ثم دخلت سنة ثمان عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة ثمان عشرة - أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط؛ وذلك هو العام الذي يسمّى عام الرمادة.
ذكر القحط وعام الرمادة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس، فتفانى فيها الناس.
وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت الرمادة سنة ثمان عشرة. قال: وكان في ذلك العام طاعون عمواس.
كتب إلي السري يقول، حدثنا شعيب، عن سيف، عن الربيع وأبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إنّ نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم فتأوّلوا، وقالوا: خيّرنا فاخترنا، قال: " فهل أنتم منتهون "! ولم يعزم علينا. فكتب إلى عمر: فذلك بيننا وبينهم، " فهل أنتم منتهون "؛ يعنى فانتهوا. وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة، ويضمّنوا الفسق من تأوّل عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. فكتب عمر إلى أبى عبيدة أن ادعهم؛ فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحدّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثنّ فيكم يا أهل الشام حادث؛ فحدثت الرمادة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبىّ بمثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: لما قدم على عمر كتاب أبى عبيدة في ضرار وأبى جندل، كتب إلى أبى عبيدة في ذلك، وأمره أن يدعو بهم على رءوس الناس فيسألهم: أحرام الخمر أم حلال؟ فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، واستتبهم، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فدعّا بهم فسألهم، فقالوا: بل حرام، فجلدهم، فاستحيوا فلزموا البيوت. ووسوس أبو جندل، فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس، إلّا أن يأتيه الله على يديك بفرج، فاكتب إليه وذكّره، فكتب غليه عمر وذكّره، فكتب إليه: من عمر إلى أبى جندل " إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا تقنط، فأنّ الله عزّ وجلّ، يقول: " يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم ". فلما قرأه عليه أبو عبيدة تطلّق وأسفر عنه. وكتب إلى الآخرين بمثل ذلك فبرزوا، وكتب إلى الناس: عليكم أنفسكم، ومن استوجب التغيير فغيّروا عليه، ولا تعيّروا أحدا فيفشو فيكم البلاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء نحوا منه، إلّا أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا يعيّروهم، وقال: قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فأن قضى الله لنا الشهادة فذلك، وإلّا عمدت للذي يريد. فاستشهد ضرار بن الأزور في قوم، وبقى الآخرون فحدّوا. وقال أبو الزهراء القشيرىّ في ذلك:
ألم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى ** وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ** ولست عن الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ** فخلّانها يبكون حول المعاصر
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وأبى المجالد جراد بن عمرو وأبى عثمان يزيد بن أسيد الغسّانىّ، وأبى حارثة محرز العبشمىّ بإسنادهم، ومحمد بن عبد الله، عن كريب، قالوا: أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وما حولها، فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمّى ذلك العام عام الرمادة، فآلى عمر ألّا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أوّل الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أوّل الحيا، فقدمت السوق عكّة من سمن وطب من لبن؛ فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبرّ الله يمينك، وعظّم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر أغليت بهما، فتصدّق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا. وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعّية إذا لم يمسسنى ما مسّهم! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف السلمىّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت في آخر سنة سبع عشر وأول سنة ثمان عشر، وكانت الرمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتّى جعلت الوحش تأوى إلى الأنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنّه لمقفر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن عبد الرحمن بن كعب، قال: كان الناس بذلك وعمر كالمحصورة عن أهل الأمصار؛ حتى أقبل بلال بن الحارث المزنىّ، فاستأذن عليه، فقال: أنا رسول رسول الله إليك؛ يقول لك رسول الله : لقد عهدتك كيّسا، وما زلت على رجل؛ فما شأنك! فقال متى رأيت هذا؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة! فصلّى بهم ركعتين؛ ثم قام فقال: أيّها الناس، أنشدكم الله، هل تعلمون منىّ أمرا غيره خير منه؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإنّ بلال بن الحارث يزعم ذيّة وذيّة؛ فقالوا: صدق بلال، فاستغث بالله وبالمسلمين، فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر! بلغ البلاء مدتّه فانكشف؛ ما أذن لقوم في الطلب إلّا وقد رفع عنهم البلاء؛ فكتب إلى أمراء الأمصار: أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم؛ وأخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرج وخرج معه بالعباس ماشيا، فخطب فأوجز؛ ثم صلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهمّ إيّاك نعبد وإياك نستعين؛ اللهمّ اغفر لنا وارحمنا وارض عنّا. ثم انصرف، فما بلغوا المنزل راجعين حتى خاضوا الغدران.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّرين الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهنّ شئ، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فيما يرى النائم أنّ رسول الله أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه منّى السلام، وقل له: إنّ عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر؛ فقال لغلامه: استأذن لرسول الله ، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسّا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام؛ هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهمّ لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن؛ فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهمّ عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك، اللهمّ فاسقنا، وأحى العباد والبلاد؟! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وجراد أبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، كلّهم عن رجاء - وزاد أبو عثمان وأبو حارثة: عن عبادة وخالد، عن عبد الرحمن بن غنم - قالوا: كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، ويستمدّهم، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجرّاح في أربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه قسمتها فيمن حول المدينة؛ فلمّا فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين؛ إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علىّ الدنيا، فقال: خذها فلا بأس بذلك إذ لم تطلبه، فأبى فقال: خذها فإنىّ قد وليت لرسول الله مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له كما قلت لي فأعطاني. فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأحيوا مع أوّل الحيا.
