كتابة الحديث
تعرض أبو رية (ص7-8) لهذه القضية، ثم أفردها بفصل (ص23)، فمما قاله: (…تضافرت الأدلة… على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهد النبي كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها منه وتلفظه بها.. ).
أقول: قد وقعت كتابة في الجملة كما يأتي، لكن لم تشمل ولم يؤمر بها أمرًا.
أما حكمة ذلك فمنها: أن الله تبارك وتعالى كما أراد لهذه الشريعة البقاء أراد سبحانه أن لا يكلف عباده من حفظها إلا بما لا يشق عليهم مشقة شديدة، ثم هو سبحانه يحوطها ويحفظها بقدرته، كان النبي إذا نزل عليه الوحي يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل فراغه خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله عليه: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }، وقوله { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }، وقوله: { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }. وكانت العرب أمة أمية يندر وجود من يقرأ أو يكتب منهم، وأدوات الكتابة عزيزة ولاسيما ما يكتب فيه، وكان الصحابة محتاجين إلى السعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبايع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقًا، فاقتصر منه على كتابة ما ينزل من القرآن شيئًا فشيئًا ولو مرة واحدة في قطعة من جريد النخل أو نحوه تبقى عند الذي كتبها.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت في قصة جمعه القرآن بأمر أبي بكر «فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } حتى خاتمة سورة براءة».
وفي فتح الباري: إن العسب جريد النخل، وإن اللخاف الحجارة الرقاق، وإنه وقع في رواية: القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، ووقع في روايات أخرى ذكر الرقاع وقطع الأديم والصحف.
21وكان النبي يلقن بعض أصحابه ما شاء الله من القرآن ثم يلقن بعضُهم بعضًا، فكان القرآن محفوظًا جملة في صدورهم ومحفوظًا بالكتابة في قطع مفرقة عندهم. والمقصود أنه اقتصر من كتابة القرآن على ذاك القدر إذ كان أكثر منه شاقًا عليهم، وتكفل الله عز وجل بحفظه في صدورهم وفي تلك القطع، فلم يتلف منها شيء، حتى جمعت في عهد أبي بكر، ثم لم يتلف منها شيء حتى كتبت عنها المصاحف في عهد عثمان، وقد الله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وتكفله سبحانه بحفظ لا يعفي المسلمين أن يفعلوا ما يمكنهم كما فعلوا -بتوفيقه لهم- في عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان.
فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضًا؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع. بل دل على ذلك قوله: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كتبت ودونت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقًا جدًا؛ لأنها تشمل جميع أقول النبي وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك. والمقصود الشرعي منها معانيها، ليست كالقرآن المقصود لفظه ومعناه؛ لأنه كلام الله بلفظه ومعناه، ومعجز بلفظه ومعناه، ومتعبد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير، لا جرم خفف الله عنهم واكتفى من تبليغ السنة غالبًا بأن يطلع عليها بعض الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء، فالشأن في هذا الأمر هو العلم بأن النبي قد بلغ ما أمر به التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجودًا بين الأمة، وتكفل الله تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنة مئنة، فتم الحفظ كما أراد الله تعالى، وبهذا التكفل يدفع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده ونحو ذلك. ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمن بعدهم وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ السنة وحياطتها بان له ما يحير عقله، وعلم أن ذلك ثمرة تكفل الله تعالى بحفظ دينه. وشأنهم في ذلك عظيم جدًا، أو هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها، وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسد باب تلك العبادة22وقد قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }.
وثم مصالح أخرى منها: تنشئة علوم تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبع ذلك، وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تبعهم غيرهم.
ومنها: الإسناد الذي يعرف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث ثم سرى إلى التفسير والتاريخ والأدب.
