« ارجع فجرّ برجله وخذه لعنكما الله. » قالوا: « ومن أنتما؟ » قالوا: « نحن المؤمنون. » ثم تنحّى فحبا حتى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب، وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتى صار إلى الموضع فنظر الديذبان عند صهاريج الحجّاج إليهم فقالوا:
« إنّهم نحو ثلاثين فارسا. » فخرج إليهم عطارد ابن شهاب العنبري وخواصّه وغلمان من شحنة البصرة والمطوّعة، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلّا من هرب قبل المعاينة، وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئا إلّا السراويلات بغير تكك ثم ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلّق الباب وجنّة الليل.
فلمّا أصبح لم ير منهم أحدا، فكتب إلى ابن الفرات - وكان هو الوزير في الوقت - يستنجده، فأمدّه بمحمّد بن عبد الله الفارقي في جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه، وجعفر الزّرنجى في نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق.
علي بن عيسى الوزير والقرامطة
فلمّا تقلّد أبو الحسن عليّ بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر في أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى، فتقدّم إليه بمكاتبته وإنفاذ الكتاب على يدي من يرى، فكتب كتابا طويلا جدّا يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول في آخره:
« إنّ أمير المؤمنين جعل كتابه هذا ظهريّا عليك وحجّة من الله بيّنة فيك، وقاطعا لعللك، وبابا يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك، وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك. » ونفذ الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبي سعيد، فتوقّفوا عن المسير وكاتبوا الوزير عليّ بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه، فتمّموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدّوا الرسالة، فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلّم فيهم الرسل، وعاد بهم الرسل إلى بغداد.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة
وفيها قبض على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجواهر ما قيمته أربعة آلاف وكان هو يدّعى أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز في ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر.
وفيها خرج الحسين بن عليّ العلوي وتغلّب على طبرستان ولقب الداعي فوجّه إليه أخو صعلوك جيشا فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
خروج الحسين بن حمدان عن طاعة السلطان وما كان من عاقبته
وفيها ورد الخبر بأنّ الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائبا قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلويّ صاحب المغرب لمّا قصد مصر في نيّف وأربعين ألفا.
فندب له الوزير عليّ بن عيسى رائقا الكبير وخلع عليه، وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مضر إذا انصرف من مصر، وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعليّ بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلال ويحفظ الثغور وخاصّة الخزرية منها. فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إيّاه وسبيهم كلّ من كان في نواحيه أمر عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة.
ولمّا صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين، فصار رائق إلى مونس واتصلت كتب عليّ بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين، فجدّ مونس في المسير، ولمّا قرب من الحسين جاءه مروان كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب، كتب بها مونس إلى عليّ بن عيسى، وذكر أنّ مروان أوصل إليه كتابا من الحسين يتضمّن خطابا طويلا قد افتتحه وختمه وكرّر القول في فصوله:
« إنّ السبب في خروجه عمّا كان عليه من الثقة والطاعة عدول الوزير - أيّده الله - عمّا كان عليه في أمره إلى ما أوحشه وأنّه لم يف له بضمانات ضمنها له. » وذكر أنّه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل، وأنّه سأل الرسول عمّا حمله الحسين من الرسالة إليه، فذكر أنّه يسأله المقام بحرّان إذ كانت تحمل عسكره، وأن يكاتب الوزير - أعزّه الله - في أمره ويسأله صرفه عمّا يتقلّده من الأعمال، وتركه مقيما في منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة، وأنّه عرّفه أنّ هذا متعذّر غير ممكن، إذ كانت كتب الوزير متّصلة إليه بالإنجذاب، وأنّ مخالفته غير جائز وأنّه لا يدع الكتاب فيما سأله، ولا يثنيه ذلك عمّا رسمه الوزير - أعزّه الله - فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان - أعزّه الله - وجحد نعمته وإن انقاد للحقّ وسلك سبيله وصار إليه فنزع عمّا هو عليه كان ذلك أشبه به، وإن أبي وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها، وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرّض لطغامه، لا لنكول عنه منه، لكن لاستهانته بأمره، وأنّه وكلّ بكاتبه هذا المترسّل عنه، وأنّه لا يأذن له في الانصراف إلّا بعد أن يعرف خبر الحسين.
ثم وردت الأخبار برحيل مونس حتى نزل بإزاء جزيرة بنى عمر ورحيل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله.
ثم انفلّ عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلا أوّلا.
وورد كتاب مونس بأنّه قد صار إليه من أقرباء الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس، وأنّه خلع على أكثرهم ونفد ما كان معه من الخلع والمال، وأنّه في احتيال باقى ما يحتاج إليه.
ثم ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه، وقبض على أملاك بنى حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد.
فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشمّاسية إلى دار السلطان مصلوبا على نقنق، منصوبا بأعلى ظهر فالح وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما، وسار بين يديه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر بالله، والوزير أبو الحسن عليّ بن عيسى، والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القوّاد والجيش والفيلة، فلمّا وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله، ثم أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحبس عندها في دار السلطان.
وشغّب الرجّالة والحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان، وأحرقوا إصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة في أرزاقهم، فزيد بكلّ غلام ثلاثة دنانير في كلّ شهر من شهورهم، وزيد الرجّالة كلّ راجل نصف وربع دينار في كلّ شهر، فسكن الشغب.
وقبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع أخوته وحبسوا في دار السلطان. وكان هرب ابن للحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه، وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان.
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة
غلام وهسوذان يقتل أحمد بن سياه
وفيها لقي بإصبهان غلام لعلي بن وهسوذان الديلم وكان يتقلّد أعمال المعاون بها أحمد بن سياه عامل الخراج بها، أنفذه صاحبه إليه في حاجة، واتفق أنّه لقيه وهو راكب، فكلّمه في الحاجة، فاشتدّ ذلك على أحمد بن سياه، وقال له:
« يا مؤاجر تخاطبني في حاجة على ظهر الطريق؟ » فانصرف الغلام إلى مولاه محفظا، وحدّثه بما جرى، فقال له:
« صدق فيما قال، ولو لا أنّك مؤاجر لضربت رأسه بالسيف لمّا خاطبك بذلك، فعاد الغلام ووجد أحمد بن سياه منصرفا فعلاه بالسيف وقتله، فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف عليّ بن وهسوذان لأجل ذلك من إصبهان بأحمد بن مسرور البلخي، فاستأذن عليّ بن وهسوذان في الانصراف إلى بلد الديلم، فأذن له، ثم سأل بعد ذلك في أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل.
وفيها قدم محمّد بن عليّ بن صعلوك مدينة السلام وهو ابن عمّ صاحب خراسان مستأمنا فخلع عليه.
زبزب على السطوح وحيلة للسلطان
وفيها في فصل الصيف تفزّعت العامّة من حيوان كانوا يسمّونه الزّبزب، ذكروا أنّهم يرونه في الليل على سطوحهم، وأنّه يأكل أطفالهم. قالوا: وربّما قطع يد الإنسان إذا كان نائما، أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصواني والهواوين ليفزّعوه.
