مشغول أنت. مدينة برغبات صاخبة تنتظرك. سلالم معدنية تتلقفك لتقذف بك نحو قاطرات المترو, فتختلط بالعابرين والمسرعين والمشردين, ويحدث وسط الأمواج البشرية, أن ترتطمبموطنك. لا ذاك الذي يكنس شوارع الغربة. أو عاطلا عن الأمل, يتسكع مثيرا للحذروالريبة. إنما وطنا آخر كان مفخرتك, وأجهز القتلة على أحلامه.
بعد ذلك ستعرف أنالجزائر سبقتك إلى باريس, وأن تلك الرصاصة التي صوبها الإرهابيون نحو رأسها, جعلتنزفها يتدفق هنا بعشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين والأطباءوالباحثين, وأن الفوج الجديد من جزائريي الشتات, قام بتأسيس عدة جمعيات لمساندة مابقي في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الإرهاب.
بعد وصولي بأيامقصدت المركز الثقافي الجزائري تسقطا لأخبار الوطن. ورغبة في الإطلاع على الصحافةالجزائرية التي لا تصل كل عناوينها إلى فرنسا.
كان المبنى على جماله موحشا كضريحشيد لتأبين فاخر للثقافة بذريعة الاحتفاء بها. أو لعله شيد بذريعة وهب الاسترزاقبالعملة الصعبة , للذين في الزمن الصعب كسدت بضاعتهم في دكاكين الوطن.
ماكانتبرودته تشجع على تصفح هموم البلاد. ولم ينقذني يومها من الصقيع, سوى ملصقات كانتتعلن عن نشاطات ثقافية متفرقة في باريس.
اكتفيت بأن أسجل في مفكرتي تاريخ عرضإحدى المسرحيات, وكذلك عنوان الرواق الذي يقام فيه معرض جماعي لرسامينجزائريين.
ماكنت لأظن وأنا أقصد بعد يومين ذلك الرواق يوم الافتتاح, أن كلالأقدار الغريبة ستتضافر لاحقا انطلاقا من ذلك المعرض, لتقلب قدري رأسا علىعقب.
كانت القاعة تستبقيك بدفئها, كوقوفك تحت البرد, أمام عربات القسطل المشويفي شوارع باريس. دفء له رائحة ولون وكلمات, صنعها الرسامون أنفسهم لإحراجك عاطفيا, بفضلهم بين اللوحات بصور المبدعين الذين اغتيلوا , وبوضعهم علما جزائريا صغيرا جوارالدفتر الذهبي, وإرفاقهم دليل اللوحات بكلمة تحثك ألا تساهم في اغتيالهم مرة ثانيةبالنسيان, وإهمال من تركوا خلفهم من يتامى وثكالى.
تشعر برغبة في البكاء. تكادتندم على زيارتك المعرض. أسافرت حتى هنا لتجد كل هذه الصور في انتظارك؟
احتدمالنقاش يومها بين بعض الزوار, حول من يقتل من في الجزائر. كأنهم كانوا ينتظرون أنيلتقوا كي يختلفوا. تعذر علي مجادلتهم. وتعذر على مزاجي غير المهيأ لمزيد من الحزنتجاهل ذلك الكم من الاستفزاز المتراشق به بين الجمل.
لم أطل البقاء. قررت العودةلاحقا في يوم من أيام الأسبوع.
أذكر أنني قضيت عدة أيام قبل أن أقصد ذلكالرواق ذات ظهيرة, لوجودي في محطة مترو غير بعيدة عنه.
كان كل شيء فيه يبدويومها هادئا ومسالما. لا شيء من ضجيج الافتتاح. عدا صخب اللوحات في خبث تآمر صمتهاعليك.
رحت أتجول في ذلك المعرض, عندما استوقفت نظري مجموعة لوحات معروضة تمثلجميعها جسورا مرسومة في ساعات مختلفة من النهار بجاذبية تكرار مربك في تشابهه. كلثلاثة أو أربعة منها للجسر نفسه:
جسر باب القنطرة, أقدم جسور قسنطينة, وجسر سيديراشد بأقواسه الحجرية العالية ذات الأقطار المتفاوتة, وجسر الشلالات مختبئا كصغيربين الوديان. وحده جسر سيدي مسيد, أعلى جسور قسنطينة, كان مرسوما بطريقة مختلفة علىلوحة فريدة تمثل جسرا معلقا من الطرفين بالحبال الحديدية على علو شاهق كأرجوحة فيالسماء.
