كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء؛ المقلّل يقول: ستمائة، والمكثّر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن شيبم الليثي، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعي، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعًا الغافقي بن حرب العكّي، ولم يتجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب؛ وإنما أخرجوا كالحجّاج، ومعهم ابن السوداء. وخرج أهل الكفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ، أحد بني عامر بن صعصعة؛ وعددهم كعدد أهل مصر؛ وعليهم جميعًا عمرو بن الأصمّ. وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح ابن عبّاد العبدي، وبشر بن شريح الحجطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرّش ابن عبد بن عمرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعًا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس. فأمّا أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.
فخرجوا وهم على الخروج جميع. وفي الناس شتى؛ لا تشكّ كلّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، وأنّ أمرها سيتمّ دون الأخريين؛ فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامّتهم بذي المروة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصمّ، وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد؛ فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا؛ فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلّوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشدّ؛ وإنّ أمرنا هذا لباطل؛ وإن لم يستحلّوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلًا لنرجعنّ إليكم بالخبر.
قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي وعليًّا وطلحة والزبير، وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلّهم أبى، ونهى وقال: بيض ما يفرخنّ، فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليًّا ومن أهل البصرة نفرٌ فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير؛ وقال كلّ فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرّقنا جماعتهم؛ ثم كررنا حتى نبغتهم؛ فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت؛ عليه حلّة أفواف معتمّ بشقيقة حمراء يمانية، متقلّد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه. فالحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون وعرّضوا له؛ فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ، فارجعوا لا صحبكم الله! قالوا: نعم، فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي؛ وقد أرسل ابنيه إلى عثمان، فسلّم البصريّون عليه وعرَضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمّد .
وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى؛ وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه وعرّضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ، فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون؛ فانفشّوا عن ذي خشب والأعوص، حتى انتهوا إلى عساكركم؛ وهي ثلاث مراحل؛ كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرُّوا مراجعين. فافترق أهل المدينة لخروجهم.
فلما بلغ القوم عساكرهم كرُّوا بهم، فبغتوهم، مفلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وقالوا: من كفّ يده فهو آمن.
وصلَّى عثمان بالناس أيامًا؛ ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلّموهم، وفيهم علي، فقال: ما مردّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا؛ وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا؛ كأ، ما كانوا على ميعاد.
فقال لهم علي: كيف علمتم يا مأهل الكوفة ويا أهل البصرة بما ملقي أهل مصر؛ وقد سرتم مراحل؛ ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة! نقالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا. وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدقّ من التراب؛ وكانوا لا يمنعون أحدًا من الكلام، وكانوا زمرًا بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدّهم: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد؛ فإنّ الله عز وجل بعث محمدًا بالحق بشيرًا ونذيرًا، فبلّغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه؛ وخلَّف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور التي قدّر، فأمضاها على ما أحبّ العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، مثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملإ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملإ منهم ومن الناس علي، على غير طلب مني ولا محبة؛ فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعًا غير مستتبع، متّبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف.
فلما انتهت الأمور، وانتكث الشرُّ بأهله؛ بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلّا إمضاء الكتاب؛ فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره بغير حجّة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل المدينة لا يصلح غيرها؛ فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين وأنا أرى وأسمع؛ فازدادوا على الله عز وجل جرأة، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب؛ فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلّا ما يظهرون؛ فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا على الصعبة والذّلول؛ فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعيد معاوية بن حديج السَّكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان المحضّضين بالكوفة على إعانة أهل المدينة عقبة بن عمرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، في أمثالهم من أصحاب النبي . وكان المحضّضين بالكوفة من التابعين أصحاب عبد الله سرق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وشريح بن الحارث، وعبد الله بن عكيم؛ في أمثالهم؛ يسيرون فيها، ويطوفون على مجالسها؛ يقولون: يأيها الناس؛ إنّ الكلام اليوم وليس به غدًا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدًا، وإنّ القتال يحلّ اليوم ويحرم غدًا، انهضوا إلى خليفتكم، وعصمة أمركم.
وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك، وهشام بن عامر في أمثالهم من أصحاب النبي يقولون مثل ذلك، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيّان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذلك! وقام بالشأم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة في أمثالهم من أصحاب النبي يقولون مثل ذلك؛ ومن التابعين شريك بن خباشة النُّميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم بمثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له؛ وقد كان بعض المحضّضين قد شهد قدومهم، فلمَّا رأوا حالهم انصرفوا إلى أمصارهم بذلك وقاموا فيهم.