وارتجّت بغداد لذلك، حتى أخذ السلطان حيوانا غريبا أبلق، كأنّه من كلاب الماء، وقال:
« هو الزّبزب، وإنّه صيد. » فصلب على نقنق عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوبا إلى أن مات.
فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنّه لا حقيقة لما توهّموه، فأمسكوا. إلّا أنّ اللصوص وجدوا فرصتهم بتشاغل الناس في سطوحهم، فكثرت النقوب.
الوزير يصلى على جنازة شار على أنها جنازة ابن الفرات
وفيها تقرّر عند أبي الحسن عليّ بن عيسى الوزير أنّه قد سعى لابن الفرات في الوزارة وتحققه، فاستعفى منها، ولم يعفه المقتدر، وأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات عليل شديد العلّة.
واتفق أن مات الشاري الذي كان محبوسا في دار السلطان، والتدبير في أمر الشراة أن يكتم موت من يؤخذ منهم، ممّن تسميه الشراة إماما، فإنّه ما دام حيّا فليس ينصبون إماما غيره، فإن صحّ عندهم موته نصبوا غيره.
فأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات مات، وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات، وصلّى عليه الوزير عليّ بن عيسى، ثم انصرف إلى منزله متوجّعا وقال لخواصه:
« اليوم ماتت الكتابة. » ثم مضت الأيّام ووقف عليّ بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعى لابن الفرات، وأنّه حيّ، فقال لخواصّه:
« ليس ينبغي للإنسان أن يتحدّث بكلّ ما يسمعه. »
صرف علي بن عيسى عن الوزارة
وكان يضجر في أوقات من سوء أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات، واستعفى من الوزارة ويخاطب المقتدر في ذلك، فينكر عليه استعفاءه.
إلى أن اتفق يوما أن صارت إليه أمّ موسى القهرمانة في آخر ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة لتواقفه على ما يطلق في عيد الأضحى للحرم والحاشية، وكان عليّ بن عيسى محتجبا، فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفا جميلا. فغضبت من ذلك وعلم عليّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الاثنين لثمان خلون من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة.
فكانت مدّة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
وزارة أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات الثانية
وفيها تقلّد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذي الحجّة، وخلع عليه وصار إلى داره بالمخرّم التي كان أقطعها في وزارته الأولى، وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسين محمّد بن جعفر بن ثوابة، وفي فصل منه:
« ولمّا لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برئاسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنّه الحوّل القلّب المحنّك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألّا يدع سببا من أسباب التكرمة كان قديما جعله له إلّا وفّاه إيّاه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلّا حباه به وآتاه. » فخاطبه بالتكنية وكان وكان.
وقبض ابن الفرات على أسباب عليّ بن عيسى واخوته وكتّابه وجميع عمّاله بالسواد وبالمشرق والمغرب، وصادرهم سوى أبي الحسين وأبي الحسن ابنى أبي البغل، فإنّه أقرّهما على ما كانا يتولّيانه من أعمال إصبهان والبصرة، لعناية أمّ موسى بهما. وقبض على أبي عليّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر في كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة في كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبي العبّاس وهارون ابني المقتدر في كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا.
وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه عليّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال في بيت المال لينفقه في العيد في إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق في درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى عليّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك في الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات.
وكان الغالب على أمر الدواوين والأعمال في أيّام وزارة ابن الفرات هذه من بين سائر كتّابه أبو بشر عبد الله بن فرجويه، وكان السبب في ذلك أنّه سلم من النكبة وقت القبض على ابن الفرات في الدفعة الأولى، واستتر مدّة وزارة الخاقاني وعليّ بن عيسى، وواصل بعد ما مضت سنة واحدة من وزارة عليّ بن عيسى مكاتبة ابن الفرات على يد عيسى المتطبّب، وكان ابن الفرات يجيبه عن رقاعة ويرسم له ما يكاتب به المقتدر عن نفسه، في معايب عليّ بن عيسى وكتّابه وعمّاله، وأنّه ليس يصادر أحدا من عمّاله ويقول:
« لا أخوّن عاملا بعد أن ائتمنته. » ويذكر تأخّر أرزاق الولد والحرم والحشم، حتى إنّه اقتصر بالولد والحرم على جارى ثمانية أشهر في السنة، والخدم والحشم بستّة أشهر من السنة، واقتصر بالفرسان من مائة وخمسين ألف دينار تطلق لهم في الشهر على خمسين ألف دينار.
وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع، فيعرّفه أنّ ابن فرجويه خبر بالأمور، وأنّه صادق في كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف عليّ بن عيسى، فإذا شاور مونسا في ذلك أشار عليه أن لا يفعل. ووصف عليّ بن عيسى بالديانة والأمانة.
فلمّا خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي صاحب المغرب، تمكّن ابن فرجويه من الجدّ في السعى على عليّ بن عيسى، وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن عليّ بن عيسى لمّا غاب مونس. فلمّا تبيّن ابن فرجويه دفع غريب ونصر عن عليّ بن عيسى، كتب رقعة بخطّه إلى المقتدر، يذكر فيها أنّه إن صرف عليّ بن عيسى عن الوزارة، وقلّد مكانه عليّ بن محمّد ابن الفرات، أطلق للولد والحرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يطلقه في أيّام وزارته الأولى على التمام والكمال والإدرار، وأن يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العمّال ومال مرافقهم والاستثبات في النواحي في كلّ شهر من شهور الأهلّة خمسة وأربعين ألف دينار.
فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة، فذكر أنّ جميع ما تضمّنته صحيح، وبذل خطّه بضمانه جميع ذلك. فكانت هذه الرقاع من أكبر أسباب التحاقه على ابن فرجويه في وزارته هذه واختصاصه به.
واتفق له مع ذلك أنّ ابن الفرات أودع على يده عند جماعة من التجار والكتّاب أموالا جليلة، ولم يقرّ ابن الفرات بما كان أودعه ابن فرجويه، لأنّه لم يكن يعرف أسماء من أودع ذلك عنده. فلمّا عاد إلى الوزارة استخرج له ابن فرجويه جميع ما كان أودعه له من غير أن يذهب له شيء منه.
وكان أبو عليّ بن مقلة متعطّلا في أيّام وزارة الخاقاني، وعليّ بن عيسى ملازما منزله واستتر أيّام الخاقاني، ثم آمنه عليّ بن عيسى، فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختصّ به لهذه الحال.
ذكر ما جرى من ابن أبي الساج عند تداول الوزارة الأيدى الكثيرة
لمّا وقف يوسف بن أبي الساج على الخبر في صرف عليّ بن عيسى عن الوزارة، وكان مقيما بأذربيجان ومتقلّدا أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال الصلاة والحرب والمعاون والخراج والضياع العامّة بأرمينية وأذربيجان، ومقاطعا على مال يحمله في كلّ سنة عنها إلى بيت المال بالحضرة، وكان يزيح العلّة في ذلك المال مدّة أيّام وزارة ابن الفرات الأولى. فلمّا ولى أبو عليّ الخاقاني الوزارة ثم عليّ بن عيسى، طمع فأخّر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه، واجتمع له من ذلك ما قوى به وحمله على العصيان.
