وتفرقوا على هذا الرأي، فعاد بهرام بعد أن تكلم بهذا الكلام، وجلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس، وحضره من كان يحاده. فقال لهم: إما أن تجيبوني فيما تكلمت أمس، وإما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. فقال القوم: أما نحن، فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى، ولم نر منه إلا ما نحب؛ ولكن قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج والزينة كما ذكرت بين أسدين، وتتنازعانهما أنت وكسرى، فأيكما تناولها من بينهما، سلمنا له الملك.
فرضي بهرام بمقالتهم، فأوتي بالتاج والزينة موبذان موبذ، الموكل كان بعقد التاج على رأس كل ملك يملك، فوضعهما في ناحية، وجاء بسطام أصبهبذ، بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين، فوقف أحداهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما، ثم قال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى بالبدء وبتناولهما مني؛ لنك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه مغتصب. فلم يكره بهرام قوله، لثقته كانت ببطشه وقوته، وحمل جرزًا، وتوجه نحو التاج والزينة، فقال له موبذان موبذ: استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه؛ إنما هو تطوع منك، لا عن رأي أحدٍ من الفرس، ونحن برآء إلى الله من إتلافك نفسك. فقال بهرام: أنتم من ذلك برآء، ولا وزر عليكم فيه. ثم أسرع نحو الأسدين، فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما، هتف به وقال: بح بذنوبك، وتب منهما، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدم، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبدر إليه أحدهما، فلما دنى من بهرام وثب وثبة، فعلا ظهره، وعصر جنبي الأسد بفخذيه عصرًا أثخنه، وجعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمله، ثم شد الأسد الآخر عليه، فقبض على أذنيه، وعركهما بكلتا يديه، فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما على رأسهما بالجرز الذي كان حمله: وكان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى ومن حضر ذلك المحفل.
فتناول بهرام بعد ذلك التاج والزينة، فكان كسرى أول من هتف به، وقال: عمرك الله بهرام! الذي من حوله سامعون، وله مطيعون، ورزقه ملك أقاليم الأرض السبعة. ثم هتف به جميع الحضر، وقالوا: قد أذعنا للملك بهرام، وخضعنا له ورضينا به ملكًا. وأكثروا الدعاء له. وإن العظماء وأهل البيوتات وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم، وسألوه أن يكلم بهرام في التغمد لإساءتهم في أمره، والصفح والتجاوز عنهم، فكلم المنذر بهرام فيما سألوه من ذلك، واستوهبه ما كان احتمل عليهم في نفسه، فأسعفه بهرام فيما سأل، وبسط آمالهم.
وإن بهرام ملك وهو ابن عشرين سنة، وأمر من يومه ذلك أن يلزم رعيته راحة ودعةً، وجلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية، يعدهم الخير من نفسه، ويأمرهم بتقوى الله وطاعته.
ثم لم يزل بهرام حيث ملك مؤثرًا للهو على ما سواه، حتى كثرت ملامة رعيته إياه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده، والغلبة على ملكه؛ وكان أول من سبق إلى المكاثرة له عليه خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألف رجل من الترك، فبلغ الفرس إقبال خاقان في جمع عظيم إلى بلادهم، فتعاظمهم ذلك وهالهم، ودخل عليه من عظمائهم أناس لهم رأى أصيل، وعندهم نظر للعامة، فقالوا له: إنه قد أزمك أيها الملك من بائقه هذا العد وما قد شغلك عما أنت عليه من اللهو والتلذذ، فتأهب له كيلا يلحقنا منه أمرٌ يلزمك فيه مسبة وعار. فقال لهم بهرام: إن الله ربنا قوي ونحن أولياؤه. ولم يزدد إلا مثابرة على اللهو والتلذذ والصيد.
وإنه تجهز فسار إلى أذربيجان لينسك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى أرمينية، ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره في سبع رهط من العظماءء وأهل البيوتات، وثلثمائة رجل من رابطته ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخًا له يسمى نرسي على ما كان يدبر من ملكه. فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن سار واستخلافه أخاه في أن ذلك هربٌ من عدوه، وإسلام لملكه؛ وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإفرار له بالخراج، مخافةً منه لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم إن هم لم يذعنوا له بذلك. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع له، فآمن ناحيتهم، وأمر جنده بالتورع، فأتى بهرام عينٌ كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزمه، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا مهعه فبيته، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتل في جنده، وانهزم من سلم من القتل منهم، ومنحوه أكتافهم، وخلفوا عسكرهم وذراريهم وأثقالهم، وأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم، ويسبي ذراريهم. وانصرف وجنده سالمين، وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه منها مرزبانًا حباه سريرًا من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين باخعين له بالطاعة، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه، فحد لهم حدًا، وأمر فبنيت منارة، وهي المنارة التي أمر بها فيروز الملك ابن يزدجرد، فقد مت إلى بلاد الترك، ووجه بهرام قائدًا من قواده إلى ما وراء النهر منهم، وأمره بقتالهم فقاتلهم وأثخنهم، حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية.
