صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 9 إلى 12 من 13

الموضوع: حي بن يقظان


  1. #9
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فوجوده لذلك غير متمكن، وحياته ضعيف، والبات أقوى حياة منه والحيوان أظهر حياة منه. وذلك أن ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد، فلقوته فيه يغلب طبائع الاسطقسات الباقية، ويبطل قواها، ويصير ذلك المركب في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل لاجل ذلك من الحياة آل شيئا يسيراً، كما إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة إلا يسيراً ضعيفاً وما كان من هذه المركبات لا تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد منها، فان الاسطقسات تكون فيه متعادلة متكافئة، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض فعلاً متساوياً، فلا يكون فعل أحد الاسطقسات أظهر فيه، ولا يستولي عليه أحدها، فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الاسطقسات، فكأنه لا مضادة لصورته، فيستأهل الحياة بذلك. ومتى زاد هذا الاعتدال وكان أتم وأبعد من الانحراف، كان بعده عن أن يوجد له ضد أكثر، وكانت حياته أكمل. ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء، صار في حكم الوسط ولم يضاده شيء من الاسطقسات مضادة بينه.
    فاستعد بذلك الصورة الحيوانية، فرأى أن الواجب إلى ذلك أن يكون أعدل ما في هذه الأرواح الحيوانية مستعداً لاتمم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد، وأن يكون ذلك الروح قريباً من أن يقال أنه لا ضد لصورته، فيشبه لذلك هذه الأجسام السماوية التي لا ضد لصورها؛ ويكون روح ذلك الحيوان، وكأنه وسط بالحقيقة بين الاسطقسات التي لا تتحرك إلى جهة العلو على الإطلاق، ولا إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يجعل في وسط المسافة بين المراكز وأعلى ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد، لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا نزول. ولو تحرك في المكان، لتحرك حول الوسط كما تتحرك الأجسام السماوية، ولو تحرك في الوضع، لتحرك على نفسه، وكان كروي الشكل إذ لا يمكن غير ذلك، فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية. ولما كان قد اعتقد أن أحوال الحيوان، ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود الواجب الوجود، وقد كان علم من ذاتها قد شعرت به، قطع ذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح، الشيبة بالأجسام السماوية وتبين لو انه نوع مباين لسائر الحيوان، وانه إنما خلق لغاية أخرى، وأعد لامر عظيم، لم يعد له شيء من أنواع الحيوان، وكفى به شرفاً أن يكون أحس جزأيه - وهو الجسماني - أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف، أمر رباني الهي يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس، ولا يتخيل، ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم! فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر أصناف الحيوان بمشابهة الأجسام السماوية، رأى إن الواجب عليه أن يتقبلها ويحاكي أفعالها ويتشبه بها جهده. وكذلك رأى أنه بجزئه الاشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، فيه شبه ما منه من حيث هو منزه عن صفات الأجسام، وكما أن الواجب الوجود منزه عنها، فرأى ايضاً انه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه من أي وجه أمكن، وان يتخلق بأخلاقه ويقتدي بأفعاله، ويجد في تنفيذ إرادته، ويسلم الآمر له، ويرضى بجميع حكمه، رضى من قلبه ظاهراً وباطناً، بحيث يسر به وان كان مؤلماً لجسمه وضاراً به ومتلفتاً لبدنه بالجملة. وكذلك رأى فيه شبهاً من سائر أنواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفساد، وهو البدن المظلم والكثيف، الذي يطالبه بأنواع المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ورأى أيضاً أن ذلك البدن لم يخلق له عبثاً ولا قرن به لامر باطل، ويجب عليه أن يتفقده ويصلح من شأنه. هذا التفقد لا يكون منه إلا بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان. فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق.
    واما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية. واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود. فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة، والقوى المختلفة، والمنازع المتفننة. والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى. والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو، أي: من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود. وكان أولاً قد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين. ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فأخر له النظر أنه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات: آما التشبه الأول، فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة، والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة؛ وانما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية.
    فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق،ولو كان لا يخلو من تلك المضرة. واما التشبه الثاني، فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. واما التشبه الثالث، فتحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه الا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت أو قليلة، إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود - جل وتعالى وعز. فلما تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الثالث، وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وان هذه المدة لا تدوم له بالتشبه الأول، وعلم أن التشبه الأول - وان كان ضرورياً، فانه عائق بذاته وان كان معيناً بالعرض لا بالذات لكنه ضروري- فألزم نفسه أن لا يجعل لها حظاً من هذا التشبه الأول، إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها. ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين: أحدهما: ما يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه وهو الغذاء. والأخر: ما يقيه من الخارج، ويدفع عنه وجوه الأذى: من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك. ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافاً كيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية. فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به. وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العبادات إليه. فنظر أولاً إلى أجناس ما به يتغذى، فرآها ثلاثة أضرب: أولاً: أما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها.
    ثانياً: واما ثمرات النبات الذي تم وانتهى وأخرج بذرة ليتكون منه أخر من نوعه حفظاً له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها. ثالثاً: واما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها: أما البرية واما البحرية. وكان قد صح عنده أن هذه الأجناس كلها، من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به. فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، لانه أن امتنع عنه أل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضاً على فاعله أشد من الأول، إذ هو أشرف من تلك الأشياء الآخر التي يكون فسادها سبباً لبقائه.
    فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن يأخذ من هذه الأجناس إذا عدمت آيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا. فأما إن كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذ إن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه كبير اعتراض على فعل فاعل، وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما. فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، كالتفاح والكمثرى والأجاص ونحوها، كان له عند ذلك إن يأكل آما الثمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر، كالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها. والشرط عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أكثره وجوداً، ويستأصل منه نوعاً بأسره. هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به. واما المقدر فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها. واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف يقطع به بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا. فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه يسيراً: إذ كان مكتسياً بالجلود، وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج، فاكتفى بذلك ولم يرى الاشتغال به، والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها. ثم اخذ في العمل الثاني، وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل أوصافها، فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أوصاف لها بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات، آو التبريد بالعرض، والإضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود. والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها.
    والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهد مشاهدة دائمة، وتعرض عنه، وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته. فجعل يتشبه بها جهده في كل من هذه الاضرب الثلاثة. آما الضرب الأول: فكان تشبه بها فيه: إن ألزم نفسه إن لا يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشاً يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر المؤذي، وتهده بالسقي ما أمكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء يؤذيه، آو مسه ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده واطعمه وسقاه. ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، آو جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه. وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية. واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره واسنانه ومغابن بدنه، وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى كان يتلألأ حسناً وجمالاً ونظافة وطيباً. والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشياً، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه.
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #10
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وأما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه، إن كان يلازم الفكرة في تلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات. ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يفكر في شيء سواه، ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها.
    فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر القوى التي إلى الألأت الجسمانية، وقوي فعل ذاته - التي هي بريئة من الجسم - فكانت في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى اسفل السافلين. ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الأغذية عن الشرائط المذكورة. ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة. ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في الأوقات التي يكون له عليها الظهور، وتتخلص فكرته عن الشوب، يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث.
    ثم جعل يطلب التشبه الثالث، ويسعى في تحصيله، فينظر في صفات الموجود الواجب الوجود. وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على ضربين: آما صفة ثبوت: كالعلم والقدرة والحكمة.
    وأما صففة سلب: كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الأجسام ولواحقها، وما يتعلق بها، ولو على بعد.