ولما جاءت الجمعة لاتي على أثر نزول المصريين مسجد رسول الله خرج عثمان فصلَّى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء العدي، الله الله! فو الله؛ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ؛ فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيّء إلّا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة، فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعهد، فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده؛ وقال فأفضع؛ وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًّا عليه، فاحتمل فأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلّا في ثلاثة نفر؛ فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمَّار بن ياسر؛ وشمّر أناس من الناس فاستقتلوا؛ منهم سعد بن مالك، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي؛ فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل عليٌّ عليه السلام حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل عليه؛ يعودونه من صرعته؛ ويشكون بثّهم، ثم رجعوا إلى منازلهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قال: قلت له: هل شهدت حصر عثمان؟ قال: نعم؛ وأنا يومئذ مغلام في أتراب لي في المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت على ركبتي أو قمت؛ فأقبل القوم حين أقبلوا حتى نزلوا المسجد وما حوله؛ فاجتمع إليهم أناس من أهل المدينة، يعظمون ما صنعوا. وأقبلوا على أهل المدينة يتوعّدونهم؛ فبينا هم كذلك في لغطهم حول الباب، فطلع عثمان؛ فكأنما كانت نار طفئت، فعمد إلى المنبر فصعده فحمد الله وأثنى عليه، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثم ثار القوم فحصبوا عثمان حتى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يومًا، ثم منعوه من الصلاة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: صّلي عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يومًا، ثم إنهم منعوه الصلاة، فصلّى بالناس أميرهم الغافقي، دان لها المصريون والكوفيّون والبصريون، وتفرّق أهل المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد ولا يجلس إلّا وعليه سيفه يمتنع به من رهق القوم وكان الحصار أربعين يومًا، وفيهنّ كان القتل، ومن تعرَض لهم وضعوا فيه السلاح، وكانوا قبل ذلك ثلاثين يومًا يكفّون.
وأما غير سيف فإنّ منهم من قال: كانت مناظرة القوم عثمان وسبب حصارهم إيّاه ما حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عنأبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري. قال: سمع عثمان أنّ وفد أهل مصر قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، وكان في قرية له خارجة من المدينة - أو كما قال - فلمّا سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه - قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة أو نحوًا من ذلك - قال: فأتوه، فقالوا له: ادع بالمصحف، قال: فدعا بالمصحف، قال: فقالوا له: افتح التاسعة - قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ". قال: قالوا له: قف، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك أم على الله تفتري! قال: فقال: امضه؛ نزلت في كذا وكذا. قال: وأما الحمى فإنّ عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، امضهه. قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه، نزلت في كذا وكذا - قال: والذي يتولى كلام عثمان يومئذ في سنّك، قال: يقول أبو نضرة، يقول ذاك لي أبو سعيد، قال أبو نضرة: وأنا في سنك يومئذ، قال: ولم يخرج وجهي يومئذ، لا أدري، ولعله قد قال مرة أخرى: وأنا يومئذ ابن ثلاثين سنة - ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج. قال: فعرفها، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قال: فأخذوا ميثاقه - قال: وأحسبه قال: وكتبوا عليه شرطًا - قال: وأخذ عليهم ألَّا يشقوا عصًا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم - أو كما أخذوا عليه - قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنما هذا لامال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله . قال: فرضوا بذلك، وأقبلوا معه إلى المدينة راضين.
قال: فقام فخطب، فقال: إني ما رأيت والله وفدًا في الأرض هم خير لحوباتي من هذا الوفد الذين قدموا علي. وقد قال مرّة أخرى: خشيت من هذا الوفد من أهل مصر، ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلب؛ ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله . قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أميّة.
قال: ثم رجع الوفد المصريون راضين؛ فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم، ثمّ يفارقهم ويتبيَّنهم. قال: قالوا له: مالك؟ إن لك لأمرًا! ما شأنك؟ قالك فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر؛ ففتَّشوه؛ فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلّبهم أو يقتلهم مأو يقطّع أيديهم وأرجلهم من خرف.