وقالوا بإسنادهم: وجاء كتاب عمرو بن العاص جواب كتاب عمر في الاستغاثة: إن البحر الشامىّ حفر لمبعث رسول الله حفيرا، فصبّ في بحر العرب، فسدّه الروم والقبط، فإن أحببت أن يقوم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حفرت له نهرا وبنيت له قناطر. فكتب إليه عمر: أن افعل وعجّل ذلك؛ فقال له أهل مصر: خراجك زاج، وأميرك راض؛ وإن تمّ هذا انكسر الخراج. فكتب إلى عمر بذلك، وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها. فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجّل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها، فعالجه عمرو وهو بالقلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصر إلّا رخاء، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها، حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان رضي الله عنه. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا.
قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أن الرقة والرّها وحرّان فتحت في هذه السنة على يدي عياض بن غنم، وأن عين الوردة فتحت فيها على يدي عمير ابن سعد. وقد ذكرت قول من خالفه في ذلك فيما مضى، وزعم أن عمر رضي الله عنه حوّل المقام في هذه السنة في ذي الحجّة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك. وقال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا.
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: وفي هذها لسنة استقضى عمر شريح ابن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي.
قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وكانت ولاته في هذه السنة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في سنة سبع عشرة.
ثم دخلت سنة تسع عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة
قال أبو جعفر: قال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى عنه: إنّ فتح جلولاء كان في سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدي.
وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرّهاء وحرّان ورأس العين ونصيبين فيسنة تسع عشرة.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل.
وقال أبو معشر: كان فتح قيساريّة في هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - وأميرها معاوية بن أبى سفيان؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازىّ، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدي.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وأما سيف بن عمر فإن قال: كان فتحها في سنة ستّ عشرة.
قال: وكذلك فتح مصر.
وقد مضى الخبر عن فتح قيساريّة قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في قول؛ من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - سالت حرّة ليل نارا - فيما زعم الواقدي - فأراد عمر الخروج إليها بالرّجال، ثمّ أمرهم بالصدقة فانطفأت.
وزعم أيضا الواقدي أنّ المدائن وجلولاء فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وكان عمّاله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاة الذين كانوا عليها في سنة ثمان عشرة.
ثم دخلت سنة عشرين
ذكر الخبر عما كان فيها من مغازي المسلمين وغير ذلك من أمورهم
قال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر في قول ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فتحت مصر سنة عشرين.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بن العاص.
وحدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندريّة سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدي - فيما حدثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين.
وأما سيف فإنه زعم - فيما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف - أنها فتحت والإسكندرية في سنة ستّ عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندرية
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدى من كان؛ على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا؛ فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، أنّ عمر رضي الله عنه حين فرغ من الشأم كلها كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون في سنة عشرين.
قال: وقد اختلف في فتح الإسكندريّة، فبعض الناس يزعم أنها فتحت في سنة خمس وعشرين، وعلى سنتين من خلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وعليها عمرو بن العاص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بن قزمان - رجل من أهل مصر - عن زياد بن جزء الزبيدىّ، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بن الخطاب في سنة إحدى وعشرين - أو سنة اثنتين وعشرين - قال: لما افتتحنا باب اليون تدنّينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية؛ حتى انتهينا إلى بلهيب - قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش - وقد بلغت سبايانا المدينة ومكّة واليمن.
قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن تردّ علىّ ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت.
