أسباب قصد الفعل و قد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى و كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه. إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية و لا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا و الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها و غاياتها. و إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة و يقع في مداركها على نظام و ترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس و تحت طورها. و أما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منة يطائل و لا يظفز بحقيقة. قال الله: ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. و ربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمة و أصبح من الضابين الهالكين نغوذ بالله من الحرمان و الخسران المبين. و لا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنة في قدرتك و اختيارك بل هو لون يحصل للنفس و صبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحررنا منها. فلنتحرر من ذلك بقطع النظر عنها جملة. و أيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد يالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير و كيفيته مجهولة. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجه إلى مسبب الأسباب كلها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا و طرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحسن. قال صلى الله عليه و سلم: من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة. فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقت عليه كلمة الكفر و أن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فإنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة. فيذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب و أمرنا بالتوجيد المطلق قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * ولم يكن له كفوا أحد و لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات و أسبابها و الوقوف على تفصيل الوجود كله و سفه رأيه في ذلك. و اعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها و الأمر في نفسه بخلاف ذلك و الحق من ورائه. ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع و المعقولات و يسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. و كذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات و لولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء و المشيخة من أهل عصرهم و الكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم و طبيعة إدراكهم و لو سئل الحيوان الأعجم و نطق لوجدناه منكرا للمعقولات و ساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة و خلق الله أكبر من خلق الناس. و الحصر مجهول و الوجود أوسع نطاقا من ذلك و الله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك و مدركاتك في الحصر و اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك و أعلم يما ينفغك لأنه من طور فوق إدراكك و من نطاق أوسع من نطاق عقلك و ليس ذلك بقادح في العقل و مداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد و الآخرة و حقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية و كل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال. و مثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن يه الجبال و هذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده و لا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله و يصفاته فإنة ذرة من ذرات الوجود الحاصل منة. و تفطن في هذا الغلط و من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا و قصور فهمه و اضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك و إذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الإرتقاء نطاق إدراكنا و وجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام و يحار و ينقطع. فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب و كيفيات تأثيرها و تفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيرة و كلها ترتقي إليه و ترجع إلى قدرته و علمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير و هذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: العجز عن الإدراك إدراك. ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس و إنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال و العبادات أيضا حصول ملكة الطاعة و الانقياد و تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا. و الفرق بين الحال و العلم في العقائد فرق ما بين القول و الاتصاف. و شرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم و المسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها و يقول بذلك و يعترف به و يذكر مأخذه من الشريعة و هو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرعنه و استنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة و ما بعد ذلك من مقامات العطف و الحنو و الصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم و لم يحصل له مقام الحال و الاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم و الاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول و هو الاتصاف بالرحمة و حصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه و مسح عليه و التمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك و لو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده و كذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به و العلم حاصل عن الاتصاف ضرورة و هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. و ليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل و يتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة و يحصل الاتصاف و التحقيق و يجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى و النفع و هذا علم أكثر النظار و المطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. و اعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف و ما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف و التحقق بها. ثم إن الإقبال على العبادات و المواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال صلى الله عليه و سلم: في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة فإن الصلاة صارت له صفة و حالا يجد فيها منتهى لذاته و قرة عينه و أين هذا من صلاة الناس و من لهم بها ؟ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون اللهم وفقنا اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد و هو العقيدة الإيمانية و هو الذي تحصل به السعادة و أن ذلك سواء في التكاليف القلبية و البدنية. و يتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف و ينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أولها التصديق القلبي الموافق للسان و أعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي و ما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. و تندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. و هذا أرفع مراتب الإيمان و هو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة و لا كبيرة إذ حصول الملكة و رسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة غين
