وأجريت التحاليل والصور لكن رد الطبيب لم يعجبني وشممت رائحة الكذب أو إن شئتِ بعبارة أكثر تهذيباً لقد أخفى عني الحقيقة أو لم يسوقها لي كاملة
فسألت طبيباً آخر فطلب مني تحليلاً جديداً زادت هواجسي فحملت التحليلين إلى طبيباً ثالثاً مدعياً له أنه لصديق يعز عليّ فجاء الجواب الفاجع
صاحب هذه التحاليل مصاب بمرض سرطان الدماغ وسيعيش سنة على أبعد حد
صعقت لما سمعت هذه الكلمات وأيقنت من صحتها قاطعاً دابر الشك بأربعة تحاليل عرضتها على سبع أطباء جاء جوابهم المشترك
سيفقد المسكين بصره ثم ينتظر الموت عدة أيام ويدخل في موتٍ سريري لعدة أشهر في أحسن الأحوال هذا إن لم يسقط صريع الموت مباشرة
أسودت الدنيا أمامي وسدت السبل ..أ والآن وبعد أن برأت من صفعت القدر الأولى
عام كامل أم عامٌ فقط ..
كيف سأقضي خمس ٍوستين وثلاث مئة ليلة منتظراً الموت ..
أم مودعاً الحياة
أ هو عمرٌ آخر بل أخير سأعيشه لعام ٍ واحد أم هي محطة ٌ قريبة أعد حقائبي لأهبط فيها أراها قريبة وأراها بعيدة ولا أدري
رحماك يا ربي رحماك من هذا العذاب
الموت حقيقة وأنا لا أخشاها فكل نفس ٍ ذائقة الموت ولكني الآن والآن فقط لست وحيداً صار معي من يهمني أمره ويهمه أمري
لن أظلم تلك المسكينة معي وأحكم عليها بأن تعيش أحلى أيام عمرها مع رجل ينتظر الموت كل صباح ويهرب منه في المساء
لن أخبر أحداً بحقيقة مرضي وسألعب آخر أدوار البطولة على مسرح حياتي لا لأكون بطلاً ولكن كي لا أرى نظرات الشفقة في عيونهم تقتلني في الليلة ألاف المرات
وسأحاول الابتعاد عن بيسان كي تنساني حتى لو ب*** أمامها خائناً أو نذلاً خير لها من أن تهيم بي ثم تفجع
عزمت على هذا وأخذت قراري الذي لن أتزحزح عنه مهما حدث عدت إلى منزلي مثقلاً بالهموم أدعي الفرح ادعاءً وأرسم على وجهي ابتساماتٍ زائفة محاولاً أن أكون طبيعياً كي لا يلاحظ أحدٌ ممن حولي أي تغير ٍ يطرأ علي
عاد هادي من مؤتمره والأمر يزداد سوءاً على سوء فلم يكو من السهل دراسة كل حرف وحركة أقوم بها وإخفاء ألامي الرهيبة عن الجميع فكثيراً ما كنت أسهر الليالي أجلد نفسي تأنيباً على ما فعلت في اليوم الماضي كنت أمام مفترق طرق أمامي درب الحياة والتمتع بملذاتها قبل أن أفارقها
ودرب الآخرة والإستذادة للقاء وجه الكريم
وكما أي مؤمن ٍ عاقل التزمت الطريق الصحيح والصراط المستقيم غارقاً في طاعة الله عز وعلا تائباً إليه
وكان في ذاك راحة لقلبي ومهدأ لروحي ومعيناً لي فيما أنا مقدم ٌ عليه
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
كان السماء ترسل علينا رسلها غيثاً كريماً وأنا أجلس في غرفتي منزوياً عن العالم عندما دخل علي هادي يحكي لي كعادة أيام زمان مشاكله ويفرغ في جعبتي همومه
فهناك ضغوط كبيرة تمارس عليه من الآهل ليتزوج على هاله لأنها عاقر لا تنجب الأولاد وهو يحاول الصمود أمام بل تحت هذه الضغوط لأنه يرى الحياة نبع من خصلات شعر هاله ـ حسب تعبيره ـ
وراح يحثني على الإسراع بعقد القران لأريح كاهله من ذاك الضغط فهم يريدون حفيداً وهذا ما سأحققه أنا لهم فيما لو تزوجت وأكرمني الله بالخلف
هدأت من روعه وبشرته خيراً إن شاء الله تعالى ومضى راضياً عن ما سمع مني
يا إلهي أ كنت بحاجةٍ لضغط جديد ارتديت معطفي ورحت أصارع حبات المطر في ظلمة الليل الحالكة على شوارع ٍضاعت معالمها
هدني التعب وسحقت رأسي الأفكار فاستندت على حائط قديم أدخن آخر سيجارةٍ في علبتي وقبل أن أغفو أيقظني المؤذن يرفع صوته لصلاة الصبح
