الأيادي البيضاء (1)....بقلم محمد عبد الوهاب جسري
في الوقت الذي تتجه أنظار الشرفاء في الدولة و وسائل الإعلام لكشف الفاسدين، أحببت أن أقوم بنشر سلسلة الأيادي البيضاء التي تتحدث عن شخصيات اتخذت من النزاهة رداء ومن العفة والكرامة عمامة، ومن حب الوطن والاخلاص له طيب مسك ينشر شذاه في جميع أرجاء الوطن الحبيب.
أستهل هذه السلسلة بالحديث عن المعلم الفاضل والمربي الكريم الأستاذ محمود علواني الذي عمل بشرف ونزاهة وإخلاص لمدة 36 عاماً مديراً لشؤون الطلاب في جامعة حلب أمضاها بعمل دؤوب لم يعرف فيه الكلل أو الملل. قدم فيه خلاصة جهده ومعرفته.
من يعرف الأستاذ محمود قد يلومني على تقصيري في موضوعي هذا لأنني لن أتمكن من إعطاءه حقه، لكنني سأتذكر بعض الصور التي كانت تراها عيناي عندما يبقى الرجل الفاضل في مكتبه إلى ما بعد الدوام آملاً أن ينهي عمله إلى أن يدركه الوقت فيحمل ملفاته معه ليتابع عمله في بيته بعد استراحة صغيرة، أتذكر مكتبه المتواضع الذي لا يغلق له باب و نافذته التي يتحدث من خلالها إلى الطلاب مباشرة ويرشدهم و يحل لهم مشاكلهم.
رجل له الفضل على مئات الآلاف من خريجي الكليات والمعاهد الذين تخرجوا من جامعة حلب من الطلاب السوريين والعرب والأجانب.
زرته البارحة، أحببت أن أقول له أنه رجل عظيم، أنه رجل نظيف، عمل موظفاً في الدوائر الحكومية لمدة تزيد عن 43 عاماً وخرج منها بأيادٍ بيضاء كالثلج.
أمضيت ساعة أستمع بسرور إلى حديثه عن مراحل حياته، وسجلت نبذة عنها
الأستاذ محمود من مواليد مدينة دركوش عام 1924 ، درس في مدرستها المرحلة الابتدائية التي أنهاها بتفوق وحصل على الدرجة الأولى وبذلك حصل على مقعد مجاني لمتابعة تعليمه الاعدادي والثانوي في ثانوية المأمون في حلب حالياً، والتي كان اسمها مدرسة التجهيز وقبل ذلك كانت تسمى "مكتب اعدادي ملكي شهانه" وقد أنشأت بأمر من السلطان عبد الحميد وكانت مدرسة داخلية درس فيها من عام 1939 إلى عام 1946 عام الاستقلال عن المستعمر الفرنسي. حدثني عن مقاومة طلاب المدرسة للاحتلال الفرنسي وثورتهم عليه، ورشقهم لآليات الجيش الفرنسي بالحجارة و "بالمقاليع" مما اضطرها إلى الانسحاب لتعود بعدها بالدبابات والمدافع لتهاجم وتقتحم المدرسة وتختار 150 طالباً لتعتقلهم كان الطالب محمود علواني واحداً منهم. وبعد تدخل المدير وبعض الجهات تم اختزال العدد إلى 28 طالباً أيضاً كان الطالب محمود علواني واحداً منهم حيث أخذوهم إلى "سجن الفرنسيين الرهيب" و وضعوهم في ظروف اعتقال صعبة جداً، وبعد فترة تم الافراج عن 22 طالباً ليُحال الطلاب الستة الأكثر ثورية ومقاومة للاستعمار إلى السجن المركزي ريثما يعرضون على القضاء، وأيضاً كان الطالب محمود طالباً منهم، فقد ثبت أنهم على اتصال بالثائر نجيب عويّد أحد معاوني البطل ابراهيم هنانو الذي شجعهم على التحدث أمام القاضي بكل جرأة وقال لهم، الحكم عليكم صادر سلفاً فتكلموا وتحدثوا بصراحة عن رفضكم للاستعمار وحقكم في مقاومته. أما هو "نجيب عويّد" فقد قال للقاضي : إن الجيش الألماني الذي دخل باريس فاتحاً كان أرحم بالفرنسيين من الجيش الفرنسي الذي دخل مدرسة التجهيز بدباباته.
وفي فترة المحاكمة جاءهم عفو من رئيس الوزراء آنذاك السيد سعيد الجابري، ويتذكر "الطالب محمود علواني" جملة سمعها منه في أحد خطاباته في مدينة حلب قال فيها : ليخرج الفرنسيون من بلادنا قبل أن نطردهم طرد الكلاب.
درس الأستاذ محمود علواني الحقوق في جامعة دمشق وتخرج منها عام 1949-1950 ، بعدها أنشأ مدرسة ابن خلدون الثانوية في حلب وعمل فيها مديراً لمدة أربع سنوات، ثم أنشأ مدرسة ترمانين في بلدة ترمانين وعمل فيها مديراً ومدرساً للغة العربية وكم كانت فرحته شديدة عندما كان الطالب الأول على مدينة حلب في الشهادة الاعدادية من مدرسة ترمانين حيث كانت هذه المدرسة مدرسة مثالية آنذاك.
وبسبب نزاهته تم تعيينه مديراً للتموين في مدينة حلب من 1960- 1964 حيث طلبه رئيس الجامعة "السيد توفيق منجد" للعمل رئيساً لديوان الجامعة، وبعد أربع سنوات تم تعيينه مديراً لشؤون الطلاب في الجامعة ليظل مدة 36 سنة في هذا الموقع، ولا أدري إن كان هذا رقماً قياسياً ويمكن له أن يسجل في سجل الأرقام القياسية العالمية، لأنه في عام 1984 استحق الاستاذ محمود الخروج إلى التقاعد إلا أنه بقي "وبناءً على إلحاح من رئاسة الجامعة" إلى عام 2003 على رأس عمله بسبب عدم توفر الشخص البديل المكافئ، هكذا تم تمديد خدمته لوطنه مدة 19 عاماً إضافياً.
يتذكر الأستاذ الفاضل كيف كانت تطلبه جامعة دمشق من أجل أخذ الرأي في مسائل قانونية جامعية، وكذلك جامعة تشرين وخاصة في بداية إنشائها.
أحببت من خلال موضوعي هذا أن أوجه تحية كبيرة وكتاب شكر إلى الأستاذ الفاضل محمود علواني، الذي خدم وطنه بنزاهة ومروءة وشرف وإخلاص، وأقول له: أستاذنا الفاضل، حياتك كلها عبارة عن جهد مخلص دؤوب في خدمة الوطن، أنت رجل تستحق أعلى درجات التقدير، بارك الله بك وحفظك من كل سوء.
وأحببت أيضاً أن أقول: يستطيع الإنسان دوماً "إن أراد" أن يعيش بنزاهة حراً كريماً من خلال إخلاصه المطلق لوطنه ومبادئه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)