قال ابن إسحاق: ثم فرق رسول الله ص بين أصحابه؛ فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي، صاحب اليمامة.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين، وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي وعباد بن جلندي الأزديين صاحبي عمان.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فأدى إليه كتاب رسول الله ص، وأهدى المقوقس إلى رسول الله ص أربع جوار، منهن مارية أم إبراهيم بن رسول الله ص.
وبعث رسول الله دحية بن خليفة الكلبي ثم الخزجي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم؛ فلما أتاه بكتاب رسول الله ص نظر فيه ثم جعله بين فخذيه وخاصرته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله ابن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا؛ فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله، لم نأمن ألا نجد أمنًا؛ فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشأم؛ وكان وجه متجرنا منها غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس، وأخرجهم منها، وانتزع له منهم صليبه الأعظم؛ وكانوا قد استلبوه إياه، فلما بلغ ذلك منهم، وبلغه أن صليبه قد استنقذ له - وكانت حمص منزله - خرج منها يمشي على قدميه متشكرًا لله حين رد عليه مارد، ليصلي في بيت المقدس، تبسط له البسط، وتلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إبلياء وقضى فيها صلاته، ومعه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غداة مهمومًا يقلب طرفه إلى السماء، فقال له بطارقته: والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهمومًا. قال: أجل، أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهرٌ! قالوا له: أيها الملك، ما نعلم أمةً تختتن إلا يهود، وهم في سلطانك وتحت يدك؛ فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك، فمره فليضرب أعناق كل من تحت يديه من يهود، واسترح من هذا الهم، فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يديرونه؛ إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب، يقوده - وكانت الملوك تهادى الأخبار بينها - فقال: أيها الملك، إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر حدث ببلاده عجب، فسله عنه.
فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لترجمانه: سله، ما كان هذا الحدث الذي ببلاده؟ فسأله فقال: خرج بين أظهرنا رجلٌ يزعم أنه نبي، قد اتبعه ناسٌ وصدقوه، وخالفه ناس؛ وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، فتركتهم على ذلك.
قال: فلما أخبره الخبر قال: جردوه، فجردوه، فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا والله الذي رأيت؛ لا ما تقولون، أعطوه ثوبه، انطلق عنا.
ثم دعا صاحب شرطته، فقال له: قلب لي الشأم ظهرًا وبطنًا؛ حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل - يعني النبي ص.
قال أبو سفيان: فوالله إنا لبغزة. إذ هجم علينا صاحب شرطته؛ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا: نعم، قال: انطلقوا بنا إلى الملك؛ فانطلقنا؛ فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمس به رحمًا؟ قلت: أنا.
قال أبو سفيان: وايم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الأغلف - يعني هرقل - فقال: ادنه فأقعدني بين يديه، وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إني سأسأله؛ فإن كذب فردوا عليه؛ فوالله لو كذبت ما رودوا علي، ولكني كنت أمرًا سيدًا أتكرم عن الكذب؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك علي؛ ثم يحدثوا به عني؛ فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي! فقال: فجعلت أزهد له شأنه، وأصغر له أمره؛ وأقول له: أيها الملك، ما يهمك من أمره! إن شأنه دون ما يبلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه.
قلت: سل عما بدا لك؛ قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محضٌ؛ أوسطنا نسبًا.
قال: فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبه به؟ قلت: لا، قال: فهل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من العلمان والنساء، وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه، فلم يتبعه منهم أحدٌ.
قال: فأخبرني عمن تبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قال: قلت: ما تبعه رجل ففارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: قلت: سجالٌ يدال علينا وندال عليه؛ قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئًا مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها: قلت: لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. قال: فوالله ما التفت إليها مني، ثم كر على الحديث. قال: سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ، من أوسطكم نسبًا؛ وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه؛ لا يأخذ إلا من أوسط قومه نسبًا. وسألتك: هل كان أحدٌ من أهل بيته يقول بقوله؛ فهو يتشبه به؛ فزعمت أن لا؛ وسألتك: هل كان له فيكم ملكٌ فاستلبتموه إياه؛ فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه؟ فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء؛ وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه، أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه لا يتبعه أحدٌ فيفارقه؛ وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج منه. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا؛ فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين؛ ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك.
