صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 17 إلى 20 من 33

الموضوع: مقدمة ابن خلدون - الجزء الخامس


  1. #17
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل السادس عشر: في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب و السنة و ما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية و المبتدعة في الاعتقادات اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم يدعونا إلى النجاة و الفوز بالنعيم و أنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين. يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. و كان في خلال هذا الخطاب، و من ضروراته، ذكر صفاته سبحانه و أسمائه، ليعرفنا بذاته، و ذكر الروح المتعلقة بنا، و ذكر الوحي و الملائكة، الوسائط بينه و بين رسله إلينا. و ذكر لنا يوم البعث و إنذاراته و لم يعين لنا الوقت في شيء منه. و ثبت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. و سمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابها. و ذم على اتباعها فقال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب، و حمل العلماء من سلف الصحابة و التابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. و لذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتضح المعنى. و أما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظر و تفسير تصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها و تشتبه. و على هذا قال ابن عباس: المتشابه يؤمن به و لا يعمل به و قال مجاهد و عكرمة: كلما سوى آيات الأحكام و القصص متشابه و عليه القاضي أبو بكر و إمام الحرمين. و قال الثوري و الشعبي و جماعة من علماء السلف: المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة و أوقات الإنذارات و حروف الهجاء في أوائل السور، و قوله في الآية هن أم الكتاب أي معظمة و غالبة و المتشابه أقله، و قد يرد إلى المحكم. ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار و الزنادقة و جهلة أهل البدع. و أن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها و لا يعلمه إلا هو فقال: و ما يعلم تأويله إلا الله. ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: و الراسخون في العلم يقولون آمنا به. و لهذا جعل السلف و الراسخون مستأنفا و رجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء و مع عطفه إنما يكون إيمانا بالشاهد. لأنهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا. و يعضد ذلك قوله كل من عند ربنا و يدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر. إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم. منها المعاني التي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ، و إن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه و لا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. و قد قالت عائشة رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة. و جاء في السنة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد. و إذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة و أشراطها و أوقات الإنذارات و عدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا و الله أعلم من المتشابه، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل و لا غيره و إنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه و على لسان نبيه. و قال: إنما علمها عند الله. و العجب ممن عدها من التشابه. و أما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء و ليس ببعيد أن تكون مرادة. و قد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، و البشر فيها سواء، و التفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. و إن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنه نداء من طاهر و هادي و أمثال ذلك. و النقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. و أما الوحي والملائكة و الروح و الجن، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. و قد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة و الجنة والدجال و الفتن و الشروط، و ما هو بخلاف العوائد المألوفة، و هو غير بعيد، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه. و سيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم، و لم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه و على لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا. و قد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. و تنازعوا و تطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم و إيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول، و ما توفيقي إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، شديد، حي، سميع، بصير. متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. و كذا أثبت لنفسه اليدين و العينين و الوجه و القدم واللسان، إلى غير ذلك من الصفات: فمنها ما يقتضي صحة ألوهية. مثل العلم والقدرة و الإرادة. ثم الحياة التي هي شرط جميعها، و منها ما هي صفة كمال، كالسمع و البصر و الكلام، و منها ما يوهم النقص كالاستواء و النزول و المجيء، و كالوجه و اليدين و العينين التي هي صفات المحدثات. ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. فأما السلف من الصحابة و التابعين فأثبتوا له صفات الألوهية و الكمال و فوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثم اختلف الناس من بعدهم و جاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة، و لم يثبتوا صفة تقوم بذاته. و سموا ذلك توحيدا، و جعلوا الإنسان خالقا لأفعاله. و لا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور و المعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. و جعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. و سموا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر، و أن الأمر كله فستأنف بعلم حادث و قدرة و إرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. و أن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني و أصحابه القائلين بذلك. و انتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخرا إلى معمر السلمي و رجعوا عن القول به. و كان منهم أبو الهذيل العلاف، و هو شيخ المعتزلة. أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. و كان من صفات القدر، و اتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ. ثم جاء إبراهيم النظام، و قال بالقدر، و اتبعوه. و طالع كتب الفلاسفة و شدد في نفي الصفات و قرر قواعد الاعتزال. ثم جاء الجاحظ و الكعبي و الجبائي. و كانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج و الجدال. و هو الذي يسمى كلاما، و إما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام. فلهذا كأنما الشافعي يقول: حقهم أن يضربوا بالجريد و يطاف بهم. و قرر هؤلاء طريقتهم أثبتوا منها و ردوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري و ناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح و الأصلح، فرفض طريقتهم، و كان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب و أبي العباس القلانسي و الحرث ابن أسد المحاسبي من أتباع السلف و على طريقة السنة. فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية و أثبت الصفات لى قائمة بذات الله تعالى، من العلم و القدرة و الإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء. و كان من مذهبهم إثبات الكلام و السمع و البصر لأنها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت و الحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف و الصوت، و هو ما يدور في الخلد. و الكلام حقيقة فيه دون الأول، فأثبتوها لله تعالى و انتفى إيهام النقص. و أثبتوا هذه الضفة قديمة عامة التعلق بشأن
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #18
