الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
و ذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية و المدافعة و المطالبة و كل أمر يجتمع عليه و قدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانيه يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع و حاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية و إلا لم تتم قدرته على ذلك و هذا التغلب هو الملك و هو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد و صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقهر و صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه. و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقوة و صاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد و الاتباع و وجد السبيل إلى التغلب و القهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس و لا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت ثم أن القبيل الواحد و إن كانت فيه بيوتات مفترقة و عصبيات متعددة فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها و تستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها و تصير كأنها عصبية واحدة كبرى و إلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف و التنافس ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ثم إذا حصل التغلب لتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً و أنظاراً و لكل واحدة منهما التغلب على حوزتها و قومها شأن القبائل و الأمم المفترقة في العالم و إن غلبتها و استتبعتها التحمت بها أيضاً و زادت قوة في التغلب إلى قوتها و طلبت غاية من التغلب و التحكم أعلى من الغاية الأولى و أبعد و هكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة في هرمها و لم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها و انتزعت الأمر من يدها و صار الملك أجمع لها و إن انتهت قوتها و لم يقارن ذلك هرم، الدولة و إنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها و ذلك ملك آخر دون الملك المستبد و هو كما وقع للترك في دولة بني العباس و لصنهاجة و زناتة مع كتامة و لبني حمدان مع ملوك الشيعة من العلوية و العباسية فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية و أنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك و إن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف و انغماس القبيل في النعيم
و سبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره و شاركت أهل النعم و الخصب في نعمتهم و خصبهم و ضربت معهم في ذلك بسهم و حصة بمقدار غلبها و استظهار الدولة بها فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها و لا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها و القنوع بما يسوغون من نعمتها و يشركون فيه من جبايتها و لم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك و لا أسبابه إنما همتهم النعيم و الكسب و خصب العيش و السكون في ظل الدولة إلى الدعة و الراحة و الأخذ بمذاهب الملك في المباني و الملابس و الاستكثار من ذلك و التأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش و الترف و ما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة و تضعف العصبية و البسالة و يتنعمون فيما أتاهم الله من البسطة و تنشأ بنوهم و أعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم و ولاية حاجاتهم و يستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم و سجية فتنقص عصبيتهم و بسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض و على قدر ترفهم و نعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض الترف و الغرق في النعيم كاسر من سورة المصبية التي بها التغلب و إذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة و الحماية فضلاً عن المطالبة و التهمتهم الأمم سواهم فقد تبين أن الترف من عوائق الملك و الله يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل و الانقياد إلى سواهم
و سبب ذلك أن المذلة و الانقياد كاسران لسورة العصبية و شدتها فإن انقيادهم و مذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة و المطالبة و اعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام و أخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكهم كيف عجزوا عن ذلك و قالوا: إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا و تكون من معجزاتك يا موسى و لما عزم عليهم لجوا و ارتكبوا العصيان و قالوا له: اذهب أنت و ربك فقاتلا و ما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة و المطالبة كما تقتضيه الآية و ما يؤثر في تفسيرها و ذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد و ما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم و أن العمالقة الذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك و عجزوا تعويلاً على ما في أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة و طعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك و ما أمرهم به فعاقبهم الله بالتيه و هو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام و مصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران و لا نزلوا مصراً و لا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام و القبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه و يظهر من مساق الآية و مفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة و هي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل و القهر و القوة و تخلقوا به و أفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام و القهر و لا يساهم بالمذلة فنشأت بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة و التغلب و يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل و نشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم و في هذا أوضح دليل على شأن العصبية و أنها هي التي تكون بها المدافعة و المقاومة و الحماية و المطالبة و أن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله و لحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم و الضرائب فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في المغارم و الضرائب ضيماً و مذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونته عن القتل و التلف و أن عصبيتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة و الحماية و من كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة و المطالبة و قد حصل له الانقياد للذل و المذلة عائقة كما قدمناه. و منه قوله صلى الله عليه و سلم شأن الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر و الخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر و من هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يودون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك و هو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك و لا تمت لهم دولة و انظر فيما قاله شهر براز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه و سأل شهر براز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوم منكم يدي في أيديكم و صعري معكم فمرحباً بكم و بارك الله لنا و لكم و جزيتنا إليكم النصر لكم و القيام بما تحبون و لا تذلونا بالجزية فتوهونا لعدوكم فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف.
