صفحة 4 من 33 الأولىالأولى ... 2345614 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 16 من 132

الموضوع: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان

العرض المتطور


  1. #1
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    الباب الحادي عشر في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

    هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب وقد كان رسول الله يقول في خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
    وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن عبيد ورد أن رسول الله قال له: يا حصين كم تعبد قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء قال: أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
    وقد استعاذ من شرها عموما ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع بين الاستعاذة من شر النفس ومن سيئات الأعمال وفيه وجهان:
    أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه أي أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال
    والثاني: أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها
    فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها
    وعلى الثاني: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها
    ويدخل العمل السيء في شر النفس فهل المعنى: ما يسوءني من جزاء عملي أو من عملي السيء وقد يترجح الأول فإن الاستعاذة من العمل السيء بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجبه وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه
    وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها
    فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم
    قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى
    فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاثة صفات: المطمئنة والأمارة بالسوء واللوامة
    فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها أم للعبد ثلاث أنفس: نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة
    فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقول محققي الصوفية والثاني قول كثير من أهل التصوف
    والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها فإذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس: كل نفس قائمة بذاتها مساوية للأخرى في الحد والحقيقة وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس كل واحدة مستقلة بنفسها
    وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها فإنما ذكرها بلفظ الإفراد وهكذا في سائر الأحاديث ولم يجىء في موضع واحد نفوسك ونفوسه ولا أنفسك وأنفسه وإنما جاءت مجموعه عند إرادة العموم كقوله وإذا النفوس زوجت أو عند إضافتها إلى الجمع كقوله إنما أنفسنا بيد الله ولو كانت في الإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه ولو في موضع واحد
    فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي مطمئنة وهي التي يقال لها عند الوفاة يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. قال ابن عباس: يا أيتها النفس المطمئنة [ الفجر: 27 ] يقول: المصدقة وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال وقال مجاهد هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشا لأمره وطاعته وأيقنت بلقائه وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين
    وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل آمرة لكثرة ذلك منها وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمة الله والعدل والعلم طارىء عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة
    فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم
    وسبب الظلم: إما جهل وإما حاجة وهي في الأصل جاهلة والحاجة لازمة لها فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله
    وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك
    فصل

    وأما اللوامة فاختلف في اشتقاق هذه اللفظة هل هي من التلوم وهو التلون والتردد أو هي من اللوم وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين
    قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة قال: هي النفس اللؤوم
    وقال مجاهد: هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه
    وقال قتادة: هي الفاجرة وقال عكرمة: تلوم على الخير والشر وقال عطاء عن ابن عباس كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد احسانا وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته
    وقال الحسن إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه
    فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها وأنها لا تستقر على حال واحدة والأول أظهر فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلومة كما يقال: المتلونة والمترددة ولكن هو من لوازم القول الأول فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء ثم تلوم عليه فالتلوم من لوازم اللوم
    والنفس قد تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا والحكم للغالب عليها من أحوالها فكونها مطمئنة وصف مدح لها وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه
    والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه وله علاجان:
    محاسبتها ومخالفتها وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله دان نفسه: أي حاسبها
    وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
    وذكر أيضا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه
    وقال قتادة في قوله تعالى وكان أمره فرطا [ الكهف: 28 ]: أضاع نفسه وغبن مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه
    وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته
    وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك وقال ميمون بن مهران أيضا: إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل: أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب وقد روي هذا مرفوعا من كلام النبي رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره
    وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا
    وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة
    وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك هيهات هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله
    قال مالك بن دينار: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا


  • #2
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيا ثم بمحاسبته ثالثا ثم يمنعه من الخيانة إن أطلع عليه رابعا فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال والربح بعد ذلك فمن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح وهذه الجوارح السبعة وهي العين والأذن والفم والفرج واليد والرجل: هي مراكب العطب والنجاة فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها ونجا من بحفظها ومراعتها فحفظها أساس كل خير وإهمالها أساس كل شر قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [ النور: 30 ] وقال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ الاسراء: 37 ] وقال: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء: 36 ] وقال: وقل لعبادي يقولوا التي هى أحسن [ الاسراء: 53 ] وقال: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [ الأحزاب: 70 ] وقال: يكأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر: 18 ]
    فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها فلا يهملها فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى والقيام بالحفظ والمراقبة في مراقبته ومحاسبته وليحذر من إهماله
    ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا
    ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه وخسارتها: دخول النار والحجاب عن الرب تعالى فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ آل عمران: 30 ]
    فصل

    ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده
    فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه
    قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر
    وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه أو تركه خير له من فعله فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله تعالى وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح
    فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه ولا كل ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه
    النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
    أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي
    وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي: الإخلاص في العمل والنصيحة لله فيه ومتابعة الرسول فيه وشهود مشهد الإحسان فيه وشهود منة الله عليه وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله
    فيحاسب نفسه: هل وفى هذه المقامات حقها وهل أتى بها في هذه الطاعة
    الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله
    الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لم فعله وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحا أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به
    فصل