هذا والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها ولم يبال بما قد يشكك فيها، بل إما أن يعرض عن تلك المشككات، وإما أن يتأملها في ضوء ما قد ثبت، فههنا من تدبر كتاب الله وتتبع هدي رسوله ونظر إلى ما جرى عليه العمل العام في عهد أصحابه وعلماء أمته بوجوب العمل بأخبار الثقات عن النبي وأنها من صلب الدين، فمن أعرض عن هذا وراح يقول: لماذالم تكتب الأحاديث؟ بماذا، لماذا؟ ويتبع قضايا جزئية -إما أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة، وإما أن يكون لها محمل لا يخالف المعلوم الواضح- من كان هذا شأنه فلا ريب في زيغه.
هل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث
هل نهي عن الكتابة
قال أبو رية (ص23): (وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه ص).
أقول: أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه.
فالأول: حديث مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ -قال همام: أحسبه قال: (متعمدًا)- فليتبوأ مقعده من النار» هذا لفظ مسلم. وذكره أبو رية مختصرًا، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد.
والثاني: ذكره بقوله: (ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه فقال له زيد: «إن رسول الله ص أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه. فمحاه».
وقد كان ينبغي لأبي رية أن يجري على الطريقة التي يطريها وهي النقد التحليلي فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله ص بكتابة أحاديثه لقلة الكتبة وقلة ما يكتب فيه والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال: «وحدثوا عني ولا حرج».
أقول: أما حديث أبي سعيد ففي فتح الباري (1: 185): (منهم -يعني الأئمة- من أعلّ حديث أبي سعيد وقال:23الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره (أي: الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي ، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب العلم (1: 64) قريبًا من معناه موقوفا عن أبي سعيد من طرق لم يذكر فيها النبي ص. وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت.. إلخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيدًا. أما البخاري فقال في صحيحه (باب: كتابة العلم) ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، ثم خطبة النبي ص زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له، فقال النبي ص (اكتبوا لأبي فلان) وفي غير هذه الرواية (لأبي شاه) ثم قول أبي هريرة: «ما من أصحاب النبي ص أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب» ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي ص، وقوله: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده» وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عمرو: «استأذن رسول الله ص أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له» رواه الإمام أحمد والبيهقي. قال في فتح الباري (1: 185): (إسناده حسن، وله طريق أخرى…) وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجع فتح الباري والمستدرك (1: 104) ومسند أحمد بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله الحديث: (6510) وتعليقه. وقد اشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي ، وكان يغتبط بها ويسميها (الصادقة)، وبقيت عند ولده يروون منها، راجع ترجمة عمرو بن شعيب في تهذيب التهذيب. أما ما زعمه أبو رية أن صحيفة عبد الله بن عمرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعًا. أما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأن عبد الله لم يتجرد للرواية تجرد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دار الحديث لعناية أهلها بالرواية، ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارة بمصر، وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أنه كان يكثر من الأخبار عما وجده من كتب قديمة باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك كان معاوية وابنه قد نهياه عن التحديث.
فهذه الأحاديث، وغيرها مما يأتي إن لم تدل على صحة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي ص، فإنها تقضي بتأويله، وقد ذكر في فتح الباري أوجهًا للجمع، والأقرب ما يأتي: قد ثبت في حديث24زيد بن ثابت في جمعه القرآن: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف» وفي بعض رواياته ذكر: «القصب وقطع الأديم». وقد مر قريبا (ص20)، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي ص الآية والآيتان فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كل منها آية أو آيتان أو نحوها، وكان هذا هو المتيسر لهم، فالغالب أنه لو كتب أحدهم حديثا لكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنهوا عن كتابة الحديث سدًا للذريعة.
أما قول أبي رية (ص27): (هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم… اللهم [إلا] إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه) فجوابه: أن القرآن إنما تحدى أن يؤتى بسورة من مثله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفة علي؛ لأنه جمع فيها عدة أحكام، وكان علي لا يخشى عليه الالتباس. ولا قصة أبي شاة؛ لأن أبا شاة لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تكتب له تلك الخطبة. ولا قوله في مرض موته: «ائتوني بكتاب… إلخ» لأنه لوكتب لكان معروفًا عند الحاضرين وهم جمع كثير. ولا قضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط. وكذلك الكتب التي كتبها النبي ص لعماله وفيها أحكام الصدقات وغيرها، وكان كلها أو أكثرها مصدرًا بقوله: (من محمد رسول الله… إلخ) هذا كله على فرض صحة حديث أبي سعيد. أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي ص فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك.