وقفت طويلا أمام لوحات لها عندي ألفة بصرية, كأنني عرفتها في زمن ما, أوشاركت الفنان في رسمها. كانت على بساطتها محملة بشحنة عاطفية, تنحرف بك إلى ذاتك, حتى لكأنها تخترقك, أو تشطرك.
فكرت, وأنا أتأملها, أن ثمة جسورا , وأخرى تعبرنا, كتلك المدن التي نسكنها, والأخرى التي تسكننا, حسب قول خالد بن طوبال في " ذاكرةالجسد".
لا أدري كيف أوصلني التفكير إلى ذلك الكائن الحبري الذي انتحلت اسمهصحافيا لعدة سنوات. وكنت أوقع مقالاتي محتميا به, من رصاص الإرهابيين المتربص بكلقلم, واثقا بأن هذا الرجل لم يوجد يوما في الحياة, كما زعمت مؤلفة تلكالرواية.
الفكرة التي راودتني لفرط حبي لشخصيته, ولتشابهنا في أشياء كثيرة, حتى إنه لم يكن يختلف عني سوى في كونه يكبرني بجيل, وإنه أصبح رساما بعدما فقدذراعه اليسرى في إحدى معارك التحرير, بينما , بدون أن أفقد ذراعي, أصبحت أعيش إعاقةتمنعني من تحريكها بسهولة مذ تلقيت رصاصتين أثناء تصوير تلك المظاهرات.
فكرتبسخرية أنه قد يكون شخص آخر قرأ ذلك الكتاب, وراح هذه المرة يسرق لوحات الرجل, ويرسم تلك الجسور التي كان خالد بن طوبال مولعا بها, مستندا إلى وصفها في تلك
█║S│█│Y║▌║R│║█
الرواية. لكن اللوحات ماكانت تبدو تمرينا في الرسم, بقدر ما هي تمرين على الشفاء منوجع يلمس فيه الرسام بريشته ممكن الألم أكثر من مرة, كما ليدلك عليه.
إنه حتماأحد أبناء الصخرة وعشاقها المسكونين بأوجاعها.
خلقت تلك اللوحات لدي فضولامباغتا في إلحاحه, فقصدت المشرفة على المعرض, أحاول مد حديث معها كي تزودنيبمعلومات عن الرسام.
غير أنها قالت, وهي تدلني على سيدة أربعينية جميلة القوام, ينسدل شعرها الأحمر بتموجات على كتفيها:
- ها هي السيدة المكلفة بتلك اللوحات, بإمكانها إمدادك بما تحتاجه من معلومات.
قدمت لي المرأة نفسها بمودة, وبتلكالحرارة التي يتحدث بها الناس إلى بعضهم البعض في فرنسا في مثل هذه المناسبات ذاتالطابع التضامني الإنساني. قالت:
لمأكن أعرف بعد " ماذا تستطيعه هذه المرأة من أجلي".
فأجبتها:
- إني مهتم بهذهاللوحات. أتمنى لو أعرف شيئا عن صاحبها.
ردت السيدة بحماسة:
- إنها لزيان, أحد كبار الرسامين الجزائريين.
قلت معتذرا:
- سمعت بهذا الاسم.. لكنني معالأسف لم أشاهد أعماله قبل اليوم.
ردت:
- أتفهم هذا . إنه ضنين العرض, ومقلالرسم أيضا, ولذا تنفد لوحاته بسرعة. كما ترى, معظم لوحاته بيعت.
قلت, وأنا أقفأمام مجموعة الجسور:
- غريب هذا الأثر الذي يتركه في النفس وقع هذا السلماللوني. دورة النور بين لوحة وأخرى تعطيك إحساسا أنك ترافق الجسر في دورة نهاره, معأن الألوان لا تتغير, إنها ذاتها.
قالت:
- لأنه تعلم الاختزال اللوني من أيامالحاجة. في البدء لم يكن لديه مال, فاقتصد في الألوان. كان له بالكاد ما يكفيلثلاثة ألوان أو أربعة, فرسم بألوانه جسرا.
واصلت المرأة:
- كل الرسامين لهمبدايات متقشفة. بيكاسو في أول هجرته إلى فرنسا رسم لوحات غلب عليها اللون الأزرق, ورأى النقاد سببا واحدا لمرحلته الزرقاء تلك: إن فقر المهاجر الجديد منعه من شراءألوان أخرى وحدد خياره . فان غوغ رسم أكثر من لوحة لحقول الشمس لأنه لم يكن فيحوزته سوى اللون الأصفر.
