فصل
وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية ولا سوء الظن بالله تعالى ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفي عن النجاسة المخفقة كالنجاسة في محل الاستجمار وأسفل الخف والحذاء أو بول الصبي الرضيع وغير ذلك ما لا يعفى عن المغلظة وكذلك يعفي عن الصغائر ما لا يعفي عن الكبائر ويعفي لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالا يعفى لمن ليس كذلك فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطاياه أتاه بقرابها مغفرة ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى فلا تثبت معه ولكن نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف: 24 ] فان عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما والتتيم التعبد فيصير العاشق عابدا لمعشوقه وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه على حب الله وذكره والسعي في مرضاته بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله تعالى يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى فيصير آثر عنده من ربه: خبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز وكانت إذ ذاك مشركة فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه وإنما لتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده
فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا ولهذا قال المسيح فيما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد لا يكون البطالون من الحكماء ولا يلج الزناة ملكوت السماء
ولما كانت هذه حال الزنا كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ النور: 3 ]
والصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شيء وهي مشتملة على خبر وتحريم ولم يأت من ادعى نسخها بحجة ألبتة والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى فإنهم أشكل عليهم قوله: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة هل هو خبر أو نهي أو إباحة فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف وإباحة له في نكاح المشركات والزواني والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا فكأنه قال: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة
وهذا فاسد فإنه لا فائدة فيه ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزنى إلا بزانية فأى فائدة في الإخبار بذلك ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه
ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهي عناق البغي وصاحبها فإنه أسلم واستأذن رسول الله في نكاحها فنزلت هذه الآية
وهذا أيضا فاسد فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها
وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: وأنكحوا الأيامى منكم [ النور: 32 ] وهذا أفسد من الكل فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين ولا تناقض إحداهما الأخرى بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامي وحرم نكاح الزانية كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم فأين الناسخ والمنسوخ في هذا
فإن قيل: فما وجه الآية قيل: وجهها والله أعلم أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه والإباحة قد علقت على شرط الإحصان فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله أو لا يلتزمه فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه لم يصح النكاح فيكون زانيا فظهر معنى قوله: لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ النور: 3 ] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغى فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا: زوج قحبة فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك
فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية والله الموفق
ومما يوضح التحريم وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم وعده من جملة نعمه عليهم فالزنا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ
وأيضا فإن الزانية خبيثة كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب زوجا له والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الإثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة
فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة وقد وطئها الزاني البارحة وقال: ماء الزاني لا حرمة له فهب أن الأمر كذلك فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد
والمقصود: أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة وإن كان حلالا وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة بل يحول بينه وبين الإيمان حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة وطهرا لبدنه بالماء وقول اللوطية: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. وقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل.
وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد وأنه لا يشوبه بالإشراك وهكذا المبتدع: إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة
إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر... على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه
الباب العاشر في علامات مرض القلب وصحته
كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به كماله في حصول ذلك الفعل منه ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولابد فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين: من جهة حسرة فوته وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولا بد ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب وتعوضت بمحبة غيره
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه وتألم بجهله بالحق بحسب حياته
وما لجرح بميت إيلام
وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها فهو يؤثر بقاء الله على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه
وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي بهم أسوة وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب
ولقد سئل إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل ذلك فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج في علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقة عليه
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان الممتسك به قليلا والمخالف له كثيرا لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي وأصحابه ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا قال: وماذاك قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة ! قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة قلت: لا قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك وفي طريق أخرى فضرب على فخذي وقال: ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ ذكره البيهقي وغيره
وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصري قال السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي فاصبروا عليها رحمكم الله فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم فكذلك إن شاء الله فكونوا وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال: ما بلغني سنة عن رسول الله إلا عملت بها ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك فسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم فقال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة وهو الإجماع وهو السوار الأعظم وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا
والمقصود: أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار فهنا أربعة أمور: غذاء نافع ودواء شاف وغذاء ضار ودواء مهلك
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن وكل منهما فيه الغذاء والدواء
ومن علامات صحته ايضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور:
فحي على جنات عدن فإنها... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل وبه يثق وأياه يرجو وله يخاف فذكره: قوته وغذاؤه ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه والرجوع اليه دواؤه فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى الهه ومعبوده فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق ولأجله خلقت الجنة والنار وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة
قال بعض العارفين مساكين أهل الدينا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل: وما أطيب ما فيها قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته
وقال آخر: إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال آخر: والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته وقال أبو الحسين الوراق: حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق فكم بين الانقطاعين
وقال آخر: من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات
وقال يحيى بن معاذ: من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به ويذاكره بهذا الأمر
ومن علامات صحته: أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده
ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب
ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه وقرت عينه وسرور قلبه
ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا وأن يكون في الله
ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل فيحرص على الإخلاص فيه والنصحية والمتابعة والإحسان ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله
فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحي السليم
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه له وأعماله له ونومه له ويقظته له وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه: الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقا ينطق لبيك وسعديك إني سامع مطيع ممتثل ولك علي المنة في ذلك والحمد فيه عائد إليك
وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقا يقول أنا عبدك ومسكينك وفقيرك وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين وأنت ربي العزيز الرحيم لا صبر لي إن لم تصبرني ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني لا ملجأ لي منك إلا إليك ولا مستعان لي إلا بك ولا انصراف لي عن بابك ولا مذهب لي عنك
فينطرح بمجموعه بين يديه ويعتمد بكليته عليه فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهديت إلي ودواء نافع من طبيب مشفق وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عني
وكم رمت أمرا خرت لي في انصرافه... وما زلت بي منى أبر وأرحما
فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه وانفتح له منه باب يدخل منه عليه كما قيل:
ما مسني قدر بكره... أو رضى إلا اهتديت به إليك طريقا
أمض القضاء على الرضى منى به... إني وجدتك في البلاء رفيقا
ولله هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر وماذا أودعته من الكنوز والذخائر ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر
سيبدو لها طيب ونور وبهجة... وحسن ثناء يوم تبلى السرائر
بالله لقد رفع لها علم عظيم فشمرت إليه واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه
الباب الحادي عشر في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب وقد كان رسول الله يقول في خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن عبيد ورد أن رسول الله قال له: يا حصين كم تعبد قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء قال: أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
وقد استعاذ من شرها عموما ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع بين الاستعاذة من شر النفس ومن سيئات الأعمال وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه أي أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال
والثاني: أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها
فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها
وعلى الثاني: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها
ويدخل العمل السيء في شر النفس فهل المعنى: ما يسوءني من جزاء عملي أو من عملي السيء وقد يترجح الأول فإن الاستعاذة من العمل السيء بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجبه وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه
وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها
فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم
قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاثة صفات: المطمئنة والأمارة بالسوء واللوامة
فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها أم للعبد ثلاث أنفس: نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة
فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقول محققي الصوفية والثاني قول كثير من أهل التصوف
والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها فإذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس: كل نفس قائمة بذاتها مساوية للأخرى في الحد والحقيقة وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس كل واحدة مستقلة بنفسها
وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها فإنما ذكرها بلفظ الإفراد وهكذا في سائر الأحاديث ولم يجىء في موضع واحد نفوسك ونفوسه ولا أنفسك وأنفسه وإنما جاءت مجموعه عند إرادة العموم كقوله وإذا النفوس زوجت أو عند إضافتها إلى الجمع كقوله إنما أنفسنا بيد الله ولو كانت في الإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه ولو في موضع واحد
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي مطمئنة وهي التي يقال لها عند الوفاة يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. قال ابن عباس: يا أيتها النفس المطمئنة [ الفجر: 27 ] يقول: المصدقة وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال وقال مجاهد هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشا لأمره وطاعته وأيقنت بلقائه وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين
وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل آمرة لكثرة ذلك منها وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمة الله والعدل والعلم طارىء عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة
فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم
وسبب الظلم: إما جهل وإما حاجة وهي في الأصل جاهلة والحاجة لازمة لها فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله
وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك
فصل