    وآخر ما عليه الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها فإن هذا يؤول به إلى الهلاك وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب ويمشى الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليها فطامها ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد
    قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة ابن عبيدالله قال: كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي ! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى
    وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض فإن تذكر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته وكيف فعلته فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني سؤال عن المتابعة وقال تعالى: فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر: 92 ] وقال تعالى: فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف: 6 ] وقال تعالى: ليسئل الصادقين عن صدقهم [ الأحزاب: 8 ]
    فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين
    قال مقاتل: يقول تعالى: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين يعني النبيين عن تبليغ الرسالة وقال مجاهد: يسأل المبلغين المؤدين عن الرسل يعني: هل بلغوا عنهم كما يسأل الرسل هل بلغوا عن الله تعالى
    والتحقيق: أن الآية تتناول هذا وهذا فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم فيسأل الرسل عن التبليغ ويسأل المبلغين عنهم عن تبليغ ما بلغهم الرسل ثم يسأل الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين كما قال تعالى: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ المائده: 109 ]
    قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين فيسأل عن المعبود وعن العبادة
    وقال تعالى: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر: 8 ] قال محمد بن جرير: يقول تعالى: ثم ليسألنكم الله تعالى عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه من أين وصلتم إليه وفيم أصبتموه وماذا عملتم به
    وقال قتادة: إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره ونوع يأخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه
    فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شىء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء: 34 ] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب
    وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر: 18 ] يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أم السيئات التي توبقه
    قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد
    والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها
    فصل



  • #3
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى
    وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا
    وقال مطرف بن عبد الله: لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس
    وقال مصرف في دعائه بعرفة: اللهم لا ترد الناس لأجلي
    وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم
    وقال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك
    وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش: صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول: تصدع الجبال منه قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترىء أن يسألك الجنة قال: ثم رجع واصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شىء الله به عالم
    وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة
    وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني اسرائيل في صومعة منذ ستين سنة فأتي في منامه فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك ليلة بعد ليلة فأتى الإسكافي فسأله عن عمله فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه
    وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فأثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا
    وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورا ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها
    فالنفس داعية إلى المهالك معينة للأعداء طامحة إلى كل قبيح متبعة لكل سوء فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة
    فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها والتخلص من رقها فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها ومقتا لها
    قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي حدثنا عامر بن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل: يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر قال: إن الإنسان لظلوم كفار
    قال: وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار حدثنا عقبة ابن صهبان الهنائي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر: 32 ] فقالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله شهد له رسول الله بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا
    وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة رضي الله عنها فقالت: سمعت النبي يقول: إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له: اسمع ما تقول أمك. فقام عمر رضى الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك بالله أمنهم أنا قالت: لا ولن أبرئ بعدك أحدا
    فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب ولم ترد أنك وحدك البرىء من ذلك دون سائر الصحابة
    ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل
    ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد فجاء شاب حتى قام على باب المسجد فقال: ليس مثلي يدخل معكم أنا صاحب كذا أنا صاحب كذا يزري على نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: أن فلانا صديق
    وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا منذر عن وهب: أن رجلا سائحا عبد الله تعالى سبعين سنة ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه واعترف بذنبه فأتاه آت من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إلى من عملك فيما مضى من عمرك
    قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد أبو هلال عن قتادة قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: سلوني فإني لين القلب صغير عند نفسي
    وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رياح الأنصاري قال: كان داود عليه السلام ينظر أعمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين
    وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام يا رب أين أبغيك قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم فإني أدنو منهم كل يوم باعا ولولا ذلك انهدموا
    وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن رجلا من بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة فلم يظفر بها فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك فأتى في منامه فقيل له: أرأيت ازدراءك نفسك تلك الساعة فإنه خير من عبادتك تلك السنين
    ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدى عليه وهي قليلة المنفعة جدا
    وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه
    فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
    فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة وأنه إن أحيل على عمله هلك فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته
    وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه
    فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره: هل قام به كما ينبغي
    ثانيا وأفضل الفكر الفكر في ذلك فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره ومفتقرا فقرا فيه غناه وذليلا ذلا فيه عزه ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى
    وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: إذا ذكرتنى فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكرى خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدى فقم مقام العبد الحقير الذليل وذم نفسك فهي أولى بالذم وناجنى حين تناجينى بقلب وجل ولسان صادق ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يدل بعمل أصلا كائنا ما كان ومن أدل بعمله لم يصعد إلى الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى فقال له: إنك أن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك فإن صلاة الدال لا تصعد فوقه
    فقال له: أوصنى قال: عليك بالزهد في الدنيا وأن لا تنازعها أهلها وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره وأوصيك بالنصح لله تعالى نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم وينصحهم
    ومن هذا أخذ الشاطبي قوله:
    وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله... ولا يأتلي في نصحهم متبذلا
    وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا الجريرى قال بلغني أن رجلا من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة فتعبد واجتهد ثم طلب إلى الله تعالى حاجته فلم ير نجاحا فبات ليلة مزريا على نفسه وقال: يا نفس مالك لا تقضي حاجتك فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم إطلاقه نفسه فقال: أما والله ما من قبل ربي أتيت ولكن من قبل نفسي أتيت وألزم نفسه الملامة فقضيت حاجته