وإن بهرام انصرف إلى أذربيجان، راجعًا إلأى محلته من السواد، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجوهر، فعلق على بيت نار آذربيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون، فنزل دار المملكة بها، ثم كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان، وما كان من أمره وأمر جنده. ثم ولى أخاه نرسي خراسان، وأمره أن يسير إليها وينزل بلخ، وتقدم إليه بما أراد.
ثم إن بهرام سار في آخر ملكه إلى ماء للصيد بها، فركب ذات يوم للصيد، فشد على عير، وأمعن في طلبه، فارتطم في جب، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلأى ذلك الجب بأموال عظيمة، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه منه، فنقلوا من الجب طينًا كثيرًا وحمأةً. حتى جمعوا من ذلك آكامًا عظامًا، ولم يقدروا على جثة بهرام.
وذكر أن بهرام لما انصرف إلى مملكته من غزوه الترك، خطب أهل مملكته أيامًا متوالية، حثهم في خطبته على لزوم الطاعة، وأعلمهم أن نيته التوسعة عليهم، وإيصال الخير إليهم، وأنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وأن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة، فجحدوا ذلك أو من جحده منهم، ولم يخضعوا له خضوع الخول والعبيد للملوك، فأصاره ذلك إلى الغلظة وضرب الأبشار وسفك الدماء. وإن انصراف بهرام من غزوه ذلك كان على طريق أذربيجان، وإنه نحل بيت نار الشيز ما كان في إكليل خاقان من اليواقيت والجوهر وسيفًا كان لخاقان مفصصًا بدر وجوهر وحلية كثيرة، وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع عن الناس الخراج لثلاث سنين شكرًا على ما لقي من النصر في وجهه، وقسم في الفقراء والمساكين مالًا عظيمًا، وفي البيوتات وذوى الأحساب عشرين ألف ألف درهم، وكتب بخبر خاقان إلى الآفاق كتبًا، يذكر فيها أن الخبر ورد عليه بورود خاقان بلاده، وأنه مجد الله وعظمه وتوكل عليه، وسار نحوه في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق أذربيجان وجبل القبق، حتى نفذ على براري خوارزم ومفازها، فأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر لهم ما وضع عنهم من الخراج، وكان كتابه في ذلك كتابًا بليغًا.
وقد كان بهرام حين أفضى إليه الملك أمر أن يرفع عنأهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وبترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها.
وقيل إن بهرام جور لما انصرف إلى طيسبون من مغزاه خاقان التركي، ولى نرسي أخاه خراسان، وأنزله بلخ، واستوزر مهر نرسي بن برازة، وخصه وجعله بزرجفرمذار، وأعلمه أنه ماضٍ إلى بلاد الهند، ليعرف أخبارها، والتلطف لحيازة بعض مملكة أهلها إلى مملكته؛ ليخفف بذلك بعض مؤونة عن أهل مملكته، وتقدم إليه بما أراد التقدم إليه فيما خلفه عليه إلى أوان انصرافه، وأنه شخص من مملكته حتى دخل أرض الهند متنكرًا، فمكث بها حينًا لا يسأله أحدٌ من أهلها عن شيء من أمره غير ما يرون من فروسيته وقتله السباع، وجماله وكمال خلقه ما يعجبون منه. فلم يزل كذلك حتى بلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل، وقتل ناسًا كثيرًا؛ فسأل بعضهم أن يدله عليه ليقتله، وانتهى أمره إلى الملك فدعا به، وأرسل معه رسولًا ينصرف إليه بخبره. فلما انتهى بهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل، رقي الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنع بهرام. ومضى بهرام ليستخرج الفيل، فصاح به، فخرج إليه مزبدًا وله صوت شديد، ومنظر هائل، فلما قرب من بهرام رماه رميةً وقعت بين عينيه حتى كادت تغيب، ووقذه بالنشاب، حتى بلغ منه، ووثب عليه فأخذه بمشفره، فاجتذبه جذبة جثا لها الفيل على ركبتيه، فلم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه، فاحتز رأسه وحمله الرسول حتى أخرجه إلى الطريق، ورسول الملك ينظر إليه. فلما انصرف الرسول اقتص خبره على الملك، فعجب من شدته وجرأته. وحباه حباء عظيمًا. واستفهمه أمره. فقال له بهرام: أنا رجل من عظماء الفرس، وكان ملك الفرس سخط علي في شيء فهربت منه إلى جوارك، وكان لذلك الملك عدو قد نازعه ملكه، وسار إليه بجنود عظيمة، فاشتد وجل الملك صاحب بهرام منه لما كان يعرف من قوته، وأراده على الخضوع له وحمل الخراج إليه، وهم صاحب بهرام بإجابته إلى ذلك، فنهاه بهرام عن ذلك، وضمن له كفاية أمره، فسكن إلى قوله، وخرج بهرام مستعدًا له، فلما التقوا قال لأساورة الهند: احرسوا ظهري. ثم حمل عليهم فجعل يضرب الرجل على رأسه فتنتهي ضربته إلى فمه، ويضرب وسط الرجل فيقطعه باثنين، ويأتي الفيل فيقد مشفره بالسيف، ويحتمل الفارس عن سرجه - والهند قوم لا يحسنون الرمي، وأكثرهم رجالة لا دواب لهم - وكان بهرام إذا رمى أحدهم أنفذ السهم فيه، فلما عاينوا منه ما عاينوا، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وغنم صاحب بهرام ما كان في عسكر عدوه، وانصرف محبورًا مسرورًا، ومعه بهرام، فكان في مكافأته إياه أن أنكحه ابنته، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وكتب له بذلك كتابًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، وأمر بتلك البلاد حتى ضمت إلى أرض العجم، وحمل خراجها إلى بهرام، وانصرف بهرام مسرورًا.
