ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعة فيه
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - اعتمر عمر، وبنى المسجد الحرام - فيما زعم الواقدي - ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
قال: وكان ذلك الشهر الذي اعتمر فيه رجب، وخلّف على المدينة زيد بن ثابت.
قال الواقدي: وفي عمرته هذه أمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزّى وسعيد بن يربوع.
قال: وحدثني كثير بن عبد الله المزنىّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قدمنا مع عمر مكة في عمرته سنة سبع عشرة، فمرّ بالطريق فكلّمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم، وشرط عليهم أنّ ابن السبيل أحقّ الظلّ والماء.
قال: وفيها تزوّج عمر بن الخطاب أمّ كلثوم ابنة علي بن أبى طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله ، ودخل بها في ذي القعدة.
ذكر خبر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى
قال: وفي هذه السنة ولىّ عمر أبا موسى البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة في ربيع الأول - فشهد عليه - فيما حدثني معمر، عن الزهرىّ، عن ابن المسيّب - أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلىّ، ونافع بن كلدة، وزياد.
قال: وحدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى أمّ جميل، امرأة من بنى هلال؛ وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجّاج بن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها. فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشرّ، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قصّ عليه القصّة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبى موصى عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوّج امرأة من بنى مرّة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة. فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بنى هلال.
قال أبو جعفر: وكان سبب ما كان بين أبى بكرة والشهادة عليه - فيما كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة أنّ المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكر ينافره عند كلّ ما يكون منه، وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبّت ريح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته، وهو بين رجلى امرأة، فقال: للنّفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال أمّ جميل ابنة الأفقم - وكانت أمّ جميل إحدى بنى عامر بن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف - وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها - فقالوا: إنما رأينا أعجازا، ولا ندرى ما الوجه؟ ثم إنهم صمّموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصلّ بنا. فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إلى أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، إني مستعملك؛ إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرّخ، فالزم ما تعرف؛ ولا تستبدل فيستبدل الله بك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بعدّة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلّا به، فاستعن بمن أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلًا؛ منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر. ثمّ خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرًا، ولا تاجرًا، ولكنّه جاء أميرًا. فإنهم لفي ذلك، إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أو موسى كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس؛ أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحثّ، وأمّر: أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرًا، فسلّم إليه ما في يدك، والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أمّا بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرًا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويّكم، وليقاتل بكم عدوّكم، وليدفع عن ذمّتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقّى لكم طرقكم.
وأهدى له المغيرة وليدة من مولّدات الطائف تدعى عقيلة، وقال: إني قد رضيتها لك - وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلىّ حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؛ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر، أو مستدبرىّ فبأي شئ استحلّوا النظر إلىّ في منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلّا امرأتي - وكانت شبهها - فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أمّ جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: فكيف استثبتّ رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدرتهما أو استقبلتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم؛ قال: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانًا شديدًا. قال: هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبّهها، قال: فتنحّ، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ وقرأ: " فإذ لم يأتوا بالشّهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، فقال: اسكت أسكت الله نأمتك! أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
فتح سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ستّ عشرة من الهجرة.
ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى
كتب إلي السري، يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمتّه مهرجان قذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسيّة كان وجهه إلى أمّته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهرتيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان سعدا، فأمدّه سعد بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا على ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى. ووجّه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة - وكانا من المهاجرين مع رسول الله ، وهما من بني العدوية من بني حنظلة - فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك؛ فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإنّ أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى؛ فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك.
قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صدي بن مالك:
لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ** وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ** ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا "؛ وقال يربوع بن مالك:
لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ** غداة التباهى غرّ ذاك التبادر
تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ** بحي تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ** لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر
إذ العرب العلياء جاشت بحورها ** فخرنا على كلّ البحور الزواخر
وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ** وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ** وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا
فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيمًا ونعيمًا فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيّان - فيما بين الدلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلّا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فيناكثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالبًا وكليبًا محقّين والهرمزان مبطلًا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله ، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ** ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ** أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ** فلاقوا كبّة فيها قبوع
وولّى الهرمزان على جواد ** سريع الشدّ يثفنه الجميع
وخلّى سرّة الأهواز كرها ** غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ** لها في كلّ ناحية ذخائر
سواء برّهم والبحر فيها ** إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعجّ بجانبيه ** جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستر
وفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعني سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلّال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلّا بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه. فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلّا على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك.
ثم إن حرقوصا تحرّر يوم صفّين وبقى على ذلك، وشهد النهروان مع الحروريّة.
غزو المسلمين فارس من قبل البحرين
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه.
ذكر الخبر بذلك
كتب إلي السري، يقول: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن محمد والمهلّب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها - وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز عل ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدّون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمّة والمنعة - وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أنّ بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أنّ بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم.
