فيقول: لله درُّك يا أبا هدرش؟ لقد كنت تمارس أوابد ومندياتٍ، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عربٌ لا يفهمون عن الروم، ورومٌ لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس؟ فيقول: هيهات أيّها المرحوم؟ إنَّا أهل ذكاءٌ وفطنٍ، ولابدَّ لأحدنا أن يكون عارفاً بجميع الألسن الإنسيَّة، ولنا بعد ذلك لسانٌ لا يعرفه الأنيس. وانا الذي أنذرت الجنَّ بالكتاب المنزل: أدلجت في رفقةٍ من الخابل نريد اليمن، مررنا بيثرب في زمان المعو أي الرُّطب فسمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرُّشد فآمنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً: وعدت إلى قومي فذكرت لهم ذلك، فتسرعت منهم طوائف إلى الإيمان، وحثَّهم على ما فعلوه أنّهم رجموا عن استراق السَّمع بكواكب محرقاتٍ. فيقول: يا أبا هدرش، أخبرني، وأنت الخبير، هل كان رجم النُّجوم في الجاهليَّة؟ فإنَّ بعض النَّاس يقول إنَّه حدث في الإسلام. فيقول: هيهات؟ أما سمعت قول الأوديِّ:
كشهاب القذف يرميكم به
فارسٌ، في كفِّه للحرب نار وقول ابن حجرٍ:
فانصاع كالدُّرِّيِّ يتبعه
نقعٌ يثور، تخاله طنبا ولكنَّ الرَجم زاد في أوان المبعث، وإنَّ التِّخرُّص لكثيرٌ في الإنس والجنِّ، وإنَّ الصِّدق لمعوزٌ قليلٌ، وهنيئاً في العاقبة للصَّادقين،وفي قصِة الرَّجم أقول:
مكَّة أقوت من بني الدَّردبيس
فما لجنِّيِّ بها من حسيس وكسِّرت أصنامها عنوةً
فكلُّ جبتٍ بنصيلٍ رديس وقام في الصَّفوة من هاشمٍ
أزهر لا يغفل حقَّ الجليس يسمع ما أنزل من ربّه ال
قدُّوس وحياً مثل قرع الطَّسيس يجلد في الخمر، ويشتدُّ في ال
أمر، ولا يطلق شرب الكسيس ويرجم الزَّاني ذا العرس لا
يقبل فيه سؤلةً من رئيس وكم عروسٍ بات حرَّاسها
كجرهمٍ في عزَّها أو جديس زفَّت إلى زوجٍ لهاء سيّدٍ
ما هو بالنِّكس ولا بالضّبيس غرت عليها، فتخلَّجتها
بواشك الصَّرعة قبل المسيس وأسلك الغادة محجوبةً
في الخدر، أو بين جوارٍ تميس لا أنتهي عن غرضي بالرُّقى
إذا انتهى الضَّيغم دون الفريس وأدلج الظَّلماء في فتيةٍ
ملجنِّ فوق الماحل العربسيس في طاسمٍ تعزف جنَّانه
أقفز إلاَّ من عفاريت ليس بيضٍ، بها ليل، ثقالٍ، يعا
ليل، كرامٍ، ينطقون الهسيس تحملنا في الجنح خيلٌ لها
أجنحةٌ، ليست كخيل الأنيس وأينقٌ تسبق أبصاركم
مخلوقةٌ بين نعامٍ وعيس تقطع من علوة في ليلها
إلى قرى شاسٍ بسيرٍ هميس لا نسك في أيَّامنا عندنا
بل نكس الدَّين فما إن نكيس فالأحد الأعظم، والسَّبت كال
إثنين، والجمعة مثل الخميس لا مجسٌ نحن، ولا هوَّدٌ
ولا نصارى يبتغون الكنيس نمزِّق التَّوراة من هونها
ونحطم الصُّلبان حطم اليبيس نحارب الله جنوداً لإب
ليس أخي الرأي الغبين النَّجيس نسلِّم الحكم إليه إذا
قاس، فنرضى بالضَّلال المقيس نزين للشارخ والشيخ أن
يفرغ كيساً في الخنا بعد كي ونفتري جنَّ سليمان كي
نطلق منها كلَّ غاوٍ حبيس صيَّر في قارورةٍ رصِّصت
فلم تغادر منه غير النَّسيس ونخرج الحسناء مطرودةً
من بيتها عن سوء ظنٍّ حديس نقول: لا تقنع بتطليقةٍ
وأقبل نصيحاً لم يكن بالدَّسيس حتى إذا صارت إلى غيره
عاد من الوجد بجدٍّ تعيس نذكره منها، وقد زوِّجت
ثغراً كدرٍّ في مدامٍ غريس ونخدع القسيِّيس في فصحه
من بعد ما ملِّىء بالأنقليس أصبح مشتاق إلى لذّةٍ
معلَّلاً بالصِّرف أو بالخفيس أقسم لا يشرب إلاّ دوي
