فأجبتها وحبات قلبي تذوب في عيني "سأكون يا سلمى مثلما تريدينني أن أكون".
فقالت "أريدك أن تحبني، أريد أن تحبني إلى نهاية أيامي. أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة، أريدك أن تذكرني مثلما يذكر المسافر حوض ماء هادئ رأى فيه خيال وجهه قبل أن يشرب من مائه، وأريدك أن تذكرني مثلما تذكر الأم جنيناً مات في أحشائها قبل أن يرى النور. وأريدك أن تفتكر بي مثلما يفكر الحاكم الرؤوف بسجين مات قبل أن يبلغه عفوه، أريدك أن تكون لي أخاً وصديقاً ورفيقاً وأريدك أن تزور والدي في وحدته وتعزيه في انفراده لأنني عما قريب سأتركه وأصير غريبة عنه".
فأجبتها "سأفعل كل ذلك يا سلمى، سوف أجعل روحي غلافاً لروحك وقلبي بيتاً لجمالك وصدري قبراً لأحزانك. سوف أحبك يا سلمى محبة الحقول للربيع وسوف أحيي بك حياة الأزاهر بحرارة الشمس، سوف أترنم باسمك مثلما يترنم الوادي بصدى رنين الأجراس المتمايلة فوق كنائس القرى؛ سأذكرك يا سلمى مثلما يذكر الغريب المستوحش وطنه المحبوب، والفقير الجائع مائدة الطعام الشهية، والملك المخلوع أيام عزه ومجده والأسير الكئيب ساعات الحرية والطمأنينة، سوف أفتكر بك مثلما يفكر الزارع بأغمار السنابل وغلة البيادر، والراعي الصالح بالمروج الخضراء والمناهل العذبة".
كنت أتكلم وسلمى تنظر إلى أعماق الليل وتتأوه بين الآونة والأخرى ونبضات قلبها تتسارع وتتهامل كأنها أمواج بحربين صعود وهبوط، ثم قالت "غداً تصير الحقيقة خيالاً واليقظة حلماً فهل يكتفي المشتاق بعناق الخيال ويرتوي الظمآن من جداول الأحلام".
فأجبتها قائلاً "غداً يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالراحة والهدوء. ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنت إلى منزل يسعد بجمالك وطهر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها. أنت إلى الحياة وأنا إلى النزاع. أنت إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد. ولكنني سأرفع في وادي ظل الموت تمثالاً للحب وأعبده. سأتخذ الحب سميراً وأسمعه منشداً وأشربه خمراً وألبسه ثوباً. عند الفجر سينبهني الحب من رقادي ويسير أمامي إلى البرية البعيدة. وعند الظهيرة سيقودني إلى ظل الأشجار فأربض مع العصافير المحتمية من حرارة الشمس. وفي المساء سيوقفني أمام المغرب ويسمعني نغمة وداع الطبيعة للنور ويريني أشباح السكينة سابحة في الفضاء. وفي الليل سيعانقني فأنام حالماً بالعوالم العلوية حيث تقطن أرواح العشاق والشعراء. وفي الربيع سأمشي والحب جنباً لجنب مترنمين بين التلول والمنحدرات متبعين أثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتكئ والحب ساندين رأسينا إلى أغمار القش مفترشين الأعشاب ملتحفين السماء ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريف سأذهب والحب إلى الكروم فنجلس بقرب المعاصر ناظرين إلى الأشجار وهي تخلع أثوابها المذهبة متأملين بأسرار الطيور الراحلة إلى ساحل. وفي الشتاء سأجلس والحب بقرب المواقد نحكي حكايات الأجيال مرددين أخبار الأمم والشعوب وفي أيام الشبيبة سيكون لي الحب مهذباً وفي الكهولة عضداً وفي الشيخوخة مؤنساً، سيظل معي يا سلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضة الله".
كانت الألفاظ تتصاعد مسرعة من أعماق نفسي كأنها شعلات من نار تنمو وتتطاير ثم تتبدد وتضمحل في زوايا تلك الحقيقة، وكانت سلمى مصغية والدموع تنهمر من عينيها كأن أجفانها شفاء تجيبني بالدموع على الكلام.
