وهذا خروجٌ عمَّا ذهب إليه الخليل. ولقد كثرت في أمرك أقاويل النَّاس: فمنهم من يزعم أنَّك في ملك النُّعمان اعتقلت، وقال قومٌ: بل الذي فعل بك ما فعل عمرو بن هندٍ. ولو لم يكن لك أثرٌ في العاجلة إلا قصيدتك التي على الدال، لكنت قد أبقيت أثراً حسناً. فيقول طرفة: وددت أنّي لم أنطق مصراعاً،وعدمت في الدار الزّائلة إمراعاً، ودخلت الجنَّة مع الهمج والطَّغام، ولم يعمد لمرسي بالإرغام،وكيف لي بهدءٍ وسكون، أركن إليه بعض الركون؟ " وأمّا القاسطون فكانوالجهنِّم حطباً " .
ويلفت عنقه يتأمّل، فإاذ هو بأوس بن حجر، فيقول: يا أوس، إنَّ أصحابك لا يجيبون السائل فهل لي عندك من جوابٍ؟ فإنِّي أريد أن أسألك عن هذا البيت:
وفارقت وهي لم تجرب، وباع لها
من الفصافص بالنُّمِّيِّ سفسير فإنّه في قصيدتك التي أوِّلها:
هل عاجلٌ من متاع الحيِّ منظور
أم بيت دومة بعد الوصل مهجور ويروي في قصيدة النَّابغة التي أوَّلها:
ودِّع أمامة والتّوديع تعذير
وماوداعك من قفَّت به العير وكذلك البيت الذي قبله:
قد عرِّيت نصف حولٍ اشهراً حدداً
يسفي على رحلها في الحيرة المور وكذلك قوله:
إنّ الرَّحيل إلى قومٍ، وإن بعدوا
أمسوا ومن دونهم ثهلان فالنِّير وكلاكما معدودٌ في الفحول، ايِّ شيءٍ يحمل ذلك؟ فلم تزل تعجبني لاميَّتك التي ذكرت فيها الجرجة وهي الخريطة من الأدم فقلت لمّا وصفت القوس:
فجئت ببيعتي مولياً لا أزيده
عليه بها، حتَى يؤوب المنخَّل ثلاثة أبرادٍ جيادٍ، وجرجةٌ
وأدكن من أري الدَّبور معسَّل فيقول أوسٌ: قد بلغني أنَّ نابغة بني ذبيان في الجنَّة، فأسأله عمَا بدا لك فلعلَّه يخبرك، فإنَّه أجدر بأن يعي هذه الأشياء، فأمَّا أنا فقد ذهلت: نارٌ توقد، وبنانٌ يعقد؛ إذا غلب عليَّ الظَّمأ، رفع لي شيءٌ كالنّهر، فإذا اغترقت منه لأشرب، وجدته سعيراً مضطرماً، فليتني أصبحت درماً، وهو الذي يقال فيه: أودى درمٌ. وهو من بني دبِّ بن مرَّة بن ذهل بن شيبان ولقد دخل الجنَّة من هو شرَّ منِّي، ولكنَّ المغفرة أرزاقٌ، كأنَّها النَّشب في الدار العاجلة. فيقول، صار وليُّه من المتبوعين، وشانئه بالسفَّه من المسبوعين: إنّما أردت أن آخذ عنك هذه الألفاظ، فأتحف بها أهل الجنَّة فأقول: قال لي أوسٌ، وأخبرني أبو شريح. وكان في عزمي أن أسألك عمّا حكاه سيبويه في قولك:
تواهق رجلاها يداه، ورأسه
لها قتبٌ خلف الحقيبة رادف فإنَّي لا أختار أن ترفع الرِّجلان واليدان، ولم تدع إلى ذلك ضرورةٌ،لأنِّك لو قلت: تواهق رجليها يداه لم يزغ الوزن؛ ولعلَّك، إن صحَّ قولك لذلك، أن تكون طلبت المشاكهة، وهذا المذهب يقوى إذا روي: يداها بالإضافة إلى المؤنَّث، فأمَّ في حال الإضافة إلى ضمير المذكَّر فر قوَّة له.