قال: فأقبلوا حتى قدموا المديمة، قال: فأتوا عليًّا، فقالوا: ألم تر إلى عدوّ ه! إنه كتب فينا بكذا وكذا؛ وإنّ الله قد أجلّ دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم؛ إلى أن قالوا: فلم كتبت إلينا؟ فقال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قطّ؛ قال: فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون! قال: فانطلق علي، فخرج من المدينة إلى قرية. قال: فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا! قال: فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إليه إلّا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت. قال: وقد تعلمون أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم. قال: فقالوا: فقد والله أحلّ الله دمك، ونقضت العهد والميثاق. قال: فحاصروه.
وأمّا الواقدي فإنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أمورًا كثيرة، منها ما قد تقدّم ذكريه؛ ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته. ومنا ما ذكر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور، قال: كان عمرو بن العاص على مصر عاملًا لعثمان؛ فعزله عن الخراج، واستعمله على الصلاة، واستعمل عبد مه بن سعيد على الخراج؛ ثم جمعهما لعبد الله بن سعد، فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان، فأرسل إليه يومًا عثمان خاليًا به، فقال: يابن النابغة، ما أسرع ما قمل جربّان جبّتك! إنما عهدك بالعمل عامًا أوّل.
أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر! والله لولا أكلة ما فعلت ذلك. قال: فقال عمرو: إنّ كثيرًا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل؛ فاتّق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك! فقال عثمان: والله لقد استعملتك على طلعك، وكثرة القالة فيك. فقال عمرو: قد كنت عاملًا لعمر بن الخطاب، ففارقني وهو عني راض. قال: فقال عثمان: وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت؛ ولكني لنت عليك فاجترأت علي، أما والله لأنا أعزُّ منك نفرًا في الجاهليّة؛ وقبل أن ألى هذا السلطان. فقال عمرو: دع عنك هذا، فالحمد الله الذي أكرمنا بمحمد وهدانا به؛ قد رأيت العاصي بن وائل ورأيت أبا عفان، فو الله للعاص كان أشرف من أبيك. قال: فانكسر عثمان، وقال: ما لنا ولذكر الجاهليّة! قال وخرج عمرو ودخل مروان، فقال: يا أمير المؤمنين؛ وقد بلغت مبلغًا يذكر عمرو بن العاص أباك! فقال عثمان: دع هذا عنك، من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.
قال: فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، يأتي عليًّا مر! ة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي الزبير مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويعترض الحاجّ فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلمَّا كان حصر عثمان الأوّل؛ خرج من المدينة، حتى أنتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع؛ فنزل في قصر له يقال له العجلان؛ وهو يقول: العجب ما يأتينا عن ابن عفان! قال: فبينا هو جالس في عصره ذلك، ومعه ابناه محمد وعبد الله؛ وسلامة ابن روح الجذامي، إذ مرّ بهم راكب، فناداه عمرو: من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة، قال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان، قال: تركته محصورًا شديد الحصار. قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ قد يضرط العير والمكواة في النار. فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مرّب الله راكب آخر، فناداه عمرو: ما فعلالرجل؟ يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبد الله؛ إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لأحرّض عليه؛ حتى إني لأحرّض عليه الراعي قال: في غنمه في رأس الجبل. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش؛ إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق مفكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحقّ من حافرة الباطل، وأن يكون الناس في الحقّ شرعًا سواء. وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمِّه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ففارقها حين عزله.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: كان محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بمصر يحرّضان على عثمان، فقدم محمد بن أبي بكر وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما خرج المصريون خرج عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وأظهروا أنهم يريدون العمرة، وخرجوا في رجلب، وبعث عبد الله بن سعيد رسولًا سار إحدى عشرة ليلة يخبر عثمان أنّ ابن عيديس وأصحابه قد وجّهوا نحوه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة شيَّعهم إلى عجرود، ثم رجع وأظهر محمّد أن قال: خرج القوم عمّارًا، وقال في السر: خرج القوم إلى إمامهم فإن نزع وإلّا قتلوه؛ وسار القوم المنازل لم يعدوها حتى نزلوا ذا خشب. وقال عثمان قبل قدومهم حين جاءه رسول عبد الله بن سعد: هؤلاء قوم من أهل مصر يريدون - بزعمهم - العمرة، والله ما أراهم يريدونها؛ ولكن الناس قد دخل بهم؛ وأسرعوا إلى الفتنة، وطال عليهم عمري؛ أما والله لئن فارقتهم ليتمنّون أنّ عمري كان طال عليهم مكان كلّ يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة، والإحن والأثرة الظاهرة، والأحكام المغيرة.