إن اللذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن اللذين لم يتخذهم الحب أتباعاً لا يسمعون الحب متكلماً. فهذه الحكاية لم تكتب لهم، فهم وإن فهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباح والخيالات التي لا تلبس الحبر ثوباً ولا تتخذ الورق مسكناً. ولكن أي بشري لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها، وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ورفعت سلمى إذا ذاك رأسها نحو السماء المزينة بالكواكب ومدت يديها إلى الأمام وكبرت عيناها وارتجفت شفتاها وظهر على وجهها المصفر كل ما في نفس المرأة المظلومة من الشكوى والقنوط والألم. ثم صرخت قائلة: "ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقت غضبك. ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور. هل اقترفت جرماً لا نهاية لفظاظته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟ أنت قوي يا رب وهي ضعيفة فلماذا تبيدها بالأوجاع؟ أنت عظيم وهي تدب حول عرشك فلماذا تسحقها بقدميك؟ أنت عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك فلماذا تذريها على الثلوج؟ أنت جبار وهي بائسة فلماذا تحاربها؟ أنت بصير عليم وهي تائهة عمياء فلماذا تهلكها؟ أنت توجدها بالمحبة فكيف بالمحبة تفنيها؟ بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها إلى الهاوية وهي جاهلة لا تدري أنّى ترفعها وكيف تدفعها. في فمها نسمة الحياة وفي قلبها تزرع بذور الموت. على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعث الشقاء فارساً ليصطادها. في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة. بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالات الأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب. بإرادتك تحيي أميالها ومن أميالها تتولد عيوبها وذلاتها، بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها من جسد جميل وبقضائك تجعل جسدها بعلا للضعف والهوان.. أنت تسقيها الحياة بكأس الموت والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب قد فتحت عيني بالمحبة وبالمحبة أعميتني. أنت قبلتني بشفتيك وبيدك القوية صفعتني. أنت زرعت في قلبي وردة بيضاء وحول هذه الوردة أنبت الأشواك والحسك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه وبجسد رجل لا أعرفه قيدت أيامي، فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعفني لأبقى أمينة وطاهرة حتى الموت.. لتكن مشيئتك يا رب. ليكن اسمك مباركاً إلى النهاية".
وسكتت سلمى وظلت ملامحها تتكلم، ثم أحنت رأسها وأرخت ذراعيها وانخفض هيكلها كأن القوى الحيوية قد تركتها فبانت لناظري كغصن قصفته العاصفة وألقته إلى الحضيض ليجف ويندثر تحت أقدام الدهر. فأخذت يدها المثلجة بيدي الملتهبة وقبلت أصابعها بأجفاني وشفتي، ولما حاولت تعزيتها بالكلام وجدتني أحرى منها بالتعزية والشفقة فبقيت صامتاً حائراً متأملاً شاعراً بتلاعب الدقائق بعواطفي مصغياً لأنة قلبي في داخلي خائفاً من نفسي على نفسي.
ولم ينبس أحدنا ببنت شفة في ما بقي من تلك الليلة لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء فبقينا ساكتين جامدين كعمودي رخام قبرهما الزلزال في التراب، ولم يعد أحدنا يريد أن يسمع الآخر متكلماً لأن خيوط قلبينا قد وهت حتى صار التنهد دون الكلام يقطعها.
انتصف الليل ونمت رهبة السكوت وطلع القمر ناقصاً من وراء صنين وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام وأناخت هيكله الأحزان وهجر أجفانه الرقاد فبات يساهي الدجى ويترقب الفجر كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره. إن الجبال والأشجار والأنهار تتبدد هيئاتها ومظاهرها بتقلب الحالات والأزمنة مثلما تتغير ملامح وجه الإنسان بتغيير أفكاره وعواطفه، فشجرة الحور التي تتعالى في النهار كعروس جميلة يلاعب النسيم أثوابها تظهر في المساء كعمود دخان يتصاعد نحو اللاشيء، والصخر الكبير الذي يجلس عند الظهيرة كجبار قوي يهزأ بعاديات الزمن يبدوا في الليل كفقير بائس يفترش الثرى ويلتحف الفضاء، والساقية التي نراها عند الصباح متلمعة كذوب اللجين ونسمعها مترنمة بأغنية الخلود نخالها في المساء مجرى دموع يتفجر من بين أضلع الوادي ونسمعها تندب وتنوح كالثكلى، ولبنان الذي ظهر منذ أسبوع بكل مظاهر الجلال والرونق عندما كان القمر بدراً والنفس راضية قد بان في تلك الليلة كئيباً منهوكاً مستوحشاً أمام قمر ضئيل ناقص هائم في عرض السماء وقلب خافق معتل داخل صدر.
وقفنا للوداع وقد وقف بيننا الحب واليأس شبحين هائلين هذا باسط جناحية فوق رأسينا وذاك قابض بأظافره على عنقينا هذا يبكي مرتاعاً وذاك يضحك ساخراً؛ ولما أخذت يد سلمى ووضعتها على شفتي متبركاً دنت مني ولثمت مفرق شعري ثم عادت وارتمت على المقعد الخشبي وأطبقت جفنها وهمست ببطء "أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة".