وكان العلاء بن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة وردّ العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردّة بالفضل؛ فلما ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة عن الدار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سرّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدّر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردّة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا؛ على أحدهما الجارود بن المعلىّ، وعلى الآخر السوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى؛ وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا؛ يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي وبأبي بكر، لم يغز فيه النبي ولا أبو بكر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين بين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم؛ وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول:
يا آل عبد القيس للقراع ** قد حفل الأمداد بالجراع
وكلّهم في سنن المصاع ** يحسن ضرب القوم بالقطّاع
حتى قتل. وجعل الجارود يرتجز ويقول:
لو كان شيئا أمما أكلته ** أو كان ماء سادما جهرته
لكنّ بحرا جاءنا أنكرته حتى قتل. ويومئذ ولى عبد الله بن السوار والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول:
يال تميم أجمعوا النزول ** وكاد جيش عمر يزول
وكلكم يعلم ما أقول
انزلوا، فنزلوا. فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها. ثمّ خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثمّ لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا. ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق؛ فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم. ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إله يعزله وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه؛ بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إنّ العلاء بن الحضرمىّ حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إلّا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية؛ فخرجوا في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، والمسالح على حالها بالأهواز والذمّة، وهم ردء للغازي والمقيم. فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له؛ حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبّ وقعة القوم بطاوس، وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذّاذ من غيرهم؛ وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم؛ استصرخوا عليهم أهل فارس كلّهم؛ فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك؛ فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا - وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة؛ وكانوا أفضل نوابت الأمصار؛ فكانوا أفضل المصرين نابتة - ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحثّ وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرّق الذين تنقّذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقّذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس؛ استأذن عمر في الحجّ، فأذن له، فلمّا قضى حجّه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنّ إلى عمله؛ فدعا الله ثم انصرف؛ فمات في بطن نخلة، فدفن؛ وبلغ عمر، فمرّ به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم؛ وأثنى عليه بفضله، ولم يختطّ فيمن اختطّ من المهاجرين؛ وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خبّاب مولاه قد لزم سمته فلم يختطّ، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم، وعمّاله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الأهواز وسرّق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجان قذق؛ وذلك بعد تنقّذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة.
وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة. وأقرّ عمر أبا سبرة ابن أبي رهم على البصرة بقيّة السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقيّة تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله؛ وكان مرزوقا السلامة؛ ولم يحدث شيئا إلّا ما كان بينه وبين أبي بكرة.
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثمّ استعمل عمر بن سراقة، ثمّ صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة؛ فعمل عليها ثانية.
ذكر فتح رامهرمز وتستر
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان فتح رامهرمز والسوس وتستر. وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف.
ذكر الخبر عن فتح ذلك في روايته
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم؛ فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكّرهم الأحقاد ويؤنّبهم؛ أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد ما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى تورّدوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحرّكوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب؛ فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث سويد بن مقرّن، وعبد الله بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلىّ؛ فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبيّنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمّر عليهم سهل بن عدىّ - أخا سهيل ابن عدىّ - وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن ابن سهيل، والحصين بن معبد؛ وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة ابن أبي رهم؛ وكلّ من أتاه فمدد له.
وخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البرّ إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلّف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثمّ سار نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ الله عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبى موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكّب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أنّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمدّه أبو سبرة فأمدّهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدّة من أهل البصرة. وفي الكوفيين مثل ذلك؛ منهم حبيب بن قرّة، وربعىّ بن عامر، وعامر بن عبد الأسود - وكان من الرؤساء - في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم؛ يكون عليهم مرّة ولهم أخرى؛ حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتدّ القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربّك ليهزمنّهم لنا! فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبى موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء؛ فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بن عبد قيس، وكعب بن سور، ومجزأة بن ثور، وحسكة الحبطىّ، وبشر كثير؛ فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بن المثعبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمىّ، ونافع ابن زيد الحميرىّ، وعبد الله بن بشر الهلالىّ، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد الله بن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا اجتمعوا فيها - والناس على رجل من خارج - كبّروا فيها، وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب؛ فاجتلدوا فيها، فأناموا كلّ مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطالف به الذين دخلوا من مخرج الماء؛ فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم! قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشّابة؛ ووالله ما تصلون إلىّ ما دام معي منها نشّابة؛ وما يقع لي سهم؛ وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدّوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم؛ فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا؛ ودعا صاحب الرميّة بها، فجاء هو والرّجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا؛ علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم. فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفلّ من تستر - وقد قصدوا للسّوس - إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان؛ حتى اشتملوا على السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب عمر إلى عمر بن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبى موسى فردّه على البصرة، وقد ردّ أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، وردّ عمر عليها مرتين؛ وكتب إلى زرّ بن عبد الله بن كليب الفقيمىّ أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمّر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بن ربيعة أحد بنى ربيعة بن مالك، وكان الأسود وزرّ من أصحاب رسول الله من المهاجرين - وكان الأسود قد وفد على رسول الله ، وقال: فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: اللهمّ أوف لزرّ عمره، فتحوّل إليهم العدد - وأوفدوا أبو سبرة وفدا؛ فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة؛ حتى إذا دخلوا هيّئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته، كما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدّدكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه - وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسّده فنام - فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدّرّة في يده معلّقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا؛ وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه؛ وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيّا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء؛ وكثر الناس؛ فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمّله، وتأمّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين الله! وقال: الحمد لله الذي أذّل بالإسلام هذا وأشياعه؛ يا معشر المسلمين، تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غرّارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شئ، فرمى عنه بكلّ شئ عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه يوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنا وإيّاكم في الجاهليّة كان الله قد خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهليّة باجتماعكم وتفرّقنا. ثم قال عمر: ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمّن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتينّ بمخرج أو لأعاقبنّك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم؛ فأسلم. ففرض له على ألفين؛ وأنزله المدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان طلحة ابن عبد الرحمن، عن ابن عيسى، قال: كان الترجمان يوم الهرمزان المغيرة بن شعبة إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسيّة، فقال عمر للمغيرة: قل له: من أي أرض أنت؟ فقال المغيرة: أزكدام أرضي؟ فقال: مهرجانىّ، فقال: تكلم بحجّتك، قال: كلام حتى أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد آمنتني، قال: خدعتني، إنّ للمخدوع في الحرب حكمه؛ لا والله لا أؤمّنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. وقال المغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خبّ، وما خبّ إلا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد فكلّمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو، عن الشعبىّ وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلّا وفاء حسن ملكة، قال: فيكف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلّا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم؛ وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم؛ ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه؛ وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شئ إلّا بانبعاثهم، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعزّ أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا. فقال: صدقتنى والله، وشرحت لي الأمر عن حقه. ونظر في حوائجهم وسرّحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجا نقذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)