ذكرها فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم، وتقدم إليهم في المضي لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على من لقوا من العرب، والعرجة على إصابة مال. ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارون، وقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيتهم. ثم قطع البحر في أصحابه، فورد الخط، واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء، ولا يعرج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكًا سالت كسيل المطر؛ حتى كان الهارب منهم يرى أنه لن ينجيه منه غارٌ في جبل، ولا جزيرة في بحر؛ ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم، فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب إلا عوره، ولاجب من جبابهم إلا طمه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر، ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياهم، وإنه أسكن من من بنى تغلب من البحرين دارين - واسمهما هيج - والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر أبان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز. وإنه أمر فبنيت بأرض السواد مدينة وسماها، بزرج سابور - وهي الأنبار - وبأرض الأهواز مدينتان: إحداهما إيران خره سابور، وتأويلها سابور وبلاده، وتسمى بالسريانية الكرخ، والأخرى السوس؛ وهي مدينة بناها إلى جانب الحصن الذي في جوفه تابوت فيه جثة دانيال النبي عليه السلام. وإنه غزا أرض الروم فسبى منها سبيًا كثيرًا، فأسكن مدينة إيران خره سابور، وسمتها العرب السوس بعد تخفيفها في التسمية. وأمر فبنيت بباجرمى مدينة سماها خنى سابور وكور كورة، وبأرض خراسان مدينة، وسماها نيسابور وكور كورة. وإن سابور كان هادن قسطنطين ملك الروم وهو الذي بنى مدينة قسطنطينية، وكان أول من تنصر من ملوك الروم، وهلك قسطنطين، وفرق ملكه بين ثلاثة بنين، كانوا له، فهلك بنوه الثلاثة، فملكت الروم عليهم رجلًا من أهل بيت قسطنطين يقال له لليانوس، وكان يدين بملة الروم التي كانت قبل النصرانية، ويسر ذلك ويظهر النصرانية قبل أن يملك، حتى إذا ملك أظهر ملة الروم، وأعادها كهيئتها، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البيع وقتل الأساقفة وأحبار النصارى. وإنه جمع جموعًا من الروم والخزر، ومن كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس.
وانتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من سابور، وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل؛ فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمى يوسانوس. وإن لليانوس سار حتى وقع ببلاد فارس، وانتهى إلى سابور كثرة من معه من جنود الروم والعرب والخزر، فهاله ذلك، ووجه عيونًا تأتيه بخبرهم ومبلغ عددهم وحالهم في شجاعتهم وعيثهم فاختلفت أقاويل أولئك العيون فيما أتوه به من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكر سابور، وسار في أناس من ثقاته ليعاين عسكرهم، فلما اقترب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطًا ممن كان معه إلى عسكر يوسانوس ليتحسسوا الأخبار، ويأتوه بها على حقائقها، فنذرت الروم بهم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقر أحدٌ منهم بالأمر لذي توجهوا له إلى عسكره، ما خلا رجلًا منهم أخبره بالقصة على وجهها، وبمكان سابور حيث كان، وسأله أن يوجه معه جندًا، فيدفع إليهم سابور فارسل يوسانوس حيث سمع هذه المقالة إلى سابور رجلًا من بطانته، يعلمه ما لقى من أمره، وينذره، فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره. وإن من كان في عسكر لليانوس من العرب سألوه أن يأذن لهم في محاربة سابور، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى سابور، فقاتلوه ففضوا جمعه، وقتلوا منه مقتلةً عظيمة، وهرب سابور فيمن بقى من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلة سابور، وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها، فكتب سابور إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقى من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد أن يقدموا عليه فيمن قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن اجتمعت إليه الجيوش من كل أفق، فانصرف فحارب لليانوس واستقذ منه مدينة طيسبون، ونزل لليانوس مدينة بهأردشير وما والاها بعسكره، وكانت الرسل تختلف فيما بينه وبين سابور. وإن لليانوس كان جالسًا ذات يوم في حجرته، فأصابه سهم غربٌ في فؤاده فقتله، فأسقط في روع جنده، وهالهم الذي نزل به، ويئسوا من التفصى من بلاد فارس، وصاروا شورى لا ملك عليهم ولا سائس لهم، فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولى الملك لهم فيملكوه عليهم، فأبى ذلك، وألحوا عليه فيه، فأعلمهم أنه على ملة النصرانية، وأنه لا يلي ناسًا له مخالفين في الملة. فأخبرته الروم أنهم على ملته، وأنهم إنما كانوا يكتمونها مخافة لليانوس، فأجابهم إلى ما طلبوا، وملكوه عليهم، وأظهروا النصرانية.