قال: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى؛ وأقول: أي عباد الله؛ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة! أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام! قال: وقدم عليه كتاب رسول الله ص مع دحية بن خليفة الكلبي: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ وإن تتول فإن إثم الأكارين عليك - يعني تحماله.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: أخبرني أبو سفيان ابن حرب، قال: لما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله ص عام الحديبية، خرجت تاجرًا إلى الشام. ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، إلا أنه زاد في آخره: قال: فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: قال ابن شهاب الزهري: حدثني أسقفٌ للنصارى أدركته في زمان عبد الملك بن مروان، أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله ص وأمر هرقل وعقله، قال: فلما قدم عليه كتاب رسول الله ص مع دحية بن خليفة، أخذه هرقل، فجعله بين فخذيه وخاصرته.
ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرءونه؛ يذكر له أمره، ويصف له شأنه، ويخبره بما جاء منه؛ فكتب إليه صاحب رومية: إنه للنبي الذي كنا ننتظره؛ لا شك فيه؛ فاتبعه وصدقه.
فأمر هرقل ببطارقة الروم؛ فجمعوا له في دسكرة، وأمر بها فأشرجت أبوابها عليهم؛ ثم اطلع عليهم من علية له؛ وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم؛ إنني قد جمعتكم لخير؛ إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا؛ فهلموا فلنتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
قال: فنخروا نخرة رجل واحد؛ ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قد أغلقت، فقال: كروهم علي - وخافهم على نفسه - فقال: يا معشر الروم؛ إني قد قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث؛ وقد رأيت منكم الذي أسر به؛ فوقعوا له سجدًا؛ وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم؛ فانطلقوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن هرقل قال لدحية بن خليفة حين قدم عليه بكتاب رسول الله ص: ويحك! والله إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل؛ وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا؛ ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم؛ فهو والله أعظم في الروم منى، وأجوز قولا عندهم منى؛ فانظر ما يقول لك.
قال: فجاءه دحية؛ فأخبره بما جاء به من رسول الله ص إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبي مرسل؛ نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه.
ثم دخل فألقى ثيابًا كانت عليه سودًا، ولبس ثيابا بيضا، ثم أخذ عصاه؛ فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم؛ إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد؛ يدعونا فيه إلى الله عز وجل؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه. فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا؛ فصغاطر - والله - كان أعظم عندهم وأجوز قولًا مني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام، قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشأم إلى القسطنطينة، لما بلغه من أمر رسول الله ، جمع الروم، فقال: يا معشر الروم؛ إني عارضٌ عليكم أمورًا، فانظروا فيهم قد أردتها! قالوا: ما هي؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسلٌ؛ إنا نجده في كتابنا نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فقالوا: نحن نكون تحت يدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكًا، وأكثرهم رجالًا، وأفضلهم بلدًا! قال: فهلم فأعطيه الجزية في كل سنة، اكسروا عني شوكته وأستريح من حربه بمال أعطيه إياه، قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار، بخرجٍ يأخذونه منا؛ ونحن أكثر الناس عددًا، وأعظمهم ملكًا، وأمنعهم بلدًا؛ لا والله لا نفعل هذا أبدًا.
قال: فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام - قال: وكانت أرض سورية أرض فلسطين والأردن ودمشق وحمص ومادون الدرب من أرض سورية؛ وكان ما وراء الدرب عندهم الشام - فقالو له: نحن نعطيه أرض سورية؛ وقد عرفت أنها سرة الشام؛ والله لا نفعل هذا أبدًا.
فلما أبوا عليه، قال: أما والله لترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم. ثم جلس على بغل له؛ فأنطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام، ثم قال: السلام عليكم أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ص شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني؛ صاحب دمشق.
وقال محمد بن عمر الواقدي: وكتب إليه معه: سلام على من اتبع الهدى وآمن به. إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك.
فقدم به شجاع بن وهب، فقرأه عليهم، فقال: من ينزع منى ملكي! أنا سائر إليه، قال النبي ص: باد ملكه! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله ص عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شان جعفر بن أبي طالب وأصحابه؛ وكتب معه كتابًا.