    وأن صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكون فيها شيء من صفات الأجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع كلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته. فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين. آما صفات الاجاب، فلما علم انها كلها راجعة إلى حقيقة ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائداً على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له انه إن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائداً على ذاته، بل هو هو! فرأى إن التشبه به من صفات الاجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئاً من صفات الأجسام؛ فاخذ نفسه بذلك. واما صقات السلب، فانها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية. فجعل يطرح اوصاف الجسمية عن ذاته. وكان قد طرح منها كثيراً في رياضته المتقدمة التي كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية. إلا انه أبقى منها بقايا كثيرة: كحركة الاستدارة - والحركة من أخص صفات الأجسام - وكل الاعتناء بأمر الحيوان والنبات والرحمة لها، والاهتمام بإزالة عوائقها. فان هذه أيضاً من صفات الأجسام، إذ لا يراها أولاً إلا بقوة جسمانية، ثم يكدح بأمرها بقوة جسمانية أيضاً. فاخذ في طرح ذلك كله عن نفسه، إذ هي بجملتها مما لا يليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن.
    وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقاً، غاضاً بصره، معرضاً عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركه؛ فمتى سنح بخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده، ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك. وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته، فانها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود.
    فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة. ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفه بالموجود الحق؛ وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباءً منثوراً، ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود.
    وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" لمن الملك اليوم لله الواحد القهار صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم.
    واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا إذن سمعت! ولا خطر على قلب بشر. فلا تعلق قلبك بوصف آمر لم يخطر على قلب بشر، فان كثيراً من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطورة على القلب، ولا هو من عالمه ولا من طوره!؟ ولست أعني بالقلب جسم القلب، ولا الروح التي في تجويفه بل أعني صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الإنسان، فان كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له قلب ولكن لا سبيل لخطور ذلك الآمر على واحد من هذه الثلاثة، ولا يتأتى التعبير إلا عما الخطر علها.
    ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون السواد مثلاً حلواً أو حامضاً.
    لكنا، مع ذلك، لا نخيلك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل قرع باب الحقيقية. إذ لا سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إلا بالوصول إليه.
    فأصغ الآن بسمع قلبك، وحدق ييصر إلى ما أشير به اليك لعلك أن تجد منه هدياً يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذه الاوراق فان المجال ضيق، والتحكم بالألفاظ على آمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر.
    فأقول: انه لما فني عن ذاتهوعن جميع وعن جميع الذوات ولم ير في الوجود إلا الواحد القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى ملاحظة الاغيار عندما آفاق من حالة تلك التي شبيه بالسكر، خطر بباله انه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وان حقيقة ذاته هي ذات الحق، وان الشيء الذي كان يظن أولاً انه ذات المغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق، وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها.
    فإنه وإن نسب إلى الجسم الذي يظهر فيه، فليس هو في الحقيقية شيئاً سوى نور الشمس. وان زال ذلك الجسم زال نوره، وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه.
    ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور، قبله، فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول، ولك يكن له معنى، عنده هذا الظن بما قد بان له من إن ذات الحق، عز وجل، لا تتكثر بوجهه من الوجوه، وأن علمه بذاته، وهو ذاته بعينها.
    فلزم عنده من هذا أن حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد كان حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات.