قال صلى الله عليه و سلم: لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه و سلم و أحواله فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا ! قال: و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب. و معناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة و الفطرة و هذه هي المرتبة العالية من الإيمان و هي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا و هذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم و تصديقهم. و بهذه الملكة و رسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف. و في تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أن الإيمان قول و عمل و يزيد و ينقص و أن الصلاة و الصيام من الإيمان و أن تطوع رمضان من الإيمان و الحياء من الإيمان. و المراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه و إلى ملكته و هو فعلي. و أما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء و حمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين و من اعتبر أواخر الأسماء و حمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. و ليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنة أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان و هو المخلص من عهدة الكفر و الفيصل بين الكافر و المسلم فلا يجزي أقل منه. و هو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت و إنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. و اعلم أن الشارع وصف لنا هذاالإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق و عين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا و اعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا و هي العقائد التي تقررت في الدين. قال صلى الله عليه و سلم حين سئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره و هذه هي العقائد الإيمانية المقررة في عليم الكلام. و لنشر إليها مجملة لتتبين في حقيقة هذا الفن و كيفية حدوثه فنقول. اعلم أن الشارع لقد أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه و أفرده به كما قدمناه و عرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود و هو إذ ذاك يتعذر على إدراكنا و من فوق طورنا. فكلنا أولا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين و إلا لما صح أنة خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه غن صفات النقص و إلا لشابة المخلوقين ثم توحيده با لاتحاد و إلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد و الخلق و مريد و إلا لم يخصص شيء من المخلوقات و مقدر لكل كائن و إلا فالإرادة حادثة. و أنة يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته، بالإيجاد و لو كان لأمر فإن كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحوله بالشقاء و السعادة و عدم معرفتنا بذلك و تمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك و بيان الطريقين. و أن الجنة للنعيم و جهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية و أدلتها من الكتاب و السنة كثيرة. و عن تلك الأدلة أخذها السلف و أرشد إليها العلماء و حققها الأئمة إلا أنة عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام و التناظر و الاستدلال يالعقل و زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. و لنبين لك تفصيل هذا المجمل. و ذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة و هي سلوب كلها و صريحة في بابها فوجب الإيمان بها. و وقع في كلام الشارع صلوات الله عليه و كلام الصحابة و التابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات و أخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها و وضوح دلالتها، و علموا استحالة التشبيه. و قضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها و لم يتعرضوا لمعناها ببحث و لا تأويل. و هذا معنى قول الكثير منهم: إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله. و لا تتعرضوا لتأويلها و لا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء. فيجب الوقف و الإذعان له. و شذ لعصرهم مبتدعة أتبعوا ما تشابه من الآيات و توغلوا في التشبيه. ففريق أشبهوا، في الذات باعتقاد اليد و القدم و الوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح و مخالفة آي التنزيه المطلق التس هي أكثر موارد و أوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص و الافتقار. و تغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد و أوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية و جمع بين الدليلين بتأويلها ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. و ليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض و جمع بين نفي و إثبات إن كانا بالمعقولية واحدة من الجسم، و إن خالفوا بينهما و نفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه و لم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه. ويتوقف مثلة على الأذن. و فريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة و الاستواء و النزول و الصوت و الحرف و أمثال ذلك. و آل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام. و اندفع ذلك بما اندفع به الأول، و لم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف و مذاهبهم و الإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. و لهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبى زيد و كتاب المختصر له و في كتاب الحافظ ابن عبد البر و غيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى. و لا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم و الصنائع و ولى الناس بالتدوين و البحث في سائر الأنحاء و ألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم و هو مردود بأن الصفات ليست عين الذات و لا غيرها و قضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات و قضوا بنفي السمع و البصر لكونهما من عوارض الأجسام. و هو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ و إنما هو إدراك المسموع أو المبصر. و قضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع و البصر و لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق و ذلك بدعة صرح السلف بخلافها. و عظم ضرر هذه البدعة و لقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها و خالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم، و كان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع و قام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق و نفى التشبيه و أثبت الصفات المعنويه و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية و السمع و البصر و الكلام القائم بالنفس بطريق النقل و العقل. و رد على المبتدعة في ذلك كله و تكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح و الأصلح و التحسين و التقبيح و كمل العقائد في البعثة و أحوال المعاد و الجنة و النار و الثواب و العقاب. و ألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان و إنه يجب على النبي تعيينها و الخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له، و كذلك على