ذكر ما دبره ابن أبي الساج واحتال به
أظهر أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب بالريّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة، وسار مبادرا إليها. فلمّا قرب منها انصرف عنها محمّد بن عليّ صعلوك، وهرب إلى نواحي خراسان، وكان محمّد بن عليّ هذا متغلّبا على هذه النواحي، ثم قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضا.
فلمّا وقف ابن الفرات على ما فعله ابن أبي الساج أنهى ذلك إلى المقتدر، ثم ورد كتاب ابن أبي الساج بعد أيّام يعتدّ بما فعله من إخراج محمّد بن عليّ صعلوك عن الريّ وما يليها، ويبشّر السلطان بفتحه هذه النواحي، ويصف أنّه لمّا ورد عليه العهد واللواء من جهة عليّ بن عيسى سار إليها فرزقه الله الفتح والنصر، فاغتاظ المقتدر بالله من ذلك وتقدّم إلى ابن الفرات بمواقفة عليّ بن عيسى على ما كتب به ابن أبي الساج، فأخرجه من محبسه ورفق به وخاطبه بجميل وقال له:
« قد يجوز أن تكون دبّرت بهذا الفعل على صعلوك وهذا غير منكر. » فحلف أنّه ما ولّاه ولا أنفذ إليه لواء ولا عهدا وقال:
« ولا بدّ للواء والعهد أن ينفذ مع خادم من خدم السلطان، أو قائد من قوّاده. وهؤلاء الخدم والقوّاد بين أيديكم، سلوهم عن ذلك، ولديوان الرسائل
كاتب يتقلّده بكتب العهود والولايات، سلوه هل كتب بشيء؟ » فأخذ منه ابن الفرات خطّا بما حكاه وعرضه على المقتدر بالله فازداد المقتدر غيظا على ابن أبي الساج.
وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبي الساج في هذا المعنى أغلظ كتب وتوعّده، وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحى، وضمّ إليه الرجال، وأنفذ بعده عدّة من القوّاد مددا له وأنفق الأموال فيهم.
وكان فيهم مثل محمّد بن مسرور البلخي وسيما الخزري ونحرير الصغير وجماعة أمثالهم، فواقعه ابن أبي الساج وهزمه وأسر جماعة من أصحابه وأدخلهم مشهّرين إلى الريّ.
وقدم مونس الخادم من الثغر، فندب لحرب ابن أبي الساج وشخص إليه، وكتب إلى جميع القوّاد في طريقه بالانضمام إليه واستأمن إليه أحمد ابن عليّ صعلوك فأحسن قبوله، وصرف خاقان المفلحى عمّا كان إليه من أعمال الجبل، وقلّد مكانه نحرير الصغير.
واتصلت كتب ابن أبي الساج يلتمس الرضا عنه ويبذل سبعمائة ألف دينار عن أعمال الخراج والضياع بكورة الريّ وما يليها خالصة، سوى أرزاق الأولياء في تلك الأعمال، وسوى النفقات الراتبة، فلم يجبه المقتدر بالله إلى ما التمس فكتب يبذل أن يقيم بالريّ متقلّدا أعمال المعاون والحرب بها فقط حتى ينفذ السلطان إلى تلك النواحي من يتقلّد أعمال الصلاة والخراج والضياع والأحكام والبريد والخبر والخرائط والصدقات. فأقام المقتدر على أنّه لو بذل كلّ بذل لما أقرّه على الريّ يوما واحدا لإقدامه على أن سار إليها بغير أمر.
فلمّا رأى ابن أبي الساج هذه الحال انصرف عن الريّ وأعمالها بعد أن أخربها وجبى مالها لسنة أربع وثلاثمائة في مدّة قريب، وقلّد مونس الريّ وقزوين وصيفا البكتمرّى، ورضى ابن أبي الساج بأن يجدّد له العهد والولاية للأعمال التي كانت إليه أوّلا، وأشار ابن الفرات بقبول ذلك منه وضمن أن يلزمه بهذا السبب حمل جملة من المال إلى بيت المال يحسن موقعها، فعارض ذلك نصر الحاجب وابن الحوارى وقالوا:
« لا يجوز أن يقرّ على أرمينية وأذربيجان إلّا بعد أن يرد الحضرة ويطأ البساط. » ونسبوا ابن الفرات إلى مواطأته، فأقام المقتدر على أنّه لا بدّ من محاربته، أو يرد الحضرة، وكتب إلى مونس بالتعجّل إليه لمحاربته. فلمّا رأى ابن أبي الساج أنّ دمه على خطر، حارب مونسا بسراة من بلد أذربيجان فانهزم مونس إلى زنجان، وقتل من قوّاد السلطان سيما، واستأسر ابن أبي الساج جماعة من قوّاد مونس فيهم هلال بن بدر، وأدخلهم إلى أردبيل مشهرين وأقام مونس بزنجان يجمع ليوسف، وهو مع ذلك يكاتبه ويراسله، وابن أبي الساج يلتمس منه الصلح ومونس لا يقبل منه إلّا المصير إلى الحضرة.
وكان ابن أبي الساج أبقى على مونس لمّا انهزم حتى سلم في ثلاثمائة غلام، ولو أراد ابن أبي الساج لأسره فكان مونس يشكر ابن أبي الساج على هذه الحال.
فلمّا كان في المحرّم بعد ذلك في أيّام وزارة حامد بن العبّاس واقع مونس يوسف بن أبي الساج الوقعة الأخرى بأردبيل، فأسر يوسف وبه ضربات، وانصرف به مونس إلى بغداد. فلمّا كان سنة سبع وثلاثمائة حمل يوسف بن أبي الساج على جمل من باب الشمّاسية وأدخل بغداد مشهرا، على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقّف بين يدي المقتدر، ثم حبس في دار السلطان في يد زيدان القهرمانة، ووسّع عليه ثم خلع على مونس وطوّق وسوّر وخلع على جماعة من قوّاده وزيد الرجّالة نصف دينار لكلّ واحد في الشهر.
ولمّا بعد مونس من أذربيجان وانكفأ راجعا إلى مدينة السلام ومعه يوسف بن يوداذ غلب سبك غلام يوسف عليها، فأنفذ مونس إليه محمّد بن عبد الله الفارقي وقلّده البلد، وكان في حدود أرمينية، فسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وصار إلى بغداد وتمكّن سبك من البلد. ثم كتب إلى السلطان يسأل أن يقاطع عن الناحية، فأجيب وفورق على أن يحمل في كلّ سنة مائتين وعشرين ألف دينار، وأنفذت إليه الخلع والعقد ولم يف بما ووقف عليه.