انفصلت عن سلمى وخرجت من تلك الحديقة شاعراً بنقاب كثيف يوشي مداركي الحسية مثلما يغمر الضباب وجه البحيرة وسرت وخيالات الأشجار القائمة على جانبي الطريق تتحرك أمامي كأنها أشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفني وأشعة القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون كأنها سهام دقيقة تريشها أرواح الجان السابحة في الفضاء نحو صدري، السكينة العميقة تخيم علي كأنها أكف سوداء ثقيلة ألقتها الظلمة على جسدي. كل ما في الوجود وكل ما في الحياة وكل سر في النفس قد صار قبيحاً رهيباً هائلاً، فالنور المعنوي الذي أراني جمال العالم وبهجة الكائنات قد انقلب ناراً تحرق كبدي بلهيبها متستر نفسي بدخانها. والنغمة التي كانت تضم إليها أصوات المخلوقات وتجعلها نشيداً علوياً قد استحالت في تلك الساعة إلى ضجيج أروع من زمجرة الأسد وأعمق من صراخ الهاوية.
بلغت غرفتي وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقط بين السياج والسهم في قلبه. وظلت عاقلتي تترواح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج وروحي في داخلي تردد في الحالتين كلمات سلمى "أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة".
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائماً، أما الصبايا المتنقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زاويا حيث الظلمة والفناء البطيء.
إن المدينة الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلاً ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعيسة، كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل. كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها، فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة وضعف الجسد بقوة النفس؟ أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنّة في البشر والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذا كانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر فلأن العقبات التي تبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب؛ ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة ــ في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبذور الأجيال الآتية ــ في هذا الجبل الغريب بأمياله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل، وسلمى كرامة كانت في بيروت رمز المرأة الشرقية العتيدة، ولكنها كالكثيرين الذين يعيشون قبل زمانهم قد ذهبت ضحية الزمن الحاضر ونظير زهرة اختطفتها تيار النهر قد سارت قهراً في مركب الحياة نحو الشقاء.
وتزوج منصور بك من سلمى فسكنا معاً في منزل فخم قائم على شاطئ البحر في رأس بيروت حيث يقطن وجهاء القوم والأغنياء، وبقي فارس كرامة وحده في ذلك البيت المنفرد بين الحدائق والبساتين انفراد الراعي بين أغنامه، ومضت أيام العرس وانقضت ليالي الأفراح ومر الشهر الذي يدعوه الناس عسلاً تاركاً وراءه شهور الخل والعلقم مثلما تترك أمجاد الحروب جماجم القتلى في البرية البعيدة، إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليم، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.
وذهب الربيع وتلاه الصيف وجاء الخريف ومحبتي لسلمى تتدرج من شغف فتى في صباح العمر بامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو روح أمه الساكنة في الأبدية، فالصبابة التي كانت تمتلك كليتي قد تحولت إلى كآبة عمياء لا ترى غير نفسها. والولع الذي كان يستدر الدموع من عيني قد انقلب ولهاً يستقطر الدم من قلبي. وأنه الحنين التي كانت تملأ ضلوعي أصبحت صلاة عميقة تقدمها روحي في السكينة أمام السماء مستمدة السعادة لسلمى والغبطة لبعلها والطمأنينة لولدها، ولكن باطلاً كنت أشفق وأبتهل وأصلي لأن تعاسة سلمى كانت علة في داخل النفس لا يشفيها سوى الموت، أما بعلها فكان من أولئك الرجال الذين يحصلون بغير تعب على كل ما يجعل الحياة هنيئة ولا يقنعون بل ويطمحون دائماً إلى ما ليس لهم وهكذا يظلون معذبين بمطامعهم إلى نهاية أيامهم؛ وباطلاً كنت أرجو الطمأنينة لفارس كرامة لأن صهره لم يستلم يد ابنته ويحصل على أموالها حتى نسيه وهجره بل صار يطلب حتفه توصيلاً إلى ما بقي من ثروته.
كان منصور بك شبيهاً بعمه المطران بولس غالب وكانت أخلاقه ونفسه صورة مصغرة لنفسه ولم يكن الفرق بينهما إلا بما يفرق الرياء عن الانحطاط، كان المطران يبلغ أمانيه مستتراً بأثوابه البنفسجية وبشبع مطامعه محتمياً بالصليب الذهبي المعلق على صدره، أما ابن أخيه فكان يفعل كل ذلك جهراً وعنوة. كان المطران يذهب إلى الكنيسة في الصباح ويصرف ما بقي من النهار منتزعاً الأموال من الأرامل واليتامى وبسطاء القلب، أما منصور بك فكان يقضي النهار كله متبعاً ملذاته ملاحقاً شهواته في تلك الأزقة المظلمة حيث يختمر الهواء بأنفاس الفساد، كان المطران يقف يوم الأحد أمام المذبح ويعظ المؤمنين بما لا يتعظ به ويصرف أيام الأسبوع مشتغلاً بسياسة البلاد. أما ابن أخيه فكان يصرف جميع أيامه متاجراً بنفوذ عمه بين طالبي الوظائف ومريدي الوجاهة. كان المطران يسير مختبئاً بستائر الليل، أما منصور بك فكان يمشي بشجاعة في نور النهار.
