فحدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري - وكانت الأنصار تفقهه - فغشيه الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله ، قال: بعث رسول الله جيش الأمراء، فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإن أصيب فجعفر ابن أبي طالب؛ فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة؛ فوثب جعفر فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أذهب أن تستعمل زيدًا علي! قال: أمض؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير! فأنطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. ثم إن رسول الله صعد المنبر، وأمر فنودى: الصلاة جامعة! فأجتمع الناس إلى رسول الله، فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم أنطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيدًا - وأستغفر له - ثم أخذ اللواء جعفر، فشد على القوم حتى قتل شهيدًا - فشهد له بالشهادة وأستغفر له - ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة؛ فأثبت قدميه حتى قتل شهيدًا - فأستغفر له - ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد - ولم يكن من الأمراء؛ هو أمر نفسه - ثم قال رسول الله : اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره - فمنذ يومئذ سمى خالد سيف الله - ثم قال رسول الله: أبكروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن منكم أحد. فنفروا مشاة وركبانًا، وذلك في حر شديد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، قال: لما أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله ص: قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان، مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة؛ أرضًا باليمن.
قال. وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة قائد المستعربة فقتله. قال: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله ص مقبلًا قد قال لقومها من حدس - وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قومًا خزرًا، ينظرون شزرًا، ويقودون الخيل بترًا، ويهريقون دمًا عكرًا. فأخذوا بقولها؛ فأعتزلوا من بين لخم؛ فلم يزالوا بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة؛ بطن من حدس؛ فلم يزالوا قليلًا بعد؛ ولما انصرف خالد بن الوليد بالناس أقبل بهم قافلًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله ص والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خوا الصبيان فأحملوهم وأعطوني ابن جعفر؛ فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه، فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار في سبيل الله، فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار؛ ولكنهم الكرار؛ إن شاء الله! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن بعض آل الحارث بن هشام - وهم أخواله - عن أم سلمة زوج النبي ، قال: قالت أم سلمة لا مرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين! قال: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح الناس: أفررتم في سبيل الله! حتى قعد في بيته فما يخرج.
وفيها غزا رسول الله أهل مكة.
ذكر الخبر عن فتح مكة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله ص بالمدينة بعد بعثه إلى مؤتة، جمادى الآخرة ورجب.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة؛ يقال له الوتير. وكان الذي هاج ما بين بني بكر وبني خزاعة رجل من بل حضرمي، يقال له مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجرًا، فلما توسط أرض خزاعة عدوًا عليه فقتلوه؛ وأخذوا ماله؛ فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي؛ وهم منخر بني بكر وأشرلفهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب؛ فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى ديةً ديةً لفضلهم فينا.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله ، وشرط لهم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيره من علمائنا - أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه؛ فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله .
فلما كانت تلك الهدنة أغتنمتها بنو الدين، من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرًا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل - وهو يومئذ قائدهم؛ ليس كل بني بكر تابعه - حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير؛ ماء لهم، فأصابوا منهم رجلًا وتحاوزوا وأقتتلوا؛ ورفدت قريش بني بكر بالسلاح؛ وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيًا؛ حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. - قال الواقدي: كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو؛ مع غيرهم وعبيدهم
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: فلما أنتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك؛ فقال: كلمة عظيمة إنه لا إله له اليوم! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؛ أفلا تصيبون ثأركم فيه! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلًا يقال له منبه، وكان منبه رجلًا مفئودًا خرج هو ورجل من قومه، يقال له تميم بن أسد - فقال له منبه: يا تميم، أنج بنفسك؛ فأما أنا فو الله إني لميت قتلوني أو تركوني؛ لقد أنبت فؤادي. فأنطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه - فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ص من العهد والميثاق بما أستحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده وعهده - خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب؛ حتى قدم على رسول الله ص المدينة؛ وكان ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس، فقال:
لا هم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
لا هم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالدًا كنا وكنت ولدا ** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فأنصر رسول الله نصرًا أعتدا ** وأدع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ** أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفًا وجهه تربدا ** في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ** وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ** هم بيتونا بالوتير هجدا
فقتلونا ركعًا وسجدا يقول: قد قتلونا وقد أسلمنا. فقال رسول الله حين سمع ذلك: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم؛ ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان رسول الله قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، فلقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة؛ وقد رهبوا الذي صنعوا؛ فلما لقي أبو سفيان بديلًا، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمدًا؟ قال: لا. قال: راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى؛ فعمد إلى مبرك ناقته، فأخذ من بعرها ففته؛ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة؛ فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية؛ والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني! قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله ، فكلمه فلم يردد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وعنده فاطمة ابنة رسول الله، وعندها الحسن بن علي؛ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي؛ إنك أمس القوم بي رحمًا، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة؛ فلا أرجعن كما جئت خائبًا، أشفع لنا إلى رسول الله! قال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فألتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر! قالت: والله ما بلغ بنيى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد أشتدت علي فأنصحني. فقال له: والله ما أعلم شيئًا يغنى عنك شيئًا، ولكنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيًا عني شيئًا! قال: لا والله ما أظن؛ ولكن لا أجد لك غير ذلك؛ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس؛ ثم ركب بعيرة فأنطلق.
فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فو الله ما رد على شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب؛ فوجدته أعدى القوم، ثم جئت علي بن أبي طالب، فوجدته ألين القوم؛ وقد أشار علي بشيء صنعته؛ فو الله ما أدري هل يغنيني شيئًا أم لا! قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد على أن لعب بك، فما يغنى عنا ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، قال: وأمر رسول الله ص الناس بالجهاز؛ وأمر أهله أن يجهزوه؛ فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ص، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري.
ثم إن رسول الله أعلم الناس أنه سائر إلى مكة؛ وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت الأنصاري يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:
أتاني ولم أشهد ببطحاء مكة ** رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ** وقتلي كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ** سهيل بن عمرو حرها وعقابها!
وصفوان عودًا حز من شفراسته ** فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد ** إذا أحتلبت صرفًا وأعصل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ** لها وقعة بالموت يفتح بابها
وقول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعني قريشًا. وأبن أم مجالد، يعني عكرمة بن أبي جهل
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم؛ ثم أعطاه أمرأة - يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة؛ وزعم غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب - وجعل لها جعلًا على أن تبلغه قريشًا. فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب؛ فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: أدركا أمرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم؛ فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة ابن أبي أحمد؛ فأستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئًا، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا؛ ولتخرجن إلى هذا الكتاب أو لنكشفنك؛ فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض عني فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، فأستخرجت الكتاب منه، فدفعته إليه، فجاء به إلى رسول الله ص، فدعا رسول الله حاطبًا؛ فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله ص: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: أعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم! فأنزل الله عز وجل في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " إلى قوله: " وإليك أنبنا " إلى آخر القصة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمى، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، قال: ثم مضى رسول الله لسفره؛ وأستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله ص، وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد ما بين عسفان وأمج، أفطر رسول الله ، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم؛ وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام؛ وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله ص مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله؛ ولا يدرون ما هو فاعل؛ فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار؛ هل يجدون خبرًا أو يسمعون به! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وقد كان فيما حدثني محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب؛ عن ابن عباس: وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله ص ببعض الطريق؛ وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله بنيق العقاب؛ فيما بين مكة والمدينة، فألتمس الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وأبن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمتي فهتك عرضي؛ وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك؛ ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا؛ ثم أتذهبن في الأرض؛ حتى نموت عطشًا وجوعًا. فلما بلغ ذلك رسول الله رق لهما؛ ثم أذن لهما، فدخلا عليه؛ فأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:
لعمري إني يوم أحمل رايةً ** لتغلب خيل الات خيل محمد
لكا لمدلج الخيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدى
وهاد هداني غير نفسي ونالني ** مع الله من طردت كل مطرد
أصدو أنأي جاهدًا عن محمد ** وأدعى ولو لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ** وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ** مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ** وقل لثقيف تلك غيري أو عدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامرًا ** وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ** نزائع جاءت من سهام وسردد
قال: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله ص قوله: ونالني مع الله من طردت كل مطرد؛ ضرب النبي ص في صدره، ثم قال: أنت طردتني كل مطرد! وقال الواقدي: خرج رسول الله إلى مكة، فقائل يقول: يريد قريشًا، وقائل يقول: يريد هوازن، وقائل يقول: يريد ثقيفًا؛ وبعث إلى القبائل فتخلفت عنه؛ ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى قدم قديدًا، فلقيته بنو سليم على الخيل والسلاح التام؛ وقد كان عيينة لحق رسول الله بالعرج في نفر من أصحابه، ولحقه الأقرع بن حابس بالسقيا، فقال عيينة: يا رسول الله؛ والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ فقال رسول الله ص: حيث شاء الله. ثم دعا رسول الله ص أن تعمي عليهم الأخبار؛ فنزل رسول الله ص مر الظهران، ولقيه العباس بالسقيا، ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العقاب.