ن السُّكر، والبازل تالي السَّديس قلنا له: أزدد قدحاً واحداً
ما أنت أن تزداده بالوكيس يحميك في هذا الشَّفيف الذي
يطفىء بالقرِّ التهاب الحميس فعبّ فيها، فوهى لبُّه
وعُدَّ من آل اللَّعين الرّجيس حتَّى يفيض الفم منه على
نمرقتيه بالشَّراب القليس ونسخط الملك على المشفق ال
مفرط في النَّصح إذا الملك سيس وأعجل السِّعلاة عن قوتهأ
في يدها كشح مهاةٍ نهيس لا أتَّقي البرَّ لأهواله
وأركب البحر أوان القريس نادمت قابيل وشيثاً وها
بيل على العاتقة الخندريس وصاحبي لمك لدى المزهر ال
معملِ لم يعي بزيرٍ جسيس ورهط لقمان وأيساره
عاشرت من بعد الشَّباب اللَّبيس ثمَّت آمنت، ومن يرزق ال
إيمان يظفر بالخطير النّفيس جاهدت في بدرٍ وحاميت في
أحدٍ وفي الخندق رعت الرّئيس وراء جبريل وميكال نخ
لي الهام في الكبّة خلي اللِّسيس حين جيوش النّصر في الجوَّ، وال
طاغوت كالزَّرع تناهى، فديس عليهم في هبوات الوغى
عمائمٌ صفرٌ كلون الوريس صهيل حيزوم إلى الآن في
سمعي أكرم بالحصان الرَّغيس لا يتبع الصَّيد ولا يألف ال
قيد ولا يشكو الوجى والدَّخيس فلم تهبني حرَّةٌ عانسٌ
ولا كعابٌ ذات حسنٍ رسيس وأيقنت زيني منَّي الُّتقى
ولم تخف من سطواتي لميس وقلت للجنِّ: ألا يا اسجدوا
لله، وانقادوا انقياد الخسيس فإنَّ دنياكم لها مدَّةٌ
غادرةٌ بالسَّمح أو بالشَّكيس بلقيس أودت ومضى ملكها
عنها، فما في الأذن من هلبسيس وأسرة المنذر حاروا عن ال
حيرة كلٌّ في ترابٍ رميس إنَا لمسنا بعدكم فاعلموا
برقع، فاهتاجت بشرٍّ بئيس ترمي الشّياطين بنيرانها
حتى ترى مثل الرَّماد الدَّريس فطاوعتني أمَّةٌ منهم
فازت، وأخرى لحقت الرَّكيس وطار في اليرموك بي سابحٌ
والقوم في ضربٍ وطعنٍ خليس حتَّى تجلَّت عنِّي الحرب كال
جمرة في وقدة ذاك الوطيس والجمل الأنكد شاهدته
بئس نتيج النّاقة العنتريس بين بني ضبَّة مستقدماً
والجهل في العالم داءٌ نجيس وزرت صفِّين على شبطةٍ
جرداء، ما سائسها بالأريس مجدِّلاً بالسَّيف أبطالها
وقاذفاً بالصَّخرة المرمريس وسرت قدَّام عليٍّ غدا
ة النَّهر حتى فلّ غرب الخميس صادف منَّي واعظٌ توبةً
فكانت اللَّقوة عند القبيس فيعجبٌ، لا زال في الغبطة والسُّرور، لما سمعه من ذلك الجنيِّ، ويكره الإطالة عنده فيودِّعه. ويحمُّ فإذا هو بأسدٍ يفترس من صيران الجنّة وحسيلها فلا تكفيه هنيدةٌ ولا هندٌ أي مائة ولا مائتان فيقول في نفسه: لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء، فيقيم عليها الأيَّام لا يطعم سواها شيئاً. فيلهم الله الأسد أن يتكلّم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: يا عبد الله، أليس أحدكم في الجنَّة تقدَّم له الصِّحفة وفيها البهطُّ والطِّريم مع النَّهيدة، فيأكل منها مثل عمر السّموات والأرض، يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا افترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفرٍ ولا نابٍ، ولكن تجد من اللَّذة كم أجد بلطف ربِّها العزيز. أتدري من أنا أيُّها البزيع؟ أنا أسد القاصرة التي كانت في طريق مصر، فلمَّا سافر عتبة بن أبي لهبٍ يريد تلك الجهة، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللهمَّ سلَّط عليه كلباً من كلابك " ، ألهمت أن أتجوَّع له أيَّاماً، وجئت وهو نائمٌ بين الرُّفقة فتخللَّت الجماعة إليه، وأدخلت الجنَّة بما فعّلت.