كذا تبيد الشعوب بين اللصوص والمحتالين مثلما تفني القطعان بين أنياب الذئاب وقواطع الجزارين، وهكذا تستسلم الأمم إلى ذوي النفوس المعوجة والأخلاق الفاسدة فتتراجع إلى الوراء ثم تهبط إلى الحضيض فيمر الدهر ويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخار...
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
وماذا يا ترى يجعلني الآن أن أشغل هذه الصفحات بالكلام عن أمم بائسة يائسة وأنا قد خصصتها لتدوين حكاية امرأة تاعسة وتصوير خيالات قلب وجيع لم يلمسه الحب بأفراحه حتى صفعه بأحزانه؟ لماذا تراود الدموع أجفاني لذكر شعوب خاملة ومظلومة وأنا قد وقفت دموعي على ذكرى أيام امرأة ضعيفة لم تعانق الحياة حتى احتضنها الموت ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجعة بين أميال نفسها وقيود جسدها هي كالأمة المتعذبة بين حكامها وكهانها. أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبية الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواطف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج وهل يكون شعاع السراج ضئيلاً إذا لم يكن زيته شحيحاً.
مضت أيام الخريف وعرت الرياح الأشجار متلاعبة بأوراقها الصفراء مثلما تداعب الأنواء زبد البحر، وجاء الشتاء باكياً وأنا في بيروت ولا رفيق لي سوى أحلام تتصاعد بنفسي تارة فتبلغها الكواكب وتنخفض بقلبي طوراً فتلحده بجوف الأرض.
إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت...
ففي ذات يوم سمعت باعتلال فارس كرامة، تركت وحدتي وذهبت لعيادته ماشياً على ممر منفرد بين أشجار الزيتون المتلمعة أوراقها الرصاصية بقطرات المطر، متنحياً عن الطريق العمومية حيث تزعج ضجة المركبات سكينة الفضاء.
بلغت منزل الشيخ ودخلت عليه فوجدته ملقى على فراشه مضنى الجسد، شاحب الوجه أصفر اللون، وقد غرقت عيناه تحت حاجبيه فباتتا كهوتين عميقتين مظلمتين تجول فيهما أشباح السقم والألم، فالملامح التي كانت بالأمس عنوان البشاشة والانبساط قد تقلصت واكفهرت وأصبحت كصحيفة رمادية متجعدة تكتب عليها العلة سطوراً غريبة ملتبسة. واليدان اللتان كانتا مغلفتين باللطف واللدانة قد نحلتا حتى بدت عظام أصابعهما من تحت الجلد كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة.
ولما دنوت منه سائلاً عن حاله، حوّل وجهه المهزول نحوي وظهر على شفتيه المرتجفتين خيال ابتسامة محزنة، وبصوت ضعيف خافت خلته آتياً من وراء الجدران قال "اذهب ــ اذهب يا بني إلى تلك الغرفة وامسح دموع سلمى وسكّن روعها ثم عد بها إليّ لتجلس بجانب فراشي".
دخلت الغرفة المحاذية فوجدت سلمى منطرحة على مقعد وقد غمرت رأسها بزنديها وأغرقت وجهها بالمساند وأمسكت أنفاسها كيلا يسمع والدها نحيبها، فاقتربت منها ببطء ولفظت اسمها بصوت أقرب إلى التنهد منه إلى الهمس فاحتركت مضطربة ونظرت إلي بعينين شاخصتين جامدتين كأنها رأت شبحاً في عالم الرؤيا ولا تصدق حقيقة وجودي في ذلك المكان.
وبعد سكوت عميق أرجعنا بتأثراته السحرية إلى تلك الساعات التي سكرنا فيها من خمرة الآلهة مسحت سلمى دموعاً بأطراف بنانها وقالت متحسرة "أرأيت كيف تبدلت الأيام؟ أرأيت كيف أضلنا الدهر فسرنا مسرعين إلى هذه الكهوف المفزعة؟ في هذا المكان جمعنا الربيع في قبضة الحب وفي هذا المكان يجعلنا الآن الشتاء أمام عرش الموت فما أبهى ذلك النهار وما أشد ظلمة هذا الليل".
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)