وإنّي لكارهٌ قولك: والخيل خارجةٌ من القسطال أخرجت الاسم إلى مثالٍ قليلٍ، لأنَّ فعلاً لم يجيء في غير المضاعف، وقد حكي: ناقةٌ بها خزعالٌ أي بها ظلعٌ. ويرى رجلاً في النَّار لا يميّزه من غيره، فيقول: من أنت أيُّها الشَّقيُّ؟ فيقول: أنا أبو كبيرٍ الهذلي، عامر بن الحليس، فيقول: إنَّك لمن أعلام هذيلٍ، ولكني لم أوثر قولك:
أزهير هل عن شيبةٍ من معدل
أم لا سبيل إلى الشَّباب الأوَّل وقلت في الأخرى:
أزهير هل عن شيبةٍ من مصرف
أم لا خلود لعاجزٍ متكلِّف وقلت في الثّالثة: أزهير هل عن شيبةٍ من معكم أي من محبس فهذا يدلُّ على ضيق عطنك بالقريض، فهلاّ ابتدأت كلَّ قصيدة بفنٍّ؟ والأصمعيُّ لم يرو لك إلاَّ هذه القصائد الثلاث، وقد حُكي أنّه يروي عنك الرائية التي أوَّلها: أزهير هل عن شيبةٍ من مقصر وأحسن بقولك:
ولقد وردت الماء لم يشرب به
بين الشّتاء إلى شهور الصّيِّف إلاّ عواسل كالمراط معيدةً
باللَّيل مورد أيِّمٍ متغضِّف زقبٌ يظلُّ الذِّئب يتبع ظلِّه
فيه، فيستنُّ استنان الأخلف فصددت عنه ظامئاً، وتركته
يهتزُّ غلفقه، كأن لم يكشف فيقول أبو كبيرٍ الهذليّ: كيف لي أن أقضم على جمراتٍ محرقاتٍ، لأرد عذاباً غدقاتٍ؟ وإنَّما كلام أهل سقر ويلٌ وعويلٌ، ليس لهم إلاّ ذلك حويلٌ، فاذهب لطيّتك، واحذر أن تشغل عن مطيَّتك. فيقول، بلَّغه الله أقاصي الأمل: كيف لا أجذل وقد ضمنت لي الرَّحمة الدائمة، ضمنها من يصدق ضمانه، ويعمُّ أهل الخيفة أمانة؟ فيقول: ما فعل صخر الغيِّ؟ فيقال: هاهو حيث تراه. فيقول: يا صخر الغىِّ ما فعلت دهماؤك؟ لا أرضك لها ولا سماؤك! كانت في عهدك وشبابها رؤدٌ، يأخذك من حبابها الزَّؤد، فلذلك قلت:
إنّي بدهماء عزِّ ما أجد
يعتادني من حبابها زؤد! وأين حصل تليدك؟ شغلك عنه تخليدك، وحقّ لك أن تنساه، كما ذهل وحشيُّ دمي نساه. وإذا هو برجلٍ يتضوّر، فيقول: من هذا؟ فيقال: الأخطل التَّغلبيّ، فيقول له: ما زالت صفتك للخمر، حتى غادرتك أكلاً للجمر، كم طربت السَّادات على قولك:
أناخوا فجرّوا شاصياتٍ كأنَّها
رجالٌ من السُّودان لم يتسربلوا فقلت: اصبحوني، لا أبا لأبيكم
وما وضعوا الأثقال إلاّ ليفعلوا فصبوا عقاراً في الإناء كأنَّها
إذا لمحوها، جذوةٌ تتأكّل وجاؤوا ببيسانيَّةٍ هي، بعدما
يعلُّ بها السّاقي، ألذُّ وأسهل تمرُ بها الأيدي سنيحاً وبارحاً
وتوضع باللَّهم حيَّ، وتحمل فتوقف أحياناً، فيفصل بيننا
غناء مغنٍّ، أو شواءٌ مرعبل فلذَّت لمرتاحٍ، وطابت لشاربٍ
وراجعني منها مراحٌ وأخيل فما لبَّثتنا نشوةٌ لحقت بنا
توابعها ممّا نُعلّ وننّهل تدبُّ دبيباً في العظام كأنَّه
دبيب نمالٍ في نقاً يتهيّل ربت وربا في كرمها ابن مدينةٍ
مكبٌّ على مسحاته يتركَّل إذا خاف من نجمٍ عليها ظماءةً
أدَّب إليها جدولاً يتسلسل فقلت: اقتلوها عنكم بمزاجها
وحبَّ بها مقتولةً حين تقتل فقال التَّغلبيّ: إنّي جررت الذّارع، ولقيت الدَّارع، وهجرت الآبدة، ورجوت أن تدعى النَّفس العابدة، ولكن أبت الأقضية. فيقول، أحلَّ الله الهلكة بمبغضيه: أخطأت في أمرين، جاء الإسلام فعجزت أن تدخل فيه، ولزمت أخلاق السفيه؛ وعاشرت يزيد بن معاوية، وأطعت نفسك الغاوية؛ وآثرت ما فني على باقٍ، فكيف لك بالإباق؟ فيزفر الأخطل زفرةً تعجب لها الزَّبانية، ويقول: آه على أيّام يزيد أسوف عنده عنبرا، ولا أعدم لديه سيسنبرا؛ وأمزح معه مزح خليل، فيحتملني احتمال الجليل؛ وكم ألبسني من موشيّ، أسحبه في البكرة أو العشيّ، وكأنِّي بالقيان الصّدحة بين يديه تغنِّيه بقوله:
ولها بالماطرون إذا
أنفذ النّمل الذي جمعا خلفةٌ حتى إذا ظهرت
سكنتت من جلِّقٍ بيعا في قبابٍ حول دسكرةٍ
حولها الزّيتون قد ينعا وقفت للبدر ترقبه
فإذا بالبدر قد طلعا ولقد فاكهته في بعض الأيَّام وأنا سكران ملتخٌّ فقلت:
اسلم سلمت أبا خالدٍ
وحيَّاك ربُّك بالعنقز اكلت الدَّجاج فأفنيتها
فهل في الخنانيص من مغمز فما زادني عن ابتسام، واهنزَّ للصِّلة كاهتزاز الحسام فيقول، أدام الله تمكينه: من ثمَّ أتيت! أما علمت أنّ ذلك الرجل عاندٌ، وفي جبال المعصية ساندٌ؟ فعلام اطَّلعت من مذهبه: أكان موحِّداً، أم وجدته في النُّسك ملحداً؟ فيقول الأخطل: كانت تعجبه هذه الأبيات:
أخالد هاتي خبِّريني وأعلني
حديثك، إنَّي لا أسرُّ التنّاجيا حديث أبي سفيان لمّا سما بها
إلى أحدٍ حتى أقام البواكيا وكيف بغى أمراً عليَّ ففاته
وأورثه الجدُّ السَّعيد معاويا وقومي فعلَّيني على ذاك قهوةً
تحلَّبها العيسيُّ كرماً شآميا إذا ما نظرنا في أمورٍ قديمةٍ
وجدنا حلالاً شربها المتواليا فلا خلف بين النَّاس أنَّ محمّداً
تبوّأ رمساً في المدينة ثاويا فيقول، جعل الله أوقاته كلَّها سعيدةً: عليك البهلة! قد ذهلت الشّعراء من أهل الجنّة والنَّار عن المدح والنَّسيب، وما شُدهت عن كفرك ولا إساءتك. وإبليس يسمع ذلك الخطاب كلُّه فيقول للزَّبيانية: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالكٍ! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرّة؟ فيقول: ألا تسمعون هذا المتكلِّم بما لا يعنيه؟ قد شغلكم وشغل غيركم عمّا هو فيه! فلو أنَّ فيكم صاحب نحيزةٍ قويَّةٍ، لوثب وثبةً حتى يلحق به فيجذبه إلى سقر. فيقولون: لم تصنع شيئاً يا أبا زوبعة! ليس لنا على أهل الجنَّة سبيلٌ. فإذا سمع، أسمعه الله محاَّبه، ما يقول إبليس، أخذ في شتمه ولعنه وإظهار الشَّماتة به. فيقول، عليه اللَّعنة: ألم تنهوا عن الشَّمات يا بني آدم؟ ولكنَّكم، بحمد الله، ما زجرتم عن شيءٍ إلاّ وركبتموه. فيقول، واصل الله الإحسان إليه: أنت بدأت آدم بالشَّماتة، والبادىء أظلم: ثمَّ يعود إلى كلام الأخطل فيقول: أأنت القائل هذه الأبيات:
ولست بصائمٍ رمضان طوعاً
ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بقائمٍ كالعير أدعو
قبيل الصُّبح: حيَّ على الفلاح! ولكنَّي سأشربها شمولاً
وأسجد عند منبلج الصِّباح! فيقول: أجلٌ، وإنَّي لنادمٌ سادمٌ، وهل أغنت النَّدامة عن أخي كسعٍ؟ ويملُّ من خطاب أهل النَّار، فينصرف إلى قصره المشيد، فإذا صار على ميلٍ أو ميلين، ذكر أنَّه ما سأل عن مهلهل التَّغلبيَّ ولا عن المرقِّشين وأنَّه أغفل الشَّنفرى وتأبَّط شرّاً، فيرجع على أدراجه، فيقف بذلك الموقف ينادي: أين عديُّ ابن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان. فيقول: الذي يستشهد النُّحويُّون بقوله:
ضربت صدرها إليَّ وقالت:
يا عديّاً لقد وقتك الأواقي وقد استشهدوا له بأشياء كقوله:
ولقد خبطن بيوت يشكر خبطةً
أخوالنا، وهم بنو الأعمام وقوله:
[عدل] الندامى
ما أرجِّي بالعيش بعد ندامى
كلُّهم قد سقوا بكأس حلاق فيقال: إنّك لتعرِّف صاحبك بأمرٍ لا معرفة عندنا به، ما النّحويّون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النَّار، فبيِّن غرضك تُجب إليه. فيقول: أريد المعروف بمهلهلٍ التَّغلبيِّ، أخي كُليب وائلٍ الذي كان يضرب به المثل. فيقال: ها هو ذا يسمع حوارك، فقل ماتشاء. فيقول: يا عديَّ بن ربيعة، أعزز عليَّ بولوجك هذا المؤلج! لو لم آسف عليك إلا لأجل قصيدتك التي أوَّلها:
أليلتنا بذي حسمٍ أنيري
إذا أنت انقضيت فلا تحوري لكانت جديرةً أن تطيل الأسف عليك، وقد كنت إذا أنشدت أبياتك في ابنتك المزوَّجة في جنب تغرورق من الحزن عيناي، فأخبرني لِمَ سُمَّيت مهلهلاً؟ فقد قيل: إنّك سُمَّيت بذلك لأنَّك أوَّل من هلهل الشِّعر أيّ رقَّقه. فيقول: إنَّ الكذب لكثيرٌ،وإنَّما كان لي أخٌ يقال له امرؤ القيس فأغار علينا زهيربن جنابٍ الكلبيُّ، فتبعه أخي في زرافةٍ من قومه، فقال في ذلك:
لما توقَّل في الكراع هجينهم
هلهلت أثار مالكاً أو صنبلا وكأنَّه بازٌ علته كبرةٌ
يهدي بشكَّته الرَّعيل الأوَّلا هلهلت: أي قاربت، ويقال: توقَّفت، يعني بالهجين زهير بن جنابٍ. فسمَّي مهلهلاً فلمَّا هلك شبَّهت به فقيل لي: مهلهل. فيقول: الآن شفيت صدري بحقيقة اليقين. فأخبرني عن هذا البيت الذي يروى لك:
أرعدوا ساعة الهياج وأبرق
نا كما توعد الفحول الفحولا فإنَّ الأصمعيَّ كان ينكره ويقول: إنّه مولَّدٌ، وكان أبو زيدٍ يستشهد به ويثبته. فيقول: طال الأبد على لبدٍ! لقد نسيت ما قلت في الدار الفانية، فما الذي أنكر منه؟ فيقول: زعم الأصمعيُّ أنَّه لا يقال أرعد وأبرق في الوعيد ولا في السّحاب، فيقول: إنَّ ذلك لخطأٌ من القول، وإنَّ هذا البيت لم يقله إلاّ رجلٌ من جذم الفصاحة، إما أنا وإمَّا سواي، فخذ به وأعرض عن قول السُّفهاء.