وكان مونس لمّا ظفر بيوسف بن أبي الساج وقبل انصرافه عن أذربيجان قلّد بن وهسوذان أعمال الحرب بالريّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر وسلّمها إليه وجعل أموالها له ولرجاله، وقلّد أحمد بن عليّ صعلوك أعمال المعاون بإصبهان وقم وجعل مال الخراج والضياع بقم وساوة له ولرجاله، مبلغه في كلّ سنة أكثر من مائتي ألف دينار.
ثم وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو معه مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب في الوقت إلى بلده وكان أحمد بن عليّ أخو صعلوك مقيما بقم، فسار منها إلى الريّ ودخلها فأنكر عليه السلطان فعله، وقلّد وصيف البكتمرى أعمال عليّ بن وهسوذان وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج والضياع وكوتب أحمد بن عليّ بالانصراف إلى قم، ففعل.
ثم جرت بينه وبين محمّد بن سليمان وحشة، فأظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج والضياع عن قم، وأخذ في الاستعداد للمسير إلى الريّ.
وكوتب نحرير الصغير وهو متقلّد همذان بالمسير إلى الريّ والاجتماع مع وصيف البكتمرى ومحمّد بن سليمان على دفع أحمد بن عليّ. وسار أحمد بن عليّ إلى باب الريّ فواقعوه، وانهزم وصيف ونحرير إلى همذان، وقتل محمّد بن سليمان في الوقعة، وحصلت الريّ في يد أحمد بن عليّ، فشرع في إصلاح ما بينه وبين السلطان وعنى به نصر الحاجب فقاطع عن عمال الخراج بالريّ ودنباوند وقزوين وزنجان وو أبهر على مائة وستّة وستين ألف دينار محمولة في كلّ سنة إلى الحضرة، وقلّد الناحية، وقلّد محمّد بن خلف النيرمانى الضياع بهذه النواحي وأخرج أحمد بن عليّ عن قم فقلّد من نظر فيها.
ونعود إلى حديث ابن الفرات.
لمّا تبيّن الوزير أبو الحسن ابن الفرات عداوة نصر الحاجب وأبي القاسم ابن الحوارى وشفيع اللؤلؤي ونسبهم إيّاه إلى مواطأة ابن أبي الساج على العصيان عاداهم ومنعهم أكثر حوائجهم وصرف نصرا وشفيعا عن أكثر أعمالهم.
وكان ابن الفرات قلّد أبا عليّ ابن مقلة كتابة نصر الحاجب، ثم استوحش أبو عليّ ابن مقلة من ابن الفرات لأجل استخدامه سعيد بن إبراهيم التستري فذكر لنصر أنّ ابن الفرات قد استخرج من ودائعه التي سلمت له خمسمائة ألف دينار بعد أن حلف في وقت نكبته أنّه ما بقيت له وديعة لم يقرّ بها، فذكر نصر للمقتدر ذلك ليغيظه على ابن الفرات وغرّ نصر وابن الحوارى أبا عليّ ابن مقلة وأطمعاه في الوزارة ليستخرجا ما عنده من أخبار ابن الفرات التي يضرّبون بها المقتدر عليه، حتى ظهر الأمر في ذلك واشتهر وكثرت به الأراجيف، فذهب أبو الخطّاب ابن أبي العبّاس ابن الفرات إلى عمّه فشرح له ما يتحدّث به الناس فقال له:
« إن شككت في أبي عليّ ابن مقلة مع تربيتي له ورفعي منه شككت في ولدي وفيك. » ثم تبيّن ابن الفرات بعد ذلك صحة ما نسب إلى ابن مقلة وأطلع أبا عليّ ابن مقلة على بعض ما وقع إليه من الخوض في أمره على طريق التعجّب ليصرفه عمّا شرع فيه، فاستوحش أبو عليّ منه وخاف معاجلته إيّاه بالنكبة، فجدّ في السعى عليه واعتصم بنصر الحاجب.
ودخلت سنة خمس وثلاثمائة ورود رسولين لملك الروم بهدايا وألطاف كثيرة التماسا للهدنة
وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة يلتمسان الهدنة.
وكان دخولهما يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرّم، فأنزلا في دار صاعد بن مخلد، وتقدّم أبو الحسن ابن الفرات بأن يفرش لهما ويعدّ فيه كلّ ما يحتاجان إليه من الآلات والأوانى وجميع الأصناف، وأن يقام لهما ولمن معهما الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة، حتى يتّسع بذلك كلّ من معهما، والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله ليبلّغاه الرسالة التي معهما.
فأعلما أنّ ذلك معتذّر صعب لا يجوز إلّا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيما قصد إليه وتقرير الأمر معه والرغبة إليه في تسهيل الإذن على الخليفة والمشورة عليه بالإجابة إلى ما التمسا.
فسأل أبو عمر عديّ بن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الإذن لهما في الوصول إليه فوعده بذلك في يوم ذكره له.
وتقدّم الوزير بأن يكون الجيش مصطفّا من دار صاعد إلى الدار التي أقطعها بالمخرّم، وأن يكون غلمانه وحده وخلفاء الحجّاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه، وبسط له في مجلس عظيم مذهّب السقوف في دار منها يعرف بدار البستان بالفرش الفاخر العجيب، وعلّقت الستور التي تشبه الفرش واستزاد في الفرش والبسط والستور ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار، ولم يبق شيء تجمّل به الدار ويفخّم به الأمر إلّا فعل، وجلس على مصلّى عظيم من ورائه مسند عال والخدم بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله، والقوّاد والأولياء قد ملأوا الصحن، ودخل إليه الرسولان فشاهدوا في طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما.
ولمّا دخلا دار العامّة أجلسهما الحاجب في رواقها والرجال قد امتلأت بهم الدار، ثم أخذ بهما في ممرّ طويل من وراء هذا الرواق حتى أخرجهما إلى صحن البستان، ثم عدل بهما إلى المجلس الذي كان الوزير جالسا فيه، فشاهدا من بهاء المجلس والفرش الذي فيه وكثرة الجمع منظرا عجيبا جليلا.
وكان معهما أبو عمر بن عبد الباقي يترجم عنهما ولهما.
وحضر نراد بن محمّد صاحب الشرطة في جميع رجاله فأقيما بين يدي الوزير أبي الحسن ابن الفرات، فسلّما وترجم لهما، ابن عبد الباقي ما قالا فأجابهما بما ترجمه لهما ورغبا إليه، في إيقاع الفداء ومسألة المقتدر بالله الإجابة إليه فأعلمهما أنّه يحتاج إلى مخاطبته فيما ذكراه، ثم العمل فيه بما يرسمه، والتمسا منه إيصالهما إليه فوعدهما به.
وأخرجا من بين يديه وأخذ بهما في الطريق الذي دخلا منه وعادا إلى دار صاعد والجيش منتظم طول الطريق بأحسن زيّ وأكمل هيأة. وكان زيّهما دراريع ديباج ملكيّة ووقايات وفوق الوقايات قلانس ديباج محدودة الرؤوس.
وخاطب ابن الفرات المقتدر بالله في إيصالهما إليه، وواقفه على ما يجيبهما به، وتقدّم إلى سائر الأولياء والقوّاد وسائر أصناف الجند بالركوب إلى دار السلطان، وأن يكونوا منتظمين للظهر من دار صاعد إلى دار السلطان.