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلمٌ أنت؛ فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن؛ وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى؛ فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له؛ والموالاة على طاعته؛ وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرًا ونفرًا معه من المسلمين؛ فإذا جاءك فأقرهم، ودع التجبر؛ فإني أدعوك وجنودك إلى الله؛ فقد بلغت ونصحت؛ فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب النجاشي إلى رسول الله ص: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام. أما بعد؛ فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقًا؛ إنه كما قلت؛ وقد عرفت ما بعثت به إلينا؛ وقد قرينا ابن عمك وأصحابه؛ فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقا؛ وقد بايعتك وبايعت ابن عمك؛ وأسلمت على يديه لله رب العالمين؛ وقد بعثت إليك با بني أرها بن الأصحم ابن أبجر؛ فإني لا أملك إلا نفسي؛ وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله؛ فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله.
قال ابن إسحاق: وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة؛ فإذ كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم، فهلكوا.
وحدثت عن محمد بن عمر، قال: أرسل رسول الله ص إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة ليخبرها بخطبة رسول الله ص إياها جارية له يقال لها أبرهة؛ فأعطتها أوضاحًا لها وفتخًا؛ سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله ص، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشي بأربعمائة دينار صداقها؛ فدفعها إلى خالد بن سعيد؛ فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك؛ وليس بيدي شىء، وقد جاء الله عز وجل بهذا.
فقالت أبرهة: قد أمرني الملك ألا آخذ منك شيئا؛ وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمدًا رسول الله وآمنت به؛ وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام.
قالت: نعم؛ وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر؛ فكان رسول الله ص يراه عليها وعندها فلا ينكره.
قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين؛ وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة؛ فوجدنا رسول الله ص بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله؛ فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي؛ وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله ص عليها؛ ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي ص أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.
وفيها كتب رسول الله ص إلى كسرى، وبعث الكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي؛ فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله؛ وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا؛ أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس.
فمزق كتاب رسول الله ص، فقال رسول الله: مزق ملكه! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب، قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس؛ سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمدا عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله؛ فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت؛ فإن إثم المجوس عليك.
فلما قرأه مزقه، وقال: يكتب إلى هذا وهو عبدي! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عبد الله بن حذافة قدم بكتاب رسول الله ص على كسرى، فلما قرأه شقه، فقال رسول الله: مزق ملكه! حين بلغه أنه شق كتابه.
ثم رجع إلى حديث يزيد بن أبي حبيب. قال: ثم كتب كسرى إلى باذان؛ وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به؛ فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه - وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خر خسره، وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل، وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا؛ وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل!
فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى اللعه عليه وسلم، فكلمه بابويه، فقال: إن شاهانشاه ملك الملوك كسرى؛ قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك؛ وقد بعثني إليك لتنطلق معي؛ فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ينفعك ويكفه عنك؛ وإن أبيت فهو من قد علمت! فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك؛ ودخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما؛ فكره النظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله: لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدًا، وأتى رسول الله الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه؛ فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا من الليل؛ بعد ما مضى من الليل؛ سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
قال الواقدي: قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها - رجع الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب. فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا؛ أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك! قال: نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر؛ وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك؛ وملكتك على قومك من الأبناء؛ ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيًا كما يقول؛ ولننظرن ما قد قال؛ فلئن كان هذا حقا ما فيه كلامٌ؛ إنه لنبي مرسلٌ؛ وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه؛ أما بعد فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم؛ فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك؛ وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسولٌ. فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن؛ فكانت حمير تقول لخرخسره: ذو المعجزة، للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله - والمنطقة بلسان حمير المعجزة - فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسره ذو المعجزة.
وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلًا قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرطٌ؟ قال: لا.
قال الواقدي: وفيها كتب إلى المقوقس عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم.
قال أبو جعفر: ولما رجع رسول الله من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم - فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
قال: وولي الحج في تلك السنة المشركون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)