ويمرُّ بذئبٍ يقتنص ظباءً فيفني السُّربة بعد السُّربة، وكلَّما فرغ من ظبيٍ أو ظبية، عادت بالقدرة إلى الحال المعهودة، فيعلم أنَّ خطبه كخطب الأسد، فيقول: ما خبرك با عبد الله؟ فيقول: أنا الذئب الذي كلَّم الأسلمي على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كنت أقيم عشر ليالٍ أو أكثر، لا أقدر على العكرشة ولا القواع، وكنت إذا همّمت بعجيّ المعيز، آسد الراعي عليَّ الكلاب، فرجعت إلى الصاحبة مخرَّق الإهاب. فتقول: لقد خطئت في أفكارك، ما خير لك في ابتكارك، وربمّا رميت بالسِّروة فنشبت في الأقراب، فأبيت ليلتي لما بي، حتى تنتزعها السِّلقة وأنا بآخر النَّسيس، فلحقتني بركة محمّد صلى الله عليه وسلم. فيذهب، عرِّفه الله الغبطة في كلّ ِسبيل، فإذا هو ببيتٍ في أقصى الجنة، كأنَّه حفش أمةٍ راعيةٍ، وفيه رجلٌ ليس عليه نور سكّان الجنّة، وعنده شجرةٌ قميئةٌ ثمرها ليس بزاكٍ. فيقول: يا عبد الله، لقد رضيت بحقيرٍ شقنٍ. فيقول: والله ما وصلت إليه إلاَّ بعد هياطٍ ومياطٍ وعرقٍ من شقاءٍ، وشفاعةٍ من قريشٍ وددت أنّها لم تكن: فيقول: من أنت؟ فيقول أنا الحطيئة العبسي فيقول: بم وصلت إلى الشّفاعة؟ فيقول بالصَّدق. فيقول: في أيِّ شيءٍ؟ فيقول: في قولي:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلمُّماً
بهجرٍ، فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجهاً شوَّه الله خلقه
فقبِّح من وجهٍ، وقبِّح حامله فيقول: ما بال قولك:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والنّاس م يغفر لك به؟ فيقول: سبقني إلى معناه الصّالحون، ونظمته ولم أعمل به، فحرمت الأجر عليه. فيقول: ما شأن الزبرقان ابن بدرٍ؟ فيقول الحطيئة: هو رئيسٌ في الدُّنيا والآخرة، انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي.
الخنساء السُّلميّة
فيخلِّفه ويمضي، فإذا هو بامرأة في أقصى الجنَّة، قريبةٍ من المطلَّ إلى النار. فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا الخنساء السُّلميّة، أحببت أن أنظر إلى صخرٍ فاطلَّعت فرأيته كالجبل الشّامخ والنار تضطرم في رأسه، فقال لي؟ لقد صحَّ مزعمك فيَّ؟ يعني قولي:
وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداة به
كأنَّه علمٌ في رأسه نار فيطلَّع فيرى إبليس، لعنه الله، وهو يضطرب في الأغلال والسّلاسل ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزَّبانية. فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدوَّ أوليائه! لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلاّ الله. فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلانٍ من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب، أتقرَّب به إلى الملوك. فيقول: بئس الصَّناعة؟ إنَّها تهب غفَّةً من العيش، لا يتَّسع بها العيال، وإنَّها لمزلَّةٌ بالقدم وكم أهلكت مثلك! فهنياً لك إذ نجوت، فأولى لك ثمَّ أولى؟! وإنَّ لي إليك لحاجةً، فإن قضيتها شكرتك يد المنون. فيقول: إنّي لا أقدر لك على نفعٍ، فإن الآية سبقت في أهل النَّار، أعني قوله تعالى: " ونادى أصحاب النَّار أصحاب الجنَّة أن أقبضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله، قالوا إنَّ الله حرَّمهما علىالكافرين " .
فيقول: إنِّي لاأسألك في شيءٍ من ذلك، ولكن أسألك عن خبرٍ تخبرينه: إنَّ الخمر حرِّمت عليكم في الدُّنيا وأحلَّت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنَّة بالولدان المخلَّدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة؟! أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعت قوله تعلى: " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرةٌ وهم فيه خالدون " ؟ فيقول: وإنَّ في الجنَّة لأشربةً كثيرةً غير الخمر، فما فعل بشَّار بن بردٍ؟ فإنَّ له عندي يداً ليست لغيره من ولد آدم: كان يفضِّلني دون الشعراء، وهو القائل:
إبليس أفضل من أبيكم آدمٍ
فتبيَّنوا يا معشر الأشرار النّار عنصره، وآدم طينةٌ
