وفي الليلة الثامنة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس لما قال لعلي نور الدين إلى دار السلام مدينة بغداد نزل علي نور الدين ونزلت معها لجارية وعوموا ونشروا القلوع فساع بهم المركب وطاب لهم الريح. هذا ما جرى لهؤلاء وأما ما جرى للأربعين الذين أرسلهم السلطان فإنهم جاؤوا إلى بيت علي نور الدين فكسروا الأبواب ودخلوا وطافوا جميع الأماكن فلم يقفوا لهما على خبر، فهدموا الدار ورجعوا وأعلموا السلطان فقال: اطلبوهما في أي مكان كانا فيه فقالوا: السمع والطاعة، ثم نزل الوزير معين بن ساوي إلى بيته بعد أن خلع عليه السلطان خلعة وقال: لا يأخذ بثأرك إلا أنا فدعا له بطول البقاء واطمأن قلبه، ثم إن السلطان أمر أن ينادى في المدينة يا معاشر الناس كافة: قد أمر السلطان أن من عثر بعلي نور الدين بن خاقان وجاء به إلى السلطان خلع عليه خلعة وأعطاه ألف دينار ومن أخفاه أو عرف مكانه ولم يخبر به فإنه يستحق ما يجري عليه من النكال، فصار جميع الناس في التفتيش على علي نور الدين فلم يجدوا له أثر. هذا ما كان من هؤلاء. وأما ما كان من أمر علي نور الدين وجاريته فإنهما وصلا بالسلامة إلى بغداد فقال الريس: هذه بغداد وهي مدينة أمينة قد ولى عنها الشتاء ببرده وأقبل عليها فصل الربيع بورده وأزهرت أشجارها وجرت أنهارها، فعند ذلك طلع علي نور الدين هو وجاريته من المركب وأعطى الريس خمسة دنانير ثم سارا قليلاً فرمتهما المقادير بين البساتين فجاءا إلى مكانين فوجداه مكنوساً مرشوشاً بمصاطب مستطيلة وقواديس معلقة ملآنة ماء وفوقه مكعب من القصب بطول الزقاق وفي صدر الزقاق باب بستان إلا أنه مغلق فقال علي نور الدين للجارية: والله إن هذا محل ملتح فقالت: يا سيدي اقعد بنا ساعة على هذه المصاطب فطلعا وجلسا على المصاطب ثم غسلا وجهيهما وأيديهما واستلذا بمرور النسيم فناما وجل من لا ينام، وكان البستان يسمى بستان النزهة وهناك قصر يقال له: قصر الفرجة وهو للخليفة هارون الرشيد وكان الخليفة إذا ضاق صدره يأتي إلى البستان ويدخل ذلك القصر فيقعد فيه وكان القصر له ثمانون شباكاً معلقاً فيه ثمانون قنديلاً وفي وسطه شمعدان كبير من الذهب فإذا دخله الخليفة أمر الجواري أن تفتح الشبابيك وأمر إسحق النديم والجواري أن يغنوا ما يشرح صدره ويزول همه، وكان للبستان خولي شيخ كبير يقال له الشيخ إبراهيم، واتفق أنه خرج ليقضي حاجة من أشغاله فوجد المتفرجين معهم النساء وأهل الريبة فغضب غضباً شديداً فصبر الشيخ حتى جاء عنده الخليفة في بعض الأيام فأعلمه بذلك فقال الخليفة: كل من وجدته على باب البستان افعل به ما أردت .