فركبوا ووقفوا في الطريق على هذا الترتيب في الزيّ الحسن والسلاح التامّ، وتقدّم بأن تشحن رحاب الدار والدهاليز والممرّات بالرجال والسلاح وأن يفرش سائر القصر بأحسن الفرش ولم يزل يراعى ذلك حتى فرغ من جميعه.
ثم أنفذ إلى الرسولين بالحضور، فركبا إلى الدار على الظهر وشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرته وحسن زيّه وتكامل عدّته أمرا عظيما، ولمّا وصلا إلى الدار أخذ بهما في ممرّ يقضى إلى صحن من تلك الصحون، ثم عدل بهما إلى ممرّ آخر، وأخرجا منه إلى صحن أوسع من الأوّل، ولم تزل الحجّاب يخترقون بهما في الصحون والممرّات حتى كلّا من المشي وانبهرا.
وكانت تلك الصحون والممرّات محشوّة بالغلمان والخدم.
إلى أن قربا من المجلس الذي فيه المقتدر بالله والأولياء وقوف على مراتبهم، والمقتدر جالس على سرير ملكه، وأبو الحسن ابن الفرات واقف بالقرب منه، ومونس الخادم، ومن دونه من الخدم وقوف عن يمينه ويساره.
فلمّا دخلا إلى المجلس قبّلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما نصر الحاجب، وأدّيا إليه رسالة صاحبهما في الفداء، ورغبا إليه في إيقاعه فأجابهما الوزير عنه بأنّه يفعل ذلك رحمة للمسلمين ورغبة في فكّهم وإيثارا لطاعة الله عز وجل وخلاصهم، وأنّه ينفذ مونسا لحضور ذلك.
ولمّا خرجا من حضرته خلع عليهما مطارف خزّ مذهّبة وعمائم خزّ، وخلع على أبي عمر أيضا وانصرف على الظهر معهما والجيش على حاله منتظم للفداء.
فتأهّب لذلك وابتيع من التمس الرسل ابتياعه من الروم المطلوبين وأطلق له وللقوّاد الشاخصين معه من بيت المال بالحضرة مائة ألف وسبعون ألف دينار. وكتب إلى العمّال في طريقه بإزاحة علّته فيما يلتمسه، وحمل إلى كلّ واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما، وخرجا مع مونس ومعهما أبو عمر وتمّ الفداء في هذه السنة على يد مونس.
وفيها أطلق أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته من الحبس في دار السلطان وخلع عليهم خلعة الرضا.
وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنوي، وكان متقلّدا أعمال الحرب والمعاون بديار مضر، فقلّد مكانه وصيف البكتمرى فلم يضبط العمل فقلّد مكانه جنّى الصفواني فضبطه أحسن ضبط.
ودخلت سنة ست وثلاثمائة
القبض على ابن الفرات وانتهاء وزارته الثانية
وفيها قبض على الوزير أبي الحسن ابن الفرات وكانت مدّة وزارته هذه الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب الظاهر في صرف ابن الفرات عن وزارته هذه الثانية، أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان الذين مع القوّاد واحتجّ بضيق الأموال، لأجل ما احتيج إليه من صرفها إلى محاربة ابن أبي الساج، وأيضا لأجل نقصان الارتفاع بأخذ يوسف مال الريّ، فشغب الفرسان في أوّل سنة ستّ وثلاثمائة شغبا عظيما، وخرجوا إلى المصلّى. والتمس ابن الفرات من المقتدر بالله إطلاق مائتي ألف دينار من بيت مال الخاصّة ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق في الفرسان، فغلظ ذلك على المقتدر وراسله بأنّه قد كان ضمن له أن يقوم بسائر النفقات على رسمه كان في وزارته الأولى، وبحمل ما ضمن حمله إلى حضرته مفردا، وأنّه لم يظنّ أنّه يقدم عليه بطلب مال. فاحتجّ ابن الفرات بما ذكرته فلم يسمع حجّته وتنكّر له.
وكان عبد الله بن جبير لمّا أقام في وزارة عليّ بن عيسى بواسط، وقد عرف مقدار ارتفاع أعمالها وما يحصل لحامد بن العبّاس من الفضل على الضمان، شرح ذلك لابن الفرات وبيّن له وجوهه لمّا عاد إلى بغداد وعند عوده إلى مجلس الأصل في ديوان السواد. فعظم ذلك في نفس ابن الفرات. فلمّا أتى على ذلك مدّة استأذن ابن جبير ابن الفرات في أن يكاتب حامدا في بعض ما كان أنهاه إليه من ضمان حامد، فأذن له فيه إذنا ضعيفا فكتب من مجلسه - وهو مجلس الأصل في ديوان الخراج - إلى حامد وأجاب حامد وتردّدت بينهما مكاتبات في هذا المعنى.
وتبع ذلك كتب بشر بن عليّ، وهو خليفة حامد، يعتب على ابن جبير لما كان يتكلّم به في مجلسه، فاستوحش حامد من ذلك وتخوّف أن يكون ما يظهره ابن جبير عن مواطأة الوزير ابن الفرات ولشيء قد عرفه من نيّته، فأنفذ من يسفر له في الوزارة ويخاطب له نصرا الحاجب، فسعى له في ذلك وعرّف نصر سعة نفس حامد وضمن له تصحيح أموال جليلة من جهة ابن الفرات وأسبابه، وراسل أيضا السيّدة في هذا الباب.
ووافق ما سعى له فيه وما بذله له سوء رأي نصر في ابن الفرات وتخوّفه منه والإضافة التي عرضت في الوقت حتى طلب ما طلب، فتمّ لحامد ما قدّره بما اجتمع من هذه الأحوال. فروسل حامد بالخروج إلى الحضرة من واسط وأن يكتب كتابا بخروجه إلى أجنحة الطير.
فلمّا وقف عليه المقتدر أنفذ نصرا الحاجب وشفيعا المقتدري فقبضا على ابن الفرات وعلى ابنه المحسّن وموسى بن خلف وعيسى بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري وأمّ ولد له وابنها منه، وحملوا إلى دار السلطان فاعتقل أبو الحسن ابن الفرات وحده في يد زيدان القهرمانة واعتقل الباقون في يد نصر.
ووصل حامد إلى مدينة السلام وأقام ليلته في دار الحجبة من دار السلطان، وتحقّق به أبو القاسم ابن الحوارى. وجلس حامد يتحدّث، فبان للقوّاد وجميع خواصّ المقتدر حدّته وقلّة خبرته بأمر الوزارة.
وحدّث المقتدر بذلك فاستدعى أبا القاسم ابن الحوارى وعاتبه على مشورته به، فوصفه ابن الحوارى باليسار العظيم وباستخراج الأموال وهيبته عند العمّال ونبل النفس وكثرة الغلمان. وكان مع حامد لمّا قدم أربعمائة غلام يحملون السلاح فيهم عدّة يجرون مجرى وجوه القوّاد وأكابر أصحاب السلطان.