  • #11
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات؛ فإذن هو الذات بعينها. وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقه التي كان يراها أولاً كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئاً واحداً. وكادت هذه الشبه ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته، فعلم إن الشبهة انما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام، وكدورة المحسوسات. فان الكثير والقليل والواحد والوحدة، والجمع والاجتماع، والافتراق، هي كلها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لبرائتها عن المادة، لا يجب إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بالاتصال. ولا يفهم شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة. غير إن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جداً لانك إن عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا، أوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة. وان أنت عبرت بصيغة الإفراد، اوهم ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها. وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة جنونه، ويقول: لقد افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم معقول، فان من أحكام العقل إن الشيء آما واحد واما كثير، فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث كان بنظر فيه بنظر فيراه كثيراً كثرة لا تنحصر ولا تدخل تحت حد، ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحداً. وبقي في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر. هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا يقال فيه كل ولا بعض، ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة، إلا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده؛ ولا تثبت حقيقته إلا عند من حصل فيه. واما قوله: حتى انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول. فنحن نسلم له ذلك، ونتركه مع عقله وعقلائه، فان العقل الذي يعنيه هو أمثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي. والعقلاء الذين يعنيهم، هم ينظرون من هذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين "بسم الله الرحمن الرحيم" يعملون ظاهراً من الحياة الدنيا. وهم عن الآخرة هم غافلون. صدق الله العظيم. فان كنت ممن يقتنع بهذا النوع من التلويح والإشارة إلى ما في العالم الإلهي، ولا تحمل ألفاظاً من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نزيدك شيئاً مما شاهده حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم ذكره، فتقول: انه بعض الاستغراق المحض، والفناء التام، وحقيقة الوصول، وشاهد للفلك الأعلى، الذي لا جسم له، ورأى ذاتاً بريئة عن المادة، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة، فانها ليست هي الشمس ولا المرأة ولا غيرهما. وراى لذات ذلك الفلك المفارقة من الكمال والبهاء والحسن، ما يعظم عن إن يوصف بلسان، ويدق إن يكسى بحرف آو صوت، وراه في غاية من اللذة والسرور، والغبطة والفرح، بمشاهدة ذات الحق جل جلاله. وشاهد ايضاً للفلك الذي يليه، وهو فلك الكواكب الثابتة، ذاتاً بريئة عن المادة أيضاً، ليست هي ذات الواحد الحق، ولا ذات الفلك الأعلى المفارقة، ولا نفسه، ولا هي غيرها. وكأنها صورة الشمس التي تظهر في المرآة قد انعكست إليها من مرآة أخرى مقابلة للشمس، ورأى لهذه الذات ايضاً من البهاء والحسن واللذة مثل ما راى لتلك التي للفلك الأعلى. وشاهد ايضاً للفلك الذي يلي هذا، وهو فلك زحل ذاتاً مفارقة للمادة ليست هي شيئاً من الدواب التي شاهدها قبله ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذات ايضاً مثل ما راى آمل قبلها من البهاء واللذة. ومازال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئاً من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك. وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء، واللذة والفرح، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. إلى أن انتهى إلى عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك القمر. فرأى له ذاتاً بريئة عن المادة ليست شيئاً من الذوات التي شاهدها قبلها، ولا هي سواها. ولهذه سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر؛ ورأى لهذه الذات، التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة، من الكمال واللذة، مثل الذي رآه لما قبلها. وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها. ثم شاهد لنفسه ذاتاً مفارقة، لو جاز إن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا انها بعضها. ولولا إن هذه الذات حدثت بعد إن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه الرتبة ذواتاً، مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حد بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة، أو هي كلها متحدة إن جاز إن يقال لها واحدة. وراى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله إلا الواصلون العارفون. وشاهد ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث، وهي مع ذلك مستدبرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس، ومولية عنها بوجوهها، وراى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم بباله قط؛ وراها في ألام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي؛ قد أحاط بها سرادق العذاب، وأحرقتها نار الحجاب، ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب. وشاهد هنا ذواتاً سوى هذه المعذبة تلوح ثم تضمحل، وتنعقد ثم تنحل، فتثبت فيها