فلما كان ذلك اليوم خرج الشيخ إبراهيم الخولي لقضاء حاجة عرضت له فوجد الاثنين نائمين في البستان مغطيين بإزار واحد فقال: أما عرفا أن الخليفة أعطاني إذناً أن كل من لقيته قتلته ولكن هذين ضرباً خفيفاً حتى لا يقترب أحد من البستان ثم قطع جريدة خضراء وخرج إليهما ورفع يده فبان بياض إبطه وأراد ضربهما فتفكر في نفسه وقال: يا إبراهيم كيف تضربهما ولم تعرف حالهما وقد يكونان غريبان أو من أبناء السبيل ورمتهما المقادير هنا. سأكشف عن وجهيهما وأنظر إليهما، فرفع الإزار عن وجهيهما وقال: هذان حسنان لا ينبغي أن أضربهما، ثم غطى وجهيهما وتقدم إلى رجل علي نور الدين وجعل يكبسها ففتح عينيه فوجده شيخاً كبيراً فاستحى علي نور الدين ولم رجليه واستوى قاعداً وأخذ يد الشيخ فقبلها فقال له: يا ولدي من اين أنتم؟ فقال له: يا سيدي نحن غرباء وفرت الدمعة من عينيه فقال الشيخ إبراهيم: يا ولدي اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إكرام الغريبن، ثم قال له: ياولدي أما تقوم وتدخل البستان وتتفرج فيه فينشرح صدرك؟ فقال له نور الدين: يا سيدي هذا البستان من يخص؟ فقال: يا ولدي هذا ورثته من أهلي وما كان قصد الشيخ إبراهيم بهذا الكلام إلا أن يطمئنهما ليدخلا البستان. فلما سمع نور الدين كلامه شكره وقام هو وجاريته والشيخ إبراهيم قدامهما فدخلوا البستان فإذا هو بستان بابه مقنطر عليه كروم وأعنابه مختلفة الألوان، الأحمر كأنه ياقوت والأسود كأنه أبنوس، فدخلوا تحت عريشة فوجدوا فيها الأثمار صنوان والأطيار تغرد بالألحان على الأغصان، والهزار يترنم والقمر ملأ بصوته المكان والشحرور كأنه في تغريده إنسان والأثمار قد أينعت أثمارها من كل مأكول ومن فاكهة زوجان والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان والبرقوق كأنه لون الحسان والقراصية تذهل عقل كل إنسان والتين ما بين أحمر وأبيض وأخضر من أحسن الألوان والزهر كأنه اللؤلؤ والمرجان والورد يفضح بحمرته خدود الحسان والبنفسج كأنه الكبريت دنا من النيران والآس والمنتور والخزامى مع شقائق النعمان، وتكالمت تلك الأوراق بمدامع الغمام وضحك ثغر الأقحوان وصار النرجس ناظر إلى ورد بعيون السودان والأترج كأنه أكواب والليمون كبنادق من ذهب وفرشت الأرض بالزهر من سائر الألوان وأقبل الربيع فأشرق ببهجته المكان والنهر في خرير والطير في هدير والريح في صفير والطقس في اعتدال والنسيم في اعتلال، ثم دخل بهما الشيخ إبراهيم القاعة المغلقة، فابتهجوا بحسن تلك القاعة وما فيها من اللطائف الغريبة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ إبراهيم دخل القاعة ومعه علي نور الدين والجارية وجلسوا بجانب بعض الشبابيك فتذكر علي نور الدين المقاساة التي مضت له فقال: والله إن هذا المكان في غاية الحسن، لقد فكرني بما مضى وأطفأ من كربي جمر الغضى، ثم إن الشيخ إبراهيم قدم لهما الأكل فأكلا كفايتهما ثم غسلا ايديهما وجلس علي نور الدين في شباك من تلك الشبابيك وصاح على جاريته فأتت إليه فصارا ينظران إلى الأشجار وقد حملت سائر الأثمار ثم التفت علي نور الدين إلى الشيخ إبراهيم وقال له: يا شيخ إبراهيم أما عندك شيء من الشراب لأن الناس يشربون بعد أن يأكلوا فجاءه الشيخ إبراهيم بماء حلو بارد فقال له نور الدين ما هذا الشراب الذي تريده؟ فقال له: أتريد خمراً؟ فقال له نور الدين: نعم فقال: أعوذ بالله منها إن لي ثلاثة عشر عاماً ما فعلت ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاربه وعاصره وحامله، فقال له نور الدين: اسمع مني كلمتين. قال: قل ما شئت. قال: إذا لم تكن عاصر الخمر ولا شاربه ولا حامله هل يصيبك من لعنهم شيء؟ قال: لا قال: خذ هذين الدينارين وهذين الدرهمين واركب هذا الحمار وقف بعيداً وأي إنسان وجدته يشتري فصح عليه وقل له: خذ هذين الدرهمين واشتر بهما خمراً واحمله على الحمار وحينئذ لا تكون شارباً ولا حاملاً ولا عاصراً ولا يصيبك شيء مما يصيب الجميع.
فقال الشيخ إبراهيم وقد ضحك من كلامه: والله ما رأيت أظرف منك ولا أمحل من كلامك فقال له نور الدين: نحن صرنا محسوبين عليك وما عليك إلا الموافقة فهات لنا بجميع ما نحتاج إليه فقال له الشيخ إبراهيم: يا ولدي هذا كراري قدامك وهو الحاصل المعد لأمير المؤمنين فادخله وخذ منه ما شئت فإن فيه ما تريد، فدخل علي نور الدين الحاصل فرأى فيه أواني من الذهب والفضة والبلور مرصعة بأصناف الجواهر فأخرج منها ما أراد وسكب الخمر في البواطي والقناني وصار هو وجاريته يتعاطيان واندهشا من حسن ما رأيا. ثم إن الشيخ إبراهيم جاء إليهما بالمشموم وقعد بعيداً عنهما، فلم يزالا يشربان وهما في غاية الفرح حتى تحكم معهما الشراب واحمرت خدودهما وتغازلت عيونهما واسترخت شعورهما فقال الشيخ إبراهيم ما لي أقعد بعيداً عنهما؟ كيف أقعد عندهما وأي وقت اجتمع في قصرنا مثل هذين الاثنين اللذين كأنهما قمران، ثم إن الشيخ تقدم وقعد في طرف الإيوان فقال له علي نور الدين: يا سيدي بحياتي أن تتقدم عندنا فتقدم الشيخ عندهما فملأ نور الدين قدحاً ونظر إلى الشيخ إبراهيم وقال له: اشرب حتى تعرف لذة طعمه، فقال الشيخ: أعوذ باله إن لي ثلاث عشرة سنة ما فعلت شيئاً من ذلك، فتغافل عنه نور الدين وشرب القدح ورمى نفسه على الأرض وأظهر أنه غلب عليه السكر. فعند ذلك نظرت إليه أنيس الجليس وقالت له: يا شيخ إبراهيم انظر هذا كيف عمل معي قال لها: يا سيدتي ماله؟ قالت: دائماً يعمل معي هكذا فيشرب ساعة وينام وابقى وحدي لا أجد لي نديماً ينادمني على قدحي فإذا شربت فمن يعاطيني وإذا غنيت فمن يسمعني؟ فقال لها الشيخ إبراهيم وقد حنت أعضاؤه ومالت نفسه إليها من كلامها: لا ينبغي من النديم أن يكون هكذا، ثم إن الجارية ملأت قدحاً ونظرت إلى الشيخ إبراهيم وقالت: بحياتي أن تأخذه وتشربه ولا ترده فاقبله واجبر خاطري، فمد الشيخ إبراهيم يده وأخذ القدح وشربه، وملأت له ثانياً ومدت إليه يدها به وقالت له: يا سيدي بقي لك هذا فقال لها: والله لا أقدر أن أشربه فقد كفاني الذي شربته فقال له: والله لا بد منه فأخذ القدح وشربه، ثم أعطته الثالث فأخذه وأراد أن يشربه وإذا بنور الدين هم قاعداً وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي نور الدين هم قاعداً فقال له: يا شيخ إبراهيم أي شيء هذا؟ أما حلفت عليك من ساعة فأبيت وقلت أن لي ثلاثة عشر عاماً ما فعلته؟ فقال الشيخ إبراهيم وقد استحى: ما لي ذنب فإنما هي شددت علي فضحك نور الدين وقعدوا للمنادمة فالتفتت الجارية وقالت لسيدها: سر يا سيدي اشرب ولا تحلف على الشيخ إبراهيم حتى أفرجك عليه فجعلت الجارية تملأ وتسقي سيدها وسيدها يملأ ويسقيها ولم يزالا كذلك مرة بعد مرة، فنظر لهما الشيخ إبراهيم وقال لهما: أي شيء هذا وما هذه المنادمة ولا تسقياني وقد صرت نديمكما فضحكا من كلامه إلى أن أغمي عليهما ثم شربا وسقياه وما زالوا في المنادمة إلى ثلث الليل فعند ذلك قالت الجارية: يا شيخ إبراهيم عن إذنك هل أقوم وأوقد شمعة من هذا الشمع المصفوف؟ فقال لها: قومي ولا توقدي غلا شمعة واحدة فنهضت على قدميها وابتدأت من أول اشمع إلى أن أوقدت ثمانين شمعة ثم قعدت وبعد ذلك قال نور الدين: يا شيخ إبراهيم وأنا أي شيء حظي عندك أما تخليني أوقد قنديلاً من هذه القناديل؟ فقال له الشيخ إبراهيم: قم وأوقد قنديلاً واحداً ولا تتناقل أنت الآخر، فقام وابتدأ من أولها إلى أن أوقد ثمانين قنديلاً فعند ذلك رقص المكان.
فقال لهما الشيخ إبراهيم وقد غلب عليه السكر: أنتما أخرع مني، ثم إنه نهض على قدميه وفتح الشبابيك جميعاً وجلس معهما يتنادمون ويتناشدون الأشعار وابتهج بهم المكان فقدر الله السميع العليم الذي جعل لكل شيء سبباً حيث أن الخليفة كان في تلك الساعة جالساً في شبابيك مطلة على ناحية الدجلة في ضوء القمر فنظر إلى تلك الجهة فرأى ضوء القناديل والشموع في البحر ساطعاً فلاحت من الخليفة التفاتة إلى القصر الذي في البستان فرآه يلهج من تلك الشموع والقناديل فقال: علي بجعفر البرمكي، فما كان إلا لحظة وقد حضر جعفر البرمكي بين يدي أمير المؤمنين فقال له: يا كلب الوزراء أتخدمين ولا تعلمني بما يحصل في مدينة بغداد؟ فقال له جعفر: وما سبب هذا الكلام؟ فقال: لولا أن مدينة بغداد أخذت مني ما كان قصر الفرجة مبتهجاً بضوء القناديل والشموع وانفتحت شبابيكه ويلك من الذي يكون له القدرة على هذه الفعال غلا إذا كانت الخلافة أخذت مني، فقال جعفر وقد ارتعدت فرائصه: ومن أخبرك أن قصر الفرجة أوقدت فيه القناديل والشموع وفتحت شبابيكه؟ فقال له: تقدم عندي وانظر، فتقدم جعفر عند الخليفة ونظر ناحية البستان فوجد القصر كأنه شعلة من نور غلب على نور القمر، فأراد جعفر أن يعتذر عن الشيخ إبراهيم الخولي ربما هذا الأمر بإذنه لما رأى فيه من المصلحة فقال: يا أمير المؤمنين كان الشيخ إبراهيم في الجمعة التي مضت قال لي يا سيدي جعفر إني أريد أن أفرح أولادي في حياتك وحياة أمير المؤمنين فقلت له: وما مرادك بهذا الكلام؟ فقال لي: مرادي أن آخذ إذناً من الخليفة بأني أظاهر أولادي في القصر فقلت له: افعل ما شئت من فرح أولادك وإن شاء الله أجتمع بالخليفة وأعلمه بذلك فراح من عندي على هذه الحال ونسيت أن أعلمك. فقال الخليفة: يا جعفر كان لك عندي ذنب واحد فصار لك عندي ذنبان لأنك أخطأت من وجهين: الوجه الأول أنك ما أعلمتني بذلك والوجه الثاني أنك بلغت الشيخ إبراهيم مقصوده فإنه ما جاء إليك وقال لك هذا الكلام إلا تعريضاً بطلب شيء من المال يستعين به على مقصوده فلم تعطه شيئاً ولم تعلمني حتى أعطيه. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين نسيت فقال الخليفة: وحق آبائي وأجدادي ما أتم بقية ليلتي إلا عنده، فإنه رجل صالح يتردد إليه المشايخ ويساعد الفقراء ويؤاسي المساكين وأظن أن الجميع عنده في هذه الليلة فلا بد من الذهاب إليه لعل واحد منهم يدعو لنا دعوة يحصل لنا بها خيري الدنيا والآخرة وبما يحصل له نفع في هذا الأمر بحضوري ويفرح بذلك هو وأحبابه، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين إن معظم الليل قد مضى وهم في هذه الساعة على وجه الانفضاض فقال الخليفة: لا بد من الرواح عنده. فسكت جعفر وتحير في نفسه وصار لا يدري فنهض الخليفة على قدميه وقام جعفر بين يديه ومعهما مسرور والخادم ومشى الثلاثة متنكرين ونزلوا من القصر وجعلوا يشقون الطريق في الأزقة وهم في زي التجار إلى أن وصلوا إلى البستان المذكور فتقدم الخليفة فرأى البستان مفتوحاً فتعجب وقال: انظر الشيخ إبراهيم كيف ترك الباب مفتوحاً إلى هذا الوقت وما هي عادته، ثم أنهم دخلوا إلى أن انتهوا إلى آخر البستان ووقفوا تحت القصر، فقال الخليفة: يا جعفر أريد أن أتسلل عليهم قبل أن أطلع عندهم حتى أنظر ما عليه المشايخ من النفحات وواردات الكرمات فإن لهم شؤوناً في الخلوات والجلوات لأننا الآن لم نسمع صوتاً ولم نر لهم أثراً، ثم إن الخليفة نظر فرأى شجرة جوز عالية فقال: يا جعفر أريد أن أطلع على هذه الشجرة فإن فروعها قريبة من الشبابيك وأنظر إليهم ثم إن الخليفة طلع فوق الشجرة ولم يزل يتعلق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشباك وقعد فوقه ونظر من شباط القصر فرأى صبية وصبياً كأنهما قمران سبحان من خلقهما ورأى الشيخ إبراهيم قاعداً وفي يده قدح وهو يقول يا سيدة الملاح الشرب بلا طرب غير فلاح، ألم تسمعي قول الشاعر: أدرها بالكبير وبالصـغـير وخذها من يد القمر المنـير ولا تشرب بلا طرب فإنـي رأيت الخيل تشرب بالصفير
فلما عاين الخليفة من الشيخ إبراهيم هذه الفعال قام عرق الغضب بين عينيه ونزل وقال: يا جعفر أنا ما رأيت شيئاً من كرمات الصالحين مثل ما رأيت في هذه الليلة فاطلع أنت الآخر على هذه الشجرة وانظر لئلا تفوتك بركات الصالحين، فلما سمع جعفر كلام أمير المؤمنين صار متحيراً في أمره وصعد إلى أعلى الشجرة وإذا به ينظر فرأى علي نور الدين والشيخ إبراهيم والجارية وكان الشيخ إبراهيم في يده القدح فلما عاين جعفر تلك الحالة أيقن بالهلاك ثم نزل فوقف بين يدي أمير المؤمنين فقال الخليفة: يا جعفر الحمد لله الذي جعلنا من المتبعين لظاهر الشريعة المطهرة وكفانا شر تلبيات الطريقة المزورة فلم يقدر جعفر أن يتكلم من شدة الخجل ثم نظر الخليفة إلى جعفر وقال: يا هل ترى من أوصل هؤلاء إلى هذا المكان ومن أدخلهم قصري؟ ولكن مثل هذا الصبي وهذه الصبية ما رأت عيني حسناً وجمالاً وقداً واعتدالاً مثلهما. فقال جعفر وقد استرجى رضا الخليفة: صدقت يا أمير المؤمنين. فقال: يا جعفر اطلع بنا على هذا الفرع الذي هو مقابلهم لنتفرج عليهم، فطلع الاثنان على الشجرة ونظراهما فسمع الشيخ إبراهيم يقول: يا سيدتي قد تركت الوقار بشرب العقار ولا يلذ ذلك إلا بنغمات الأوتار فقالت له أنيس الجليس: يا شيخ إبراهيم والله لو كان عندي شيء من آلات الطرب لكان سرورنا كاملاً، فلما سمع الشيخ إبراهيم كلام الجارية نهض قائماً على قدميه فقال الخليفة لجعفر: يا ترى ماذا يريد أن يعمل؟ فقال جعفر: لا أدري. فغاب الشيخ إبراهيم وعاد ومعه عوداً فتأمله الخليفة فإذا هو عود إسحق النديم، فقال الخليفة: والله إن غنت الجارية ولم تحسن الغناء صلبتكم كلكم وإن غنت وأحسنت الغناء فإني أعفوا عنهم وأصلبك أنت، فقال جعفر: اللهم اجعلها لا تحسن الغناء فقال الخليفة: لأي شيء؟ فقال: لأجل أن تصلبنا كلنا فيؤانس بعضنا بعضاً فضحك الخليفة، وإذا بالجارية أخذت العود وأصلحت أوتاره وضربت ضرباً يذيب الحديد ويفطن البليد وأخذت تنشد هذه الأبيات: أضحى التنائي بديلاً من تدانـينـا وناب عن طيب لقيانا تجافـينـا بنتم وبنا فما ابتلت جـوانـحـنـا شوقاً إليكم ولا جفت مـآقـينـا غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا بأن نغص فقال الدهـر آمـينـا ما الخوف أن تقتلونا في منازلنـا وإنما خوفنا أن تأثـمـوا فـينـا فقال الخليفة: والله يا جعفر عمري ما سمعت صوتاً مطرباً مثل هذا فقال جعفر: لعل الخليفة ذهب ما عنده من الغيظ؟ قال: نعم، ثم نزل من الشجرة هو وجعفر ثم التفت إلى جعفر وقال: أريد أن أطلع وأجلس عندهم واسمع الصبية تغني قدامي فقال أمير المؤمنين: إذا طلعت عليهم ربما تكدروا وأما الشيخ إبراهيم فإن
يموت من الخوف، فقال الخليفة: يا جعفر لا بد أن تعرفني حيلة أحتال بها على معرفة حقيقة هذا الأمر من غير أن يشعروا باطلاعنا عليهم ثم إن الخليفة هو وجعفر ذهبا إلى ناحية الدجلة وهما متفكران في هذا الأمر وإذا بصياد واقف يصطاد وكان الصياد تحت شبابيك القصر فرمى شبكته ليصطاد ما يقتات به وكان الخليفة سابقاً صاح على الشيخ إبراهيم وقال له: ما هذا الصوت الذي سمعته تحت شبابيك القصر؟ فقال له الشيخ إبراهيم: صوت الصيادين الذين يصطادون السمك فقال: انزل وامنعهم من ذلك الموضع فامتنع الصيادون من ذلك الموضع فلما كانت تلك الليلة جاء صياد يسمى كريماً ورأى باب البستان مفتوحاً فقال في نفسه: هذا وقت غفلة لعلي أستغنم في هذا الوقت صياداً ثم أخذ شبكته وطرحها في البحر وصار ينشد هذه الأبيات: يا راكب البحر في الأهوال والهلكة أقصر عناك فليس الرزق بالحركة أما ترى البحر والصياد منتـصـب في ليلة ونجوم الليل مـحـتـبـكة قد مد أطنابه والمـوج يلـطـمـه وعينه لم تزل في كلل الـشـبـكة حتى إذا بات مسروراً بهـا فـرحـاً والحوت قد حط في فخ الردى حنكه وصاحب القصر أمسى فيه ليلـتـه منعم البال في خير مـن الـبـركة وصار مستيقظاً من بعـد قـدرتـه لكن في ملكه ظبياً وقـد مـلـكـه سبحان ربي يعطي ذا ويمنـع ذا بعض يصيد وبعض يأكل السمكة فلما فرغ من شعره وإذا بالخليفة وحده واقف بجانبه فعرفه الخليفة فقال له: يا كريم فالتفت إليه لما سمعه سماه باسمه فلما رأى الخليفة