ويسأل عن المرقِّش الأكبر، فإذا هو به في أطباق العذاب، فيقول: خفَّف الله عنك أيُّها الشَّاب المغتصب، فلم أزل في الدار العاجلة حزيناً لما أصابك به الرّجل الغفُليُّ، أحد بني غفيلة ابن قاسطٍ، فعليه بهلة الله! وإنّ قوماً من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميميَّة التي أوّلها:
هل بالدّيار أن تجيب صمم
لو كان حيّاً ناطقاً كلَّم وإنّها عندي لمن المفردات، وكان يعض الأدباء يرى أنَّها والميميَّة التي قالها المرقَّش الأصغر ناقصتان عن القصائد المُفضَّليَّات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة،وبعض النّاس يروي هذا الشّعر لك:
تخيّرت من نعمان عود أراكةٍ
لهندٍ، ولكن من يبلغه هندا؟ خليلي َّجوراً بارك الله فيكما
وإن لم تكن هندٌ لأرضكما قصدا وقولا لها: ليس الضّلال أجارنا
ولكننَّا جُرنا لنلقاكم عمدا ولكننَّا جُرنا لنلقاكم عمدا ولم أجدها في ديوانك، فهل ما حُكي صحيحٌ عنك؟ فيقول: لقد قلت أشياء كثيرةً، منها ما نُقل إليكم ومنها ما لم يُنقل، وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد، ولعلَّك تنكر أنّها في هندٍ، وأنَّ صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المُشبِّب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عُمره مُستهتراً بشخصٍ من النّاس، ثمّ ينصرف إلى شخصٍ آخر، ألا تسمع إلى قولي:
سفهٌ تذكُّره خويلة بعدما
حالت ذُرا نجران دون لقائها وينعطف إلى المُرقِّش الأصغر فيسأله عن شأنه مع بنت المنذر وبنت عجلان فيجده غير خبيرٍ، قد نسي لترادف الأحقاب فيقول: ألا تذكر ما صنع بك جنابٌ الذي تقول فيه:
فآلى جنابٌ حلفةً فأطعته
فنفسك ولِّ اللَّوم إن كنت لائما فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقورين، وسقيت الأمرَّين، وكيف لي بعذاب الدَّار العاجلة!. فإذا لم يجد عنده طائلاً تركه، وسأل عن الشَّنفرى الأزديِّ فألفاه قليل التِّشكِّي والتَّألّم لما هو فيه، فيقول: إنَّي لا أراك قلقاً مثل قلق أصحابك. فيقول: أجل، إنَّي قلت بيتاً في الدّار الخادعة فأنا أتأدَّب به حيريَّ الدهر، وذلك قولي:
غوى فغوت، ثم ارعوى بعد وارعوت
وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل وإذا هو قرينٌ مع تأبَّط شرّاً، كما كان في الدَّار الغرَّارة. فيقول، أسنى الله حظَّه من المغفرة، لتأبّط شرّاً: أحقُّ ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ فيقول: لقد كنَّا في الجاهليَّة نتقوَّل ونتخرَّض، فما جاءك عنَّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والزَّمن كلَّه على سجيَّةٍ واحدةٍ، فالذي شاهده معدُّ بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم. والنُّضاضة آخر ولد الرَّجل. فيقول، أجزل الله عطاءه من الغفران: نّقلت إلينا أبياتٌ تنُسب إليك:
أنا الذي نكح الغيلان في بلدٍ
ما طلَّ فيه سماكيُّ ولا جاد في حيث لا يعمت الغادي عمايته
ولا الظَّليم به يبغي تهبّادا وقد لهوت بمصقولٍ عوارضها
بكرٍ تُنازعني كأساً وعنقادا ثمّ انقضى عصرها عنِّي وأعقبه
عصر المشيب، فقل في صالح: بادا فاستدللت على أنّها لك لمَّا قلت: تهبّادا، مصدر تهبَّد الظليم إذا أكل الهبيد، فقلت: هذا مثل قوله في القافيَّة:
طيف ابنة الحرِّ إذ كُنَّا نواصلها
ثمّ اجتننت بها بعد التِّفرّاق مصدر تفرَّقوا تفرّاقاً، وهذا مطَّردٌ في تفعَّل، وإن كان قليلاً في الشعر، كما قال أبو زبيدٍ:
فثار الزَّاجرون فزاد منهم
تقرّاباً، وصادفه ضبيس فلا يجيبه تأبَّط شراً بطائلٍ. فإذا رأى قلة الفوائد لديهم، تركهم في الشَّقاء السّرمد، وعمد لمحلِّه في الجنان، فيلقى آدم، عليه السّلام، في الطّريق فيقول: يا أبانا، صلَّى الله عليك، قد روي لنا عنك شعرٌ: منه قولك:
حن بنو الأرض وسكَّانها
منها خُلقنا، وإليها نعود والسَّعد لا يبقى لأصحابه
والنَّحس تَّمحوه ليالي السُّعود فيقول: إنَّ هذا القول حقُّ، وما نطقه إلاّ بعض الحكماء، ولكنِّي لم أسمع به حتى السّاعة. فيقول: وفرّ الله قسمه في الثَّواب: فلعلَّك يا أبانا قُلته ثمَّ نسيت، فقد علمت أنَّ النِّسيان متسرّعٌ إليك، وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوَّة في فرقان محمَّدٍ، صلّى الله عليه وسلم: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً " وقد زعم بعض العلماء أنّك إنّما سمِّيت إنساناً لنسيانك، واحتجَّ على ذلك بقولهم في التَّصغير: أنيسيان، وفي الجمع: أناسيّ، وقد روي أنَّ الإنسان من النَّسيان عن ابن عبَّاس، وقال الطائيّ:
لا تنسين تلك العهود وإنَّما
سُميِّيت إنساناً لأنّك ناس وقرأ بعضهم: " ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض النَّاس بكس السَّين، يريد النّاسي، فحذف الياء، كما حذفت في قوله: سواء العاكف فيه والباد. فأمّا البصريُّون فيعتقدون أنَّ الإنسان من الأنس، وأنَّ قولهم في التَّصغير: أنيسيان، شاذ، وقولهم في الجمع: أناسيُّ، أصله أناسين، فأبدلت الياء من النون. والقول الأوَّل أحسن.
آدم كان ينطق العربية في الجنة
فيقول آدم، صلَّى الله عليه: أبيتم إلاَّ عقوقاً وأذيَّةً، إنّما كنت أتكلَّم بالعربيَّة وأنا في الجنَّة، فلمّا هبطت إلى الأرض نُقل لساني إلى السُّريانيَّة، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلمَّا ردَّني الله، سبحانه وتعالى، عادت عليَّ العربيَّة، فأيُّ حينٍ نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة، ألا ترى قوله: منها خُلقنا وإليها نعود فكيف أقول هذا المقال ولساني سُريانيُّ؟ وأمَّا الجنّة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنّه ممّا حُكم على العباد، صُيِّر كأطواق حمام، وما رعى لأحدٍ من ذمامٍ، وأمّا بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي: وإليها نعود، لأنَّه كذبٌ لا محالة، ونحن معاشر أهل الجنَّة خالدن مخلَّدون.
فيقول، قُضي له بالسَّعد المؤرَّب: إن بعض أهل السَّير يزعم أنَّ هذا الشّعر وجده يعرب في متقدم الصُّحف بالسُّريانيَّة، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون. وكذلك يروون لك، صلَّى الله عليك، لمّا قتل قابيل هابيل:
غيَّرت البلاد ومن عنيها
فوجه الأرض مغبرُّ قبيح وأودى ربع أهلها، فبانوا
وغودر في الثَّرى الوجه المليح وبعضهم ينشد: وزال بشاشة الوجه المليح على الأقواء. وفي حكايةٍ، معناها على ما أذكر أنَّ رجلاً من بعض ولدك يعرف بإبن دريد أنشد هذا الشعر، وكانت روايته:وزال بشاشة الوجه المليح فقال: أوَّل ما قال: أقوى. وكان في المجلس أبو سعيد السِّيرافيُّ فقال: يجوز أن يكون : وزال بشاشة الوجه المليح بنصب بشاشة على التَّمييز، وبحذف التَّنوين لإلتقاء السّاكنين، كما قال:
عمرو الذي هشم الثَّريد لقومه
ورجال مكَّة مسنتون عجاف قلت أنا: هذا الوجه الذي قاله أبو سعيدٍ شرٌّ من إقواء عشر مراتٍ في القصيدة الواحدة.
فيقول آدم، صلّى الله عليه: أعزز عليَّ بكم معشر أبينيَّ! إنّكم في الضَّلالة متهوِّكون! آليت ما نطقت هذا النّظيم، ولا نطق في عصري، وإنَّما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله! كذبتم على خالقكم وربَّكم، ثمَّ على آدم أبيكم، ثمَّ على حوُّاء أمِّكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك الأرض.