والطِّين لا يسمو سموَّ النّار لقد قال الحقَّ، ولم يزل قائله من الممقوتين. فلا يسكت من كلامه، إلاَّ ورجلٌ في أصناف العذاب يغمِّض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النِّقم، فيفتحها الزَّبانية بكلاليب من نارٍ، وإذا هو بشَّار بن بردٍ قد أعطي عينين بعد الكمه، لينظر إلى ما نزل به من النَّكال،فيقول له، أعلى الله درجته: يا أبا معاذٍ، لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في معتقدك، ولقد كنت في الدّار العاجلة أذكر بعض قولك فأترحِّم عليك، ظنَّا نَّ التَوبة ستلحقك، مثل قولك:
ارجع إلى سكنٍ تعيش به
ذهب الزَّمان وأنت منفرد ترجو غداً، وغدٌ كحاملةٍ
في الحيِّ لا يدرون ما تلد؟! وقولك:
واهاً لأسماء ابنة الأشدِّ
قامت تراءى إذ رأتني وحدي كالشَّمس بين الزَّبرج المنقدِّ
ضنَّت بخدٍّ، وجلت عن خدِّ ثمَّ انثنت كالنَّفس المرتدّ
؛وصاحب كالدُّمَّل الممدِّ أرقب منه مثل حمَّى الورد
حملته في رقعةٍ من جلدي الحرُّ يلحى، والعصا للعبد
وليس للملحف مثل الرَّدِّ الآن وقع منك اليأس! وقلت في هذه القصيدة: السُّبد، في بعض قوافيها، فإن كنت أردت جمع سُبدٍ، وهو طائرٌ، فإنّ فعلاً لا يجمع على ذلك؛ وإن كنت سكنت الباء فقد أسأت، لأنَّ تسكين الفتحة غير معروفٍ، ولا حجَّة لك في قول الأخطل:
وما كلُّ مغبونٍ إذا سلف صفقةً
براجع ما قد فاته برداد ولا في قول الآخر:
وقالوا: ترابيُّ، فقلت: صدقتم
أبي من ترابٍ خلقه الله آدما لأنَّ هذه شواذٌّ، فأمَّا قول جميل:
وصاح ببينٍ من بثينة، والنَّوى
جميعٌ بذات الرَضم صردٌ محجَّل فإنَّ من أنشده بضمِّ الصَاد مخطىء، لأنَّه يذهب إلى أنَّه أراد الصُّرد فسكَّن الراء، وإنَّما هو صردٌ أي خالصٌ من قولهم: احبك حباً صرداً، أي خالصاً، يعني غراباً أسود ليس فيه بياضٌ، وقوله: محجَّلٌ أي مقيَّد، لأنَّ حلقة القيد تسمَّى حجلاً،قال عديُّ بن زيد:
أعاذل قد لاقيت ما بزع الفتى
وطابقت في الحجلين مشي المقيَّد والغراب يوصف بالتَّقييد لقصر نساه، قال الشاعر:
ومقيّدٍ بين الدِّيار كأنَّه
حبشيُّ داجنةٍ يخرُّ ويعتلي فيقول بشَّارٌ: يا هذا! دعني من أباطيلك فإنِّي لمشغولٌ عنك. ويسأل عن امرىء القيس بن حجر، فيقل: ها هو ذا بحيث يسمعك. فيقول: يا أبا هند إنَّ رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أوَّلها، أعني قولك:
وكأنَّ ذرى رأس المجيمر غدوةً
....................... وكذلك:
وكأنَّ مكاكيَّ الجواء غُذيَّة
...................... وكأنَ السِّباع فيه غرقى عشية
......................... فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساؤوا الرواية، وإذا فعلوا ذلك فأيُّ فرقٍ يقع بين النّظم والنّثر؟ وإنما ذلك شيءٌ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنَّه المتأخِّرون أصلاً في المنظوم، وهيهات هيهات! فيقول: أخبرني عن قولك: كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ ماذا أردت بالبكر؟ فقد اختلف المتأوِّلون في ذلك فقالوا: البيضة، وقالوا: الدُّرّة، وقالوا: الرّوضة، وقالوا الزّهرة، وقالوا: البرديّة. وكيف تنشد: البياضِ، أم البياضَ، أم البياضُ؟ فيقول: كلُّ ذلك حسنٌ، وأختار البياض، بالكسر، فيقول: فرَّغ الله ذهنه للآداب: لو شرحت لك ما قال النحويّون في ذلك لعجبت. وبعض المعلِّمين ينشد قولك:
من السِّيل والغثاء فلكة مغزل
.......................... فيشدِّد الثاءً. فيقول: إنّ هذا لجهولٌ. وهو نقيض الذين زادو الواو في أوائل الأبيات: أولئك أرادوا النَّسق، فأفسدوا الوزن: وهذا البائس أراد أن يصحِّح الزَّنة فأفسد اللّفظ. وكذلك قولي:
فجئت وفد نضَّت لنومٍ ثيابها
........................ منهم من يشدِّد الضاد، ومنهم من ينشد بالتخفيف، والوجهان من قولك: نضوت الثّوب. إلاّ أنك إذا شددت الضاد، أشّبه الفعل من النّضيض، يقال: هذه نضيضةٌ من المطر أي قليلٌ، والتخفيف أحبُّ إليَّ، وإنما حملهم على التشديد كراهة الزَّحاف، وليس عندنا بمكروه.