ارتعدت فرائصه وقال: ولله يا أمير المؤمنين ما فعلته استهزاء بالمرسوم ولكن الفقر العيلة قد حملاني على ما ترى فقال الخليفة: اصطاد على بختي فتقدم الصياد وقد فرح فرحاً شديداً وطرح الشبكة وصبر إلى أن أخذت حدها وثبتت في القرار فطلع فيها من أنواع السمك ما لا يحصى ففرح بذلك الخليفة فقال: يا كريم اقلع ثيابك فقلع ثيابه وكانت عليه جبة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن وفيها من القمل الذي له أذناب ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض وقلع عمامته من فوق رأسه وكان له ثلاث سنين ما حلها وإنما كان إذا رأى خرقة لفها عليها، فلما قلع الجبة والعمامة خلع الخليفة من فوق جسمه ثوبين من الحرير الإسكندراني والبعلبكي وملوطة وفرجية، ثم قال للصياد: خذ هذه والبسها ثم لبس الخليفة جبة الصياد وعمامته ووضع على وجهه لثاماً ثم قال للصياد: رح أنت إلى شغلك فقبل رجل الخليفة وأنشد هذين البيتين: أوليتني ما لا أقوم بـشـكـره وكفيتني كل الأمور بأسرهـا فلأشكرنك ما حييت وإن أمـت شكرتك مني عظمي في قبرها فلما فرغ الصياد من شعره حتى جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي، ثم قال: يا صياد ويلك ما هذا القمل الكثير في هذه الجبة؟ فقال: يا سيدي أنه في هذه الساعة يؤلمك فإذا مضت عليك جمعة فإنك لا تحس به ولا تفكر فيه، فضحك الخليفة وقال له: ويلك كيف أخلي هذه الجبة على جسدي؟ فقال الصياد: إني أشتهي أن أقول لك كلاماً ولكن أستحي من هيبة الخليفة فقال له: قل ماعندك؟ فقال له: قد خطر ببالي يا أمير المؤمنين أنك إن أردت أن تتعلم الصيد لأجل أن تكون في يدك صنعة تنفعك فإن أردت ذلك يا أمير المؤمنين فإن هذه الجبة تناسبك فضحك الخليفة من كلام الصياد ثم ولى الصياد إلى حال سبيله وأخذ الخليفة مقطف السمك ووضع فوقه قليلاً من الحشيش وأتى به إلى جعفر. ووقف بين يديه فاعتقد جعفر أنه كريم الصياد فخاف عليه وقال: يا كريم ما جاء بك هنا انج بنفسك فإن الخليفة هنا في هذه الساعة، فلما سمع الخليفة كلام جعفر ضحك حتى استلقى على قفاه فقال جعفر: لعل مولانا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: نعم يا جعفر وأنت وزيري وجئت أنا وإياك هنا وما عرفتني فكيف يعرفني الشيخ إبراهيم وهو سكران؟ فكن مكانك حتى أرجع إليك. فقال جعفر: سمعاً وطاعة، ثم إن الخليفة تقدم إلى باب القصر ودقه فقام الشيخ إبراهيم وقال: من بالباب؟ فقال له: أنا يا شيخ إبراهيم قال له: من أنت؟ قال له: أنا كريم الصياد، وسمعت أن عندك أضيافاً فجئت إليك بشيء من السمك فإنه مليح وكان نور الدين هو والجارية يحبان السمك فلما سمعا ذكر السمك فرحا به فرحاً شديداً وقالا: يا سيدي افتح له ودعه يدخل لنا عندك بالسمك الذي معه ففتح الشيخ إبراهيم فدخل الخليفة وهو في صورة الصياد وابتدأ بالسلام، فقال له الشيخ إبراهيم: أهلا باللص السارق المقامر، تعال أرنا السمك الذي معك فأراهم إياه، فلما نظروه فإذا هو حي يتحرك فقالت الجارية: والله يا سيدي إن هذا السمك