كنت سأبدي لهذه المرأة إعجابي بثقافتها, لولا أن ذهنيكان مشغولا كليا بذلك الرسام الذي بدأت أتعاطف معه, وأحزن لبؤسه. وكعادتي رحت أفكرفي طريقة تمكنني من مساعدته.
قلت لها:
- لا أفهم.. ألا يكون أحد فكر فيمساعدة رسام موهوب كهذا, لا يملك ثمن شراء ألوان للرسم؟
ضحكت السيدة وقالت:
- الأمر ليس هكذا.. كنت أحدثك عن بداياته, عن هذه اللوحة التي رسمها قبل أربعين سنةيوم كان يعالج في تونس أثناء حرب التحرير. أشارت بيدها إلى لوحة " الجسرالمعلق".
دققت في اللوحة: في أسفلها كتب: تونس 1956 .
شيء ما بدأ يشوش ذهني. فكرة مجنونة عبرتني, ولكنني استبعدتها خشية أن أشكك في قواي العقلية. قلت:
- ظننته شابا.. كم عمره إذن؟
- إنه ستيني.
- وما الذي أوصله إلى هذهالجسور؟
- هوسه بقسنطينة طبعا! غالبية هذه اللوحات رسمها منذ 10 سنوات, حدث أنمر بفترة لم يكن يرسم فيها سوى الجسور. هذا بعض ما بقي من ذلك الجنون. معظمها بيعتفي معارض سابقة.
خشيت فجأة, إن أنا واصلت الأسئلة, أن أقع على اكتشافمخيف.
سألتها وكأنني أهرب من مفاجأة لا أدري عواقبها:
- وماذا يعرض غير لوحاتالجسور هذه؟
قالت مشيرة إلى لوحة تمثل شباكا بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكالمختلفة تبدو عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها:
- هذه اللوحة . إنها من أحبلوحاته إلي, وأعجب ألا تكون بيعت حتى الآن.
وأمام ما بدا مني من عدم إعجاب بلوحةلم أفهمها, قالت موضحة:
- هذه رسمها زيان تخليدا لضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961 , خرجوا في باريس في
█║S│█│Y║▌║R│║█
مظاهرة مسالمة مع عائلاتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروضعلى الجزائريين, فألقى البوليس بالعشرات منهم موثوقي الأطراف في تهر السين. ماتالكثيرون غرقا, وظلت جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام, لكون معظمهم لايعرف السباحة.
قلت وأنا أقاطعها حتى لا أبدو أقل معرفة منها بتاريخي:
- أدري.. ما استطاع Papon المسؤول آنذاك عن الأمن في باريس, أن يبعث بهم إلى المحرقةكما فعل مع اليهود قبل ذلك, فأنزل عشرين ألفا من رجاله ليرموا بهم إلى " السين" . كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائلا" محمد.. أتعرف السباحة؟" وغالبا ما يجيبالمسكين "لا" كما لو كان يدفع عنه شبهة. وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو "السين" . كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه!
واصلت المرأة بنبرةفرحة هذه المرة:
- إن جمعية لمناهضة العنصرية استوحت من هذه اللوحة فكرة تخليدهالهذه الجريمة. قامت في آخر ذكرى لمظاهرات 17 أكتوبر بإنزال شباك في نهر السين تحتويعلى أحذية بعدد الضحايا. ثم أخرجت الشباك التي امتلأت أحذيتها المهترئة بالماء, وعرضتها على ضفاف السين للفرجة, تذكيرا بأولئك الغرقى.
فقدت صوتي فجأة أمامتلك اللوحة التي ماعادت مساحة لفظ نزاعات الألوان , بل مساحة لفظ نزاعاتالتاريخ.
شعرت برغبة في أن أضم إلى صدري هذه المرأة التي نصفها فرانسواز, ونصفهافرنسا. أن أقبل شيئا فيها, أن أصفع شيئا فيها, أن أؤلمها, أن أبكيها, ثم أعود إلىذلك الفندق البائس لأبكي وحدي.
أبدأت لحظتها أشتهيها؟
قطعت فرانسواز تفكيري, وفاجأتني معتذرة لارتباطها بموعد, وتركتني أمام تلك اللوحة مشتت الأفكار أتأملهاتغادر القاعة.