قال: فلما نزل القوم ذا خشب جاء الخير أنّ القوم يريدون قتل عثمان إن لم ينزع، وأتى رسولهم إلى علي ليلًا، وإلى طلحة، وإلى عمّار بن ياسر. وكتب محمد بن أبي حذيفة معهم إلى علي كتابًا، فجاءوا بالكتاب إلى علي، فلم يظهر على ما فيه، فلما رأى عثمان ما رأى جاء عليًّا فدخل عليه بيته، فقال: يابن عمّ، إنه ليس لي متَّرك؛ وإن قرابتي قريبة؛ ولي حقٌّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبِّحيَّ؛ وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرًا، وأنهم يسمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم فتردّهم عني، فإني لا أحبّ أن يدخلوا علي؛ فإن ذلك جرأة منهم علي، وليسمع بذلك غرهم. فقال عليَّ: علام أردّهم؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت به علي ورأيته لي؛ ولست أخرج من يديك؛ فقال علي: إني قد كنت كلمتك مرّة بعد مرّة، فكلّ ذلك نخرج فتكلَّم، ونقول وتقول؛ وذلك كله مفعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية؛ أطعتهم وعصيتني.
قال عثمان: فإني أعصيهم وأطيعك.
قال: فأمر الناس، فركبوا معه: المهاجرون والأنصار. قال: وأرسل عثمان إلى عمّار بن ياسر، يكلمه أن يركب مع علي فأبى، فأرسل عثمان إلى سعد بن أبي وقاص، فكلّمه أن يأتي عمارًا فيكلمه أن يركب مع علي؛ قال: فخرج سعد حتى دخل على عمّار، فقال: يا أبا اليقظان، ألا تخرج فيمن يخرج! وهذا علي يخرج فاخرج معه، واردد هؤلاء القوم عن إمامك، فإني لأحسب أنك لم تركب مركبًا هو خير لك منه.
قال: وأرسل عثمان إلى كثير بن الصَّلت الكندي - وكان من أعوان عثمان - فقال: انطلق في إثر سعد فاسمع ما يقول سعد لعمّار، وما يردّ عمّار على سعد، ثم أئتني سريعًا.
قال: فخرج كثير حتى يجد سعدًا عند عمّار مخليًا به، فألقم عينه جحر الباب، فقام إليه عمَّار ولا يعرفه، وفي يده قضيب، فأدخل القضيب الجحر الذي ألقمه كثير عينه، فأخرح كثير عينه من الجحر، وولى مدبرًا متقنّعًا. فخرج عمار فعرف أثره، ونادى: يا قليل ابن أمّ قليلّ مأعلىَّ تطّلع وتستمع حديثي! والله لو دريت أنّك هو لفقأت عينك بالقضيب؛ فإنّ رسول الله قد أحلّ ذلك. ثم رجع عمار إلى سعد، فكلمه سعد وجعل يقتله يفتله بكلّ وجه؛ فكان آخر ذلك أن قال عمَّار: والله لا أردّهم عنه أبدًا. فرجع سعد إلى عثمان، فأخبره بقول عمار، فاتّهم عثمان سعدًا أن يكون لم يناصحه، فأقسم له سعد بالله؛ لقد حرّض. فقبل منه عثمان.
قال: وركب علي عليه السلام إلى أهل مصر، فرّدهم عنه، فانصرفوا راجعين.
قال محمد بن عمرك حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليًّا وأصحاب رسول الله أن يردّوهم عنه، فركب علي وركب معه نفر من المهاجرين، فيهم سعيد بن زيد، وأبو جهم الدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد؛ وخرج من الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد الساعدي، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلًا؛ وكلّهم علي ومحمد بن مسلمة - وهما اللذان قدما - فسمعوا مقالتهما، ورجعوا. قال محمود: فأخبرني محمد بن مسملة، قال: ما برحنا من ذي خشب حتى رحلوا راجعين إلى مصر، وجعلوا يسلّمون علي، فما أنسى عبد الرحمن بن عديس: أتوصينا يا أبا عبد الرحمن بحاجة؟ قال: قلت: تتّقي الله وحده لا شريك له، وتردّ من قبلك عن إمامه، فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال ابن عديس: أفعل إن شاء الله. قال: فرجع القوم إلى المدينة.
قال محمَّد بن عمر: فحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: لما رجع علي عليه االسلام إلى عثمان رضي الله عنه، أخبره أنهم قد رجعوا، وكلّمه علي كلاما في نفسه، قال له: اعلم أني قائل فيك أكثر مما قلت.