ثم إنه أغزى مهر نرسي بن بزارة بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها، ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها؛ مما لم يكن يقوم بمثله إلا مثل مهر نرسي، فتوجه في تلك العدة، ودخل القسطنطينية، وقام مقام مشهورًا، وهادنه عظيم الروم، وانصرف بكل الذي أراد بهرام، ولم يزل لمهر نرسي مكرمًا، وربما خفف اسمه فقيل نرسي وربما قيل مهرنرسه، وهو مهر نرسي بن برازة بن فرخزاد بن خورهباذ بن سيسفاذ ابن سيسنابروه بن كي أشك بن دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب.
وكان مهر نرسي معظمًا عند جميع ملوك فارس بحسن أدبه، وجودة آرائه، وسكون العامة إليه، وكان له أولاد مع ذلك قد قاربوه في القدر، وعملوا للملوك من الأعمال ما كادوا يلحقون بمرتبته؛ وإن منهم ثلاثة قد كانوا برزوا: أحدهم زروانداذ؛ كان مهر نرسي قصد به للدين والفقه، فأدرك من ذلك أمرًا عظيمًا، حتى صيره بهرام جور هربذان هربذ، مرتبة شبيهة بمرتبة موبذان موبذ. وكان يقال للآخر: ما جشنس، ولم يزل متوليًا ديوان الخراج أيام بهرام جور. وكان اسم مرتبته بالفارسية راستراي وشانسلان. وكان الثالث اسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفارسية أسطران سلار؛ وهذه مرتبة فوق مرتبة الإصبهذ تقارب مرتبة الأرجبذ، وكان اسم مهر نرسي بمرتبته بالفارسية بزر جفر ماندار؛ وتفسيره بالعربية وزير الوزراء، أو رئيس الرؤساء. وقيل إنه كان من قرية يقال لها إبروان من رستاق دشتبارين من كورة أردشير خرة، فابتنى فيه وفي جره من كورة سابور لاتصال ذلك ودشتبارين أبنية رفيعة، واتخذ فيها بيت نار - هو باق فيما ذكر إلى اليوم. وناره توقد إلى هذه الغاية - يقال لها مهر نرسيان، واتخذ بالقرب من إبروان أربع قرى، وجعل في كل واحدة منها بيت نار؛ فجعل واحدًا منها لنفسه، وسماه فراز مرا آور خذايان، وتفسير ذلك: أقبلي إلى سيدتي. وعلى وجهه التعظيم للنار، وجعل الآخر لزراونداذ، وسماه زراونداذان، والآخر لكارد وسماه كارداذان، والآخر لماجشنس، وسماه ماجشنسفان، واتخذ في هذه الناحية ثلاث باغات، جعل في كل باغ منها اثنتي عشرة ألف نخلة، وفي باغ اثني عشر ألف أصل زيتون، وفي باغ اثنتي عشرة ألف سروة، ولم تزل هذه القرى والباغات وبيوت النيران في يد قوم من ولده معروفين إلى اليوم؛ وإن ذلك - فيما ذكر - إلى اليوم باقٍ على أحسن حالاته.
وذكر أن بهرام بعد قراغه من أمر خاقان وأمر ملك الروم، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة. وسبى منهم خلقًا، ثم انصرف إلى مملكته، ثم كان من أمر هلاكه ما قد وصفت.
واختلفوا في مدة ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا. وقال آخرون كان ملكه ثلاثًا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا.
ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور
ثم قام الملك من بعده يزدجرد بن بهرام جور. فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له وهنئوه بالملك، فرد عليهم ردًا حسنًا، وذكر أباه ومناقبه، وما كان منه إلى الرعية، وطول جلوسه كان لها، وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه مثل الذي كانوا يعهدونه من أبيه، فلا ينبغي لهم أن يستنكروه؛ فإن خلواته إنما تكون في مصلحة للمملكة وكيد الأعداء، وأنه قد استوزر مهر نرسي بن برازة صاحب أبيه، وأنه سائر فيهم بأحسن السيرة، ومستن لهم أفضل السنن، ولم يزل قامعًا لعدوه، رءوفًا برعيته وجنوده، محسنًا إليهم.
وكان له ابنان: يقال لأحدهما هرمز، وكان ملكًا على سجستان، والآخر يقال له فيروز؛ فغلب هرمز على الملك من بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته وقصه هرمز أخيه، وأنه أولى بالملك منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل بهم هرمز، ويحتوي على ملك أبيه، فأبى ملك الهياطلة أن يجيبه إلى ما سأل من ذلك؛ حتى أخبر أن هرمز ملك ظلوم جائر فقال ملك الهياطلة: إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عمل أهله، ولا يستطاع أن ينتصف ويحترف في ملك الملك الجائر إلا بالجور والظلم. فأمد فيروز بعد أن دفع إليه الطالقان بجيش، فأقبل بهم وقاتل هرمز أخاه فقتله، وشتت جمعه، وغلب على الملك.
وكان الروم التاثوا على يزدجرد بن بهرام في الخراج الذي كانوا يحملونه إلى أبيه، فوجه إليهم مهر نرسي بن برازة، وفي مثل العدة التي كان بهرام وجهه إليهم عليها، فبلغ له إرادته.
وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر في قول بعضهم وفي قول آخرين سبع عشرة سنة.
ذكر ملك فيروز بن يزدجرد
ثم ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، بعد أن قتل أخاه وثلاثة نفر من أهل بيته.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: استعد فيروز من خراسان، واستنجد بأهل طخارستان وما يليها، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد، وهو بالري - وكان أمهما واحدة، واسمها دينك، وكانت بالمدائن تدبر ما يليها من الملك - فظفر فيروز بأخيه فحبسه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتدين، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن تدبير ذلك، الأمر حتى قسم ما في بيوت الأموال، وكف عن الجباية، وساسهم أحسن السياسة؛ فلم يهلك في تلك السنين أحدٌ ضياعًا إلا رجل واحد.
وسار إلى قومٍ كانوا قد غلبوا على طخارستان يقال لهم الهياطلة، وقد كان قوادهم في أول ملكه لمعونتهم إياه على أخيه، وكانوا - فيما زعموا - يعملون عمل قوم لوط فلم يستحل ترك البلاد في أيديهم، فقاتلهم فقتلوه في المعركة، وأربعة بنين له، وأربعة أخوة، كلهم كان يتسمى بالملك، وغلبوا على عامة خراسان حتى سار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا من أهل شيراز، وكان فيهم عظيمًا، فخرج فيمن تبعه شبه المحتسب المتطوع حتى لقي صاحب الهياطلة، فأخرجه من بلاد خراسان، فافترقا على الصلح؛ ورد ما لم يضع مما في عسكر فيروز من الأسراء والسبي. وملك سبعًا وعشرين سنة.
وقال غير هشام من أهل الأخبار: كان فيروز ملكًا محدودًا محارفًا مشئومًا على رعيته، وكان جل قوله وفعله فيما هو ضرر وآفة عليه وعلى أهل مملكته. وإن البلاد قحطت في ملكه سبع سنين متوالية، فغارت الأنهار والقنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهاجت عامة الزروع والآجام في السهل والجبل من بلاده، وموتت فيها الطير والوحوش، وجاعت الأنعام والدواب؛ حتى كانت لا تقدر أن تحمل حمولة، وقل ماء دجلة، وعم أهل بلاده اللزبات والمجاعة والجهد والشدائد.
فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية، ولا نائبة ولا سخرة، وأن قد ملكهم أنفسهم، ويأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويقيمهم، ثم أعاد الكتاب إليهم في إخراج كل من كان له منهم مطمورة أو هرى أو طعام أو غيره؛ مما يقوت الناس، والتآسي فيه، وترك الاستئثار فيه؛ وأن يكون حال أهل الغنى والفقر وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدًا. وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسيًا مات جوعًا عاقب أهل المدينة، أو أهل القرية، أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الأنسي جوعًا، ونكل بهم أشد النكاال.
فساس فيروز رعيته في تلك اللزبة والمجاعة سياسة لم يعطب أحد منهم جوعًا؛ ما خلا رجلًا واحدًا من رستاق كورة أردشير خرةٌ، يدعى بديه فتعظم ذلك عظماء الفرس، وجميع أهل أردشير خرة وفيروز، وأنه ابتهل إلى ربه في نشر رحمته له ولرعيته، وإنزال غيثه عليهم؛ فأغاثه الله، وعادت بلاده في كثرة المياه على ما كانت تكون عليه، وصلحت الأشجار.