في المساء, لم يفارقني إحساس متزايد بالفضول تجاه ذلك الرسام, ولا فارقني منظر تلك اللوحة التي أفضت بي إلى أفكار غريبة, وأفسدت علاقة ود أقمتهامع نهر السين.
حتما, هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى. فالشباك عذابنا لاالجثة.
تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤسا من أصحابها, مهملة كأقدارهم, مثقلةبما علق بها من أوحال الحياة. تلك الأحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء, كما تتحللجثة. إنها سيرة حياة الأشياء التي تروي بأسمائها سيرة حياة أصحابها.
قضيتالسهرة متأملا في أقدار أحذية الذين رحلوا, هؤلاء الذين انتعلوها بدون أن يدرواأنهم ينتعلون حذائهم يومها لمشوارهم الأخير. ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق. طبعا, ما كانت قوارب نجاة, ولكنهم تمسكوا بها كقارب. أحذية من زوج وأخرى من واحدة, مشت مسافات لا أحد يعرف وجهتها, ثم لفظت أنفاسها الأخيرة عندما فارقت أقدامأصحابها. كانوا يومها ثلاثين ألف متظاهر ( وستين ألف فردة حذاء). سيق منهم اثنا عشرألفا إلى المعتقلات والملاعب التي حجزت لإيوائهم. غير أن " السين" الذي عانى دائمامن علة النسيان, ما عاد يعرف بالتحديد عدد من غرق يومها منهم.
رحت أتصورضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلاء البؤساء, وتركوا أحذيتهم يتسلى المارةباستنطاقها. فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة... ماذا ترى كان يعملصاحبها, أدهانا؟ أم بناء؟ أم زبالا؟ أم عاملا في طوابير الأيدي السمر العاملة علىتركيب سيارات "بيجو"؟ فلا مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك فيفرنسا.
أحذية كان لأصحابها آمال بسيطة ذهبي مع الفردة الأخرى. فردة ما عادتحذاء, إنها ذلك الأمل الخالي من الرجاء, كصدفة أفرغت ما في جوفها, مرمية علىالشاطئ. ذلك أن المحار لا يصبح أصدافا فارغة من الحياة, إلا عندما يشطر إلى نصفين, ويتبعثر فرادى على الشاطئ.
كان آخر ما توصلت إليه, بعد أرق ذهب بي في كل صوب, أ،أقصد في الغد الرواق لأشتري لوحة الأحذية, كسبا لصداقة فرانسواز, ولأساهم في ذلكالمعرض الخيري بشراء لوحة وجدتني أعشقها.
في الواقع, كان هذا مشروعي العلني. أمامشروعي الآخر فأن ألتقي بفرانسواز مرة أخرى, وأواصل استنطاقها أكثر عن ذلكالرسام.
عاماً ونصف عام في سرير التشرد الأمني, عشت منقطعا عن العالم, أتنقل بحافة خاصةإلى ثكنة تم تحويلها لأسباب أمنية إلى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائريةباللغتين, لا أغادرها إلا إلى إقامتي الجديدة.
كان مكاناً يصعب تسميته, فما كانبيتاً, ولا نزلاً , ولا زنزانة. كان مسكناً من نوع مستحدث اسمه " محمية" في شاطئكان منتجعا, وأصبح يتقاسمه " المحميون" ورجال الأمن. تحتمي فيه من سقف الخوف بسقفالإهانة. فما كانت القضية أن يكون لك سرير وباب يحميك من
█║S│█│Y║▌║R│║█
القتلة, بل أن تكون لككرامة.
في صيف مازافران, أيام الخوف والغبن والذعر اليومي, كنت أدري أنها تقيمبمحاذاتي في بيتها الصيفي, على الشاطئ الملاصق لي, على النصف الآخر من العالمالمناقض لبؤسي, في شاطئ (نادي الصنوبر), حيث توجد محمية بنجوم أكثر, محجوزة فيلاتهالكبار القوم.
وكان في هذا عذاب لم أحسب له حساباً . أنا الذي اختار ذلك المنفىلأحتمي من حبها, أكثر من احتمائي من القتلة, وإذ الأمن العاطفي هو أول مافقدت.
أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي, ولكندائما في الجهة الأخرى المناقضة لي, لا شيء يوصلني إليها, هي التي لا يفصلني عنهامطر, ولا شمس, ولا رمل, ولا بحر.. ولا ذعر.