فيقول: لا برح منطقياً بالحكم: فأخبرني عن كلمتك الصاديِّة والضاديّة والنُّونيّة التي أوَّلها:
لمن طللٌ أبصرته فشجاني
كخطِّ زبورٍ في عسيب يمان لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السَّمع، كقولك:
إن أمس مكروباً فيا ربَّ غارة
شهدت على أقبِّ رخو اللَّبان وكذلك قولك في الكلمة الصَّادية:
على نقنقٍ هيقٍ له ولعرسه
بمنقطع الوعساء بيضٌ رصيص وقولك:
فأسقي به أختي ضعيفة، إذ نأت
وإذ بعد المزداد غير القريض في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحسُّ بهذه الزِّيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون بما يقع فيه؟ كما أنَّه لا ريب أنَّ زهيراً كان يعرف مكان الزِّحاف في قوله:
يطلب شأو امرأين قدِّما حسباً
نالا الملوك، وبذَّا هذه السُّوقا
فإنَّ الغرائز تحسُّ بهذه المواضع، فتبارك الله أحسن الخالقين. فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأوّلين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه، فأمَّا أنا وطبقتي فكنَّا نمرُّ في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبيَّن أمره للسامع. فيقول، ثبَّت الله تعالى الإحسان عليه: أخبرني عن قولك:
ألا ربَّ يومٍ منهنَّ صالحٍ
ولا سيما يومٌ بدارة جلجل أتنشده: لك منهنَّ صالحٍ فتزاحف الكفِّ؟ أم تنشده على الرواية الأخرى؟ فأمَّا يومٌ، فيجوز فيه النّصب والخفض والرفع فأما النصب فعلى ما يجب للمفعول من الظُّروف، والعامل في الظَّرف هاهنا فعلٌ مضمرٌ، وأمَّا الرفع فعلى أن تجعل ما كافَّةً، وما الكافَّة عند بعض البصريِّين نكرةٌ، وإذا كان الأمر كذلك فهو بعدها مضمرةٌ، وإذا خفض يومٌ، فما من الزَّيادات. ويشدَّد سيَّ ويخفَّف: فأمَّا التشديد فهو اللغة العالية، وبعض النَّاس يخفَّف، ويقال: إنَّ الفرزدق مرَّ وهو سكران على كلابٍ مجتمعةٍ. فسلَّم عليها فلمّا لم يسمع لجواب أنشأ يقول:
فما ردَّ السّلام شيوخ قومٍ
مررت بهم على سكك البريد ولا سيَّما الذي كانت عليه
قطيفه أرجوانٍ في القعود فيقول امرؤ القيس: أمَّا أنا فما قلت في الجاهليّة إلاَّ بزحافٍ: لك منهَّن صالحٍ. وأمَّا المعلِّمون في الإسلام فغيَّروه على حسب ما يريدون، ولا بأس بالوجه الذي اختاروه. والوجوه في يوم متقاربةٌ، وسيَّ تشديدها أحسن وأعرف. فيقول: أجل، إذا خففِّت صارت على حرفين أحدهما حرف علِّةٍ. ويقول: أخبرني عن التَّسميط المنسوب إليك، أصحيحٌ هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض النَّاس:
يا صحبنا عرَّجوا
تقف بكم أسج مهريَّةٌ دلج
في سيرها معج طالت بها الرِّحل
فعرَّجوا كلُّهم
والهمُّ يشغلهم والعيس تحملهم
ليست تعلِّلهم وعاجت الرٌّمل
يا قوم إنَّ الهوى
إذا أصاب الفتى في القلب ثمَّ ارتقى
فهدَّ بعض القوى فقد هوى الرَّجل
فيقول: لا والله ما سمعت هذا قطُّ، وإنّه لقريُّ لم أسلكه، وإنَّ الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليَّ! أبعد كلمتي التي أوَّلها:
ألا أنعم صباحاً أيُّها الطَّلل البالي
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟ خليليَّ مرَّا بي على أمّ جندب
لأقضي حاجات الفؤاد المعذَّب يقال لي مثل ذلك؟ والرَّجز من أضعف الشَّعر، وهذا الوزن من أضعف الرَّجز. فيعجب، ملأ الله فؤاده بالسُّرور، لما سمعه من امرىء القيس ويقول:: كيف ينشد:
جالت لتصرعني فقلت لها: قرى
إنَّي امرؤ صرعى عليك حرام أتقول: حرام، فتقوي؟ أم تقول: حرام، فتخرجه مخرج حذام وقطام؟ وقد كان بعض علماء الدَّولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء، أما سمعت البيت في هذه القصيدة:
فكأنَّ بدراً واصلٌ بكتفةٍ
وكأنَّما من عاقلٍ إرمام فيقول: لقد صدقت يا أبا هند، لأنَّ إرماماً هاهنا، ليس واقعاً موقع الصِّفة فيحمل على المجاورة، لأنَّه محمول على كأنَّما، وإضافته إلى ياء النَّفس تضعِّف الغرض. وقد ذهب بعض الناس إلى الإضافة في قول الفرزدق:
فما تدري إذا قعدت عليه
أسعد الله أكثر أم جذام فقالوا: أضاف كما قال جريرٌ:
إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً
تلكم قريشي والأنصار أنصاري وكذلك قوله:
وإذا غضبت رمت ورائي مازنٌ
أولاد جندلتي كخير الجندل وبعضهم يروي: أولاد جندلة كخير الجندل وجندلة هذه هي أمُّ مازن بن مالك بن عمرو بن تميم وهي من نساء قريش. وإنَّا لنروي لك بيتاً ما هو في كلَّ الرِّوايات، وأظنُّه مصنوعاً لأنَّ فيه ما لم تجر عادتك بمثله، وهو قولك:
وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا
بصارمه، يمشي كمشية قسورا فيقول: أبعد الله الآخر، لقد اخترص، فما اترَّص! وإنَّ نسبة مثل هذا إليَّ لأعدُّه إحدى الوصمات،فإن كان من فعله جاهليّاً، فهو من الذين وجدوا في النَّار صليّاً، وإن كان من أهل الإسلام، فقد خبط في ظلام. وإنَّما أنكر حذف الهاء من قسورة، لأنَّه ليس بموضع الحذف، وقلَّ ما يصاب في أشعار العرب مثل ذلك. فأمَّا قول القائل:
إنَّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته
أو أمتدحه، فإنّ النَّاس قد علموا فليس من هذا النَّحو، إذ كان التّغيير إلى الأسماء الموضوعة أسرع منه إلى الأسماء التي هي نكراتٌ، إذ كانت النَّكرة أصلاً في الباب.