وإن فيروز أمر فبنيت بالرى مدينة، وسماها رام فيروز، وفيما بين جرجان وباب صول مدينة، وسماها روشن فيروز، وبناحية أذربيجان مدينة وسماها شهرام فيروز.
ولما حييت بلاد فيروز، واستوثق له الملك، وأثخن في اعدائه وقهرم، وفرغ من بناء هذه المدن الثلاث، سار بجنوده نحو خراسان مريدًا حرب إخشنوار ملك الهياطلة؛ فلما بلغ إخشنوار خبره اشتد منه رعبه. فذكر أن رجلًا من أصحاب إخشنوار بذل له نفسه، وقال له: اقطع يديَّ ورجليَّ، وألقنى على طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي - يريد بذلك فيما ذكر الاحتيال لفيروز - ففعل ذلك إخشنوار بذلك الرجل، وألقاه على طريق فيروز، فلما مر به أنكر حاله وسأله عن أمره، فأخبره أن إخشنوار فعل ذلك به لأنه قال له: لا قوام لك بفيروز وجنود الفرس. فرق له فيروز ورحمه، وأمر بحملة معه، فأعلمه على وجه النصح منه له - فيما زعم - أنه يدله وأصحابه على طريق مختصر لم يدخل إلى ملك الهياطلة منه أحد، فاغتر فيروز بذلك منه، وأخذ بالقوم في الطريق الذي ذكره له الأقطع، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة، فكلما شكوا عطشًا أعلمهم أنهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة؛ حتى إذا بلغ بهم موضعًا علم أنهم لا يقدرون فيه على ما تقدم ولا تأخر، بين لهم أمره، فقال أصحاب فيروز لفيروز: قد كنا حذرناك هذا أيها الملك فلم تحذر؛ فأما الآن فلا بد من المضى قدمًا حتى نوافى القوم على الحالات كلها. فمضوا لوجوهم، وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوهم، فلما أشرفوا عليهم على الحال التي هم فيها دعوا إخشنوار إلى الصلح، على أن يخلى سبيلهم؛ حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل فيروز له عهد الله وميثاقة ألا يغزوهم ولا يروم أرضهم، ولا يبعث إليهم جندًا يقاتلونهم، ويجعل بين مملكتها حدًا لا يجوزه. فرضى إخشنوار بذلك، وكتب له به فيروز كتابًا مختومًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، ثم خلى سبيله وانصرف.
فلما صار إلى مملكته حمله الأنف والحمية على معاودة إخشنوار، فغزاه بعد أنم نهاه وزراؤه وخاصته عن ذلك؛ لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلا ركوب رأيه، وكان فيمن نهاه عن ذلك رجل كان يخصه ويجتبى رأيه، يقال له مز دبوذ، فلما رأى مز دبوذ لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها، ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد إخشنوار، وقد كان إخشنوار حفر خندقًا بينه وبين بلاد فيروز عظيمًا، فلما انتهى إليه فيروز عقد عليه القناطر، ونصب عليها رايات جعلها أعلامًا له ولأصحابه في انصرافهم، وجاز إلى القوم، فلما التقى بعسكرهم احتج عليه إخشنوار بالكتاب الذي كتبه له، ووعظه بعهده وميثاقه، فأبى فيروز إلا لجاجًا ومحكًا وتواقفًا، فكلم كل واحد منهما صاحبه كلامًا طويلًا، ونشبت بينهما بعد ذلك الحرب، وأصحاب فيروز على فتور من أمرهم؛ للعهد الذي كان بينهم وبين الهياطلة، وأخرج إخشنوار الصحيفة التي كتبها له فيروز، فرفعها على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب. فانهزم فيروز وسها عن موضع الرايات، وسقط في الخندق، فهلك، وأخذ إخشنوار أثقال فيروز ونساءه وأمواله ودواوينه، وأصحاب جند فارس شيء لم يصبهم مثله قط.