قال: فبعث إليه عمرو بن العاص: إنّ ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنّي حتى أكتب إليه بالذي عرضت علىّ، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره. قال: فقال: نعم. قال: فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب - قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به - يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم. ثم وقفنا ببلهيب؛ وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا؛ فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد؛ فإنه جاءني كتابك تذكر أنّ صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترّد عليه ما أصيب من سبايا أرضه؛ ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبّ إلىّ من فئ يقسم، ثم كأنّه لم يكن؛ فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيّروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه؛ فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرّق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكّة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردّهم، ولا نحبّ أن نصالحه على أمر لا نفي له به. قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين. قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرّجل ممن في أيدينا، ثمّ نخيّره بين الإسلام وبين النصرانيّة؛ فإذا اختار الإسلام كبّرنا تكبيرة هي أشدّ من تكبيرتنا حين تفتح القرية؛ قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانيّة نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا؛ حتى كأنّه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتى فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن - قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد - قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانيّة - وأبوه وأمه وإخوته في النصارى - فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى. ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإنّ هذه الكناسة التي ترى يابن أبى القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أنّ الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد؛ فقد والله كذب. قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بنى أميّة كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنّ مصر إنما دخلت عنوة؛ وإنما هم عبدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا.
قال أبو جعفر: وأما سيف؛ فإنه ذكر فيما كتب به إلىّ السري، يذكر أن شعيبا حدثه عنه، عن الربيع أبى سعيد، وعن أبي عثمان وأبى حارثة، قالوا: أقام عمر بإيلياء بعد ما صالح أهلها، ودخلها أياما، فأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في أثره الزبير ابن العوّام مددا له، وبعث أبا عبيدة إلى الرمادة، وأمره إن فتح الله عليه أن يرجع إلى عمله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا أبو عثمان عن خالد وعبادة، قالا: خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة؛ حتى انتهى إلى باب اليون، وأتبعه الزبير؛ فاجتمعا، فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيّات بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد. فكفّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: إني بارز فليبرز إلىّ أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضا، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا، إنّ الله عز وجل بعث محمّدا بالحقّ وأمره به، وأمرنا به محمد ، وأدّى إلينا كلّ الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة؛ وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنّعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بك حفظا لرحمنا فيكم، وإنّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمّة إلى ذمّة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيّين خيرا؛ فإنّ رسول الله أوصانا بالقبطيّين خيرا، لأنّ لهم رحما وذمّة، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلّا الأنبياء، معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا، وكانت من أهل منف والملك فيهم، فأديل عليهم أهل عين شمس، فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا، آمنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إنّ مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظروا قومكما؛ وإلّا ناجزتكم، قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعا إلى المقوقس فهمّ، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشئ إلّا رجونا أن يكون له أمان. فلم يفجأ عمرا والزبير إلّا البيات من فرقب، وعمرو على عدّة، فلقوه فقتل ومن معه، ثم ركبوا أكساءهم، وقصد عمرو والزبير لعين الشمس، وبها جمعهم، وبعث إلى الفرّما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندريّة، فنزل عليها، فقال كلّ واحد منهما لأهل مدينته: إن تنزلوا فلكم الأمان، فقالوا: إنّ الإسكندر قال: إني أبني مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنيّة - أو لأبنينّ مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية - فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إنّ الفرما قال: إني أبني مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها.
وكان الإسكندر والفرما أخوين.
قال أبو جعفر: قال الكلبىّ: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، فنسبتا إليهما، فالفرما ينهدم فيها كل يوم شئ، وخلقت مرآتها، وبقيت جدّة الإسكندرية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس؛ وكان الملك بين القبط والنّوب، ونزل معه الزبير عليها. قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلّوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرّضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسّوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين؛ فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة؛ حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه؛ فصاروا ذمّة، وكان صلحهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرّهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمّتنا ممّن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنّوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا. عليهم ما عليهم أثلاثًا في كلّ ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمّته وذمّة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألّا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه. وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلّهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصّر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلّما عمرًا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كلّ شئ أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمّة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزّعوه، ووقع في بلدان العرب. وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعد الوفود فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مرّوا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شئ من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى ردّ ذلك السبى الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلّا من قاتل بعد، فترادّوهم إلّا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرًا أنهم يقولون: ما أرثّ العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذّن لأهل مصر، وجئ باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين؛ فأكلوا أكلًا عربيًا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعًا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد؛ وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر؛ فرأوا شيئًا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوّام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا. وبعث إليهم أن تسلّحوا للعرض غدًا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم. ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شئ حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أنّ من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرّقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه لليّنة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره؛ إنّ عمرًا لعضّ. ثم أمّره عليها وقام بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعيد الربيع ابن النعمان، عن عمرو بن شعيب، قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد. فدمّرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن: إنّا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال: اسكت؛ فإنما أنت كلب، قال: فأنت أمير الكلاب، قال: فلما جعل ذلك يتواصل نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله ؟ فحضر من شهدها من أصحاب رسول الله ، فقال: تقدّموا، فبكم ينصر الله المسلمين. فتقدّموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتحا الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر. وافتتحت مصر في ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك؛ فكان أهل مصر يتدفّقون على الأجلّ، وأهل مكران على راسل وداهر، وأهل سجستان على الشاه وذويه، وأهل خراسان والباب على خاقان، وخاقان ومن دونهما من الأمم، فكفكفهم عمر إبقاء على أهل الإسلام، ولو خلّى سربهم لبلغوا كلّ منهل.
حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمى، فسمّوا رماة الحدق، فلمّا ولّى عبد الله بن سعد بن أبى سرح مصر، ولّاه إياها عثمان بن عفان رضي الله عنه، صالحهم على هديّة عدّة رءوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعامًا مسمّى وكسوة من نحو ذلك.
قال علىّ: قال الوليد: قالابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظرًا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.
قال سيف: ولمّا كان ذو القعدة من سنة ستّ عشرة، وضع عمر رضي الله عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أنّ هرقل أغزى مصر والشأم في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من إمارة عمر رضي الله عنه.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - غزا ارض الروم أبو بحريّة الكندىّ عبد الله بن قيس؛ وهو أوّل من دخلها - فيما قيل. وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلم وغنم.
قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بن مظعون عن البحرين، وحدّه في شرب الخمر.
وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة.
قال: وفيها تزوّج عمر فاطمة بنت الوليد أمّ عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
قال: وفيها توفي بلال بن رباح رضي الله عنه، ودفن في مقبرة دمشق. وفيها عزل عمر سعدًا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلّى.
وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها؛ وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم؛ ومضى إلى وادي القرى فقسمها.
وفيها أجلي يهود نجران إلى الكوفة - فيما زعم الواقدي.
قال الواقدي: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - دوّن عمر رضي الله عنه الدواوين. قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه.
وفيها بعث عمر رضي الله عنه علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة في البحر؛ وذلك أنّ الحبشة كانت تطرّفت - فيما ذكر - طرفًا من أطراف الإسلام؛ فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل في البحر أحدًا أبدًا.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين.
قال الواقدي: وفيها مات أسيد بن الحضير في شعبان.
وفيها ماتت زينب بنت جحش.
وحجّ في هذه السنة عمر رضي الله عنه.
وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلّا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين
قال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكذلك قال الواقدي.
وأمّا سيف بن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنة ثمان عشرة في سنة ستّ من إمارة عمر؛ كتب إلىّ بذلك السري، عن شعيب، عن سيف.
ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند
وكان ابتداء ذلك - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - كان من حديث نهاوند أن النعمان بن مقرّن كان عاملًا على كسكر؛ فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره أنّ سعد ابن وقّاص استعمله على جباية الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه.
فكتب عمر إلى سعد: إنّ النعمان كتب إلىّ يذكر أنّك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهمّ وجوهك؛ إلى نهاوند.
قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب - رجل من الأعاجم - فكتب عمر إلى النعمان بن مقرّن: رسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرّن، سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أمّا بعد؛ فإنه قد بلغني أنّ جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند؛ فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقّهم فتكفّرهم؛ ولا تدخلنّهم غيضة، فإنّ رجلًا من المسلمين أحبّ إلىّ من مائة ألف دينار. والسلام عليك.
فسار النعمان إليه ومعه وجوه أصحاب النبي ؛ منهم حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب الزبيدىّ، وطليحة بن خويلد الأسدىّ، وقيس بن مكشوح المرادي. فلما انتهى النعمان بن مقرّن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونًا، فساروا لا يعلمون الحسك، فزجر بعضهم فرسه؛ وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك؛ فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبّى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح؛ فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لأني رأيت رسول الله يستحبّ ذلك؛ فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال؛ ثم لم يسوّد الله وجهك. وذلك يوم الجمعة. فقال النعمان: نصلّى إن شاء الله، ثم نلقى عدوّنا دبر الصلاة، فلما تصافّوا قال النعمان للناس: إنّي مكبّر ثلاثًا؛ فإذا كبّرت الأولى فشدّ رجل شسعه، وأصلح من شأنه؛ فإذا كبّرت الثانية، فشدّ رجل إزاره، وتهيّأ لوجه حملته؛ فإذا كبّرت الثالثة فاحملوا عليهم؛ فإني حامل. وخرجت الأعاجم قد شدّوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفرّوا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمى النعمان بنشّابة فقتل رحمه الله، فلفّه أخوه سويد بن مقرّن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، وقتل الله ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.