فلما نزل مر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام.
فحدثنا أبو كريب، قال: أخبرنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزل رسول الله مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج رسول الله من المدينة: يا صباح قريش! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها؛ فدخل مكة عنوة؛ إنه لهلاك قريش آخر الدهر! فجلس على بغلة رسول الله البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابًا أو صاحب لبن؛ أو داخلًا يدخل مكة؛ فيخبرهم بمكان رسول الله؛ فيأتونه فيستأمنونه. فخرجت؛ فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله ص، فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم قط نيرانًا! فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة، حمشها الحرب! فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل! فعرفت صوته، فقلت يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل! فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله؛ فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله ص نحو رسول الله ص، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلى، قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا
عهد! ثم أشتد نحو النبي ، وركضت البغلة، وقد أردفت أبا سفيان؛ حتى أقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ؛ فدخل عمر على رسول الله ، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله؛ قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه؛ فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته! ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني! فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلًا يا عمر! فو الله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف؛ ولو كان من بني عدي ابن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلًا يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم! وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله : أذهب فقد آمناه حتى تغدو به على بالغداة. فرجع به إلى منزله؛ فلما أصبح غدًا به على رسول الله ، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئًا، فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله! فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء! فقال العباس: فقلت له ويلك! تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك؛ قال: فتشهد. قال: فقال رسول الله ص للعباس حين تشهد أبو سفيان: انصرف يا عباس فأحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فأجعل له شيئًا يكون في قومه. فقال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي؛ فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: مالي ولسليم! فتمر به قبيلة، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله ص في الخضراء؛ كتيبة رسول الله ص من المهاجرين والأنصار في الحديد؛ لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا. فقلت: ويحك إنها النبوة! فقال: نعم إذًا، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم؛ فخرج سريعًا حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! قالوا: فمه! فقال: من دخل داري فهو آمن، فقالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك! فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا، أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى تسألني عن خالد بن الوليد: هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي ص، فلما ركب النبي بطن مر عامدًا إلى مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله ص! إليهم أو إلى الطائف! وذاك أيام الفتح؛ وأستتبع أبو سفيان وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحبا أن يصحبهما، ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل؛ وقالوا لهم حين بعثوهم إلى رسول الله ص: لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد! إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفًا! وكان بين النبي ص وبين قريش صلح يوم الحديبية وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فأقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر؛ وكان بين رسول الله ص وبين قريش في ذلك الصلح الذي أصطلحوا عليه: لا إغلال ولا إسلال، فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فأتهمت بنو كعب قريشًا، فمنها غزا رسول الله ص أهل مكة؛ وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيمًا وبديلًا بمر الظهران؛ ولم يشعروا أن رسول الله ص نزل مر، حتى طلعوا عليه، فلما رأوه بمر، دخل عليه أبو سفيان وبديل وحكيم بمنزله بمر الظهران فبايعوه، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وهي بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم - وهي بأسفل مكة - فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي ص عامدين إلى مكة، بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون؛ وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك؛ ومن ثم دخل رسول الله ص، وأمر خالد بن الوليد - فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأناس، إنما أسلموا قبيل ذلك - أن يدخل من أسفل مكة، وبها بنو بكر قد أستنفرتهم قريش. وبنو الحارث بن عبد مناة ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة.
وحدثت أن النبي قال لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما؛ فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة. قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك؛ غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهو وأبن الأشعر - رجلًا من بني كعب - كانا في خيل الزبير فسلكا كداء، ولم يسلكا طريق الزبير الذي سلك، الذي أمر به. فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا؛ ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال؛ ومن ثم قدم النبي ص، وقام الناس إليه يبايعونه؛ فأسلم أهل مكة، وأقام النبي ص عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوزان وثقيف فنزلوا بحنين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن النبي ص حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كدى؛ وكان الزبير على المجنبة اليسري، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء. فزعم بعض أهل العلم أن سعدًا قال حين وجه داخلًا: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمه. فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، أسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة؟ فقال رسول الله ص لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)