فصل
و لما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب و التخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر و يرون أنه أهنأ لهم و أسلم في إنفاقه و حصول ثمرته و هو من الأغلاط الفاحشة و الأوهام المفسدة لأحوالهم و دنياهم و اعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين و لا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه و إتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها و لا سيما عند استفحال الدولة و ضيق نطاقها و ما يعرض فيها من البعد عن المجد و الخلال و التخلق بالشر و أما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان و حاشيته و أهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه و بين ذلك. أما أولا فلما يراه الملوك أن ذويهم و حاشيتهم بل و سائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنا بأسرارهم و أحوالهم أن يطلع عليها أحد. و غيره من خدمته لسواهم و لقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم و ما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية و رجوعها إلى الطوائف و أما ثانيا فلأنهم و إن سمحوا بحل ربقته فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها و في ظل جاهها، فتخوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال و التقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر و هو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر و ينتزعونه بالإرهاب و التخويف تعريضا أو بالقهر ظاهرا لما يرون أنه مال الجباية و الدول و أنه مستحق للإنفاق في المصالح و إذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة و اليسار المتكسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية و الدول التي تجد السبيل إليه بالشرع و العادة و لقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بأفريقة الخروج عن عهدة الملك و اللحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده و ركب السفين هن هنالك و خلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت و الذخيرة و باع كل ما كان بخزائنهم من المتاع و العقار و الجوهر حتى الكتب و احتمل ذلك كله إلى مصر و نزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله و رفع مجلسة و لم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتعريض إلى أن حصل عليها و لم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرابته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان و عشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا و أمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب و إنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم و ما يتوهمونه من الحاجة فغلط و وهم و الذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة و الفلاحة و الدول أنساب لكن: النفس راغبة إذا رغبتها و إذا ترد إلى قليل تقنع و الله سبحانه هو الرزاق و هو الموفق بمنه و فضله و الله أعلم.
الفصل الثاني و الأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
و السبب في ذلك أن الدولة و السلطان هي السوق الأعظم للعالم و منه مادة العمران فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها ني مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية و الحامية و انقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم و ذويهم و قلت نفقاتهم جملة و هم معظم السواد و نفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق و تضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج و الجباية إنما تكون من الاعتمار و المعاملات و نفاق الأسواق و طلب الناس للفوائد و الأرباح و وبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج فإن الدولة كما قلناه هي الشرق الأعظم أم الأسواق كلها و أصلها و مادتها في الدخل و الخرج فإن كسدت و قلت مصارفها فاجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك و أشد منه و أيضا فالمال إنما هو متردد بين الرعية و السلطان منهم إليه و منه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية سنة الله في عباده.
الفصل الثالث و الأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها و مصيرها انتهابها من أيديهم و إذا ذهبت آمالهم في اكتسابها و تحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك و على قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها و إن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته و العمران و وفوره و نفاق أسواقه إنما هو بالأعمال و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين و جائين فإذا قعد الناس عن المعاش و انقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران و انتفضت الأحوال و ابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر و خلت دياره و خرجت أمصاره و اختل باختلاله حال الدولة و السلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة و انظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام و ما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم و الغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها و سأله عن فهم كلامها فقال له: إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى و إنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، و قال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية و هذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته و خلا بالموبذان و سأله عن مراده فقال له أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه و لا قوام للشريعة إلا بالملك و لا عز للملك إلا بالرجال و لا قوام للرجال إلا بالمال و لا سبيل إلى المال إلا بالعمارة و لا سبيل للعمارة إلا بالعدل و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب و جعل له قيما و هو الملك و أنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها و عمارها و هم أرباب الخراج و من تؤخذ منهم الأموال و أقطعتها الحاشية و الخدم و أهل البطالة فتركوا العمارة و النظر في العواقب و ما يصلح الضياع و سومحوا في الخراج لقربهم من الملك و وقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج و عمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم و خلوا ديارهم و أووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة و خربت الضياع و قلت الأموال و هلكت الجنود و الرعية و طمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.
فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه و انتزعت الضياع من أيدي الخاصة و ردت على أربابها و حملوا على رسومهم السالفة و أخذوا في العمارة و قوي من ضعف منهم فعمرت الأرض و أخصبت البلاد و كثرت الأموال عند جباة الخراج و قويت الجنود و قطعت مواد الأعداء و شحنت الثغور و أقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه و انتظم ملكه فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران و أن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد و الانتقاض. و لا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها و لم يقع فيها خراب و اعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء و أحوال أهل المصر فلما كان المصر كبيرا و عمرانه كثيرا و أحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء و الظلم يسيرا لأن النقص إنما يقع بالتدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال و اتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين و قد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب و تجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها و تجبر النقص الذي كان خفيا فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر و المراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر و اقع لا بد منه لما قدمناه و وباله عائد على الدول. و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقها ظلمة و المعتدون عليها ظلمة و المنتهبون لها ظلمة و المانعون لحقوق الناس ظلمة و خصاب الأملاك على العموم ظلمة و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله و اعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم و هو ما ينشأ عنه من فساد العمران و خرابه و ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري و هي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما، و أدلته من القرآن و السنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط و الحصر. و لو كان كل واحد قادرا على الظلم لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا و القتل و السكر إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة و السلطان فبولغ في ذمة و تكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه ني نفسه و ما ربك بظلام للعبيد و لا تقولن إن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع و هي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير و ذلك إنما يكون بعد القدرة عليه و المطالبة بجنايته و أما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب و أما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال و المدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعا و سياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب و الله قادر على ما يشاء. فصل: و من أشد الظلامات و أعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال و تسخير الرعايا بغير حق و ذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق و الكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم و أعمالهم كلها متمولات و مكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم و مكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم و اتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم و اغتصبوا قيمة عملهم ذلك و هو متمولهم فدخل عليهم الضرر و ذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة و إن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة و قعدوا عن السعى فيها جملة فأدى ذلك إلى انتقاض العمران و تخريبه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الاحتكار:
و أعظم من ذلك في الظلم و إفساد العمران و الدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب و الإكراه في الشراء و البيع و ربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التواحي و التعجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، و تعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. و قد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة و الواردين من الآفاق في البضائع و سائر السوقة و أهل الدكاكين في المآكل و الفواكه و أهل الصنائع فيما يتخذ من الآلات و المواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف و الطبقات و تتوالى على الساعات و تجحف برؤوس الأموال و لا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح و يتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع و بيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق و يبطل معاق الرعايا لأن عامته من البيع و الشراء و إذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم و تنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أوسط الدولة و ما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه و يؤول ذلك إلى تلاشى الدولة و فساد عمران المدينة و يتطرق هذا الخلل على التدريج و لا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع و الأسباب إلى أخذ الأموال و أما أخذها مجانا و العدوان على الناس في أموالهم و حرمهم و دمائهم و أسرارهم و أغراضهم فهو يفضي إلى الخلل و الفساد دفعة و تنتقض الدولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض و من أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله و شرع المكايسة في البيع و الشراء و حظر أكل أموال الناس بالباطل سدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة و السلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم و يعظم الخرج و لا يفي به الدخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقاباً و وجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج ثم لا يزال الترف يزيد و الخرج بسببه يكثر و الحاجة إلى أموال الناس تشتد و نطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تمحي دائرتها ويذهب برسمها و يغلبها طالبها و الله أعلم.
الفصل الرابع و الأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول و في أنه يعظم عند الهرم
اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأته لابد لها من العصبية التي بها يتم أمرها و يحصل استيلاؤها و البداوة هي شعار العصبية و الدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك و إن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك و مذاهبه فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة و البداوة و القرب من الناس و سهولة الإذن فإذا رسخ عزه و صار إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامة ما استطاع و يتخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه و أهل دولته و يتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثم إذا استفحل الملك و جاءت مذاهبه و منازعه استحالت أخلاق صاحب الدولة إلى أخلاق الملك و هي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها و معاملتها بما يجب لها و ربما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا و صاروا إلى حالة الانتقام منة فانفرد بمغرفة هذه الآداب الخواص من أوليائهم و حجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على الناس من التعرض لعقا بهم فصار حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء و بحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء و يحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية و عبد الملك و خلفاء بني أمية و كان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جريا عل مذهب الاشتقاق الصحيح. ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف و العز ما هو معررف و كملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني و صار اسم الحاجب أخص به و صار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة و دار العامة كما هو مسطور في أخبارهم. ثم حدث في الدولة حجاب ثالث أخص من الأولين و هو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة و ذلك أن أهل الدولة و خواص الملك إذ نصبوا الأبناء من الأعقاب و حاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنة بطانة ابنه و خواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة و فساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير و يعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه و هذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر و يكون دليلا على هرم الدولة و نفاد قوتها و هو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدولة و ذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك و خصوصا مع الترشيح لذلك و حصول دواعيه و مباديه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)