وأنعم النظر إليها، فرأى هولاً عظيماً وخطباً جسيماً، وخلقاً حثيثاً، وأحكاماً بليغة، وتسوية ونفخاً وإنشاء ونسخاً. فما هو إلا إن تثبت قليلاً، فعادت إليه حواسه، وتنبه من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي، وزلت قدمه عن ذلك المقام، ولاح له العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الإلهي: إذ لم يكن اجتماعهما في حال واحدة، إذ الأخرى والدنيا كضرتين، إن أرضيت احدهما أسخطت الأخرى، فان قلت يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة إن كانت لجسم دائم الوجود لا يفسد، كالأفلاك، كانت هي دائمة الوجود؛ وان كانت لجسم يؤول إلى الفساد كالحيوان الناطق، فسدت هي واضمحلت وتلاشت، حسبما مثلث به في المرايا الانعكاس، فان الصورة لا ثبات لها إلا ثبات بثبات المرآة، فإذا فسدت المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي؛ فأقول لك: ما لأسرع ما نسيت العهد، وحلت عن الربط، ألم نقدم إليك إن مجال العبارة هنا ضيق، وان الألفاظ على كل حال توهم غير الحقيقة وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه، إن جعلت المثال والممثل به على حكم واحد من جميع الوجوه. ولا ينبغي أن يفعل ذلك في أصناف المخاطبات المعتادة، فكيف ها هنا والشمس ونورها، وصورتها وتشكلها والمرايا والصور الحاصلة فيها، كلها أمور غير مفارقة للأجسام، ولا قوام لها إلا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إليها وبطلت ببطلانها. واما الذوات الإلهية، والأرواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها، وسواء بالإضافة إليها بطلان الأجسام أو ثبوتها، ووجودها أو عدمها؛ وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود، الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها، وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد؛ ولا حاجة بها إلى الأجسام بل الأجسام المحتاجة إليها. ولو جاز عدمها لعدمت الأجسام فانها هي مبديها، كما انه لو جاز إن تعدم ذات الواحد الحق - تعالى وتقدس عن ذلك؛ لا اله إلا هو! - لعدمت هذه الذوات كلها، ولعدمت الأجسام، ولعدم العالم الحسي بآسره، ولم يبق موجود، إذ الكل مرتبط بعضه ببعض. والعالم المحسوس وان كان تابعاً للعالم الإلهي، شبيه الظل له؛ والعالم الإلهي مستغن عنه وبريء منه فانه مع ذلك قد يستحيل فرض عدمه، إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي، وانما فساده إن يبدل، لا إن يعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتسييرها كالعهن والناس كالفراش. وتكوير الشمس والقمر، وتفجيرالبحار يوم تبدل الارض غير الأرض والسموات. فهذا القدر هو الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الألفاظ فان ذلك كالمعتذر. واما تمام خبره - فسأتلوه عليك إن شاء الله تعالى: وهو انه لما عاد إلى العالم المحسوس، وذلك بعد جولا نه حيث جال، سئم تكاليف الحياة الدنيا، واشتد شوقه إلى الحياة الدنيا، واشتد شوقه إلى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود إلى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولاً حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى عالم الحس. ثم تكلف الوصول إلى مقامه بعد ذلك فكان ايسر عليه من الأولى والثانية وكان دوامه أطول. وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طولاً مدة بعد مدة، حتى صار يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا متى شاء؛ فكان يلازم مقامه ذلك ولا ينثني عنه إلا لضرورة بدنه التي كان قد قللها، حتى كان لا يوجد اقل منها. وهو فيكل ذلك كله يريد إن يريحه الله عز وجل من كل بدنه الذي يدعوه إلى مفارقة


  • #12
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    مقامه ذلك، فيتخلص إلى لذته تخلصاً دائماً، ويبرأ عما يجده من الألم عند الأعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة البدن. وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون عاماً. وحينئذ اتفقت له صحبة أسال وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. ذكروا: إن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إليه ملة من الملل الصحيحة الماخوذه على بعض الأنبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم. وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي خيالات تلك الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور؛ فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتقوى وتظهر، حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها. وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع أعمالها، واصطحبا على ذلك. وكانا يتفقهان في بعض الأوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر، وأشد بعداً عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل عن العزلة والانفراد، وتدل على إن الفوز والنجاة فيهما؛ واقوال أخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة. فتعلق أسال بطلب العزلة، ورجح القول فيها لما كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة، والغوص على المعاني، وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك بالانفراد. وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، ورجح القول فيها لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة ويعيد من همزات الشياطين. وكان اختلافهما في هذا الرأي سبب افتراقهما. وكان أسال قد سمع عن الجزيرة التي ذكر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل، وان الانفراد بها يتأتى لملتمسه، فأجمع إن يرتحل إليها ويعتزل الناس بها بقية