وأشار ابن الحوارى على المقتدر في عرض كلامه بإطلاق عليّ بن عيسى وتقليده الدواوين بأسرها ليخلف حامدا عليها فامتنع المقتدر من ذلك إلّا بعد أن يلتمسه حامد منه، فاحتال ابن الحوارى على حامد وقال له:
« التمس ذلك من المقتدر إذا وصلت إلى حضرته وعظّم عليه أمر الأعمال والدواوين وحوائج الحاشية وخوّفه من سوء أدبهم وصوّر لحامد أنّه إن لم يفعل ذلك فعل مراغمة له. » وحلف أنّه ناصح له. فلمّا وصل حامد إلى المقتدر بالله وتقلّد وزارته قبّل الأرض بين يديه، وبعقب ذلك سأله إطلاق عليّ بن عيسى والإذن له في استخلافه على الدواوين والأعمال.
فقال له المقتدر بالله:
« ما أحسب عليّ بن عيسى يجيب إلى ذلك ولا يرضى أن يكون تابعا بعد أن كان متبوعا رئيسا. » فقال حامد بحضرة الناس:
« لم لا يستجيب إلى ذلك وإنّما مثل الكاتب مثل الخيّاط يخيط ثوبا قيمته ألف دينار ويخيط ثوبا بعشرة دراهم. » فضحك الناس منه.
وزارة حامد بن العباس
ولمّا خلع على حامد خلع الوزارة صار إلى دار الوزارة بالمخرّم، فنزلها وجلس فيها للتهنئة ولم يقرّر شيئا من الدواوين فتركها مختومة ذلك اليوم، وتحقّق به أبو عليّ بن مقلة واختصّ به واستحضر حامد أبا عبد الله زنجيّ الكاتب فألزمه داره وردّ إليه مكاتبة العمّال عنه على رسمه مع ابن الفرات.
وتحقّق بجميع الأمور ابن الحوارى وصار هو السفير بين حامد وبين المقتدر بالله، وكتب عن المقتدر إلى جميع أصحاب الأطراف وعمّال المعاون بخبر تقليده حامدا الوزارة، أنشأ ذلك أبو الحسن محمّد بن جعفر بن ثوابة.
ثم قرّر حامد وعليّ بن عيسى أمر الدواوين على اتفاق منهما جميعا ثم ابتدأ بعد ذلك يغيّر ما رأى تغييره.
وكان عليّ بن عيسى في أوّل أيّام وزارة حامد بن العبّاس يحضر دار حامد في كلّ يوم دفعتين مدّة شهرين، ثم صار يحضر في كلّ أسبوع دفعة واحدة ثم سقطت منزلة حامد عند المقتدر بالله أوّل سنة سبع وثلاثمائة وتبيّن هو وخواصّه أنّه لا فائدة في الاعتماد عليه في شيء من الأمور، فتفرّد حينئذ أبو الحسن عليّ بن عيسى بتدبير سائر أمور المملكة، وأبطل حامدا فصار لا يأمر في شيء بتّة حتى قيل فيه:
هذا وزير بلا سواد ** وذا سواد بلا وزير
فلمّا رأى حامد بن العبّاس نفسه لا يأمر ولا ينهى ولا يزيد على لبس السواد والركوب في أيّام المواكب إلى دار السلطان، فإذا حضر لم يدخله المقتدر في شيء من التدبير، وكان الخطاب كلّه مع عليّ بن عيسى، شرع في تضمّن أعمال الخراج والضياع والخاصّة والعامّة المستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة بالسواد والأهواز وإصبهان، وتردّدت بينه وبين عليّ بن عيسى في ذلك بحضرة المقتدر مناظرات إلى أن تضمّن هذه الأعمال.
فضمّن حامد أبا عليّ أحمد بن محمّد بن رستم إصبهان بزيادة مائة ألف دينار في كلّ سنة على ما كان يرتفع به على يده ويد ابن أبي البغل ويد أحمد بن سياه، ولمّا زال ضمان حامد عقد عليّ بن عيسى على أبي عليّ ابن رستم إصبهان بهذه الزيادة ثم شرح أبو الحسين ابن أبي البغل عظيم ما يرتكب أبو عليّ ابن رستم من الظلم لأهل إصبهان، فبحث عنه عليّ بن عيسى حتى تحقّقه، فاستشار ابن أبي البغل فأشار بعقد الضمان على صاحبين له كانا يتولّيان له بإصبهان مدّة تقلّده إيّاها وهما أبو مسلم محمّد بن بحر وأبو الحسين أحمد بن سعد. فعقد ذلك عليهما بثمانين ألف دينار زيادة وحطّ من جملة المائة الألف عشرين ألفا، ليكون في ذلك ترفيه للرعيّة، وسلّم إليهما ابن رستم.
ولمّا تبيّن حامد اتّضاع حاله عند المقتدر ورأى أنّه لا يأمر ولا ينهى في شيء من أمر المملكة استأذن في العود إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل، فأذن له المقتدر في ذلك وأقام بواسط وله اسم الوزارة فقط.
ذكر ما عامل به حامد بن العباس علي بن محمد بن الفرات وأسبابه
ركب حامد بن العبّاس وعليّ بن عيسى ثالث يوم تقلّد حامد الوزارة إلى المقتدر ووصل الناس ووصلا إليه، والتمس حامد الإذن لرجل من الجند وذكر أنّه وجده قبل تقلّده الوزارة وأقرّ له بأنّه كان رسول ابن الفرات إلى يوسف بن أبي الساج في العصيان، فأحضره كتابا منسوبا إلى ابن أبي الساج من ابن الفرات فغلظ ذلك على المقتدر واغتاط على ابن الفرات وأقبل على أبي عمر القاضي وقال له:
« ما عندك في هذا الفعل من ابن الفرات؟ » قال له:
« يا أمير المؤمنين لئن صحّ أنّه أقدم على هذا الفعل لقد سعى في إفساد أمر المملكة. » ثم أقبل بعده على أبي جعفر ابن البهلول القاضي فقال له:
« ما عندك في هذا؟ » قال له:
« عندي أنّ الله عز وجل قد أمر بالتثبّت ونهى عن قبول قول الفاسق. » ثم ناظر ابن البهلول الرجل مناظرة أدّت إلى أنّه كذب، فأقرّ الرجل بالكذب فيما ادّعاه فسلّم الرجل إلى صاحب الشرطة وأمر بضربه مائة سوط، فضرب وحبس في المطبّق ثم نفى إلى مصر.
ثم إنّ حامدا وعليّ بن عيسى أحضرا أبا عليّ الحسين بن أحمد المادرائى مناظرة ابن الفرات في دار السلطان، فكاشف الحسين بن أحمد المادرائى ابن الفرات بأنّه حمل إليه في وزارته الأولى أربعمائة ألف دينار من مال المرافق بأجناد الشام وإنّ أبا العبّاس بن بسطام وأبا القاسم ابنه بعده حملا إليه ثمانمائة ألف دينار من مال الاستثناء والمرافق بكور مصر حسابا في كلّ سنة مائتي ألف دينار.
