صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 17 إلى 20 من 36

الموضوع: مقدمة ابن خلدون - الجزء السادس


  1. #17
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها. و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها، فعدوها سبعة: أولها: استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله، أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها، و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن. و ثانيها: أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول، و هو فصل شريق. و ثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة، و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة، إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار، و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك. و رابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله، و لا يبقى للنقص فيه مجال. و خامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها، و يجعل كل مسئلة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده. و سادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله، فيفعل ذلك، و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة، و صارت أصولا لفن البيان، و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم. و سابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك، بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول. فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها. و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل و القحة. و لذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، و انتهى إلى آخرها فقال: و ما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل و القحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. و الله يهدي للتي هي أقوم. الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم. و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم. و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها. و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. و الله سبحانه و تعالى أعلم.
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #18
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل السابع و الثلاثون: في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة. و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات. و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه. و إنما إلى ذلك من سوء التعليم. و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم. و الله يهدي من يشاء. و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون. و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة. و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب. و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب. و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر. و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى. و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب. فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه. و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب


  • #19
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب. و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله. و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها. و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب. و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله. الفصل الثامن و الثلاثون: في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة. و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة. و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها. و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني. و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له.
    الفصل التاسع و الثلاثون: في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث. و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه. و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم. و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب. و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم. و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و


  • #20
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    عنايتهم بالخط تبع لذلك. و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها. و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان. و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها. و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام. و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها. فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي. و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. ثم قال: و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه. ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق. و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه. الفصل الأربعون: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع. و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله. و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين. و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه. و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق. و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا. و من كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله. حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته. و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه. و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة. انتهى.
    الفصل الحادي و الأربعون: في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل: تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها. و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم. و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

  • صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. مقدمة ابن خلدون - الجزء الخامس
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 32
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 03:48 AM
    2. مقدمة ابن خلدون - الجزء الرابع
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 72
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 03:15 AM
    3. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:47 AM
    4. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:24 AM
    5. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1