وإن سابور علم بهلاك لليانوس، فأرسل إلى قواد جنود الروم، يقول: إن الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، بظلمكم إيانا، وتخطيكم إلى بلادنا، وإنا نرجوا أن تهلكوا بها جوعًا من غير أن نهيئ لقتالكم سيفًا، ونشرع له رمحًا؛ فسرحوا إلينا رئيسًا إن كنتم رأستموه عليكم. فعزم يوسانوس على إتيان سابور، فلم يتابعه على رأيه أحدٌ من قواد جنده، فاستبد برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلًا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه، فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقاه وتساجدا، فعانقه سابور شكرًا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم.
وإن سابور أرسل إلى قواد جند الروم وذوى الرياسة منهم يعلمهم أنهم لو ملكوا غير يوسانوس لجرى هلاكهم في بلاد فارس، وأن تمليكهم إياه ينجيهم من سطوته. وقوى أمر يوسانوس بجهده، ثم قال: إن الروم قد شنوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرًا كثيرًا، وقطعوا ما كان بأرض السواد من نخل وشجر، وخربوا عمارتها؛ فإما أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخربوا، وإما أن يعوضونا من ذلك نصيبين وحيزها، عوضًا منه، وكانت من بلاد فارس، فغلبت عليها الروم.
فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصبيين، فبلغ ذلك أهلها، فجلوا منها إلى منها إلى مدن في مملكة الروم، مخافة على أنفسهم من ملك الملك المخالف ملتهم، فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر من بلاده وحيزه إلى نصيبين، وأسكنهم إياها، وانصرف يوسانوس ومن معه من الجنود إلى الروم، وملكها زمنًا يسيرًا ثم هلك.
وإن سابور ضرى بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك. وكان ذلك سبب تسميتهم إياه ذا الأكتاف.
وذكر بعض أهل الأخبار أن سابور بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي كانوا صاروا إليها مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، ثم هبط إلى الشأم، وسار إلى حد الروم، أعلم أصحابه أنه على دخول الروم حتى يبحث عن أسرارهم. ويعرف أخبار مدنهم وعدد جنودهم، فدخل إلى الروم، فجال فيها حينًا، وبلغه أن قيصر أولم، وأمر بجمع الناس ليحضروا طعامه، فانطلق سابور بهيئة السؤال حتى شهد ذلك الجمعع، لينظر إلى قيصر، ويعرف هيئته وحاله في طعامه. ففطن له فأخذ، وأمر به قيصر فأدرج في جلد ثور، ثم سار بجنوده إلى أرض فارس، ومعه سابور على تلك الحالة، فأكثر من القتل وخراب المدائن والقرى وقطع النخل والأشجار، حتى انتهى إلى مدينة جندي سابور، وقد تحصن أهلها، فنصب المجانيق، وهدم بعضها. فبينا هم كذلك ذات ليلة إذ غفل الروم الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي كان عليه زيتًا من زقاق كانت بقربهم، ففعلوا ذلك، ولان الجلد وانسل منه فلم يزل يدب حتى دناا من باب المدينة، وأخبر حراسهم باسمه. فلما دخل على أهلها، اشتد سرورهم به، وارتفعت أصواتهم بالحمد والتسبيح، فانتبه أصحاب قيصر بأصواتهم، وجمع سابور من كان في المدينة وعبأهم، وخرج إلى الروم تلك الليلة سحرًا، فقتل الروم وأخذ قيصر أسيرًا، وغنم أمواله ونساءه، ثم أثقل قيصر بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب؛ ويقال: إنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندى سابور، حتى يرم به ما هدم منها، وبأن يغرس الزيتون مكان النخل والشجر الذي عقره، ثم قطع عقبه ورتقه، وبعث به إلى الروم على حمار، وقال: هذا جزاؤك ببغيك علينا، فلذلك تركت الروم اتخاذ الأعقاب، ورتق الذؤاب.