قال: ثمّ خرج إلى بيته، قال: فمكث عثمان ذلك اليوم؛ حتى إذا كان الغد جاءه مروان، فقال له: تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في لابلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بعد، فإن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد مقبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل بن خروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر؛ فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم. قال: فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتّق الله يا عثمان؛ فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك؛ فتب إلى الله نتب. قال: فناداه عثمان؛ وإنك هناك يا بن النابغة! فملت والله جبّتك منذ تركتك من العمل. قال: فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله وأظهر التوبة كيف الناس عنك. قال: فرفع عثمان يديه مدًّا واستقبل القبلة، فقال: اللهمّ إني أوّل تائب تاب إليك. ورجع إلى منزله، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين، فكان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فأحرّضه عليه.
قال محمد بن عمر: فحدثني علي بن عمر، عنأبيه، قال: ثمّ إن عليًَّا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلامًا يسمعه الناس منك ويشهدون عليه، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة؛ فإن البلاد قد تمخّضت عليك؛ فلا آمن ركبًا آخرين يقدمون من الكوفة، فتقول: يا علي، اركب إليهم؛ ولا أقدر أن أركب إليهم؛ ولا أسمع عذرًا. ويقدم ركب آخرون من البصرة، فتقول: يا علي اركب إليهم؛ فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعطي الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد ه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فو الله ما عاب من عاب منكم شيئًا أجهل، وما جئت شيئًا إلّا وأنا أعرفه؛ ولكنّي منّتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي؛ ولقد سمعت رسول الله يقول: من زلّ فليبت، ومن أخطأ فليتب؛ ولا يتماد في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق، فأنا أوّل من اتَّعظ؛ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم؛ فو الله لئن ردّني الحق عبدًا لأستنّ بسنّة العبد، ولأذلّننّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق؛ إن ملك صبر، وإن عتق شكر؛ وما عن الله مذهب إلّا إليه، فلا يعجزنّ عنكم خياركم أن يدنوا إلي، لئن أبت يميني لتتابعنِّي شمالي.
قال: فرقَّ الناس له يومئذ، وبكى من بكى منهم، وقام إليه سعيد ابن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بواصل لك من ليس معك؛ الله الله في نفسك! فأتمم على ما قتل. فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدًا ونفرًا من بني أميَّة؛ ولم يكونوا شهدوا الخطبة؛ فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة، امرأة عثمان الكلبيّة: لا بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤثّموه؛ إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزععنها. فأقبل عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت له: مهلًا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه! وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه؛ أما واللهلولا أنه عمّه، وأنه يناله غمّه، أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه.
قال: فأعرض عنها مروان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أمأصمت؟ قال: بل تكلَّم، فقال مروان: بأبي أنت وأمي! وه لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أوّل من رضي بها، وأعان عليها؛ ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطُّبيين، وخلف السيل الزُّبي، وحين أعطي الخطّة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها؛ وإنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة؛ وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلّمهم، فإني أستحيي أن أكلمهم. قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضًا، فقال: ما شأنكم قداجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب! شاهت الوجوه! كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه. ألا من أريد! جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنها، أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منَّا أمر لا يسرّكم؛ ولا تحمدوا غبّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم؛ فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا.
قال: فرجع الناس موخرج بعضهم حتى أتى عليًّا فأخبره الخبر، فجاء علي عليه السلام مغضبًا، حتى دخل على عثمان، فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؛ والله ما مروان بذي رأى في دينه ولا نفسه؛ وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك؛ وما أنا بعائد بعد ماقمي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك. فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته، فقالت: أتكلّم أو أسكت؟ فقال: تكلمي؛ فقالت: قد سمعت قول علي لك؛ وإنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتَّقي الله وحده لا شريك له، وتتّبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك؛ ومروان ليس له عند لاناس قدر ولا هيبة ولا محبّة؛ وإنما تكك الناس لمكان مروان؛ فأرسل إلي علي فاستصلحه، فإن له قرابة منك، وهو لا يعصي. قال: فأرسل عثمان إلى علي، فأبى أن يأتيه، وقال: قد أعلمته أنِّي لست بعائد.
قال: فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، قال: فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه، فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم، فقال: إن بنت الفرافصة.. فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف فأسوّىء لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك.
قال: فكفّ مروان.
قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم، قال: قبّح الله مروان! مخرج عثمان إلى النسا فأعطاهم الرضا، وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع، وهو يقول: اللهمّ إنِّي أتوب إليك؛ اللهم إني أتوب إليك، اللهم إني أتوب إليك! والله لئن ردّني الحق إلى أن أكن عبدًا قنًّا لأرضينّ به؛ إذا دخلت منزلي فادخلوا علي؛ فو الله لا أحتجب منكم، ولأعطينّكم الرضا، ولأزيدنّكم على الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه. قال: فلما دخل أبمر بالباب ففتح، ودخل بيته، ودخل عليه ممروان، فلم يزل يفتله في الذِّروة والغارب حتى فتله عن رأيه؛ وأزاله عمّا كان يريد؛ فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خجر استحياء من الناس؛ وخرج مروان إلى الناس، فقال: شاهت الوجوه! ألا من أريد! ارجعوا إلى منازلكم؛ فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه، وإلّا قرّ في بيته. قال عبد الرحمن: فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر، وأجد عنده عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان: صنع مروان بالناس وصنع. قال: فأقبل علي عليٌّ، فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قلت: نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قلت: نعم، قال علي: عياذ الله، ياللمسلمين! إنّي إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي؛ وإني إن تكلمت فجاء ما يريد بلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث شاء بعد كبرالسنّ وصحبة رسول الله . قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم يزل حتى جاء رسول عثمان: ائتني، فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له: ما أنا بداخل عليك ولا عائد.
قال: فانصرف الرسول. قال: فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين خائبًا، فسألت ناتلًا غلامه: من أي جاء أمير المؤمنين؟ فقال: كان عند علي، فقال عبد الرحمن بن الأسود: فغ*** فجلست مع علي عليه السلام، فقال لي: جاءني عثمان البارحة، فجعل يقول: إني غير عائد؛ وإني فاعل؛ قال: فقلت له: بعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله ، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم! قال: فرجع وهو يقول: قطعت رحمي وخذلتني، وجرّأت الناس علي.
فقلت: والله إني لأذبّ الناس عنك؛ ولكني كلّسًا جئتك بهنة أظنّها لك رضًا جاء بأخرى؛ فسمعت قول مروان علي، واستدخلت مروان.
قال: ثمّ انصرف إلى بيته. قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم أزل أرى عليًّا منكّبًا عنه لا يفعل ما كان يفعل؛ إلّا أني أعلم أنه قد كلم طلحة حين حصر في أن يدخل عليه الرَّوايا، وغضب في ذلك غضبًا في ذلك غضبًا شديدًا، حتى دخلت الروايا على عثمان.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، أنّ عثمان صعد يوم الجمعة المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقام رجل، فقال: أقم كتاب الله، فقال عثمان: اجلس، فجلس حتى قام ثلاثًا، فأمر به عثمان فجلس، فتحاثوا بالحصباء حتى ما ترى السماء؛ وسقط عن المنبر، وحمل فأدخل داره مغشيًّا عليه، فخرج رجل من حجّاب عثمان، ومعه مصحف في يده وهو ينادي " إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعيًا لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله " ودخل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما وهو مغشيٌّ عليه، وبنو أميّة حوله، فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟ فأقبلت بنو أميَّة بمنطق واحد، فقالوا: يا عليُّ أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين! أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرَّنَّ عليك الدنيا. فقام علي مغضبًا.
ذكر الخبر عن قتل عثمان رضي الله عنه
وفي هذه السنة قتل عثمان رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل
قال أبو جعفر رحمه الله: قد ذكرنا كثيرًا من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها؛ ونذكر الآن كيف قتل، وما كان بدء ذلك وافتتاحه، ومن كان المتبدىء به والمففتح للجرأة عليه قبل قتله.
ذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة، عن أبيها، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأرسل إلى المسور ابن مخرمة وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذاها، فقسمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار.
قال محمد بن عمر: وحدثني محمد بن صالح، نمعن عبيد الله بن رافع ابن نقاخة، عن عثمان بن الشَّريد، قال: مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقالل: يا نعثل؛ والله لأقتلنّك؛ ولأحملنّك على قولص جرباء، ولأخرجنّك إلى حرّة النار. ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.
حدثني محمد، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال: كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيِّء جبلة ابن عمرو الساعدي، مرّ به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مرَّ عثمان سلَّم، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخيّر الناس؛ فقال: مروان تخيَّرته! ومعاوية تخيّرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرّته! وعبد الله بن سعد تخيَّرته! منهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله دمه.