  • #4
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان

    هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعا والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها فإنهم توسعوا في ذلك وقصروا في هذا الباب
    ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله: إن النفس لامارة بالسوء [ يوسف: 53 ] واللوامة في قوله: ولا أقسم بالنفس اللوامة [ القيامة: 2 ] وذكرت النفس المذمومة في قوله: ونهى النفس عن الهوى [ النازعات: 40 ] وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع وأفردت له سورة تامة فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس وهذا هو الذي لا ينبغي غيره فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه وموضع شرعه ومحل طاعته وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله وقد جمع النبي بين الاستعاذة من الأمرين في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك
    فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان وغايته: إما أن تعود على العامل أو على أخيه المسلم فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل إليهما
    فصل

    قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
    ومعنى استعذ بالله: امتنع به واعتصم به والجأ إليه ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ وغالب استعماله في المستعاذ به ومنه قوله لقد عذت بمعاذ وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه: أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها وجمعها عوذ كحمر ومنه في حديث الحذيبية معهم العوذ المطافيل والمطافيل: [ جمع ] مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها
    قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم ولا حاجة إلى ذلك بل اللفظ على حقيقته أي قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه:
    منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلا خاليا فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل:
    أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
    فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه
    ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه فأمر أن يستعيذ بالله تعالى منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن
    والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها
    وكأن من قال إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى وهو لعمر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين
    ومنها: أن الملائكة تدنو من قارىء القرآن وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح فقال : تلك الملائكة والشيطان ضد الملك وعدوه فأمر القارىء أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين
    ومنها: أن الشيطان يجلب على القارىء بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارىء به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله تعالى منه
    ومنها: أن القارىء يناجي الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذنا للقارىء الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء فأمر القارىء أن يطرده بالاستعاذة عند مناجأة الله تعالى واستماع الرب قراءته
    ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته قال الشاعر في عثمان:
    تمنى كتاب الله أول ليله... وآخره لاقى حمام المقادر
    فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم ولهذا يغلط القارىء تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه فيخبط عليه لسانه أو يشوش عليه ذهنه وقلبه فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارىء هذا أو هذا وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه
    ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وفي الصحيح عن النبي إن شيطانا تفلت على البارحة فأراد أن يقطع على صلاتي الحديث وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمع يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرافه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال: فعصاه فجاهد
    فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير
    وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم رواه ابن أبي حاتم في تفسيره فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا ثم يأخذ في السير كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره
    ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى ثم شرع ذلك للقارىء وإن كان وحده لما ذكرنا من الحكم وغيرها
    فهذه بعض فوائد الاستعاذة
    وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ لقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ]
    وقال في رواية ابن مشيش: كلما قرأ يستعيذ وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم
    وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: من همزه ونفخه ونفثه
    وقال ابن المنذر: جاء عن النبي أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو رواية عن أحمد لظاهر الآية وحديث ابن المنذر
    وعن أحمد من رواية عبد الله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لحديث أبي سعيد وهو مذهب الحسن وابن سيرين ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
    وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأن قوله: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ] ظاهره أنه يستعيذ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله في الآية الأخرى: فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكذة بحرف إن لأنه سبحانه هكذا ذكر
    وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذكر عن النبي اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه
    وقد جاء في الحديث تفسير ذلك قال: وهمزه المؤتة ونفخه: الكبر ونفثه: الشعر
    وقال تعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 97 ] والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة وأصل الهمز الدفع قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته ولمزته ولهزته ونهزته إذا دفعته والتحقيق: أنه دفع بنخز وغمز يشبه الطعن فهو دفع خاص فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب قال ابن عباس والحسن: همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم وهذا قول مجاهد وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون
    وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث وقد يقال وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك
    ثم قال: وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 98 ] قال ابن زيد: في أموري وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن وقال عكرمة: عند النزع والسياق فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم بالهمز وقربهم ودنوهم منه
    فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: ادفع بالتي هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ المؤمنون: 96 ] فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم

  • صفحة 4 من 33 الأولىالأولى ... 2345614 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. حوار مع الشيطان
      بواسطة king-of-nothing في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 08-03-2010, 11:35 PM
    2. الشيطان
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 07-19-2010, 06:06 PM
    3. كن مثل الشيطان
      بواسطة nano في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 07-11-2010, 10:47 PM
    4. الكبرياء خلة الشيطان
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 07-06-2010, 02:25 AM
    5. الشيطان المثقف !!!
      بواسطة سوسن في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 05-01-2010, 11:30 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1