وحضر المناظرة القضاة والكتّاب وجلس المقتدر بحيث يسمع ما يجرى ولا يراه أحد واحتجّ ابن الفرات بأن قال:
« إنّ هذا العامل قد تولّى أعمال مصر والشام في أيّام وزارة عليّ بن عيسى وقد اعترف بأنّ هذه أموال واجب استخراجها وادّعى أنّه حمل بعضها إليّ حيث كان متقلّدا أعمال أجناد الشام وأنّ ابني بسطام حملا إليّ ما ذكره. » وقد ولى عليّ بن عيسى الوزارة مدّة أربع سنين وليس يخلو هذا المال من أن يكون حمله إلى عليّ بن عيسى فهو واجب عليه أو لم يحمله فهو واجب على هذا العامل في نفسه.
ثم قد اعترف أنّه قد جبى في أيّام وزارتي الأولى ما قال وهو أربعمائة ألف دينار وادّعى حملها إليّ فصار مقرّا على نفسه ومدّعيا عليّ وأنا أقول إنّه كاذب في ادّعائه عليّ وحكم الله تعالى ورسوله والفقهاء معروف في أمثاله. فأسمعه حامد ما يكره وشتمه شتما قبيحا، فقال له ابن الفرات:
« أنت على بساط السلطان وفي دار المملكة وليس هذا الموضع ممّا تعرفه من بيدر تقسمه ولا هو مثل أكّار تشتمه ولا عامل تلاكمه. » ثم أقبل على شفيع اللؤلؤي وقال له:
« يجب أن تكتب عني بما أقوله إلى مولانا، أيّده الله: إنّ حامدا إنّما حمله على الدخول في الوزارة وليس من أهلها أنّى أوجبت عليه أكثر من ألف ألف دينار من فضل ضمانه أعمال واسط وجدّدت في مطالبته بها فقدّر بدخوله في الوزارة أن يفوز بذلك الفضل وبما يحصّله مستأنفا وقد كان ينبغي له وهو وزير أمير المؤمنين أن يدع ضمان أعمال واسط حتى يتبيّن أمربح هو أم مخسر فيدبّره أبو الحسن عليّ بن عيسى فإنّه لا يشكّ أحد في بعد ما بينه وبين حامد في الصناعة والاحتياط، فأمّا وهو وزير وهو ضامن فهذا أوّل خيانته واقتطاعه. » فأمر حامد بن العبّاس أن تنتف لحيته فلم يمتثل أحد أمره، فوثب هو بنفسه إليه وجذب لحيته.
وكان الخطاب قد انتهى أن بذل الحسين بن أحمد المادرائى خطّه بخمسمائة ألف دينار سلّم إليه ابن الفرات، وكان ذلك قبل شتيمة حامد له ومدّ يده إلى لحيته. وكان حامد أحضر أبا عليّ ابن مقلة وواقفه على أن يواجه ابن الفرات بأنّه قد استخرج من ودائعه التي كتمها في وزارته خمسمائة ألف دينار فلم يبرز أبو عليّ صفحته لابن الفرات وراسله حامد في المجلس أن يفي بوعده ويوافقه في وجهه فقال أبو عليّ:
« أنا أكتب خطّى بذلك فأمّا أن أواجه ابن الفرات فلا أفعل. » فغلظ ذلك على حامد وتنكّر لابن مقلة منذ هذا اليوم.
وكان عليّ بن عيسى لا يزيد على أن يكلّم ابن الفرات في مواضع الحجّة بكلام جميل وحامد مشغول بالسفه والشتم. وكان ابن الحوارى يرى ابن الفرات أنّه متوسّط بينه وبين حامد وتبيّن في خطابه أنّه متحامل على ابن الفرات ولمّا سمع المقتدر شتم حامد لابن الفرات ووقف على مدّ يده إلى لحيته أنفذ خادما أقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبسه، فقال عليّ بن عيسى وابن الحوّارى لحامد:
« قد جنيت علينا بما فعلته بابن الفرات. » وكان الحسين بن أحمد المادرائى بعد مكاشفته لابن الفرات قال له:
« إن تأدّى إلى المصادرة تحمّلت عنك خمسين ألف دينار. » فلمّا خرج من المجلس قال له نصر الحاجب وعليّ بن عيسى وابن الحوارى:
« دخلت لتناظر الرجل فلم تبرح حتى بذلك له مرفقا وصانعته. » فقال لهم:
« أدخلتمونى إلى رجل قال لي بعضكم لمّا دخلت إليه: أنظر لمن تخاطب. وقال آخر: أنظر بين يديك. وقال آخر: الله الله في نفسك. فلم أجد شيئا أقرب إلى الصواب ممّا فعلته بعد أن سمعت كلامه. » فمن جميل ما عمله ابن الفرات أنّه لمّا تقلّد بعد هذا الوقت الوزارة وهي وزارته الثالثة قبض على ابن الحسين بن أحمد المادرائى وهو أكبر أولاده فأخذ خطّه بخمسة وعشرين ألف دينار كانت واجبة عليه من مال السلطان ولم يطالبه بها واعتقله إلى أن وافى أبوه الشام، فذكّره ابن الفرات ما كان بذله من الخمسين الألف الدينار التي تحمّلها عنه وقال له:
« قد كنت مخيّرا أن تفعل وأن لا تفعل وإنّما وعدت وعدا وهذه رقعة بخطّ ابنك بخمسة وعشرين ألف دينار وهي واجبة عليه حاصلة قبله ولا حجّة له ولا لك فيها وقد رددتها عليك مكافأة لك على ما بذلت.
وقد كان أنفذ أبو أحمد بن حمّاد لمناظرة ابن الفرات بحضرة شفيع اللؤلؤي وغيره فافتتح ابن حمّاد الخطاب بأن قال:
« إنّ الوزير والرئيس أدام الله عزّهما يقولان لك: أصدق نفسك فقد وصل إليك من ضياعك وغلّاتك في كلّ سنة ألف ألف ومائتا ألف دينار ومن وجوه ارتفاقاتك مثلها وهذا مال عظيم، فاكتب خطّك بألف ألف دينار معجّلة تقدّمها إلى أن ينظر في أمرك حتى تسلم نفسك وإلّا سلّمت إلى من يعاملك بما يعامل به مثلك من الخونة الذين دبّروا على المملكة فقد صحّ عند السلطان أنّك كاتبت ابن أبي الساج وأمرته بالعصيان. » فقال له ابن الفرات:
« قد كان ينبغي أن يشغلك أمرك وما عليك في نفسك عن تحمّل الرسائل قد تصرّفت لعلي بن عيسى أربع سنين واقتطعت أموالا، فلمّا نظرت في الأمر استترت عني وكتبت إليّ من تصرّف مكانك باستدراكات عليك وارتفاقات لك كثيرة والكتب بأعيانها في ديوان السلطان محفوظة. » فأقبل شفيع على ابن حمّاد فقال له:
« لست من رجال ابن الفرات، فقم إلى ابنه المحسّن فناظره. » فقام وأخذ خطّ المحسّن بثلاثمائة ألف دينار. ثم ناظر موسى بن خلف وسأله عن ودائع ابن الفرات وأمواله فقال له موسى:
« ما له عندي وديعة ولا أعرف أخبار ودائعه ولا له على يدي مال ولا وليت له عملا سلطانيا وإنّما كنت أنظر في نفقات داره. » وكان موسى ابن خلف شيخا كبيرا قد أتت عليه نحو تسعين سنة وكان مع ذلك عليلا به ذرب لا فضل فيه للمكروه فشتمه ابن حمّاد. وكان يتردّد بعد ذلك إلى أصحاب ابن الفرات ويناظرهم فلا يرتفع له شيء. وكان علّق المحسّن بفرديد من حبل الستارة فلم يصح له من جهته شيء. فلمّا رأى ذلك استعفى منهم فأعفى وأحضر حامد موسى بن خلف فقال له:
« دلّ على أموال ابن الفرات فإنّك تعرفها ولا تحوج إلى مكروه يقع بك. » فقال له: « أحلف بما شئت من الأيمان إني لا أعرف شيئا من ودائعه. » فأمر بصفعه فصفع إلى أن سأل عليّ بن عيسى فيه وأشار إلى الغلمان بالكفّ. ثم عاوده حامد بالمكروه مرّات حتى أحضره ليلة بين يديه وضربه حتى مات تحت الضرب فقيل له:
« إنّه قد تلف. » فقال: « اضربوه. » فضرب بعد موته سبعة عشر [ سوطا ] فلمّا علم بموته أمر بجرّ رجله، فجرّ وتعلّقت أذنه في رزّ عتبة الباب فانقلعت وحمل إلى منزله ميتا.