ثم أقام سابور في مملكته حينًا. ثم غزا الروم فقتل من أهلها، وسبى سبيًا كثيرًا، وأسكن من سبي مدينة بناها بناحية السوس. وسماها إيرانشهر سابور، ثم استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز، وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان. ونقل طبيبًا من الهند فأسكنه الكرخ من السوس؛ فلما مات ورث طبه أهل السوس؛ ولذلك صار أهل تلك الناحية أطب العجم، وأوصى بالملك لأخيه أردشير.
وكان ملك سابور اثنتين وسبعين سنة.
وهلك في عهد سابور عامله على ضاحية مضر وربيعة، امرؤ القيس البدء بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، فاستعمل سابور على عمله ابنه عمرو بن امرىء القيس - فيما ذكر - فبقي في عمله بقية ملك سابور، وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز بن نرسى، وبعض أيام سابور بن سابور.
وكان جميع عمله - على ما ذكرت - من العرب، وولايته عليهم - فيما ذكر ابن الكلبي - ثلاثين سنة.
ذكر ملك أردشير بن هرمز
ثم قام بالملك بعد سابور ذي الأكتاف أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى ابن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلما عقد التاج على رأسه جلس للعظماء، فلما دخلوا عليه دعوا له بالنصر، وشكروا عنده أخاه سابور، فأحسن جوابهم، وأعلمهم موقع ما كان من شكرهم لأخيه عنده، فلما استقر به الملك قراره عطف على العظماء وذوي الرياسة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.
ذكر ملك سابور بن سابور
ثم ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسى. فاستبشرت الرعية بذلك وبرجوع ملك أبيه إليه، فلقيهم أحسن اللقاء، وكتب الكتب إلى العمال في حسن السيرة والرفق بالرعية، وأمر بمثل ذلك وزراءه وكتابه وحاشيته، وخطبهم خطبة بليغة، ولم يزل عادلًا على رعيته، متحننًا عليهم لما كان تبين من مودتهم ومحبتهم وطاعتهم، وخضع له عمه أردشير المخلوع، ومنحه الطاعة. وإن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب عليه في حجرة من حجره، فسقط عليه الفسطاط.
وكان ملكه خمس سنين.
ذكر ملك بهرام بن سابور
ثم ملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف. وكان يلقب كرمان شاه؛ وذلك أن أباه سابور كان ولاه في حياته كرمان، فكتب إلى قواده كتابًا يحثهم فيه على الطاعة، ويأمرهم بتقوى الله والنصيحة للملك، وبنى بكرمان مدينة، وكان حسن السياسة لرعيته، محمودًا في أمره.
وكان ملكه إحدى عشرة سنة. وإن ناسًا من الفتاك ثاروا إليه فقتله رجل منهم برمية رماها إياه بنشابة.
ذكر ملك يزدجرد الأثيم
ثم قام بالملك بعده يزدجرد الملقب بالأثيم، بن بهرام الملقب بكرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف.
ومن أهل العلم بأنساب الفرس من يقول: يزدجرد الأثيم هذا، هو أخو بهرام الملقب بكرمان شاه وليس بابنه، ويقول: هو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف. وممن نسبه هذا النسب وقال هذا القول، هشام بن محمد.