مليح يا ليته مقلي فقال الشيخ إبراهيم: والله صدقت ثم قال للخليفة: يا صياد ليتك جئت بهذا السمك مقلياً قم فاقله لنا وهاته فقال الخليفة: على الرأس أقليه وأجيء به، فقال له: عجل بقليه والإتيان به فقام الخليفة يجري حتى وصل إلى جعفر، وقال: يا جعفر طلبوا السمك مقلياً فقال: يا أمير المؤمنين هاته وأنا أقليه. فقال الخليفة: وتربة آبائي وأجدادي ما يقليه إلا أنا بيدي ثم إن الخليفة ذهب إلى خص الخولي وفتش فيه فوجد فيه كل شيء يحتاج إليه من آلة القلي حتى الملح والزعتر وغير ذلك فتقدم للكانون وعلق الطاجن وقلاه قلياً مليحاً فلما استوى جعله على ورق الموز وأخذ من البستان ليموناً،وطلع بالسمك ووضعه بين أيديهم فتقدم الصبي والصبية والشيخ إبراهيم وأكلوا فلما فرغوا غسلوا أيديهم فقال نور الدين: والله يا صياد إنك صنعت معنا معروفاً هذه الليلة ثم وضع يده في جيبه وأخرج له ثلاثة دنانير من الدنانير التي أعطاه إياها سنجر وقت خروجه للسفر، وقال: يا صياد اعذرني فوالله لو عرفتك قبل الذي حصل لي سابقاً لكنت نزعت مرارة الفقر من قلبك، لكن خذ هذا بحسب الحال ثم رمى الدنانير للخليفة فأخذها وقبلها ووضعها في جيبه وماكان مراد الخليفة بذلك إلا السماع من الجارية وهي تغني، فقال الخليفة: أحسنت وتفضلت لكن مرادي من تصدقاتك العميمة أن هذه الجارية تغني لنا صوتاً حتى أسمعها فقال نور الدين: يا أنيس الجليس قالت: نعم قال لهاك وحياتي أن تغني لنا شيئاً من شأن خاطر هذا الصياد لأنه يريد أن يسمعك فلما سمعت كلام سيدها أخذت العود وغمزته بعد أن فركت أذنه وأنشدت هذين البيتين: وغادة لعبت بالعود أنـمـلـهـا فعادت النفس عند الجس تختلس قد أسمعت بالأغاني من به صمم وقال احسنت مغنى من به خرس ثم إنها ضربت ضرباً غريباً إلى أن أذهلت العقول فقال نور الدين للصياد: هل أعجبتك الجارية وتحريكها الأوتار؟ فقال الخليفة: أي والله فقال نور الدين هي هبة مني إليك هبة كريم لا يرجع في عطائه ثم إن نور الدين نهض قائماً على قدميه وأخذ ملوطة ورماها على الخليفة وهو في صورة الصياد وأمره أن يخرج ويروح بالجارية فنظرت الجارية وقالت: يا سيدي هل أنت رائح بلا وداع إن كان ولا بد فقف حتى أودعك وأنشدت هذين البيتين: لئت غيبتموا عني فإن محلـكـم لفي مهجتي بين الجوانح والحشا وأرجو من الرحمن جمعاً لشملنا وذلك فضل الله يؤتيه من يشـا فلما فرغت من شعرها أجابها نور الدين وهو يقول: ودعتني يوم الفراق وقالـت وهي تبكي من لوعة وفراق ما الذي أنت صانع بعد بعدي قلت قولي هذا لمن هو باقي ثم إن الخليفة لما سمع ذلك صعب عليه التفريق بينهما والتفت إلى الصبي وقال له: يا سيدي نور الدين اشرح لي أمرك، فأخبره نور الدين بحاله من أوله إلى آخره فلما فهم الخليفة هذا الحال قال له: أين تقصد في هذه الساعة؟ قال له: بلاد الله فسيحة فقال له الخليفة: أنا أكتب لك ورقة توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني فإذا قرأها لا يضرك بشيء، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)