قال أبو رية (ص23): وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: «جمع أبي الحديث عن رسول الله ص فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب... فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك» زاد الأحوص بن المفضل في روايته: «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله ما خفي على أبي بكر».
أقول: لو صح هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو رية على تذكرة الحفاظ للذهبي وجمع الجوامع للسيوطي ولم يذكر طعنهما فيه، ففي التذكرة عقبه: (فهذا لا يصح).
25وفي كنز العمال (5: 237) -وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية -: (قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًا، وعلي بن صالح أحد رجال سنده لا يعرف) أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ثم وجهه ابن كثير على فرض صحته.
قال أبو رية (ص 24): (وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة: «أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك -ورواية البيهقي: فاستشار- فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا. ورواية البيهقي: لا ألبس بكتاب الله بشيء أبدًا».
أقول: وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي نهى عن كتابة الأحاديث مطلقا لماهم بها عمر وأشار بها عليه الصحابة، فأما عدوله عنها فلسبب آخر كما رأيت. لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر: فإن صح فإنمًا كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت. وقد قال عروة نفسه كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: (وكنا نقول لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي. فوالله لوددت أن كتبي عندي وإن كتاب الله قد استمرت مريرته) يعني قد استقر أمره وعلمت مزيته، وتقرر في أذهان الناس أنه الأصل، والسنة بيان له. فزال ماكان يخشى من أن يؤدي وجود كتاب للحديث إلى أن يكب الناس عليه ويدَعوا القرآن.
قال أبو رية: (وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه).
أقول: وهذا منقطع أيضًا، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، عروة أقدم منه وأعلم جدًا، وزيادة يحيى منكرة، لوكتب عمر إلى الأمصار لاشتهر ذلك، وعنده علي وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة.
قال أبو رية: (وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي علي أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا).
أقول: وهذا منقطع أيضًا إنما ولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة.
ثم ذكر خبر زيد بن ثابت وقد مر، ثم قال: (وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًا يخطب يقول: «أعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم»).
26أقول: ذكره ابن عبد البر من طريق شعبة عن جابر، ولم أجد لجابر بن عبد الله بن يسار ذكرًا. وقد استوعب صاحب التهذيب مشايخ شعبة في ترجمته ولم يذكر فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجعفي، فلعل الصواب (جابر عن عبد الله بن يسار)، وجابر الجعفي ممقوت كان يؤمن برجعة عليٍّ إلى الدنيا، وقد كذبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدقه بعضهم في الحديث خاصة بشرط أن يصرح بالسماع. ولم يصرح هنا، وعبد الله بن يسار لا يعرف. وقد كان عند علي نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي كما مر. فإن صحت هذه الحكاية فإنما قال: (أحاديث علمائهم) ولم يقل: (أحاديث أنبيائهم)، وكلمة (حديث) بمعنى: (كلام) واشتهارها فيما كان عن النبي اصطلاح متأخر، وقد كان بعض الناس يثبتون كلام علي في حياته، وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن عباس ما يعلم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضاء علي، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره ولفظه: «فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل»، ثم ذكر عن طاوس قال: (أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي…) فإن صحت هذه الحكاية فكأن بعض الناس كتب شيئًا من كلام علي أو غيره من العلماء فتناقله الناس فبلغ عليًا ذلك فقال ما قال.
قال أبو رية: (وعن الأسود بن هلال قال: «أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت ثم قال: أذكر الله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون».