وكان بسجستان رجل من أهل كورة أردشير خرة من الأعاجم، ذو علم وبأس وبطش، يقال له: سوخرا، ومعه جماعة من الأساورة، فلما بلغه خبر فيروز ركب من ليلته، فأغذ السير حتى انتهى إلى إخشنوار، فأرسل إليه وآذنه بالحرب، وتوعده بالجائحة والبوار؛ فبعث إليه إخشنوار جيشًا عظيمًا. فلما التقوا ركب إليهم سوخرا فوجدهم مدلين، فيقال: إنه رمى بعض من ورد عليه منهم رمية فوقعت بين عينى فرسه حتى كادت النشابة تغيب في رأسه، فسقط الفرس، وتمكن سوخرا من راكبه، فاستبقاه وقال له: انصرف إلى صاحبك فأخبره بما رأيت، فانصرفوا إلى إخشنوار، وحملوا الفرس معم، فلما رأى أثر الرمية بهت وأرسل إلى سوخرا: أن سل حاجتك، فقال له: حاجتى أن ترد على الديوان، وتطلق الأسرى. ففعل ذلك، فلما صار الديوان في يده، واستنفذ الأسرى، استخرج من الديوان بيوت الأموال التي كانت مع فيروز، فكتب إلى إخشنوار أنه غير منصرف إلا بها. فلما تبين الجد؛ افتدى نفسه وانصرف سوخرا بعد استنقاذ الأسارى وأخذ الديوان وارتجاع الأموال، وجميع ما كان مع فيروز من خزائنه إلى أرض فارس، فلما صار إلى الأعاجم شرفوه وعظموا أمره، وبلغوا به من المنزلة ما لم يكن بعده إلا الملك.
وهو سوخرا بن ويسابور بن زهان بن نرسى بن ويسابور بن قارن ابن كروان بن أبيد بن أوبيد بن تيرويه بن كردنك بن ناور بن طوس ابن نودكا بن منشو بن نودر بن منوشهر.
وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس من خبر فيروز وخبر إخشنوار نحوًا مما ذكرت؛ غير أنه ذكر أن فيروز لما خرج متوجهًا إلى إخشنوار، استخلف على مدينة طيسبون ومدينة بهرسير - وكانتا محلة الملوك - سوخرا هذا، قال: وكان بقال لمرتبته قارن، وكان يلي معهما سجستان. وأن فيروز لما بلغ منارة كان بهرام جور ابتناها فيما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك؛ لئلا يجوزها الترك إلى خراسان لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدى لها؛ وكان فيروز عاهد إخشنوار ألا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة، أمر فيروز فصفد فيها خمسون فيلا وثلثمائة رجل، فجرت أمامه جرًا، واتبعها؛ أراد بذلك زعم الوفاء لإخشنوار بما عاهده عليه؛ فبلغ إخشنوار ما كان من فيروز في أمر تلك المنارة، فأرسل إليه يقول: انته يا فيروز عما انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه فلم يحفل فيروز بقوله، ولم تكرثه رسالته؛ وجعل يستطعم محاربة إخشنوار، ويدعوه إليها، وجعل إخشنوار يمتنع من محاربته ويستكرهها؛ لأن جل محاربة الترك إنما هو بالخداع والمكر والمكايدة، وأن إخشنوار أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعًا، وغمى بخشب ضعاف، وألقى عليه ترابًا، ثم ارتحل في جنده، فمضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحلة إخشنوار بجنده من عسكره، فلم يشك في أن ذلك منهم انكشاف وهرب، فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب إخشنوار وأصحابه، فأغذوا السير، وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلما بلغوه أقحموا على عماية، فتردى فيه فيروز وعامة جنده، وهلكوا من عند آخرهم.
وإن إخشنوار عطف على عسكر فيروز، فاحتوى على كل شيء فيه، وأسر مو بذان موبذ، وصارت فيروز دخت ابنة فيروز فيمن صار في يده من نساء فيروز، وأمر إخشنوار فاستخرجت جثة فيروز وجثة كل من سقط معه في ذلك الخندق، فوضعت في النواويس، ودعا إخشنوار فيروز دخت إلى أن، يباشرها، فأبت عليه.
وإن خبر هلاك فيروز سقط إلى بلاد فارس، فارتجوا له وفزعوا؛ حتى إذا استقرت حقيقة خبره عند سوخرا تأهب وسار في عظم من كان قبله من الجند إلى بلاد الياطلة. فلما بلغ جرجان بلغ إخشنوار خبر مسيره لمحاربته، فاستعد وأقبل ملتقيًا له، وأرسل إليه يستخبره عن خبره، ويسأله عن اسمه ومرتبته، فأرسل أنه رجل يقال له سوخرا، ولمرتبته قارن، وأنه إنما سار إليه لينتقم منه لفيروز، فأرسل إليه إخشنوار يقول: إن سبيلك في الأمر الذي قدمت له كسبيل فيروز. إذ لم يعقبه في كثرة جنوده من محاربته إياى إلا الهلكة والبوار، فلم ينهنه سوخرا قول إخشنوار، ولم يعبأ به، وأمر جنوده فاستعدوا وتسلحوا، ورحف إلى إخشنوار لشدة إقدامه وحدة قلبه، فطلب موادعته وصلحه، فلم يقبل منه سوخرا صلحًا دون أن يصير في يده كل شيء صار عنده من عسكر فيروز. فسلم إخشنوار إليه ما أصاب من أموال فيروز وخزائنه ومرابطة ونسائه، وفيهن فيروز دخت، ودفع إليه موبذان موبذ وكل أحد كان عنده من عظماء الفرس، فانصرف سوخرا بذلك كله إلى بلاد الفرس.