قال: فانصرف عثمان، فلما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة وشهر يديه - قال أبو حبيبة: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا باكية من يومئذ - ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقالم إليه جهجاه الغفاري؛ فصلح: يا عثمان، ألا إن هذه شارف قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة؛ فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك في الجامعة؛ ولنحملك على الشارف؛ ثم نطرحك في جبل الدخان. فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلّا عن ملإ ممن الناس؛ وقام إلى عثمان خيرته وشعيته من بني أميّة فحملوها فأدخلوه الدار.
قال أبو حبيبة: فكان آخر ما رأيته فيه.
قال محمد: وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن يحيى بن عبد الرحمن بان حاطب، عن أبيه، قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي التي كان يخطب معليها وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال له جهجاه: قم يا نعثل؛ فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل.
حدثني أحمد بن إبراهيم؛ قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أنّ جهجاهًا الغفاري، أخذ عصًا كانت في يد عثمان، فكسرها على ركبته، فرمى في ذلك المكان بأكله.
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو، عن محمد ابن إسحاق بن يسار المدني، عن عمّه عبد الرحمن بن يسار، أنه قال: لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي إلى من صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي إلى من بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، تطلبون دين محمد ؛ فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمد . فأقبلوا من كلّ أفق حتى قتلوه. وكتب عثمان إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامله على مصر - حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب - بكتاب في الذين شخصوا من مصر، وكانوا أشدّ أهل الأمصار عليه: أمَّا بعد؛ فانظر فلانًا وفلانًا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عليك؛ فانظر فلانًا وفلانًا فعاقبهم بكذا وكذا - منهم نفر من أصحاب رسول الله ، ومنهم قوم من التابعين - فكان روله في ذلك أبو الأعور بن سفيان السُّلمي، حمله عثمان على جمل له، ثم أمره أن يقبل حتى يجخل مصر قبل أن يدخلها القوم، فلحقهم أبو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين ميريد؟ قال: أريد مصر؛ ومعه رجل من أهل الشأم من خولان؛ فلما رأوه على جمل عثمان، قالوا له: هل معك كتاب؟ قال: لا، قالوا: فيم أرسلت؟ قال: لا علم لي، قالوا: ليس معك كتاب ولا علم لك بما أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتَّشوه، فوجدوا معه كتابًا في إداوة يابسة، فنظروا في الكتاب، فإذا فيه قتل بعضهم وعقوبة بعضهم في أنفسهم وأموالهم. فلما رأوا ذلك رجعوا إلى المدينة، فبلغ الناس رجوعهم، والذي كان من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل المدينة.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن السائب الكلبي، قال: إنما ردّ أهل مصر إلى عثمان بعد أنصرافهم عنه أنه أدركهم غلام ملعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم، وأن يصلب بعضهم. فلما أتوا عثمان، قالوا: هذا غلامك، قال غلامي انطلق بغير علمي، قالوا: جملك، قال: أخذه من الدار بغير أمير، قالوا: خاتمك، قال: نقش عليه، فقال عبد الرحمن ابن عديس مالتجيبي حين أقبل أهل مصر:
أقبلن من بلييس والصَّعيد ** خوضًا كأمثال القسيِّ قود
مستحقبات حلق الحديد ** يطلبن حقَّ الله في الوليد
وعند عثمان وفي سعيد ** يا ربِّ فارجعنا بما نريد
فلما رأى عثمان ما قد نزل به، وما قد انبعث عليه من الناس، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشأم: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد؛ فإنّ أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشأم على كلّ صعب وذلول.
فلما جاء معاوية الكتاب تربّص به، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله ؛ وقد علم اجتماعهم؛ فلما أبطأ أمره على عثمان كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز، وإلى أهل الشأم يستنفرهم ويعظّم حقَّه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عز وجل به من طاعتهم ومناصحتهم، ووعدهم أن ينجدهم جند أو بطانة دون الناس، وذكرهم بلاءه عندهم، وصنيعه إليهم، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل؛ فإن القوم معا جليَّ.
فلما قرىء كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر عثمان، فعظّم حقه، وحضّهم على نصره، وأمرهم بالمسير إليه. فتابعه ناس كثير، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى، بلغهم مقتل عثمان رضي الله عنه، فرجعوا.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر؛ أن اندب إلي أهل البصرة؛ نسخة كتابه إلى أهل اشأم.