أقول: روى الدارمي هذه القصة من وجه آخر: (عن الأشعت [بن أبي الشعثاء سليم بن أسود] عن أبيه -وكان من أصحاب عبد الله قال: رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت له: أنسخنيها، فكأنه بخل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه فقال: «إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة... أقسم لو أنها ذكرت له بدار الهند (كذا) -أراه يعني مكانًا بالكوفة بعيدًا- إلا أتيته ولو مشيًا». لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات فقط وإلا ما طلب استنساخها؛ لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه. وعند الدارمي قصة أخرى تفسر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي، وفيها: إن قومًا تحلقوا في المسجد (في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون، فيقول: هللوا مائة فيهللون…) وذكر إنكار ابن مسعود عليهم فكأنه27كان في تلك الصحيفة وصف طريقة للذكر بتلك الكلمات ونحوها بعدد مخصوص وهيأة مخصوصة كما يبينه قول ابن مسعود: (إن ما في الكتاب بدعة وفتنة وضلالة).
وقد ذكر الدارمي رواية أخرى في صحيفة جيء بها من الشام فمحاها ابن مسعود. وفيها (فقال مرة [بن شرحبيل الهمداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لوكان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب).
ثم قال أبو رية (ص25): (هناك غير ذلك أخبار كثيرة…).
أقول: ذكر ابن عبد البر عن مالك «أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله» وهذا معضل، وقد مرت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها.
وذكر عن أبي بردة بن أبي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعلمه أبوه فدعا بالكتاب فمحاه. وقد أخرج الدارمي نحوه ثم أخرج عن أبي بردة عن أبيه (أن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فتبعوه وتركوا التوراة) وهذا كما مر عن عمر.
وذكر عن أبي نضرة قال: (قيل لأبي سعيد [الخدري]: لو أكتبتنا الحديث فقال: لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا . ثم ذكره من وجه آخر في سنده من لم أعرفه وفيه: (أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟) ثم من وجه ثالث بنحوه. وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مر عن عمر وأبي موسى.
وذكر عن سعيد بن جبير قال: «كنا نختلف في أشياء فكتبتها في كتاب ثم أتيت بها ابن عمر أسأله عنها خفيًا فلو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه» وفي رواية: (كتب إليَّ أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابن عمر، فلقيته فسألته عن الكتاب ولو علم أن معي كتابًا لكانت الفيصل بيني وبينه). وهذا ليس مما نحن فيه إنما هو باب كراهية الصحابة أن تكتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم.
وذكر عن ابن عباس أنه قال: (إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه). وقد ذكر عن هارون بن عنترة عن أبيه أن ابن عباس أرخص له أن يكتب.
هذا وقد أخرج الدارمي بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه: «يا بني قيدوا هذا العلم» وذكر ابن عبد البر ولفظه: «قيدوا العلم بالكتاب» وروي هذا من قول النبي ومن قول عمر ومن قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه.
وروى الدارمي وابن عبد البر وغيرهما بسند حسن أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: (لا بأس به).
وأخرج الدارمي وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نهيك -وهو ثقة- قال: «كنت أكتب ما أسمع من28أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم».
فالحاصل أن ما روي عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان كما صرحا به خشية أن يكب الناس على الكتب ويدعوا القرآن، وأما من عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أبو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخص، ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر: «إن كتاب الله قد استمرت مريرته» وقد مر ذلك، ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت؛ لأن الصحابة قد قلوا وبقاء الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يؤمن معه الخلل، فرأوا للناس الكتابة كما مر عن أبي هريرة وأبي أمامة وأنس رضي الله عنهم. وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة إلا أن من كان ذا حافظة نادرة كالشعبي والزهري وقتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفظه فإذا أتقنه محاه- وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعبيدة السلماني، ومرة الهمداني، وأبي قلابة الجرمي، وأبي المليح، وبشير بن نهيك، وأيوب السختياني، ومعاوية بن قرة، ورجاء بن حيوة وغيرهم. [4]
ثم قال أبو رية (ص25): (ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بله ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين).