وكان - فيما ذكر - فظًا غليظًا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشد عيوبه وأعظمها - فيما قيل - وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كان له وصنوفًا من العلم قد مهرها وعلمها، غير موضعه، وكثرة رؤيته في الضار من الأمور، واستعمال كل ما عنده من ذلك، في المواربة والدهاء والمكايدة والمخاتلة، مع فطنة كانت بجهات الشر، وشدة عجبه بما عنده من ذلك، واستخفافه بكل ما كان في أيدي الناس من علم وأدب، واحتقاره له، وقلة اعتداده به، واستطالتة على الناس بما عنده منه. وكان مع ذلك غلقًا سيء الخلق، ردئ الطعمة جتى بلغ من شدة غلقه وحدته أن الصغير من الزلات كان عنده كبيرًا، واليسير من السقطات عظيمًا. ثم لم يقدر أحد - وإن كان لطيف المنزلة منه - أن يكون لمن ابتلى عنده بشيء من ذلك شفيعًا، وكان دهره كله للناس متهمًا، ولم يكن يأتمن أحدًا على شيء من الأشياء، ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وإن هو أولى الخسيس من العرف استجزل ذلك، وإن جسر على كلامه في أمر كلمه فيه رجل لغيره قال له: ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلمتنا فيه؟ وما أخذت عليه؟ فلم يكن يكلمه في ذلك وما أشبهه إلا الوفود القادمون عليه من قبل ملوك الأمم. وإن رعيته إنما سلموا من سطوته وبليته، وما كان جمع من الخلال السيئة بتمسكهم بمن كان قبل مملكته بالسنن الصالحة وبأدبهم. وكانوا لسوء أدبه، ومخافة سطوته، متواصلين متعاونين، وكان من رأيه أن يعاقب كل من زل عنده وأذنب إليه من شدة العقوبة بما لايستطاع أن يبلغ منه مثلها في مدة ثلثمائة. وكان لذلك لا يقرعه بسوطٍ انتظارًا منه للمعاقبة له بما ليس وراءه افظع منه. وكان إذا بلغه أن أحدًا من بطانته صافى رجلًا من أهل صناعته أو طبقته نحاه عن خدمته.
وكان استوزر عند ولايته نرسى حكيم دهره. وكان نرسى كاملًا في أدبه، فاضلًا في جميع مذاهبه، متقدمًا لأهل زمانه. وكانوا يسمونه مهر نرسى ومهرنرسه، ويلقب بالهزاربنده، فأملت الرعية بما كان منه أن ينزع عن أخلاقه، وأن يصلح نرسى منه، فلما استوى له الملك، اشتدت إهانته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، وتسلط تسلطًا لم يبتل الرعية بمثله في أيامه. فلما رأى الوجوه والأشراف أنه لا يزداد إلا تتايعًاَ في الجور، اجتمعوا فشكوا ما ينزل بهم من ظلمه، وتضرعوا إلى ربهم، وابتهلوا إليه بالتعجيل إنقاذهم منه. فزعموا أنه كان بجرجان، فرأى ذات يوم في قصره فرسًا عائرًا - لم ير مثله في الخيل، في حسن صورة، وتمام خلق - أقبل حتى وقف على بابه، فتعجب الناس منه لأنه كان متجاوز الحال، فأخبر يزدجرد خبره، فأمر به أن يسرج ويلجم، ويدخل عليه، فحاول ساسته وصاحب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكن أحدًا منهم من ذلك، فأنهى إليه امتناع الفرس عليهم، فخرج ببدنه إلى الموضع الذي كان فيه ذلك الفرس فألجمه بيده، وألقى لبدًا على ظهره، ووضع فوقه سرجًا، وشد حزامه ولببه فلم يتحرك الفرس بشيء من ذلك، حتى إذا رفع ذنبه ليثفره استدبره الفرس فرمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. ويقال: إن الفرس ملأ فروجه جرياُ فلم يدرك ولم يوقف على السبب فيه، وخاضت الرعية بينها، وقالت: هذا من صنع الله لنا ورأفته بنا.
وكان ملك يزدجرد في قول بعضهم اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يومًا. وفي قول آخرين إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يومًا.