[عدل] عنترة العبسيُّ
وينظر فإذا عنترة العبسيُّ متلدَّدٌ في السَّعير، فيقول: ما لك يا أخا عبسٍ؟ كأنَّك لم تنطق بقولك:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر، بالمشوف المعلم بزجاجةٍ صفراء ذات أسرَّةٍ
قرنت بأزهر في الشَّمال مفدَّم وإنِّي إذا ذكرت قولك: هل غادر الشُّعراء من متردَّم لأقول: إنَّما قيل ذلك وديوان الشِّعر قليلٌ محفوظٌ، فأمَّا الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرِّباب. ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النّبي، صلى الله عليه وسلّم، لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أنّ الأمر كما قال حبيب بن أوسٍ:
فلو كان يفنى الشِّعر أفناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذّواهب ولكنَّه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه، أعقبت بسحائب فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعرٌ ظهر في الإسلام. وينشده شيئاً من نظمه: فيقول: أمّاالأصل فعربيٌّ، وأمّا الفرع فنطق به غبيٌّ، وليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب. فيقول، وهو ضاحكٌ مستبشرٌ: إنَّما ينكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثيرٍ من المتقدِّمين، إلا إنها لاتجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوسٍ. فما أردت بالمشوف المعلم؟ الدِّينار أم الرِّداء؟ فيقول: أيُّ الوجهين أردت، فهو حسنٌ ولا ينتقض.
فيقول، جعل الله سمعه مستودعاً كل الصالحات: لقد شقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم، وكأنَّ أذني مصغيةٌ إلى قينات الفسطاط وهي تغرِّد بقولك:
أمن سميَّة دمع العين تذريف؟
لو أنَّ ذا منك قبل اليوم معروف تجلِّلتني إذ أهوى العصا قبلي
كأنَّها رشأٌ في البيت مطروف العبد عبدكم، والمال مالكم
فهل عذابك عنِّي اليوم مصروف وإنِّي لأتمثِّل بقولك:
ولقد نزلت، فلا تظنِّي غيره
منِّي بمنزلة المحبِّ المكرّم ولقد وفِّقت في قولك: المحبِّ، لأنَّك جئت باللَّفظ على ما يجب في أحببت، وعامّة الشُّعراء يقولون: أحببت، فإذا صاروا إلى المفعول قالوا: محبوبٌ. قال زهير بن مسعودٍ الضَّبِّيُّ:
واضحة الغرَّة محبوبةٌ
والفرس الصّالح محبوب وقال بعض العلماء: لم يسمع بمحبٍّ إلا في بيت عنترة. وإنَّ الذي قال: أحببت، ليجب عليه أن يقول: محبُّ، إلا أنَّ العرب اختارت: أحبَّ في الفعل، وقالت في المفعول: محبوب. وكان سيبويه ينشد هذا البيت بكسر الهمزة:
إحبُّ لحبِّها السودان حتى
إحبُّ لحبِّها سود الكلاب فهذا على رأي من قال: مغيرة، فكسر الميم على معنى الإتباع، وليس هو عنده على: حببت أحبُّ،وقد جاء حببت، قال الشاعر [2]:
ووالله لولا تمره ما حببته
ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق
ويقال: إنَّ أبا رجاءٍ العطارديَّ قرأ: فاتَّبعوني يحببكم الله بفتح الياء. والباب فيما كان مضاعفاً متعدِّياً أن يجيء بالضّمِّ، كقولك: عددت أعدُّ، ورددت أردُّ، وقد جاءت أشياء نوادر كقولهم: شددت الحبل أشد؟ وأشدُّ، ونممت الحديث أنمّ وأنمُّ، وعللت القول أعلُّ وأعلُّ. وإذا كان غير متعدٍّ فالباب الكسر، كقولهم: حلَّ عليه الدَّين يحلُّ، وجلَّ الأمر يجلُّ. والضمُّ في غير المتعديّ أكثر من الكسر فيما كان متعدّياً، كقولهم: شَحَّ يَشُحُّ وَيشِحُّ، وشبّ الفرس يَشُبُّ ويَشِبُّ، وصحّ الأمر يَصِحُّ ويَصُحُّ، وفحتِ الحيَّة تَفِحُّ وتفُحُّ، وجّمُّ الماء يَجِمُّ ويَجُمُّ، وجدَّ في الأمر يّجِدُّ ويَجُدُّ في حروفٍ كثيرةٍ. وينظر فإذا علقمة بن عبيدة فيقول: أعزز عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سمطا لؤلؤك. يعني قصيدته التي على الباء: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب والتي على الميم: هل ما علمت وما استودعت مكتوم فبالذي يقدر على تخليصك، ما أردت بقولك:
فلا تعدلي بيني وبيين مغمَّرٍ
سقتك روايا المزن حين تصوب وما القلب، أم ماذكرها ربعيَّة
يخطُّ لها من ثرمداء قليب أعنيت بالقليب هذا الذي يورد، أم القبر؟ ولكلٍ وجهٌ حسنٌ. فيقول علقمة: إنَّك لتستضحك عابساً، وتريد أن تجني الثَّمر يابساً، فعليك شغلك أيُّها السَّليم! فيقول: لو شفعت لأحدٍ أبياتٌ صادقةٌ ليس فيها ذكر الله، سبحانه، لشفعت لك أبياتك في وصف النَّساء، أعني قولك:
فإن تسألوني بالنسِّاء فإننِّي
بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيب إذا شاب رأس المرء، أو قلّ ماله
فليس له في ودِّهنَّ نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه
وشرخ الشِّباب عندهنَّ عجيب ولو صادفت منك راحةً لسألتك عن قولك:
وفي كلِّ حيٍّ قد خبطَّ بنعمةٍ
فحُقّ لشاشٍ من نداك ذنوب أهكذ نطقت بها طاءً مشدّدةً، أم قالها كذلك عربيٌّ سواك؟ فقد يجوز أن يقول الشاعر الكلمة، فيغيِّرها عن تلك الحال الرواة،وإنَّ في نفسي لحاجةً من قولك:
كأس عزيزٌ من الأعناب عتَّقها
لبعض أربابها حانيَّةٌ حوم فقد اختلف النَّاس في قولك حوم، فقيل: أراد حُمَّاً، أي سوداً، فأبدل من إحدى الميمين واواً. وقيل: أراد حوماً أي كثيراً فضمَّ الحاء للضَّرورة، وقيل: حومٌ، يحام بها على الشِّرب أي يطاف،وكذلك قولك:
يهدي بها أكلف الخدَّين مختبرٌ
من الجمال كثيرٌ اللّحم عيثوم فروي: يهدي، بالدَّال غير معجمةٍ، ويهذي بذالٍ معجمةٍ. وقيل: مختبرٌ، من اختبار الحوائل من اللواقح، وقيل: هو من الخبير أي الزُّبد، وقيل: الخبير اللحم، وقيل: هو الوبر.
[عدل] عمرو بن كلثوم
فليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم، فيقال: ها هوذا من تحتك، إن شئت أن تحاوره فحاوره. فيقول: كيف أنت أيُّها المصطبح بصن الغانية، والمغتبق من الدُّنيا الفانية؟ لوددت أنَّك لم تساند في قولك:
كأنَّ متونهنَّ متون غدرٍ
تصفِّقها الرَّياح إذا جرينا فيقول عمروٌ: إنك لقرير العين لا تشعر بما نحن فيه، فأشغل نفسك بتمجيد الله واترك ما ذهب فإنّه لا يعود. وأمّا ذكرك سنادي، فإنَّ الإخوة ليكونون ثلاثةً أو أربعةً، ويكون فيهم الأعرج أو الأبخق فلا يعابون بذلك، فكيف إذا بلغوا المائة في العدد، ورهاقها في المدد؟ فيقول:أعزز عليَّ بأنَّك قصرت على شرب حميم، وأخذت بعملك الذّميم، من بعد ماكانت تسبأ لك القهوة من خُصٍ أو غير خصّ، تقابلك بلون الحصّ.