أقول: قد علمت أنه ليس في النهي غير حديثين أحدهما متفق على ضعفه وهو المروي عن زيد بن ثابت، والثاني مختلف في صحته وهو حديث أبي سعيد؛ فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إلا حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عمرو لكان أصح مما جاء في النهي. أما الصحابة والتابعون فقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية.
ثم نقل أبو رية (ص25-27) عن مجلة المنار كلامًا بدأ فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة (اكتبوا لأبي شاة) بأن ما أمر بكتابته لأبي شاة من الدين العام، وأن النهي كان عن كتابة سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص.
أقول: نظرية (دين عام ودين خاص) مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها ص (15). وحديث الأذان لعبد الله بن عمرو قاطع لشغبه البتة.
قال صاحب المنار: (ولنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين، أحدهما: استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي ).
أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي ، فالمروي عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه،29وعن أبي سعيد روايتان إحداهما فيها الرفع إلى النبي ، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد، ونحن لم نقل في هذا إنه منسوخ، إنما قلنا إنها إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص تقدم بيانه. وثانيتهما رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها أن النبي نهى. وقد بقيت صحيفة علي عنده إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عمرو عنده وعند أولاده كما مر، فلو كان هناك نسخ لكان بقاء الصحيفتين دليلًا واضحًا جدًا على أن الإذن هو المتأخر، وتقدم أن عمر عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها ثم تركها لمعنى آخر، ولم يذكروا نهيًا كان من النبي ، وذلك صريح فيما قلنا، وقد أجاز الكتابة من الصحابة عبد الله بن عمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنترة عن أبيه، أن ابن عباس رخص فيها ثم أجمعت عليها الأمة.
قال (ص26): (وثانيهما: عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره).
أقول: أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بلغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه وهو السنة كما مر، وما تكفل الله بحفظه فلابد أن يحفظ، وقد علمنا من دين الله أن على عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين. وفي جامع الترمذي والمستدرك وغيرها عن أبي خزامة عن أبيه قال «قلت: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هو من قدر الله» فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين: الأولى حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب. الثانية بالكتابة فكان يكتب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي ص بقليل استحر القتل بالقراء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منه أبو بكر وقال: «كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله ص؟ فقال عمر: هو والله خير» يريد أنه عمل يتم به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدم فعل النبي ص له إنما كان لعدم تحقق المقتضى وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خير محض. فجمع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة30أم المؤمنين حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف. ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي لم تبد حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم ومنهم من كتب من صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره، وكتب عثمان بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها.
هذا شأن القرآن. فأما السنة فمخالفة لذلك في أمور: الأول: أن النبي ص لم يعن بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها أي بنحو الطريق الأولى في القرآن. الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين. الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن إذ استحر القتل بحفاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ السنة منهم قبل تلقي التابعين. الرابع: أنهم كانوا إذا هموا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: «هو والله خير» أي خير محض لا يترتب عليه محذور. كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لرد من بعدهم ما فاتهم منها، وقد مر ص (24) عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جمعه منها «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال لو كان قاله رسول الله ص ماخفي على أبي بكر» وخشوا أيضًا من جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يقبل الناس على تلك الكتب ويدعوا القرآن لما مر (ص25) عن عمر و(ص27) عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويكلوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به.
ثم ذكر (ص26) أشياء قد تقدم الجواب عنها ثم قال: (وكون التابعين لم يدونوا الحديث إلا بأمر الأمراء).
أقول: وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء أبي بكر وعمر وعثمان فإن قيل: هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده.
قال: (يؤيد ما ورد من أنهم كانوا [قبل ذلك] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه).
أقول: هذه حال بعضهم، وقد تقدم (ص27-28) أن جماعة كانوا يكتبون ويبقون كتبهم.
قال (وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)