فجمع عبد الله بن عامر الناس؛ فقرأ كتابه عليهم؛ فقامت خطباء من أهل البصرة يحضّونه على نصر عثمان والمسير إليه؛ فيهم مجاشع بن مسعود السُّلمي؛ وكان أوّل من تكلّم؛ وهو يومئذ سيّد قيس بالبصرة. وقام أيضًا قيس ابن الهيثم السُّلمي، فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان؛ فسارع الناس إلى ذلك؛ فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم؛ حتى إذا نزل الناس الرَّبذة، ونزلت مقدّمته عند صرار - ناحية من المدينة - أتاهم قتل عثمان.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: كتب أهل مصر بالسُّقيا - أو بذي خشب - إلى عثمان بكتاب؛ فجاء به رجل منهم حتى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئًا، فأمر به فأخرج من الدار؛ وكان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رءوس أربعة، مع كلّ رجل منهم لواء؛ وكان جماع أمرهم جيمعًا إلى عرمو بن بديل بن ورقاء الخزاعي - وكان من أصحاب النبي - وإلى عبد الرحمن بن عديس التُّجيبي؛ فكان فيما كتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ فالله الله! ثم الله الله! فإنك على دنيا فاستتمَّ إليها معها آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة؛ فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم أنّا والله لله نغضب، وفي الله نرضى؛ وإنا لن نضعسيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة؛ فهذه مقالتنا لك، وقضيّتنا إليك، والله عذيرنا منك. والسلام.
وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدًا حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله.
فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردّهم عنه، ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداد؛ فقال: إنّ القوم لن يقبولوا التعليل، وهم محمِّلي عهدًا؛ وقد كان منّي في قدمتهم الأولى ما كان؛ فمنتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به! فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين، مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب، فأعطهم ماسألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنما هم بغوا عليك، فلا عهد لهم.
فأرسل إلى علي فدعاه، فلما جاءه قال: يا أبا حسن؛ إنه قد كان من الناس ما قد رأيت، وكان مني ما قد علمت؛ ولست آمنهم على قتلي، فارددهم عني؛ فإن لهم الله عز وجل أن أعتبهم من كل ما يكرهن؛ وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غير؛ وإن كان في ذلك سفك دمي. فقال له عليٌّ: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك؛ وإي لأرى قومًا لا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهدًا من الله: لترجعنّ عن جميع ما نقم؛ فرددتهم عنك، ثم لم تف هلم بشيء من ذلك، لاتغرّني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عيك الحقّ. قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج عليٌّ إلى الناس، فقال: أيّها لاناس؛ إنكم إنما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه؛ إنّ عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره؛ وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه ووكدِّوا عليه. قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه لنا، فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل. فقال هلم علي: ذلك لكم. ثم دخل عليه فأخبره الخبر، فقالعثمان: اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون لي فيه ملهة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد قال له علي: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصلو أمرك، قال: نعم؛ ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال عليٌّ: نعم، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا، على أن يردَّ كلّ مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهوه؛ ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناسًا من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أني في لهم بما أعطاهم من نفسه؛ فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح - وقد كان اتَّخذ جندًا عظمًا من رقيق الخمس - فلما مضت الأيام الثلاثة - وهو على حاله لم يغيّر شيئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملًا - ثار به الناس. وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حتى قدموا المدينة، فأرسلوا إلى عثمان: ألم نفارقك على أنك زعمت أنك نائب من إحداثك، وراجع عما كرهنا منك؛ وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه! قال: بلى؛ أنا على ذلك، قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك؛ وكتبت به إلى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا لي علم بما قولون. قالوا: بريدك على جملك، وكتاب كاتبك عليه خاتمك؛ قال: أمّا الجمل فمسروق، وقد يشبه الخطّ الخطّ، موأما الخاتم فانتقش عليه، قالوا: فإنا لا نعجّل عليك؛ إن كنا قد اتّهمناك، اعزل عنّا عمّالك الفسّاق، واستعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا وأموالنا، واردد عليها مظالمنا. قال عثمان: ما أراني إذًا في شيء إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم، الأمر إذًا أمركم! قالوا: والله لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلنّ، فانظر لنفسك أودع. فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالًا سربلنيه الله، فحصروه أربعين ليلة، وطلحة يصلِّي بالناس.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)