واستحسن من فعل موسى بن خلف ووفائه أنّه كان يقف على أموال مودعة لصاحبه عند جماعة فلم يقرّ عليه إلى أن تلف.
وأحضر حامد المحسّن وطالبه فذكر المحسّن أنّه لا يقدر على أكثر من عشرين ألف دينار فأمر بصفعه فصفع فرأى على رأسه شعرا كثيرا فقال:
« هذا لا يتألم بالصفع، هاتوا من يحلق شعره. » فأخرج من بين يديه فحلق شعره ثم أعيد إليه فصفعه حتى كاد يتلف وذلك بين أيدى جماعة كثيرة، فشفع إليه عليّ بن عيسى وسأله أن يقتصر منه على خمسين ألف دينار، فحلف أنّه لا يقنع منه بدون سبعين ألف دينار، فبذل خطّه بها وألبسه جبّة صوف وعذّبه ألوانا ثم سلّمه إلى أبي الحسن الثعبانى فأدّى ستين ألف دينار بعد أن استماح الناس وأسعفه عليّ بن عيسى بعشرة آلاف درهم وأقام شهورا كثيرة يستميح الناس حتى صحّح ما بذل خطّه به وكثرت الشفاعات فيه فردّه حامد إلى منزله.
وجهد حامد في أن يسلّم إليه ابن الفرات فقال المقتدر:
« أنا أسلّمه إليك وأوكّل به خادما يحفظ نفسه. » فقال حامد:
« إذا علم ابن الفرات أنّه يحرس من المكروه تماتن. » فقال المقتدر:
« أنا أسلّمه إلى عليّ بن عيسى أو إلى شفيع اللؤلؤي فإني أثق بهما. » وكان المقتدر يروّى في أمر ابن الفرات فتارة تشره نفسه إلى المال وتارة يكره أن يتلف في يد حامد. فعرفت زيدان القهرمانة هذه الحالة من المقتدر وأعلمتها ابن الفرات، فأظهر ابن الفرات أنّه رأى أخاه أبا العبّاس في النوم ووصّاه وقال له:
« أدّ المال فإنّ القوم ليس يريدون نفسك وإنّما يريدون مالك. » وأنّه قال:
« قد أدّيت إليهم جميع مالي. » وأنّ أخاه أجابه بأن قال:
« لم تؤد إليهم المال الفلاني. » فقلت: « إنّ معظم ذلك لورثتك. » فقال: « أدّه فإنّا جمعناه من أسلافهم وادّخرناه لمثل هذا اليوم. »
ثم كتب إلى تاجرين بحمل ما عندهما وهو سبعمائة ألف دينار إلى حضرة المقتدر. وكتب إلى أبي بكر ابن قرابة بشيء آخر وإلى ابن إدريس الحمّال بشيء آخر، فأنفذ المقتدر رقاعة إلى حامد وعليّ بن عيسى فغلظ ذلك عليهما ويئسا معهما من تسلّم ابن الفرات وقال عليّ بن عيسى وابن الحوارى لحامد:
« أيّ شيء عندك فيما فعله ابن الفرات؟ » فقال حامد:
« هذا من إقبال مولانا أمير المؤمنين. » فقال له عليّ بن عيسى:
« هذا لا شكّ فيه كما قال الوزير، أيّده الله، ولكن ما أشكّ أنّ ابن الفرات ما فعل هذا حتى توثّق بنفسه ولا سمح بهذا المال العظيم عفوا بغير مكيدة وقد كان يجوز أن يقنع منه ببعضه إلّا لشروعه في تضمّن أنفسنا وأحوالنا. » فقال حامد وابن الحوارى:
« هذا لا شكّ فيه. » ثم تشاغل حامد وعليّ بن عيسى باستحضار من عليه المال وأوصلوا إليهم رقاع ابن الفرات فاعترفوا بحصّته سوى ابن قرابة فإنّه قال في عشرة آلاف دينار كان أودعه إيّاها:
« قد كان أودعنى هذا المال ثم ابتاع مني في أوّل سنة ستّ وثلاثمائة عنبرا ومسكا كثيرا أهدى أكثره إلى المقتدر بالله واليسير منه لنفسه ومعي توقيعاته بخطّه بتواريخ أوقاته. » واستدعى أن يجمع بينه وبين ابن الفرات فأنفذه حامد إلى دار السلطان وأوصله مفلح إلى ابن الفرات حتى ذكر له ذلك فصدّقه وقال له:
« لا تلمني على ما كتبت به فقد كنت أنسيت ما جرى فيه ولعمري لقد كنت جعلت مال الوديعة محسوبا لك في ثمن العطر. » وكتب ابن الفرات خطّه بصحة ما قاله ابن قرابة فسلّمت الدنانير لابن الفرات وكان هذا الفعل من ابن قرابة أوكد أسباب تحقّقه فيما بعد ذلك بابن الفرات. وقد كان ابن الفرات أودع القاضي أبا عمر مالا لابنه الحسن بن دولة فلحقت أبا عمر رهبة شديدة من حامد لبسطه يده على القضاة والشهود فاعترف أبو عمر القاضي أنّ لابن الفرات عنده وديعة لمّا سأله حامد هل عنده وديعة. فأمر بإحضاره فأحضره وأدّاه وبلغ ذلك ابن الفرات فتنكّر لأبي عمر.
فحكى أنّ أبا بكر ابن قرابة قال: لمّا خلع على ابن الفرات للوزارة الثالثة كنت أوّل من لقيه في دهليز الحجبة المتصل بباب الخاصة فقال:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)