واختلف في مدة ملك فيروز؛ فقال بعضهم: كانت ستًا وعشرين سنة وقال آخرون: كانت إحدى وعشرين سنة.
ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب وأهل اليمن
حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان يخدم الملوك من حمير في زمان ملكهم أبناء الأشراف من حمير وغيرهم من القبائل؛ فكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي، وكان سيد كندة في زمانه. فلما سار حسان بن تبع إلى جديس خلفه على بعض أموره، فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع، وملك مكانه، اصطنع عمرو بن حجر الكندي. وكان ذا رأي ونبل؛ وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بني أخيه حسان أن زوجه ابنة حسان بن تبع، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلو بها؛ لأنه لم يكن يطمع في التزويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة حسان بن تبع لعمرو بن حجر الحارث بن عمرو، وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب؛ وذلك أن ولد حسان كانوا صغارًا، إلا ما كان من تبع بن حسان؛ فإن الجن استهامته، فأخذ الملك عبد كلال بن مثوب مخافة أن يطمع في الملك غير أهل بيت المملكة، فوليه بسن وتجربة وسياسة حسنه. وكان - فيما ذكروا - على دين النصرانية الأولى، وكان يسر ذلك من قومه، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان، قدم عليه في الشأم، فوثبت حمير بالغساني فقتلته، فرجع تبع بن حسان من استهامة الجن إياه صحيحًا، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من تعلم في زمانه، وأكثره حديثًا عما كان قبله، وما يكون في الزمان بعده. فملك تبع ابن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، فهابته حمير والعرب هيبة شديدة، فبعث بابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء، امرأة من النمر، فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو والكندي ما كانوا يملكون.
وقال هشام: ملك بعد النعمان ابنه المنذر بن النعمان وأمه هند ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة؛ من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشر سنة. وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وأمه هر ابنه النعمان من بنى الهيجمانة، ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الذي أسرته فارس عشرين سنة؛ من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز، ست سنين.
ذكر ملك بلاش بن فيروز
ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه بلاش بن فيروز بن يزدجرد ابن بهرام جور، وكان قباذ أخوه قد نازعه الملك، فغلب بلاش، وهرب قباذ إلى خاقان ملك الترك يسأله المعونة والمدد، فلما عقد التاج لبلاش على رأسه اجتمع إليه العظماء والأشراف فهنئوه ودعوا له، وسألوه أن يكافئ سوخرا بما كان منه، فخصه وأكرمه وحباه، ولم يزل بلاش حسن السيرة، حريصًا على العمارة. وكان بلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتًا خرب وجلا أهله عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تركه انتعاشهم وسد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم، وبنى بالسواد مدينة سماها بلا شاواذ، وهي مدينة ساباط التي بقرب المدائن.
وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك قباذ بن فيروز
ثم ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرًا به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور، ومعه جماعة يسيرة ممن شايعه على الشخوص متنكرين، وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفس قباذ إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زرمهر، وسأله أن يلتمس له امراة ذات حسب، ففعل ذلك، وصار إلى امراة صاحب منزله، وكان رجلًا من الأساورة، وكانت له ابنة بكر فائقة في الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت ذلك زوجها؛ ولم يزل زرمهر يرغب المرأة وزوجها؛ ويشير عليهما بما يرغبهما فيه حتى فعلا، وصارت الابنة إلى قباذ، واسمها نيوندخت، فغشيها قباذ في تلك اليلة، فحملت بأنوشروان، فأمر لها بجائزة حسنة، وحباها حباءً جزيلًا. وقيل: إن أم تلك الجارية سألتها عن هيئة قباذ وحاله، فأعلمتها أنها لا تعرف من ذلك غير أنها رأت سراويله منسوجًا بالذهب، فعلمت أمها أنه من أبناء الملوك وسرها ذلك. ومضى قباذ إلى خاقان؛ فلما وصل إليه أعلمه أنه ابن ملك فارس، وأن أخاه ضاده في الملك وغلبه، وأنه أتاه يستنصره فوعده أحسن العدة، ومكث قباذ عند خاقان أربع سنين يدافعه بما وعده. فلما طال الأمر على قباذ أرسل إلى امرأة خاقان يسألها أن تتخذه ولدًا، وأن تكلم فيه زوجها، وتسأله إنجاز عدته ففعلت، ولم تزل تحمل على خاقان حتى وجه مع قباذ جيشًا، فلما انصرف قباذ بذلك الجيش؛ وصار في ناحية نيسابور سأل الرجل الذي كان أتاه بالجارية عن أمرها، فاستخبر ذلك من أمها، فأخبرته أنها قد ولدت غلامًا، فأمر قباذ أن يؤتى بها، فأتته ومعها أنوشروان تقوده بيدها، فلما دخلت عليه سألها عن قصة الغلام، فأخبرته أنه ابنه، وإذا هو قد نزع إليه في صورته وجماله.