ولما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن عدي في عهد سابور ابن سابور، استخلف سابور بن سابور على عمله أوس بن قلام في قول هشام. قال: وهو من العماليق من بني عمرو بن عمليق، فثار به جحجبي بن عتيك بن لخم فقتله، فكان جميع ولاية أوس خمس سنين، وهلك في عهد بهرام بن سابور ذي الأكتاف. واستخلف بعده في عمله امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو خمسًا وعشرين سنة، وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم. ثم استخلف يزدجرد مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو فارس حليمة؛ وصاحب الخورنق.
وكان سبب بنائه الخورنق - فيما ذكر - أن يزدجرد الأثيم بن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام، فسأل عن منزل برى مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنًا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وكان الذي بنى الخورنق رجلًا يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري وتصنعون بي ما أنا أهله بنيته بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! فأمر به فطرح من رأس الخورنق؛ ففي ذلك يقول أبو الطمحان القيني:
جزاء سنمارٍ جزاها، وربها ** وباللات والعزى جزاء المكفر
وقال سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ** وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار
وقال يزيد بن إياس النهشلي:
جزى الله كمالًا بأسوإ فعله ** جزاء سنمارٍ جزاءً موفرا
وقال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي - وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني، ووفد إليه فأعجبته وأعجب بعبد العزى وحديثه، وكان للملك ابن مسترضع في بنى الحميم بن عوف من بنى عبد ود، من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم أغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار، وليس لي عليهم فضل في نسب ولافعال، فقال: لتأتينى بهم أو لأفعلن ولأفعلن! فقال: رجونا من حبائك أمرًا حال دونه عقابك. ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شر جزائه ** جزاء سنمارٍ وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجةً ** يعلى عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تم سموقه ** وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فأتهمه من بعد حرسٍ وحقبةٍ ** وقد هره أهل المشارق والغرب
وظن سنمارٌ به كل حبرةٍ ** وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من فوق برجه ** فهذا لعمر الله من أعجب الخطب
وما كان لي عند ابن جفنة فاعلموا ** من الذنب ما آلى يمينًا على كلب
ليلتمسن بالخيل عقر بلادهم ** تحلل أبيت اللعن من قولك المزبى
ودون الذي منى ابن جفنة نفسه ** رجالٌ يردون الظلوم عن الشعب
وقد رامنا من قبلك المرء حارثٌ ** فغودر مسلولًا لدى الأكم الصهب
قال هشام: وكان النعمان هذا قد غزا الشأم مرارًا، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغارًا فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما: القبيلتان، فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب.
قال فذكر لنا - والله أعلم - أنه جلس يومًا في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف، في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذاك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده؛ فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه؛ فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل، فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه فلم يجدوه، وفي ذلك يقول عدى بن زيد العبادى:
وتفكر رب الخورنق إذ أش ** رف يومًا وللهدى تبصير
سره حاله وكثرة ما يم ** لك والبحر معرضٌ والدير
فارعوى قلبه فقال وما غب ** طة حيٍ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والإمة ** وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جف ** فألوت به الصبا والدبور
فكان ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر.
قال ابن الكلبي: من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما العلماء من الفرس بأخبارهم وأمورهم فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره.
ذكر ملك بهرام جور
ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه بهرام جور بن يزدجرد الخشن ابن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. وذكر أن مولده كان هرمز دروز فرور دين ماه، لسبع ساعات مضين من النهار. فإن أباه يزدجرد دعا ساعة ولد بهرام ممن كان ببابه من المنجمين، فأمرهم بإقامة كتاب مولده وتبنيه بيانًا يدل على الذي يئول إليه كل أمره، فقاسوا الشمس ونظروا في مطالع النجوم، ثم أخبروا يزدجرد أن الله مورثٌ بهرام ملك أبيه، وأن رضاعه بغير أرض يسكنها الفرس، وأن من الرأى أن يربى بغير بلاده، فأجال يزدجرد الرأى في دفعه في الرضاع والتربية إلى بعض من بابه من الروم أو العرب أو غيرهم ممن لم يكن من الفرس، فبدا له في اختيار العرب لتربيته وحضانته؛ فدعا بالمنذر ابن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب، وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما: رام أبزوذ يزدجرد، وتأويله زاد سرور يزدجرد، والأخرى تدعى بمهشت، وتأويلها أعظم الخول، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير بهرام إلى بلاد العرب.
