسوح. » وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال:
« إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف. » ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عديّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:
« بيدي، لا بيدك يا عمرو! » فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ سالما.
عمرو بن عدي
وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه ومحجره، ولا يتجاوزه، فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [ له ] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثم يتشمّر عند الطلب راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عديّ، ابن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم واستكفائهم أمر من وليهم من العرب.
طسم وجديس
وممّن أساء السيرة فاصطلم، طسم وجديس، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار.
فقال لرؤساء قومه:
« قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإني أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ. » قالوا: « وما ذاك؟ » فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال:
« إني صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه. » فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال:
« إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا. » وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
حدة بصر اليمامة
فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح:
« أبيت اللعن، إنّ لي أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه. » ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس:
« لقد سارت حمير. » فكذّبوها وقالوا:
« ما الذي ترين؟ » قالت: « أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها. » فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.
الساسانية ومن عاصرهم أردشير بن بابك
ثم لمّا استولى أردشير بن بابك على الأرمانيّين (و هم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان - ويسمّى « شاهنشاه»)، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [ الأوّل ]: « تنوخ »، وهم من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربيّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها.
والثلث الثاني: « العبّاد »، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث:
« الأخلاف »، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عديّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون.
ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب « تنسر »، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه.
وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته:
عهد أردشير
« باسم وليّ الرحمة. من ملك الملوك أردشير بن بابك، إلى من يخلفه بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد، فإنّ صيغ الملوك على غير صيغ الرعية، فالملك يطبعه العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده في هذه الطبائع الأربع، حتى يسلمه إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [ السوقة ]، [ وقدرته المعجزة ]، ولا حزم إلّا في جميعها.
« اعلموا أنّ الذي أنتم لاقون بعدي، هو الذي لقيني من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [ بمثل الذي وردت به عليّ ]، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه أن قد فرع له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور الفساد، ويهاج بها قربات البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك. فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفيّ المظفر الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [ للشبهة ] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو صلاح ملكه حياته، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده.
« وقد علمت أنكم ستبلون مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين: كلّ هؤلاء - إلّا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة هي الخاصّة: فإن خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان.
« واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [ وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان ] على التهاون بهم، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع البنيان من صاحب العماد.
« وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير والجماعات بالتفصيل، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [ الجميل ] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته.
فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس معه، يحدّثونه، ويشاورونه، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة الإسكندر على ما غلب من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه إيّانا ما كان، وبالاعتبار تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا.
« واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [ المحروم ] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين - فيما يظهر - يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، وهو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [ جودة ] نحيزته إذا صيّر عقله خرابا [ مواتا ]، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين.
فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [ والمتبتّلين ] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ ودينهم ] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة الضرر للملك ولمن بعده.
« واعلموا أنّ مصير الوالي إلى غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [ الأنباء ] المحجوب عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم يوطّن نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء.
« اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم. ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.
« واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة ] وبشر وتهلل [ وعفو ] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية وتعنّت وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب وانقباض [ وتضييق وعقوبة ] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [ هذين البابين ] باب رفق وباب عنف، ولكني [ سمّيتهما ] جميعا « بابى رفق »، لأنّ فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه، حتى لا يبتلى به أحد. وفي الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ عليها من رقّته لها، ويقتل فيها من حرصه على حياتها.
« واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، وجبلت عليه الطباع، حبّ الحياة وبغض الموت، [ وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت ]، فلا دفع ولا منع ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [ في الناس ]، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم، وهم في ذلك مجتمعون - في اختلافهم - على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا. ثم يتولّد من تعاديهم أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [ للملك ] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة عليهم. لأنّ في الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثم يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوي الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت به العامّة الحاسدة المعادية، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [ وأضرّه، وأحنقه ]، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد هذا كله إذا ضيّع أوّله.
« فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة - من ذلك:
الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف - فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.
« ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه، ولا يقولنّ:
أخاف العسف. فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما يعسف عدوّه.
« ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها قوّة في [ إ ] صلاحها، فلا يكوننّ لقميص قمل بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار - إذا أتاه - وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
« واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض فيه، مع الهجنة في الرأي والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة.
« واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه.
« ثم إنه ليس منكم ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه، تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [ أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما ] وغر على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا.
فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثم ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على وليّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك - إذا لقيه - بحداثة عهده بحال السوقة، فلبس ذلك الملك - إذا لبسه - ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي سيناله، ما يكتفى به له من سكر ولاية العهد مع سكر الملك.
فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ ترقية ] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
« ثم اعلموا أنّه ليس للملك [ أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له ] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور.
« واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ.
« اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم على أن تجعلوا القبيح حسنا.
« واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحريّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا.
وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك.
« واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة.
« واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [ جميع ] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة.
« اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب فضلا عن الملك الغالب.
« اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [ عن ] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. « واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)