وأما اللوامة فاختلف في اشتقاق هذه اللفظة هل هي من التلوم وهو التلون والتردد أو هي من اللوم وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة قال: هي النفس اللؤوم
وقال مجاهد: هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه
وقال قتادة: هي الفاجرة وقال عكرمة: تلوم على الخير والشر وقال عطاء عن ابن عباس كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد احسانا وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته
وقال الحسن إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه
فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها وأنها لا تستقر على حال واحدة والأول أظهر فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلومة كما يقال: المتلونة والمترددة ولكن هو من لوازم القول الأول فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء ثم تلوم عليه فالتلوم من لوازم اللوم
والنفس قد تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا والحكم للغالب عليها من أحوالها فكونها مطمئنة وصف مدح لها وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه
والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه وله علاجان:
محاسبتها ومخالفتها وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله دان نفسه: أي حاسبها
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
وذكر أيضا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه
وقال قتادة في قوله تعالى وكان أمره فرطا [ الكهف: 28 ]: أضاع نفسه وغبن مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه
وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته
وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك وقال ميمون بن مهران أيضا: إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل: أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب وقد روي هذا مرفوعا من كلام النبي رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك هيهات هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله
قال مالك بن دينار: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا
وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيا ثم بمحاسبته ثالثا ثم يمنعه من الخيانة إن أطلع عليه رابعا فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال والربح بعد ذلك فمن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح وهذه الجوارح السبعة وهي العين والأذن والفم والفرج واليد والرجل: هي مراكب العطب والنجاة فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها ونجا من بحفظها ومراعتها فحفظها أساس كل خير وإهمالها أساس كل شر قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [ النور: 30 ] وقال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ الاسراء: 37 ] وقال: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء: 36 ] وقال: وقل لعبادي يقولوا التي هى أحسن [ الاسراء: 53 ] وقال: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [ الأحزاب: 70 ] وقال: يكأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر: 18 ]
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها فلا يهملها فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى والقيام بالحفظ والمراقبة في مراقبته ومحاسبته وليحذر من إهماله
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا
ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه وخسارتها: دخول النار والحجاب عن الرب تعالى فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ آل عمران: 30 ]
فصل
ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوع بعده
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه
قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه أو تركه خير له من فعله فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله تعالى وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح
فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه ولا كل ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي
وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي: الإخلاص في العمل والنصيحة لله فيه ومتابعة الرسول فيه وشهود مشهد الإحسان فيه وشهود منة الله عليه وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله
فيحاسب نفسه: هل وفى هذه المقامات حقها وهل أتى بها في هذه الطاعة
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لم فعله وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحا أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به
فصل
وآخر ما عليه الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها فإن هذا يؤول به إلى الهلاك وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب ويمشى الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليها فطامها ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد
قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة ابن عبيدالله قال: كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي ! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى
وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض فإن تذكر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ثم يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته وكيف فعلته فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني سؤال عن المتابعة وقال تعالى: فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر: 92 ] وقال تعالى: فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ الأعراف: 6 ] وقال تعالى: ليسئل الصادقين عن صدقهم [ الأحزاب: 8 ]
فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين
قال مقاتل: يقول تعالى: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين يعني النبيين عن تبليغ الرسالة وقال مجاهد: يسأل المبلغين المؤدين عن الرسل يعني: هل بلغوا عنهم كما يسأل الرسل هل بلغوا عن الله تعالى
والتحقيق: أن الآية تتناول هذا وهذا فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم فيسأل الرسل عن التبليغ ويسأل المبلغين عنهم عن تبليغ ما بلغهم الرسل ثم يسأل الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين كما قال تعالى: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ المائده: 109 ]
قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين فيسأل عن المعبود وعن العبادة
وقال تعالى: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر: 8 ] قال محمد بن جرير: يقول تعالى: ثم ليسألنكم الله تعالى عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه من أين وصلتم إليه وفيم أصبتموه وماذا عملتم به
وقال قتادة: إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره ونوع يأخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه
فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شىء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء: 34 ] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ الحشر: 18 ] يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أم السيئات التي توبقه
قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها
فصل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)