وقالوا في قولك سخيناً قولين: أحدهما أنّه فعلنا من السّخاء والنون نون المتكلمين، والآخر أنّه من الماء السّخين لأنَّ لأندرين وقاصرين كانتا في ذلك الزمن للرُّوم، ومن شأنهم أن يشربوا الخمر بالماء السَّخين في صيفٍ وشتاءٍ،ولقد سئل بعض الأدباء بمدينة السِّلام عن قولك:
فما وجدت كوجدي أمُّ سقبٍ
أضلَّته فرجعت الحنينا ولا شمطاء لم يترك شقاها
لها من تسعة إلاّ جنينا هل يجوز نصب شمطاء. فلم يجب بشيء، وذلك يجوز عندي من وجهين: أحدهما على إضمار فعلٍ دلَّ عليه السامع معرفته به، كأنَّك قلت: ولا أذكر شمطاء، اي إنَّ حنينها شديدٌ، ويجوز أن يكون على قولك: ولا تنسَ شمطاء، أو نحو ذلك من الأفعال، وهذا كقولك: إنَّ كعب بن مامة جوادٌ ولا حاتماً، أي ولا أذكر حاتماً، أي إنَّه جوادٌ عظيم الجود، قد استغنيت عن ذكره باشتهاره،والآخر، أن يكون من ولاه المطر إذا سقاه السَّقية الثانية، أي هذا الحنين اتَّفق مع حنيني، فكأنَّه قد صار له وليّاً، ويحتمل أن يكون من ولي يلي، وقلب الياء على اللغة الطائيّة.
وينظر فإذا الحارث اليشكريُ فيقول: لقد أتبعت الرُّواة في تفسير قولك:
زعموا أنَّ كلَّ من ضرب العي
ر موالٍ لنا، وأنَّا الولاء وما أحسبك أردت إلا العير الحمار. ولقد شنَّعت هذه الكلمة بالإقواء في ذلك البيت، ويجوز أن تكون لغتك أن تقف على آخرالبيت ساكناً، وإذا فعلت ذلك،اشتبه المطلق بالمقيَّد، وصارت هذه القصيدة مضافةً إلى قول الراجز:
دارٌ لظميا وأين ظميا
أهلكت أم هي بين الأحبا وبعض الناس من ينشد قولك:
فعشن بخيرٍ لا يضر
ك النُّوك ما أعطيت جدًّا فيجمع بين تحريك الشِّين وحذف الياء، من: عاش يعيش، وذلك رديٌ. ومنه قول الآخر:
متى تشئي يا أمَّ عثمان تصرمي
وأوذنك إيذان الخليط المزايل وإنّما الكلام: متى تشائي، لأنَّ هذا السّاكن إذا حُرُّك عاد الساكن المحذوف. ولقد أحسنت في قولك:
لا تكسع الشُّول بأغبارها
إنَّك لا تدري من النَّاتج وقد كانوا في الجاهليَّة يعكسون ناقة الميت على قبرة، ويزعمون أنَّه إذا نهض لحشره وجدها قد بعثت له فيركبها فليته لا يهص بثقله منكبها. وهيهات! بل حشروا عراةً حفاةً بهماً أي غرلاً وتلك البليَّة ذكرت في قولك:
أتلهَّى بها الهواجر إذ ك
لُّ ابن همٍّ بليَّةٌ عمياء [عدل] طرفة بن العبد
ويعمد لسؤال طرفة بن العبد فيقول: يا ابن أخي يا طرفة خفَّف الله عنك، أتذكر قولك:
كريم يروِّي نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غداً أيُّنا الصَّدي وقولك:
أرى قبر نحّامٍ بخيلٍ بما له
كقبر غويٍّ في البطالة مفسد وقولك:
متى تأتني، صبحك كأساً رويَّةً
وإن كنت عنها غانياً، فاغن وازدد فكيف صبوحك الآن وغبوقك؟ إنّي لأحسبهما حميماً، لا يفتأ من شربهما ذميماً. وهذا البيت يتنازع فيه: فينّسبه إليك قومٌ، وينسبه آخرون إلى عدىّ بن زيدٍ، وهو بكلامك أشبه، والبيت:
واصفر مضبوحٍ نظرت حويره
على النار، واستودعته كفَّ مجمد وأشدَّ ما اختلف النُّحاة في قولك:
أألاأيُّهاذا الزَّاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللَّذات، هل أنت مخلدي؟ وأمّا سيبويه فيكره نصب أحضر، لأنّه يعتقد أنَّ عوامل الأفعال لا تضمر. وكان الكوفيَّون ينصبون أحضر بالحرف المقدَّر، ويقوَّي ذلك: وأن أشهد اللَّذات، فجئت بأن، وليس هذا بأبعد من قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين قبيلةً
ولا ناعبٍ إلاّ ببينٍ غرابها وقد حكى المازنيُّ عن عليّ بن قطربٍ أنَّه سمع أباء قطرباً، يحكي عن بعض العرب نصب أحضر. ولقد جئت بأعجوبةٍ في قولك:
لو كان في أملاكنا ملكٌ
يعصر فينا، كالّذي تعصر لاجتبت صحني العراق على
حرفٍ أمونٍ، دفُّها أزور متَّعني يوم الرّحيل بها
فرعٌ تنقَّاه القداح يسر ولكنّك سلكت مسالك العرب، فجئت بقريِّ كلمة المرقِّش:
هل بالدَّيار أن تجيب صمم؟
لو كان حيّاً ناطقاً كلُّم وقول الأعشى: أقصر فكلُّ طالبٍ سيملّ على أنَّ مرقِّشاً خلط في كلمته فقال:
ماذا علينا أن غزا ملكٌ
من آل جفنة ظالمٌ مرغم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)