دخلت المسجد وصليت وبعد الصلاة جلس الإمام يحدثنا في الدين والفقه إلى أن طلعت الشمس فأذن لنا بالذهاب مأجورين غير مأمورين
لكني لم أذهب بل جلست أحدث نفسي أن هذا هو الرجل المناسب لتحدثه وتخرج ما بصدرك من هموم أمامه ثم تستشيره وتستفتيه في أمرك
فهو من جهة وكما يبدو عليه ويظهر من حديثه رجلٌ حكيم عارك الدنيا أكثر من نصف قرن ومن جهةٍ أخرى فهو لا يعرفني وقد لا أراه أو يراني غير هذه المرة وهذا ما سيبعد نظرات الشفقة ويمنعها من أن تطاردني بعد اليوم
حكيت له بصدق قصة مرضي وحكاية حبي ثم سألته المشورة فقال لي : يا ولدي
" لا تدري نفسٌ ما تكسب غداً ولا تدري نفسٌ بأي أرض ٍ تموت " صدق الله العظيم
الأعمار بيد الله تعالى يا ولدي ولا يعرف أحد متى يتوفى إلى ربه فما أدراك أنك ستعيش حتى الغد لتخشى موتاً قد يأتي بعد عام ٍ كامل
قد تقول لي أن العلم أفتى بهذا الأمر وعلينا التعاطي بالأسباب وهذا صحيح ولكني ولو فرضت جدلاً أن الصور والتحاليل والتشخيص لا تدنو للغلط فإني أسألك ألا يمكن لهذا العلم أن يأتي بعد أحد عشرة شهراً بدواءٍ وعلاج لمرضك هذا
ثم إنك يا ولدي قد جئت بخطيبتك من بلاد بعيدة وهي الحب الذي وصفته لي واعداً إياها بأن تظلها تحت جناحك بمنزل الزوجية فكيف تسمح لنفسك بكسر قلبها وتركها كطائر مجروح لا تملك القدرة على الطيران
اتقي الله في قلوب العذارى وسيدنا محمد توفي وهو يوصينا بالنساء خيراً
هيا قم يا ولدي وتوكل على الله سبحانه وتعالى شأنه وأتم ما بدأت فإن خير الأعمال في خواتمها ولا تنسى أن تدعوني للعرس والله ولي التوفيق
أراحتني كلمات الشيخ الحكيم وأثلجت قلبي , لعل وأعترف لكِ أنه قال ما كنت أريد سماعه وأني كنت أريد مبرراً أريح فيه ضميري وأقنع نفسي أن زواجي من بيسان لن يكون بدافع الأنانية بقدر ما هو مدفوعٌ من الحب والإيثار
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
عادت بيسان من لبنان وطلبت منها الإسراع بالأمر بينما انهمكت أنا بالعمل في الشركة في محاولةٍ مني لجني بعض المال ليعيلها بعدي
وكان حفل الزفاف في الرابع من نيسان على بعد تسعة أشهر من النهاية
كان حفلاً بهيجاً أنساني للحظات أني رجلٌ حكم عليه بالموت في ربيع العمر
فهذه ليلتي التي حلمت بها من زمان ٍ ماضي وآخر آتي هي أروع ما لي في حياتي فمعي الهوى كله والأماني فها هو الحب يبدل الحال ويدفع العصافير لتهجر الأوكار
مضت الأيام بطيئة ًقاسية حيناً وسريعة رائعة حين وحدث ما كان يتمناه هادي وهالة وما كنت لا أريده أن يحدث الآن على أقل تقدير فقد أثمر حبنا جنيناً
فاستبشرت خيراً به ودعوت الله أن يمد بعمري لأراه قبل أن أموت مع أنني لم أكو أتمنى له أن يقبل على الدنيا لا كما يأتها الأطفال فاقداً أحد أبويه لكنها مشيئة الله عز وجل وإنه له بها خدمة ً لا تدركها عقولنا الصغيرة
بدأ يستفحل الألم برأسي وأصبحت بحاجةٍ لدواء مركز ليهدأ الصداع الذي يفتك بخلايا دماغي وبعد سبعة أشهر من السعادة والعسل كما يقولون جاء خلالها أحمد بعد أن أتم دراسته ليوطد صداقتنا وكان وليد يتردد علي كلما سنحت له الفرصة
ظهرت أعراض الولادة على بيسان وأشارت علينا هالة وهي الطبية بنقلها إلى المشفى لتولده هناك طال الانتظار قرب غرفة العمليات ساعة ساعتين ثلاث وبعد أربع ساعات ونصف الساعة خرجت هالة تمسح العرق عن جبينها ونحن نسمع صوت صراخ طفل وقالت لي ادخل تريد أن تراك