عمره. فجمع ما كان له من المال، واشترى ببعضه مركباً تحمله إلى تلك الجزيرة، وفرق باقيه على المساكين، وودع صاحبه سلامان وركب متن البحر؛ فحمله الملاحون إلى تلك الجزيرة؛ ووضعوه بساحلها؛ وانفصلوا عنها. فبقي أسال بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل؛ ويعظمه ويقدسه؛ ويفكر في اسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فلا ينقطع خاطره؛ ولا تتكدر فكرته. واذا احتاج إلى غذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس بمناجاة ربه. وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفة وتيسره عليه في مطلبه وغذائه ما يثبت يقينه ويقر عينه. وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان لا يبرح عن مغارته إلا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة ويسبح في أرجائها، فلا يرى أنسياً ولا يشاهد أثراً فيزيد بذلك أنسه وتنبسط نفسه لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد. إلى إن اتفق في بعض تلك الأوقات إن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأسال قد ألم بتلك الجهة، فوقع بصر كل منهما على الآخر. فإما أسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين، وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن هو تعرض له وتعرف به إن يكون سبباً في فساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله. واما حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن الحقائق. فلما رآه يشتد في الهرب. خنس عنه وتوارى له، حتى ظن أسال انه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة. فشرع أسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلاً قليلاً، وأسال لا يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكائه. فسمع صوتاً حسناً وحروف منظمة، لم يعهد مثلها من شيء من أصناف الحيوان. ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته، وتبين له أن المدرعة التي عليه ليست جلداً طبيعياً، وانما هي لباس متخذ مثل لباسه هو، ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه لم يشك في انه من الذوات العارفة بالحق؛ فتشوق إليه واراد إن يرى ما عنده، وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؛ فزاد في الدنو منه حتى أحس به أسال؛ فاشتد في العدو، واشتد حي بن يقظان في أثره حتى التحق به - لما كان أعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم - فالتزمه وقبض عليه؛ ولم يمكنه من البراح. فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوان ذوات الاوبار؛ وشعره قد طال حتى جلل كثيراً منه، ورأى ما عنده من سرعة العدو وقوة البطش، فرق منه فرقاً شديداً، وجعل يستعطفه ويرغب إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان ولا يدري ما هو، غير أنه يميز فيه شمائل الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من الحيوانات، ويجر يده على رأسه، ويمسح أعطافه. ويتملق إليه، ويظهر البشر والفرح به. حتى سكن جأش أسال وعلم أنه لا يريد به سوءاً. كان أسال قديماً لمحبته في علم التأويل. قد تعلم أكثر الألسن، ومهر فيها. فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج أفهامه فلا يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو. غير أنه يظهر له البشر والقبول. فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه. وكان عند أسال من زاد كان قد اصطحبه من الجزيرة المعمورة، فقربه إلى حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه أسال وأشار إليه ليأكل ففكر حي بن يقظان فيما كان ألزم نفسه من الشروط لتناول الغذاء، ولم يدر اصل ذلك الشيء الذي قدم له ما هو، وهل يجوز له تناوله أم لا! فامتنع عن الآكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان اولع به حي بن يقظان فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك الزاد وأكل منه. فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم على فعله، وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم، فلما تتأت له المشاهدة بسرعة. فرأى أن يقيم مع أسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه، ولا يبقي في نفسه هو نزوع إليه، وينصرف بعد ذلك إلى مقامه دون إن يشغله شاغل. فالتزم صحبة أسال ولما رأى أسال أيضاً انه لا يتكلم، آمن من غلوائه على دينه، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين، فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله. فشرع أسال في تعليمه الكلام أولاً بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق، فينطق بها مقترناً بالاشارة، حتى علمه الأسماء كلها، ودرجه قليلاً قليلاً حتى تكلم في أقرب مدة. فجعل أسال يسأله عن شأنه ومن أين صار إلى تلك الجزيرة، فأعلمه حي بن يقظان انه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أباً ولا أماً أكثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه كله وكيف ترقى بالمعرفة، حتى انتهى إلى درجة الوصول. فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق عز وجل، ووصفه ذلك الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى، ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك أسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولى الألباب. وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته والاقتداء به بإشارته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي قد تعلمها في ملته. وجعل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم.

  • صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1