الفصل العشرون ـ في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة و بالعكس
لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه و كان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته و قوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه و إما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير و خلاله أقرب و الملك و السياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما للإنسان خاصة لا للحيوان فإذاً خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة و الملك إذ الخير هو المناسب للسياسة و قد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه و تتحقق به حقيقته و هو العصبية و العشير و فرع يتمم و جوده و يكمله و هو الخلال و إذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها و متمماتها و هي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس لم إذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت و الأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد و نهاية لكل حسب و أيضاً فالسياسة و الملك هي كفالة للخلق و خلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم و أحكام الله في خلقه و عباده إنما هي بالخير و مراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع و أحكام البشر إنما هي من الجهل و الشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه و قدره فإنه فاعل للخير و الشر معاً و مقدرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة و أونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد و كفالة الخلق و وجدت فيه الصلاحية لذلك. و هذا البرهان أوثق من أن أول و أصح مبنى فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن و جدت له العصبية فإذا نفرنا في أهل العصبية و من حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي و الأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير و خلاله من الكرم و العفو عن الزلات و الاحتمال من غير القادر و القرى للضيوف و حمل الكل و كسب المعدم و الصبر على المكاره و الوفاء بالعهد و بذل الأموال في صون الأعراض و تعظيم الشريعة و إجلال العلماء الحاملين لها و الوقوف عند ما يحددونه لهم من فعل أو ترك و حسن الظن بهم و اعتقاد أهل الدين و التبرك بهم و رغبه الدعاء منهم و الحياء من الأكابر و المشايخ و توقيرهم و إجلالهم و الانقياد إلى الحق مع الداعي إليه و إنصاف المستضعفين من أنفسهم و التبدل في أحوالهم و الانقياد للحق و التواضع للمسكين و استماع شهوى المستغيثين و التدين بالشرائع و العبادات و القيام عليها و على أسبابها و التجافي عن الغدر و المكر و الخديعة و نقض العهد و أمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم و استحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم و أنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم و غلبهم و ليس ذلك سدىً فيهم و لا وجد عبثاً منهم و الملك أنسب المراتب و الخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك و ساقه إليهم و بالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملتهم على ارتكاب المذمومات و انتحال الرذائل و سلوك طرقها فتفقد الفصائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك و جعل في أيديهم من الخير وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا و استقرىء ذلك و تتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه و رسمناه و الله يخلق ما يشاء و يختار و اعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل ألو العصبية و تكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء و الصالحين و الأشراف و أهل الأحساب و أصناف التجار و الغرباء و إنزال الناس منازلهم و ذلك أن إكرام القبائل و أهل العصبيات و العشائر لمن يناهضهم في الشرف و يجاد بهم حبل العشير و العصبية و يشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه و أما أمثال هؤلاء من ليس لهم عصبية تتقى و لا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم و يتمحض القصد فيهم أنه للمجد و انتحال الكمال في الخلال و الإقبال على السياسة بالكلية لأن إكرام أقتاله و أمثاله ضروي في السياسة الخاصة بين قبيلة و نظرائه و إكرام الطارئين من أهل الفضائل و الخصوصيات كمال في السياسة العامة فالصالحون للدين و العلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة و التجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم و الغرباء من مكارم الأخلاق و إنزال الناس منازلهم من الإنصاف و هو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة و هي الملك و أن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجوب علاماتها و لهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم و سلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم و ارتقب زوال الملك منهم و إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له و الله تعالى أعلم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)