الأمة. و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية و لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن و سموا مجموعة علم الكلام: إما لما فيه من المناظرة على البدع و هي كلام صرف و ليست براجعة إلى عمل، و إما لأن سبب وضعه و الخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. و كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري و اقتفى طريقتة من بعده تلميذه كابن مجاهد و غيره. و أخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم و هذبها و وضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة و الأنظار و ذلك مثل إثبات الجوهر الفرد و الخلاء. و أن العرض لا يقوم بالعرض و أنه لا يبقى زمانين. و أمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. و جعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها و أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. و جملت هذه الطريقة و جاءت من أحسن الفنون النظرية و العلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان. على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم و لأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة و تعتبر بها الأقيسة و لم تكن حينئذ ظاهرة في المئلة، و لو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية
بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم. ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم. و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا. و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه. و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر. و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة. و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة. من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا. و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء ؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. و الله ولي المؤمنين. الفصل الحادي عشر: في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر و آثارها و المكونات الثلاثة عنها. التي هي المعدن و النبات و الحيوان. و هذه كلها متعلقات القدرة الإلهية و على أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، و هي الأفعال البشرية، و منها غير منتظم و لا مرتب، و هي أفعال الحيوانات غير البشر. و ذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لابد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه، و هي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها و لا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا، و لا المتأخر متقدما. و ذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه، و قد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، و شرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته. مثلا: لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى لحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، و هو آخر العمل. و هذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، و أول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. و أول هذا الفكر هو المسبب الأخير، و هو آخرها في العمل. و أولها في العمل هو المسبب الأول و هو آخرها في الفكر. و لأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية. و أما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علي الترتيب فيما يفعل. إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس و مدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنة لا يكون إلا بالفكر. و لما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، و غير المنتظمة إنما هيى تبع لها. اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر. و استولت أفعال البشر على عالم الحوادث. بما فيه، فكان كله في طاعته و تسخره. و هذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. و على قدر حصول الأسباب و المسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيتة. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، و منهم من لا يتجاوزها، و منهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. و اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات و الخمس الذي ترتيبها وضعي، و منهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. و إن كان هذا المثال غير مطابق. لأن لعب الشطرنج بالملكة، و معرفة الأسباب و المسببات بالطبع. لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. و الله خلق الإنسان و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي و كيفية حدوثه إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع، يذكرونه في إثبات النبوات و غيرها. و النسبة فيه إلى المدينة، و هي عندهم كناية عن الاجتماع البشري. و معنى هذا القول، أنة لا تمكن حياة المنفرد من البشر، و لا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. و ذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده و حياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. و تلك المعاونة لابد فيها من المفاوضة أولا، ثم المشاركة و ما بعدها. و ربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة و المشاجرة فتنشأ المنافرة و المؤالفة. و الصداقة و العداوة. و يؤول إلى الحرب و السلم بين الأمم و القبائل. و ليس ذلك على أي وجه اتفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر يما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال و ترتيبها بالفكر كما تقدم. جعل منتظما فيهم و يسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية و قوانين حكمية. ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، و عن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميزوا القبائح و المفسدة. بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، و عوائد معروفة بينهم، فيفارقون الهمل من الحيوان. و تظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال و بعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد و لا يتعمق فيها الناظر، بل كلها تدرك بالتجربة و بها يستفاد. لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات و صدقها و كذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. و يستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصا له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه. حتى يتعين له ما يجب و ينبغي، فعلا و تركا. و تحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. و من تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية. و لابد بما تسعه التجربة من الزمن. و قد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلد فيها الآباء و المشيخة و الأكابر، و لقن عنهم و وعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبع الوقائع و اقتناص هذا المعنى من بينها. و من فقد العلم في ذلك و التقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه و اتباعه، طال عناؤة في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف و يدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه و فعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل، و يفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. و هذا معنى القول المشهور: من لم يؤدبه والده أدبه الزمان. أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه و في معناهما المشيخة و الأكابر و يتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام، فيكون الزمان معلمه و مؤدبة لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه. و هذا هو العقل التجريبي، و هو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه. و بعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل يتفسيره أهل العلوم، فلا تحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. و الله وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر: في علوم البشر و علوم الملائكة إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحس و نعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك. ثم نعتبره الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علما ضروريا بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس، فتراه عالما آخر فوق عالم الحس. ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات و الوجهات، نحو الحركات الفعلية، فنعلم أن هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا و هو عالم الأرواح و الملائكة. و فيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا و بينها من المغايرة. و ربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني و ذواته بالرؤيا و ما نجد في النوم، و يلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة، و تطابق الواقع في الصحيحة منها، فنعلم أنها حق و من عالم الحق. و أما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن و يجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس. و لا نجد على هذا العالم الروحاني برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة و لا ندرك له تفصيلا. و ما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته و ترتيبها، المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه. كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية. و هذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها. و لا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان و يحكمها. و أعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية و الروحانية. و يشترك في عالم الحس مع الحيوانات و في عالم العقل و الأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته، و هي ذوات مجردة عن الجسمانية و المادة، و عقل صرف يتحد فيه العقل و العاقل و المعقول، و كأنه ذات حقيقتها الإدراك و العقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة. و علم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كله مكتسب، و الذات التي يحصل فيها صور المعلومات و هي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا، حتى تستكمل، و يصح وجودها بالموت في مادتها و صورتها. فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي و الإثبات دائما، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين. فإذا حصل و صار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة، و ربما أوضحها البرهان الصناعي، لكنه من وراء الحجاب. و ليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة. و قد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي. فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية. و كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء و المنكر. و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه. و الله علم الإنسان ما لم يعلم.
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر و أحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية و النزوعية من الشهوة و الغضب و سائر الأحوال البدنية. فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية، من العبادة و الذكر لله بما يقتضي معرفتهم به، فخبرين عنة بما يوحي إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمة على طريقة واحدة و سنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنة جبلة فطرهم الله عليها. و قد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب. و بينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة و المركبة على تركيب طبيعي من أعلاها و أسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم. و أن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاوزها من الأسفل و الأعلى. استعدادا طبيعيا. كما في العناصر الجسمانية البسيطة. و كما في النخل و الكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون و الصدف من أفق الحيوان و كما في القردة التي استجمع فيها الكيس و الإدراك مع الإنسان صاحب الفكر و الروية. و هذا الاستعداد الذي في جانب كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها. و فوق العالم البشري عالم روحاني، شهدت لنا به الآثار التي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك و الإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف و تعقل محض، و هو عالم الملائكة، فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية. لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات. و في لمحة من اللمحات. ثم تراجع بشريتها و قد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر. و هذا هو معنى الوحي و خطاب الملائكة. و الأنبياء كلهم مفطورون عليه. كأنه جبلة لهم و يعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة و الغطيط ما هو معروف عنهم. و علومهم في تلك الحالة علم شهادة و عيان، لا يلحقه الخطأ و الزلل، و لا يقع فيه الغلط و الوهم، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب و حصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية، لا تفارق علمهم الوضوح. استصحابا له من تلك الحالة الأولى، و لما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه. فافهم ذلك و راجع ما قدمناه لك أول الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتضح لك شرحه و بيانه، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا. و الله الموفق.
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، و أن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام و هو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء و المصلح و المفاسد من أبناء جنسه، و هو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا و شاهدا، على ما هي عليه، و هو العقل النظري، و هذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه. و يبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة و العلقة و المضغة. و ما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط. لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالع لم الذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. و انظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته و ذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي و العلم الكسبي و أشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده. و هي الإنسانية. و حالتاه الفطرية و الكسبية في أول التنزيل و مبدأ الوحي. و كان الله عليما حكيما.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)