[عدل] ذات الصفا
ثمّ يضرب سائراً في الفردوس فإذا هو بروضة مؤنقةٍ، وإذا هو بحيَّاتٍ يلعبن ويتماقلن، يتخاففن ويتثاقلن، فيقول: لا إله إلاّ الله! وما تصنع حيّةٌ في الجنّة؟ فينطقها الله، جلَّت عظمته، بعدما ألهمها المعرفة بهاجس الخلد فتقول، أما سمعت في عمرك بذات الصَّفاء، الوافية لصاحبٍ ما وفى؟ كانت تنزل بواد خصيب، ما زمنها في العيشة بقصيب، وكانت تصنع إليه الجميل في ورد الظاهرة والغب، وليس من كفر للمؤمن بسبٍّ فلمّا ثمَّر بودِّها ماله، وأمل أن يجتذب آماله، ذكر عندها ثاره، وأراد أن يفتقر آثاره، وأكبّ على فآسٍ معملةٍ، يحدُّ غرابها للآملة، ووقف للسّاعية على صخرةٍ، وهمَّ أن ينتقم منها بأخرةٍ، وكان أخوه ممَّن قتلته، جاهرته في الحادثة أو قيل ختلته، فضربها ضربةً، وأهون بالمقر شربةً، إذا الرَّجل أحسَّ التَّلف، وفقد من الأنيس الخلف! فلمَّا وقيت ضربة فأسه، والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشدَّ النّدم، ومن له في الجدة بالعدم؟ فقال للحيّة مخادعاً، ولم يكن بما كتم صادعاً: هل لك أن نكون خلَّين، ونحفظ العهد إليَّن؟ ودعاها بالسفه إلى حلف، وقد سُقي من الغدر بخلف. فقالت: لا أفعل وإن طال الدَّهر، وكم قصم بالغير ظهرٌ! إنِّي أجدك فاجراً مسحوراً، لم تأل في خُلَّتك حوراً؛ تأبى لي صكَّةٌ فوق الرأس، مارستها أبأس مراسٍ، ويمنعك من أربك قبرٌ محفور، والأعمال الصّالحة لها وفور،وقد وصف ذلك نابغة بني ذبيان فقال:
وإنِّي لألقى من ذوي الضِّغن منهم
وما أصبحت تشكو من البثّ ساهره كما لقيت ذات الصَّفا من خليلها
وكانت تديه المال غباً وظاهره فلمّا رأى أن ثمر الله ماله
فأصبح مسروراً، وسدَّ مفاقره أكبَّ على فأسٍ يحدُّ غرابها
مذكَّرةٍ، من المعاول، باترة وقام على جحرٍ لها فوق صخرةٍ
ليقتلها، أو تخطىء الكفُّ بادره فلمّا وقاها الله ضربة فأسه
وللبرِّ عينٌ لا تغمِّض ناظره فقال: تعالي نجعل الله بيننا
على مالنا، أو تنجزي لي آخره فقالت: معاذ الله أفعل إننّي
رأيتك مسحوراً يمينك فاجره أبى لي قبرٌ لا يزال مقابلي
وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقر وتقول حيّةٌ أخرى: إنّي كنت أسكن في دار الحسن البصريِّ فيتلو القرآن ليلاً، فتلقَّيت منه الكتاب من أوَّله إلى آخره.
فيقول، لا زال الرُّشد قريناً لمحلِّه: فكيف سمعته يقرأ: فالق الإصباح؟ فإنَّه يروى عنه بفتح الهمزة كأنّه جمع صبحٍ، وكذلك: بالعشيِّ والإبكار كأنّه جمع بكرٍ، من قولهم: لقيته بكراً، وإذا قلنا: إنَّ أنعماً وأشدّاً جمع نعمة بكرةٍ، على طرح الهاء، فيجوز أن تكون الأبكار جمع بكرةٍ، فتكون على قولنا: بكرٌ وأبكارٌ، كما يقال جندٌ وأجناد. فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة، وكنت عليها برهةً من الدَّهر، فلمّا توفَّي، رحمه الله، انتقلت إلى جدارٍ في دار أبي عمرو بن العلاء، فسمعته يقرأ، فرغبت عن حروفٍ من قراءة الحسن كهذين الحرفين، وكقوله: الأنجيل، بفتح الهمزة. فلمَّا توفِّي أبو عمرو كرهت المقام، فانتقلت إلى الكوفة، فأقمت في جوار حمزة بن حبيبٍ، فسمعته يقرأ بأشياء ينكره عليه أصحاب العربيَّة، كخفض الأرحام في قوله تعالى: " واتَّقوا الله الذّي تساءلون به والأرحام " وكسر الياء في قوله تعالى: " وما أنتم بمصرخيّ " وكذلك سكون الهمزة في قوله تعالى: " استكباراً في الأرض ومكر السّيء " وهذا إغلاقٌ لباب العربيَّة، لأنَّ الفرقان ليس بموضع ضرورةٍ، وإنّما حُكي مثل هذا في المنظوم. وقد روي أنَّ امرأ القيس قال:
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
إثماً من الله، ولا واغل وبعضهم يروي: فاليوم أسقى، وإذا روي: فاليوم أشرب، فيجوز أن يكون ثمَّ إشارةٌ إلى الضمَّ لا حكم لها في الوزن، فقد زعم سيبويه أنَّهم يفعلون ذلك في قول الراجز:
متى أنام لا يؤرِّقني الكرى
ليلاً ولا أسمع أصوات المطي وهذا يدل على أنَّهم لم يكونوا يحفلون بطرح الإعراب، فأمّا قول الرَّاجز:
إذا اعوججن قلت: صاحب قوِّم
في الدَّوِّ، أمثال السَّفين العوَّم فإنَّه من عجيب ما جاء، وقد بله قائله عن أن يقول: صاح قوِّم، فلا يكون بالوزن إخلالٌ، ولكنَّ الذين يحتجُّون له يزعمون أنَّه أراد أن يعادل بين الجزئين، لأنَّ قوله: حب قوِّم، في وزن قوله: نل عوَّم، وهذا يشبه ما ادَّعوه في قول الهذلي:
أبيت على معاري فاخرات
بهنَّ ملوَّب كدم العباط يزعم النّحويُّون أنَّ قوله: معاري، بفتح الياء، حمله عليه كراهه الزِّحاف، وهذا قولٌ ينتقض، لأنَّ في هذه الطائيَّة أبياتاً كثيرةً لا تخلو من زحافٍ، وكلُّ قصيدةٍ للعرب وغيرها على هذا القريِّ. وكذلك قوله:
عرفت بأجدثٍ فنعاف عرقٍ
علاماتٍ كتحبير النِّماط فيه زحافان من هذا الجنس، ثمَّ يجيء في كلِّ الأبيات إلا أن يندر شيءٌ. وقد روي عن الأصمعيِّ أنَّه لم يسمع العرب تنشد إلا: أبيت على معارٍ، بالتّنوين، وهذا لا ينقض مذهب أصحاب القياس، إذا كانوا يروون عن أهل الفصاحة خلافه. ويهكر، أزلفه الله مع الأبرار المتَّقين، لما سمع من تلك الحيَّة، فتقول هي: ألا تقيم عندنا برهةً من الدَّهر؟ فإنِّي إذا شئت انتفضث من إهابي فصرت مثل أحسن غواني الجنَّة، لو ترشَّفت رضابي لعلمت أنّه أفضل من الدِّرياقة التي ذكرها ابن مقبلٍ في قوله:
سقتني بصهباء درياقةٍ
متى ما تليِّن عظامي تلن ولو تنفَّست في وجهك لأعلمتك أنَّ صاحبة عنترة تفلةٌ صدوفٌ والصَّدوف: الكريهة رائحة الفم، وإنّما تعني قوله:
وكأنَّ فارة تاجرٍ بقسيمةٍ
سبقت عوارضها إليك من الفم
ولو أدنيت وسادك إلى وسادي، لفضِّلتني على التي يقول فيها الأوَّل:
باتت رقوداً سار الرَّكب مدَّلجاً
وما الأوانس في فكرٍ لسارينا كأنَّ ريقتها مسكٌ على ضربٍ
شيبت بأصهب من بيع الشآمينا يا ربّ، لا تسلبني حبَّها أبداً
ويرحم الله عبداً قال: آمينا فيذعر منها، جعل الله أمنه متَّصلاً، والطّالب شأوه من تقصير منتصلاً، ويذهب مهرولاً في الجنَّة ويقول في نفسه: كيف يركن إلى حيَّةٍ شرفها السُّمُّ، ولها بالفتكة همّ؟ فتناديه: هلُمَّ إن شئت اللَّذَّة، فإنَّي لأفضل من حيَّة ابنة مالكٍ التي ذكرها العبسيُّ في قوله:
ما ولدتني حيَّة ابنة مالكٍ
سفاحاً، ولا قولي أحاديث كاذب وأحمد عشاراً من حيَّة ابنة أزهر التي يقول فيها القائل:
إذا ما شربنا ماء مزنٍ بقهوةٍ
ذكرنا عليها حيَّة ابنة أزهرا ولو أقمت عندنا إلى أن تخبر ودَّنا وإنصافنا، لندمت إن كنت في الدَّار العاجلة قتلت حّيةً أو عثماناً. فيقول وهو يسمع خطابها الرَّائق: لقد ضيّق الله عليَّ مراشف الحور الحسان، إن رضيت بترشُّف هذه الحيَّة. فإذا ضرب في غيطان الجنَّة، لقيته الجارية التي خرجت من تلك الثَّمرة فتقول: إنِّي لأنتظرك منذ حينٍ فما الذي شجنك عن المزار؟ ما طالت الإقامة معك، فأملَّ بالمحاورة مسمعك، قد كان يحقُّ لي أن أوثر لديك على حسب ما تنفرد به العروس، يخصُّها الرّجل بشيءٍ دون الأزواج. فيقول: كانت في نفسي مآرب من مخاطبة أهل النّار، فلمّا قضيت من ذلك وطراً عدت إليك، فاتبعيني بين كثب العنبر وأنقاء المسك. فيتخلّل بها أهاضيب الفردوس ورمال الجنان؛ فتقول: أيّها العبد المرحوم، أظنُّك تحتذي بي فعال الكنديّ في قوله:
فقمت بها أمشي، تجرُّ وراءنا
على إثرنا أذيال مرطٍ مرحَّل فلمّا أجزنا ساحة الحيّ، وانتحى
بنا بطن خبثٍ ذي قفافٍ عقنقل هصرت بفودي رأسها فتمايلت
عليَّ هضيم الكشح ريَّا المخلخل فيقول: العجب لقدرة الله! لقد أصبت ما خطر في السُّويداء، فمن أين لك علمٌ بالكنديّ وإنَّما نشأت في ثمرةٍ تبعدك من جنٍّ وأنيس؟ فيقول: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ويعرض له حديث امرىء القيس في داره جلجلٍ، فينشىء الله، جلّت عظمته، حوراً عيناً يتماقلن في نهرٍ من أنهار الجنَّة، وفيهنَّ من تفضلهنّ كصاحبة امرىء القيس، فيترامين بالثَّرمد، وإنّما هو كأجلِّ طيب الجنَّة، ويعقر لهنَّ الرَّاحلة، فيأكل ويأكلن من بضيعها ما ليس تقع الصِّفة عليه من إمتاعٍ ولذاذةٍ. ويمرُّ بأبياتٍ ليس لها سموق أبيات الجنّة، فيسأل عنها فيقال: هذه جنِّة الرُّجز، يكون فيها: أغلب بني عجلٍ والعجَّاج ورؤبة وأبو النّجم وحميدٌ الأرقط وعذافر بن أوسٍ وأبو نخيلة وكلُّ من غفر له من الرُّجاز، فيقول: تبارك العزيز الوَّهاب! لقد صدق الحديث المرويُّ إنَّ الله يحبُّ معالي الأمور ويكره سفسافها؛ وإنَّ الرّجز لمن سفساف القريض، قصّرتم أيّها النَّفر فقصر بكم.