فسار به المنذر إلى محلته منها، واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة، وأذهان ذكية، وآداب رضية؛ من بنات الأشراف؛ منهن امرأتان من بنات العرب، وامرأة من بنات العجم، وأمر لهن بما أصلحهن من الكسوة والفرش والمطعم والمشرب وسائر ما احتجن إليه، فتداولنا رضاعه ثلاث سنين، وفطم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت له خمس سنين، قال للمنذر: أحضرني مؤد بين ذوي علم، مدربين بالتعليم؛ ليعلموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السن، ولم يأن لك أن تأخذ في التعليم؛ فالزم ما يلزم الصبيان الأحداث، حتى تبلغ من السن ما يطيق التعلم والتأدب، وأحضر من يعلمك كل ما سألت تعلمه. فقال بهرام للمنذر: أنا لعمري صغير، ولكن عقلي عقل محتنك، وأنت كبير السن وعقلك عقل ضرع. أما تعلم أيها الرجل؛ أن كل ما يتقدم في طلبه ينال في وقته، وما يطلب في وقته ينال في غير وقته، وما يفرط في طلبه يفوت فلا ينال! وإني من ولد الملوك، والملك صائر إلي بإذن الله، وأولى ما كلف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه لهم زين، ولملكهم ركن به يقوون. فعجل علي بمن سألتك من المؤدبين.
فوجه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام هذه إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس، ومعلمي الرمي والفروسية ومعلمي الكتابة وخاصة ذوي الأدب، وجمع له حكماء من حكماء فارس والروم، ومحدثين من العرب، فألزمهم بهرام، ووقت لأصحاب كل مذهب من تلك المهن وقتًا يأتونه فيه؛ وقدر لهم قدرًا يفيدونه ما عندهم، فتفرغ بهرام لتعلم كل ما سأل أن يتعلم، وللاستماع من أهل الحكمة وأصحاب الحديث، ووعى كل ما استمع، وثقف كل ما علم بأيسر تعليم. وألفي بعد أن بلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه، وفاق معلميه ومن حضره من أهل الأدب؛ حتى اعترفوا له بفضله عليهم.
وأثاب بهرام المنذر ومعلميه، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده؛ ليأخذ عنهم كل ما ينبغي له التدرب به، والإحكام له؛ ثم دعا بهرام بالنعمان بن المنذر، وأمره أن يؤذن العرب بإحضار خيلهم من الذكور والإناث على أنسابها، فأذن النعمان للعرب بذلك، وبلغ المنذر الذي كان من رأى بهرام في اختيار الخيل لمركبه، فقال لبهرام: لا تجشمن العرب إجراء خيلهم؛ ولكن مر من يعرض الخيل عليك، واختر منها رضاك، وارتبطه لنفسك. فقال له بهرام: قد أحسنت القول؛ ولكني أفضل الرجال سؤددًا وشرفًا، وليس ينبغي أن يكون مركبي إلا أفضل الخيل، وإنما يعرف فضل بعضها على بعض بالتجربة؛ ولا تجربة بلا إجراء.
فرضي المنذر مقالته، وأمر النعمان العرب فأحضروا خيولهم، وركب بهرام والمنذر لحضور الحلبة، وسرحت الخيل من فرسخين، فبدر فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعًا سابقًا، ثم أقبل بعده بقيتها بداد بداد من بين فرسين تاليين، أو ثلاثة موزعة، أو سكيتًا. فقرب المنذر بيده ذلك الأشقر إلى بهرام، وقال: يبارك الله لك فيه، فأمر بهرام بقبضه وعظم سروره به، وتشكر للمنذر.