دخلت عليها لأراها منهكة ٌتعبة جلست إلى جوارها أمسح العرق عن جبينه بيدي فتناولت يدي وقبلت راحتها وقالت وهي تضع اليد على وجهها :
كنت أعلم أن الأمر لن يكون سهلاً لكني أردت أن أهديك هدية ً تذكرني بها إلى الأبد جزءٌ مني ومنك يربطنا إلى الأبد بإذن الله
لقد طلبت من الله أن يمنحني شرف العيش بين أحضانك وتحت جناحيك وقد لبى لي سبحانه رغبتي والآن أطلب منك أن تضمني بساعديك لأموت بين أحضانك
" وضعت يدي على فمها محاولاً إسكاتها لكنها قبلت إصبعي وقالت لي قبلني "
فلثمتها من بين حاجبيها فأبت وقالت لي بل قبلة عاشق ٍ مشتاق ليكون طعم شفتيك آخر عهدي بالدنيا
قبلتها محاولاً زرع الحياة بجسدها الدافئ وفجأة ً بردت شفتيها وثقل جسدها بين يدي فدفعتها لأرى عيناها جاحظتان نحو السماء فعلمت أن الأمر قد قضي
انهارت أعصابي ودخلت في غيبوبة دامت يومين كاملين تم خلالها مواراة جسمان الراحلة القبر
أراحني الله من رؤية ذاك المشهد لكني خرجت من المشفى فاقداً الرغبة بالحياة والقدرة على المشي على كرسي نقال سأكمل حياتي أو ما تبقى منها
فقدت كل شيء حبي صديقي ماضي وذكرياتي ولم يبقى لي إلا وطني أنتظر الغوص في ترابه لم يبقى لي سوى الشام وطناً أماً وأباً
وشام بنتٌ وأمل نعم لم يبقى لي سواكِ أنتي ابنتي شام
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
" ووقفت مفزوعة ً مفجوعة لأرى من بين حبات المطر أبي لا ليس أبي ذاك الرجل الذي يدعي أنه أبي يراقبني من خلف نافذته
يا إلهي لقد خدعت عشرين عاماً ظلمت عشرين عاماً أمي تلك التي حملتني في رحمها تسعة أشهر وسقتني الحنان من نبع حنانها ويوم طلبت الحياة قدمت لي عمرها وما بخلت
وهم حرموني من أن أهديها أهدي روحها الطاهرة حتى الفاتحة أو صورة في القرآن
فتحت الباب فرأيت أبي لا ليس أبي
أخذت أضرب على صدره بقبضة اليد قائلة
ماذا فعلت بي أي ذنب اقترفته بحقك لتنزل بي هذا العقاب خدعتني
ربيتني أن لا تكذبي ودفعت بي إلى مستنقع كذبك وخداعك أنت وتلك المرآة التي جعلت مني دمية تقول لها ماما دمية تغزي عقدة النقص فيكما دونما أن تفكرا للحظة واحدة أنه لا يمكن لي أن استغني عن آدميتي وإنسانيتي لأشارك معكم في سحق مشاعري
ـ اهدئي يا ابنتي
ـ لست ابنتك وإياك أن تقولها مرة أخرى حرمتني من ذكرى الوالدة ولن تحرمني من أنفاس الأب
أين أبي أريد أن أراه أريد أن أركع تحت قدميه وأسأله الغفران و الصفح لأنني هجرته كل هذه السنين
تكلم قل لي أين أبي ..
حسن ٌ إن كنت لا تريد الكلام سأخرج للبحث عنه ولن أعود إلا معه بل أنا لن أعود أبداً
" منعني من الخروج ودفع بي بقوة إلى السرير ثم قال وهو يزرف الدمع "
قلت لكِ اهدئي وأكمل قراءة الأوراق منذ عشرين عاماً وأنا أنتظر هذه اللحظة وأخاف منها
كنت أدخل وحدي هذه الغرفة التي لم أسمح لأحدٍ أن يدخلها أو يغير شيئاً في أثاثها
قرأت ما تقرأيه الآن ألف مرة ودفعت بكِ إلى هذه الغرفة لتتعرف على والدك الحقيقي وتقرئي وصيته "
ـ إذاً أنت تحاول أن تريح ضميرك من العذاب , ألم تدري كم العذاب والجروح التي تسببها لي تلك الحقيقة
مادمت اخترت الكذب من البداية لماذا لم تكمل مشوارك إلى النهاية كان عليك أن تتركني غارقة ً في وهمي
ـ لا أنا لم أختر الكذب راحة لضميري بل جل ما فعلته كان من أجلك أنتِ كي تعيشي طفولتك كما تعيشها كل الأطفال
أنا لم أحرمك بل حميتك من مر الحقيقة حقيقة أنك يتيمة
أكملي القراءة ثم لكِ أن تقرري ما شئتِ
وذهب هو وعدت أنا للأوراق
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)