أحيانا كنت أخرج إلى الشرفةأنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر. عسى قوارب الشوق الشتوي تجنح بهاإلي.
أحلم بشهقة المباغتة الجميلة. بارتعاد لوعتها عند اللقاء. باندهاش نظرتها . بضمتها الأولى. كعمر بن أبي ربيعة " أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفهاحين تنظر". ثم أذهب إلى النوم, ممنيا نفسي بالمطر, عساه يعمدنا على ملة العشق فيغفلة من الموت والقتلة.
مراد الذي قاسمني غرفتي الأمنية بعض الوقت, قبل أن يتحولمن محميّ من السلطة إلى طريدتها. كان يعجب من وقوفي طويلا في الشرفة ويناديني إلىالداخل لأشاطره كأسا وشيئاً من الطرب.
ولكوني ما كنت من مدمني الشرب, ولا منهواة الصخب, كثيرا ما أزعجه اعتذاري, وأساء فهم أعذاري, وخرج إلى الشرفة ليسحبنينحو الداخل قائلاً بتذمر لا يخلو من خفة دم تميزه:
- يا راجل واش بيك.. يلعنبوها حياة. واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا.. يروحوا كلهميقوّدوا..
كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره. يرى بحراً لا يدري كيف يقيم معهعلاقة سليمة. فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي. ولذا كنا نسكن مدينةشاطئية جميلة تولي ظهرها للبحر, ويبادلها البحر عدم الاكتراث.
هناك أدركت قولبورخيس " البحر وحيد كأعمى" .. أو ربما أدركت أنني كنت البحر!
***
عندما هاتفته في الصباح عاتبني لأنه تعب في الحصولعلى رقمي في باريس, ثم بسخريته الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعياً أننينسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الأوربيات, حتىأصبحت سيارة الإسعاف تسير وراءه لإخلاء من يقعن مغمى عليهن.. لدى رؤيته.
- " الأمبيلانس" يا خويا وراي.. أنا نمشي وهي تهز في البنات..كيفاش ندير قل لي يرحمباباك؟!
مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالاستخفاف به. وربما كان مديناً لوجودهعلى قيد الحياة بمرحه الدائم, ومديناً لجمال يشع منه, باستخفافه أيضاً بالجمال, متجاوزا بذلك عقدة خلقته.
وفي هذا السياق كان يسميني " الدحدوح" ليذكرني أنوسامتي النسبية لن تغطي على بشاعته. وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغنيالفرنسي سيرج غاسبور " إن البشاعة أقوى من الجمال لأنها أبقى". فبرغم بشاعته حصلغاسبور على فاتنات ما كن في متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة, يصبح في فيضه النادر ضرباً من الجمال المثير للغواية.
وكان في الأمر منطق يتجاوزفهمي. قد يشرحه من الطرف الآخر, قول بروست " لندع النساء الجميلات للرجال الذين لاخيال لهم". لذا كان مراد يراهن على خيال الإناث, محطماً خجل العوانس والنساءالرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة.
في أحد لقاءاتي به لاحقاً, ضربت لهموعدا في الرواق, بعد أن أبدى اهتمامه بزيارة معرض زيان. كنا نتجول بين اللوحاتالتي تتقاسم معظمها فكرة الجسور والأبواب العتيقة المواربة, عندما انضمت إلينافرانسواز التي عرّفته بها قبل ذلك. راحت تسأله بتردد, كيف وجد المعرض. وبعد حديثجدي استعرض فيه سعة ثقافته الفنية أضاف فجأة:
- كجزائري أفهم وجع زيان, وأدريالمأساة التي تحملها لوحاته, لكني كمتلق أجد في هذه الجسور الممدة وهذه الأبوابالمواربة رمزاً أنثوياً. ولو كان لي أن أختار عنواناً لهذا المعرض لسميته " النساء".
وراح أمام عجبنا يشرح فكرته:
- الباب الموارب هو الغشاء الذي تقبعخلفه كل أنوثة مغلولة بقيد الانتظار. ما هو مشروع منه ليس سوى تلك الدعوة الأبديةللولوج, أما بعضه المغلق, فذلك هو التمنع الصارخ للإغواء.. لذا لم أعرف للنساءباباً عصياً على الانفتاح. إنها قضية وقت يتواصى بالصبر.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)