وإن بهرام ركب ذات يوم الفرس الأشقر الذي حمله عليه المنذر إلى الصيد، فبصر بعانة، فرمى عليها وقصد نحوها؛ فإذا هو بأسد قد شد على عير كان فيها، فتناول ظهره بفيه ليقصمه ويفترسه، فرماه بهرام رمية في ظهره، فنفذت النشابة من بطنه وظهر العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض. فساخت فيها إلى قريب من ثلثيها، فتحرك طويلًا، وكان ذلك بمشهد ناس من العرب وحرس بهرام وغيرهم. فأمر بهرام فصور ما كان منه في أمر الأسد والعير في بعض مجالسه.
ثم إن بهرام أعلم المنذر أنه على الإلمام بأبيه، فشخص إلى أبيه، وكان أبوه يزدجرد لسوء خلقه لا يحفل بولد له، فاتخذ بهرام للخدمة، فليقي بهرام من ذلك عناء.
ثم إن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة لقيصر والروم، فسأله بهرام أن يكلم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر، فانصرف إلى بلاد العرب، فأقبل على التنعم والتلذذ.
وهلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء وأهل البيوتات إلا يملكوا أحدًا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولدًا يحتمل الملك غير بهرام، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدب بأدب العجم؛ وإنما أدبه أدب العرب، وخلقه كخلقهم، لنشئه بين أظهرهم. واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك، يقال له كسرى، ولم يقيموا أن ملكوه. فانتهى هلاك يزدجرد والذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام وهو ببادية العرب، فدعا بالمنذر والنعمان ابنه، وناسٍ من علية العرب، وقال لهم: إني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي؛ كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه كان عليكم، مع فظاظته وشدته كانت على الفرس؛ وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه، وتمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك.
فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه. وإن المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبًا منهما ويدمن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسبى؛ ونهاه عن سفك الدماء. فسار النعمان حتى نزل قريبًا من المدينتين، ووجه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس. وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أوفدوا جوانى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جوانى على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قال له: الق الملك بهرام، ووجه معه من يوصله إليه فدخل جوانى على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دهشًا، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه، فكلمه بهرام ووعده من نفسه أحسن الوعد، ورده إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجوانى: قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به؛ وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه، وخوله إياكم.
فلما سمع جوانى مقالة المنذر، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه، وأن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج، قال للمنذر: إني لست محيرًا جوابًا، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأت فيه ما يجمل؛ فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به.
فرد المنذر جوانى إلى من أرسله إليه، واستعد وسار بعد فصول جوانى من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك؛ حتى إذا وردهما، أمر فجمع الناس، وجلس بهرام على منبرٍ من ذهب مكلل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلمًا، حتى قد قتل الناس في البلاد التي كان يملكها، وأمورًاغير ذلك فظيعة. وذكروا أنهم إنما تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك، وسألوا المنذر ألا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فوعى المنذر ما بثوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أولى بإجابة القوم مني. فقال بهرام: إني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شيء مما نسبتم إليه يزدجرد لما استقر عندي من ذلك، ولقد زاريًا عليه لسوء هديه، ومتنكبًا لطريقه ودينه، ولم أزل أسأل الله أن يمن علي بالملك، فأصلح كل ما أفسد، وأرأب ما صدع؛ فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعًا، وقد أشهدت بذلك علي الله وملائكته وموبذان موبذ. وليكن هو فيها حكمًا بيني وبينكم. وأنا مع الذي بينت على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج والزينة؛ من بين أسدين ضاريين مشبلين، فهو الملك.
فلما سمع القول مقالة بهرام هذه، وما وعد من نفسه، استبشروا بذلك، وانبسطت آمالهم، وقالوا فيما بينهم: إنا لسنا نقدر على رد قول بهرام؛ مع أنا إن تممنا على صرف الملك عنه نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد واستجاش من العرب؛ ولكن نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه إلا ثقة بقوته وبطشه وجرأته، فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس لنا رأي إلا تسليم الملك إليه، والسمع والطاعة له، وإن يهلك ضعفًا ومعجزة، فنحن من هلكته براء، ولشره وغائلته آمنون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)