ويقال: إن الخبر ورد عليه في ذلك الموضع بهلاك بلاش، فتيمن بالمولود، وأمر بحمله وحمل أمه على مراكب نساء الملوك، فلما صار إلى المدائن، واستوثق له أمر الملك خص سوخرا، وفوض إليه أمره، وشكر له ما كان من خدمة ابنه إياه، ووجه الجنود إلى الأطراف، ففتكوا في الأعداء، وسبوا سبايا كثيرةً، وبنى بين الأهواز وفارس مدينة الرجان، وبنى أيضًا مدينة حلوان، وبنى بكورة أردشير خرة في ناحية كارزين مدينة يقال لها قباذ خرة، وذلك سوى مدائن وقرى أنشأها، وسوى أنهار احتفرها، وجسورٍ عقدها. فلما مضت أكثر أيامه، وتولى سوخرا تدبير ملكه وسياسة أموره مال الناس عليه، وعاملوه واستخفوا بقباذ، وتهاونوا بأمره، فلما احتنك لم يحتمل ذلك، ولم يرض به، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان إصبهبذ البلاد - في القدوم عليه فيمكن قبله من الجند، فقدم سابور بهم عليه، فواصفه قباذ حالة سوخرا، وأمره بأمره فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد عنده سوخرا جالسًا، فمشى نحو قباذ متجاوزًا له متغافلًا لسوخرا، فلم يأبه سوخرا لذلك من أرب سابور، حتى ألقى وهقًا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه فأخرجه فأوثقه واستودعه السجن، فحينئذٍ قيل: " نقصت ريح سوخرا وهبت لمهران ريحٌ "، وذهب ذلك مثلًا. وإن قباذ أمر بعد ذلك بقتل سوخرا فقتل، وإنه لما مضى لملك قباذ عشر سنين اجتمعت كلمة موبذان موبذ والعظماء على إزالته عن ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، لمتابعته لرجل يقال له مزدك مع أصحاب له قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضلٌ من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به. وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم، وجعلوا أخًا له يقال له جاماسب مكانه، وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى، وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك، وأرادوه على أن يدفع إليهم نفسه فيذبحوه ويجعلوه قربانًا للنار، فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه، فقتل في المزدكية ناسًا كثيرًا، وأعاد قباذ إلى ملكه، وطرح أخاه جاماسب. ثم لم يزل المزدكية بعد ذلك إنما يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله، ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه؛ فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور.
وذكر بعض أهل العلم أخبار الفرس أن العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك وشايعه على ما دعاه إليه من أمره، وملكوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز، وأن أختًا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ محبوسًا، فحاولت الدخول عليه، فمنعها إياه الرجل الموكل كان بالحبس ومن فيه، وطمع الرجل أن يفضحها بذلك السبب، وألقى إليها طمعه فيها، فأخبرته أنها غير مخالفته في شيء مما يهوى منها، فأذن لها فدخلت السجن فأقامت عند قباذ يومًا، وأمرت فلف قباذ في بساط من البسط التي كانت معه في الحبس، وحمل على غلام من غلمانه قوي ضابط، وأخرج من الحبس، فلما مر الغلام بوالى الحبس سأله عما كان حامله فأفحم، واتبعته أخت قباذ فأخبرته أنه فراشٌ قد افترشته في عراكها، وأنها إنما خرجت لتتطهر وتنصرف؛ فصدقها الرجل ولم يمس البساط، ولم يدن مه استقذارًا له، وخلى عن الغلام الحامل لقباذ، فمضى بقباذ ومضت على أثره. وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة ليستمد ملكها ويستجيشه فيحارب من خالفه ومن خلعه. وأنه نزل في مبدئه إليها بأبرشهر رجل من عظماء أهلها، له اينةٌ معصر، وأن نكاحه أم كسرى أنوشروان كان في سفره هذا، وأن قباذ رجع من سفره ذلك معه ابنه أنوشروان وأمه، فغلب أخاه جاماسب على ملكه بعد أن ملك أخوه جاماسب ست سنين، وأن قباذ غزا بعد ذلك بلاد الروم، وافتتح منها مدينةً من مدن الجزيرة تدعى آمد، وسبى أهلها، وأمر فبنيت في حد ما بين فارس وأرض الأهواز مدينة، وسماها رامقباذ، وهي التي تسمى بومقباذ، وتدعى أيضًا أرجان وكور كورة، وجعل لها رساتيق من كورة سرق، كورة رام هرمز، وملك قباذ ابنه كسرى، وكتب له بذلك كتابًا وختمه بخاتمه.
فلما هلك قباذ - وكان ملكه بسنى ملك أخيه جاماسب: ثلاثاُ وأربعين سنة - فنفذ كسرى ما أمر به قباذ من ذلك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)