ويعرض له رؤبة فيقول: يا أبا الجحّاف، ما أكلفك بقوافٍ ليست بالمعجبة تصنع رجزاً على الغين ورجزً على الطاء وعلى الظاء، وعلى غير ذلك من الحروف النّافرة، ولم تكن صاحب مثلٍ مذكورٍ، ولا لفظٍ يستحسن عذبٍ. فيغضب رؤبة ويقول: ألي تقول هذا وعنِّي أخذ الخليل، وكذلك أبو عمرو بن العلاء، غبرت في الدّار السّالفة تفتخر بالَّلفظة تقع إليك ممّا نقله أولئك عنِّي وعن أشباهي؟ فإذا رأى، لا زال خصمه مغلَّباً، ما في رؤبة من الانتخاء قال: لو سبك رجزك ورجزاً أبيك، لم تخرج منه قصيدةٌ مستحسنةٌ، ولقد بلغني أنَّ أبا مسلم كلَّمك بكلامٍ فيه ابن ثأداء، فلم تعرفها حتى سألت عنها بالحيِّ، ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وإنّ غيرك أولى بالأعطية والصِّلات. فيقول رؤبة: أليس رئيسكم في القديم، والذي ضهلت إليه المقاييس، كان يستشهد بقولي ويجعلني له كالأمام؟ فيقول، وهو بالقول منطقٌ: لا فخر لك أن استشهد بكلامك، فقد وجدناهم يستشهدون بكلام أمةٍ وكعاء يحمل القطل إلى النّار الموقدة في السَّبرة التي نفض عليها الشَّبم ريشه، وهدم وأجلُّ أيامها أن تجني عساقل ومغروداً، وتتلو نعماً مطروداً، وإنَّ بعلها في المهنة لسَّيء العذير، غلظ عن الفطن والتَّحذير، وكم روى النُّحاة عن طفلٍ، ماله في الأدب من كفلٍ، وعن امرأةٍ، لم تعدّ يوماً الدّرأة. فيقول رؤبة: أجئت لخصامنا في هذا المنزل؟ فامض لطيّتك، فقد أخذت بكلامنا ما شاء الله. فيقول، أسكت الله مجادلة: أقسمت ما يصلح كلامكم للثنّاء، ولا يفضل عن الهناء، تصكُّون مسامع الممتدح بالجندل، وإنَّما يطرب إلى المندل ومتى خرجتم عن صفة جملٍ، ترثون له من طول العمر، إلى صفة فرسٍ سابحٍ، أو كلبٍ للقنص نابح، فإنًّكم غير الرّاشدين فيقول رؤبة: إنّ الله سبحانه وتعالى قال: " يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم، وإن كلامك لمن اللغو، ما أنت إلى النصغة بذي صغو.
[عدل] العجّاج
فإذا طالت المخاطبة بينه وبين رؤبة، سمع العجّاج فجاء يسأل المحاجزة. ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، ما كان يلحق أخا النِّدام، من فتور في الجسد من المدام، فيختار أن يعرض له ذلك من غير أن ينزف له لبُّ، ولا يتغير عليه خبَّ فإذا هو يخال في العظام النّاعمة دبيب نملٍ، أسرى في المقمرة على رملٍ،فيترنَّم بقول إياس بن الأرتِّ:
أعاذل لو شربت الخمر حتى
يظلَّ لكلِّ أنملةٍ دبيب إذاً لعذرتني وعلمت أنِّي
لما أتلفت من مالي مُصيب ويتَّكىء على مفرشٍ من السُّندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سريرٍ من سرر أهل الجنَّة، وإنَّما هو زبرجدٌ أو عسجدٌ، ويكوِّن البارىء فيه حلقاً من الذَّهب تطيف به من كلِّ الأشرار حتى يأخذ كلُّ واحدٍ من الغلمان، وكلُّ واحدةٍ من الجواري المشبَّهة بالجمان، واحدةً من تلك الحلق، فيُحل على تلك الحال إلى محلِّه المُشيَّد بدار الخلود، فكلَّما مرَّ بشجرةٍ نضخته أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور، وبمسكٍ ما جني من دماء الفور، بل هو بتقدير الله الكريم.
وتناديه الثَّمرات من كلِّ أوبٍ هو مستلقٍ على الظَّهر: هل لك يا أبا الحسن، هل لك؟ فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشَّجرة بمشيئة الله، وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنَّة يلقونه بأصناف التَّحيَّة وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين، لا يزال كذلك أبداً سرمداً، ناعماً في الوقت المتطاول منعمَّاً، لا تجد الغير فيه مزعماً. وقد أطلت في هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرَّسالة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)