قال أبو جعفر: وقد كان - فيما ذكر لي - بعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع، مولى ثقيف - وكان رجلًا كاتبًا حاسبًا - فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم؛ فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس الله وخمس رسوله؛ وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظامًا، فوالله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي؛ على أن أدلك على كنوز النخيرجان - وهي كنوز آل كسرى - تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت: نعم، قال: فابعث معي من أدلّه عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت؛ فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي؛ ث قدمت على عمر بن الخطاب؛ فقال: ما وراءك يا سائب؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين؛ فتح الله عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرّن رحمه الله. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: ثم بكى فنشج، حتى إنّي لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده. قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه. فقال المستضعفون من المسلمين: لكنّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أمّ عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إنّ معي مالًا عظيمًا قد جئت به، ثم أخبرته خبر السفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعًا إلى الكوفة. قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلم أصبح بعث في أثري رسولًا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلّا الآن. قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: مالي ولابن أمّ السائب! بل ما لابن السائب ومالي! قال: قلت: وماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلّا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارًا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين؛ فخذها عنّي لا أبالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما منّي عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف؛ ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالًا بعد.
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن زياد بن حدير، قال: حدثني أبي؛ أنّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قال للهرمزان حين آمنه: لا بأس، انصح لي، قال: نعم، قال: إنّ فارس اليوم رأس وجناحان؛ قال: وأين الرأس؟ قال: بنهاوند مع بندار؛ فإنّ معه أساورة كسرى وأهل إصبهان، قال: وأين الجناحان؟ فذكر مكانًا نسيته، قال: فاقطع الجناحين يهن الرأس. فقال عمر: كذبت يا عدوّ الله! بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان. قال: فأراد أن يسير إليه بنفسه، فقالوا: نذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى حلبة العجم؛ فإن أصبت لم يكن للمسلمين نظام؛ ولكن ابعث الجنود؛ فبعث أهل المدينة فيهم عبد الله بن عمرو بن الخطّاب، وفيهم المهاجرون والأنصار؛ وكتب إلى أبي موسى الأشعرىّ أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة حتى تجتمعوا جميعًا بنهاوند؛ وكتب: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن المزني؛ فلما اجتمعوا بنهاوند، أرسل بندار العلج إليهم: أن أرسلوا إلينا رجلا نكلّمه؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة. قال أبي: كأني أنظر إليه؛ رجلا طويل الشعر أعور، فأرسلوه إليه، فلمّا جاء سألناه، فقال: وجدته قد استشار أصحابه؛ فقال: بأي شئ نأذن لهذا العربي؟ بشارتنا وبهجتنا وملكنا، أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ فقالوا: لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدّة، فتهيّئوا بها، فلما أتيناهم كادت الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، فإذا هم على رأسه مثل الشياطين، وإذا هو على سرير من ذهب على رأسه التاج. قال: فمضيت كما أنا ونكّست، قال: فدفعت ونهنهت، فقلت: الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا: إنما أنت كلب، فقلت: معاذ الله! لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه؛ فانتهروني، وقالوا: اجلس؛ فأجلسوني. قال - وترجم له قوله: إنكم معشر العرب أبعد الناس قذرًا، وأبعده دارًا؛ وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشّاب إلّا تنجّسًا لجيفكم؛ فإنكم أرجاس؛ فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأتوا نركم مصارعكم؛ قال: فحمدت الله، وأثنيت عليه، فقلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئًا، ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس دارًا، وأشدّ الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كلّ خير، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله ؛ فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة؛ فوالله ما زلنا نتعرّف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر؛ حتى أتيناكم؛ وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما في أيديكم؛ أو نقتل بأرضكم. فقال: أما والله إنّ الأعور قد صدقكم الذي في نفسه. قال: فقمت وقد والله أرعبت العلج جهدي. قال: فأرسل إلينا العلج: إمّا أن تعبروا ألينا بنهاوند؛ وإمّا أن نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا، قال أبى: فلم أر والله مثل ذلك اليوم، إنهم يجيئون كأنهم جبال حديد؛ قد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب، وقد قرن بعضهم بعضًا؛ سبعة في قران، وألقوا حسك الحديد خلفهم، وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم فشلًا، إنّ عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أما والله لو أنّ الأمر لي لقد أعجلتهم - وكان النعمان بن مقرّن رجلًا ليّنًا - فقال له: فالله عز وجل يشهدك أمثالها فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك، إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلّا شئ شهدته من رسول الله ؛ إنّ رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أوّل النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهبّ الأرواح، ويطيب القتال؛ فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إني اسألك أن تقرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، وذلّ يذلّ به الكفّار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله! فأمّنّا وبكينا. ثم قال: إني هاز لوائي فتيسّروا للسلاح، ثم هاز الثانية، فكونوا متأهّبين لقتال عدوّكم، فإذا هززت الثالثة فليحمل كلّ قوم على من يليهم من عدوّهم على بركة الله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)