وكيف هي الآن بعد وصولها إليهم، وصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط. ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيء على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم. فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد برسالته.
ثم جاء يسأله عما جاء به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للآمر الذي صح عنده صدق قوله.
إلا انه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما: أحدهما - لما ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي، وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم، واعتقاد أشياء في ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب! والآمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء للأموال والتوسع في المأكل، حتى بفرغ الناس بالاشتغال بالباطل، والأعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو لا يتناول أحد شيئاً إلا ما يقيم به من الرمق؛ واما الأموال فلم تكن لها عنده معنى.
وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلاً، ويقول: إن الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على الحق، واستغنوا عن هذا كله، ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته، أو تقطع الأيدي على سرقته، أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة.
وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه، أن الناس كلهم ذوو فطر فائقة، وأذهان ثاقبة، ونفوس عازمة، ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص، وسوء الرأي وضعف العزم، وأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
فلما اشتد إشفاقه على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، حدثت له النية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبييه لهم ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم؟ فأعلمه بما هم فيه من نقص الفطرة والأعراض عن آمر الله فلم يتأت له فهم ذلك، وبقي في نفسه تعلق بما كان قد أمله.
وطمع أسال أيضاً أن يهدي الله على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين كانوا أقرب من التخلص من سواهم، فساعده على رأيه، ورأيا أن يلتزما ساحل البحر ولا يفارقاه ليلاً ولا نهاراً، لعل الله إن السني لهما عبور البحر فالتزما ذلك وابتهلا الله تعالى أن يهيء لهما من أمرهما رشدأً.
فكان من أمر الله عز وجل أن سفينة ضلت مسلكها، ودفعها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحلها. فلما قربت من البر رأى أهلها الرجلين على الشاطئ.
فدنوا منها فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم، فأجابوهما إلى ذلك، وأدخلوهما السفينة، فأرسل الله إليهم ريحاً رخاء حملت السفينة في أقرب مدة إلى الجزيرة التي أملاها فنزلا بها، ودخلا مدينتها، واجتمع أصحاب أسال به، فعرفهم شأن حي بن يقظان، فاشتملوا عليه شديداً وأكبروا آمره، واجتمعوا إليه واعظموه وبجلوه، وأعلمه أسال أن تلك الطائفة هم أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وانه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز.
وكان رأس تلك الجزيرة سلامان وهو صاحب أسال الذي كان يراه ملازمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة، فشرع حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة إليهم.
فما هو إلا أن ترقى عن الظاهر قليلاً وأخذ في وصف ما سبق إلى فهمهم خلافه، فجعلوا ينقبضون منه وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطونه بقلوبهم، وان اظهروا له الرضا في وجهه اكراماً لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أسال! وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلاً ونهاراً، ويبن لهم الحق سراً وجهاراً، فلا يزيدهم ذلك إلا نبوأً ونفاراً، مع أنهم كانوا محبين للخير، راغبين في الحق، إلا انهم لنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقة ولا يأخذونه لجهة تحقيقه، ولا يلتمسونه من بابه، بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق أربابه. فيأس من أصلاحهم، وانقطع رجائه من صلاحهم لقلة قبولهم.
وتصفح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا ألههم هواهم، ومعبودهم شهواتهم، وتهالكوا في جميع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر، لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا.
واما الحكمة فلا سبيل لهم إليها، ولا حظ لهم منه، قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما يكسبون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةً ولهم عذاب عظيم.
فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع، ولم يخافوا يوماً تنقلب فيه القلوب والابصار، لأن له وتحقق على القطع، أن مخاطبتهم بطريق المكاشفة لا تمكن وأن تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق، وأن حظ أكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة إنما هو في حياتهم الدنيا لا يستقيم له معاشه، ولا يتعدى عليه سواه فيما اختص هو به، وانه لا يفوز منه بالسعادة الأخروية إلا الشاذ النادر، وهو من أراد حرث الآخرة وسعى لها سعياً وهو مؤمن.
وأما من طغى وأثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى، وأي تعب أعظم وشقاوةً أطم ممن إذا تصفحت أعماله من وقت انتباهه من نومه إلى حين رجوعه إلى الكره لا تجد منها شيئاً إلا وهو يلتمس به تحصيل غايةً من هذه الأمور المحسوسة الخسيسة آما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة يقضيها أو غيطاً يتشفه به أو جاه يحرزه أو عمل من أعمال الشرع يتزين به أو يدافع عن رقبته، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض في بحر لجي وان منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً.
فلما فهم أحوال الناس وان أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق علم أن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل ووردت به الشريعة لا يمكن غير ذلك ولا يحتمل المزيد عليه ولكل عمل رجال وكل ميسر لما خلق له "بسم الله الرحمن الرحيم" سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً صدق الله العظيم.
فانصرف إلى سلامان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معه وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رآه مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة مقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والأعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور، وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على الدنيا، وحذرهم عنه غاية التحذير، وعلم هو وصاحبه أسال أن هذه الطائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذا الطريق، وأنها إن رفعت عنه إلى يفاع الاستبصار اختل ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وان هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين فازت بالآمن وكانت من أصحاب اليمين، والسابقون السابقون أولئك المقربون. فو دعاهم وانفصلا عنهم وتلطفا في العود إلى جزيرتهما حتى يسر الله عز وجل عليهما العبور إليها. وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولاً حتى عاد إليه، واقتدى به أسال حتى قرب من أو كاد وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين. هذا - أيدنا الله وأياك بروح منه - ما كان من نبأ حي بن يقظان وأسال وسلامان وقد أشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في كتاب ولا يسمع في معتاد خطاب، وهو من العلم المكنون الذي لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله، ولا يجهله إلا أهل الغرة بالله. وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانا به والشح عليه. إلا أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا من أراء فاسده نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعما ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم فيها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدهم عن ذلك الطريق. ولم نخل مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيره من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه. وأنا أسئل إخواني الواقفين على هذا الكلام، أن يقبلو عذري فيما تسائلت في تبينه وتسامحت في تثبيته، فلم أفعل ذلك إلا لأني تسمنت شواهق يزل الطرف عن مرآها. وأردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق. وأسأل الله التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة به الصفو، إنه منعم كريم. والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه ورحمت الله وبركاته.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)