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الصفات الأخرى. و صار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى. و هو الكلام النفسي و المحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم، فالمراد الأول، و إذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة و الكتابة عليه. و تورع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا إنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة، و لا أن القراءة الجارية على السنة قديمة. و هو شاهدها فحدثه. و إنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. و أما غير ذلك فإنكار للضروريات، و حاشاة منه. و أما السمع و البصر، و إن كان يوهم إدراك الجارحة. فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع و المبصر و ينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما. و أما لفظ الاستواء و المجيء و النزول و الوجه و اليدين و العينين و أمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: يريد أن ينقض و أمثاله، طريقة معروفة. لهم غير منكرة و لا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل، و إن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف و هم المحدثون و المتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى، مجهولة الكيفية. فيقولون في استوى على العرش تثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظة. فرارا من تعطيله. و لا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب، من قوله ليس كمثله شيء سبحان الله عما يصفون تعالى الله عما يقول الظالمون لم يلد و لم يولد و لم يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، و الاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار و التمكن. و هو جسماني. و أما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه، و هو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. و إنما المحذور في تعطيل الآلة. و كذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق و هو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف، ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، و حاشا لله من ذلك. و إنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله، و السكوت عن فهمها. و قد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك: إن الاستواء معلوم الثبوت لله و حاشاه من ذلك، لأنة يعلم مدلول الاستواء. و إنما أراد أن الاستواء معلوم من الله، و هو الجسماني. و كيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، و هي مجهولة الثبوت لله. و كذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء. و أنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم: أين الله ؟ و قالت في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه و سلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر، أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. و القطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار. و من أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل ليس كمثله شيء، وأشباهه. و من قوله: و هو الله في السموات و في الأرض، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، و المراد غيره. ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه و العينين و اليدين، و النزول و الكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية و ينزهونه عن مدلول الجسماني منها. و هذا شيء لا يعرف في اللغة. و قد درج على ذلك الأول و الآخر منهم و نافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية و الحنفية. و رفضوا عقائدهم في ذلك، و وقع بين متكلمي الحنفية ببخارى و بين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف. و أما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية. و أنها لا كالأجسام. و لفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات. و إنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا و أثبتوا الجسمية. يزعمون فيها مثل ذلك و ينزهونه بقول متناقض سفساف، و هو قولهم: جسم لا كالأجسام. و الجسم في لغة العرب هو العميق المحدود و غير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر و غير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي. فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه. و لا كلام نبيه. فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف و المتكلمين السنية و المحدثين والمبتدعة من المعتزلة و المجسمة بما أطلعناك عليه. و في المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال: أعفوني من اللحية و الفرج و سلوا عما بدا لكم من سواهما. و إن لم يتأول ذلك لهم، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة. و حملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم، و إلا فهو كفر صريح و العياذ بالله. و كتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع. و بسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. و إنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات و جملها. و الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط. و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله، و هم أهل السنة. فلا تشابه، و إن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات، و أرفعها. و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى، كأن الحقائق فيها مختلفة. فالطور الأول: عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر. الطور الثاني: عالم النوم، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه. و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر، و هما مختلفان في المدارك كما تراه. الطور الثالث: طور النبوة، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده. و تنزل ملائكته عليهم بوحيه. و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة. الطور الرابع: طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار. و الطوران الأولان شاهدهما وجداني. و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة، مع أن العقل يقتضي به، كما نبهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به. لكان إيجاده الأول عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم. فلا يكون لوجوده الأول حكمة. و العبث على الحكيم محال. وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه.


  • #19
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية. قال الله تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة. و أما مداركه في الطور الثاني. و هو طور النوم. فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب. مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها. و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن. فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها. و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد. الفريق الثاني: المتكلمون. أجملوا فيها القول. و قالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة. و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته. و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار. و أما الطور الثالث، و هو طور الأنبياء. فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية. عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النبي الله و الملائكة. و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة. و يرى الجنة و النار، و العرش و الكرسي، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها، و يلقى النبيين هنالك. و يصلى بهم، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي، بعلم ضروري يخلقه الله له، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح. و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك. فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها. و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته. و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة. و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح. حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات. و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة، و هو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط، و من الخيال إلى الحس المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. و أما الطور الرابع، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر. و هم مجردون عن البدن. أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام. فمداركهم الحسية موجودة، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه. و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، و غير ذلك. و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش، و ناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم: و الذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه، و يرون الملائكة و يرون ربهم، كما ورد في الصحيح: إنكم ترون ربكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. و هذه المدارك لم تكن لهم في. الحياة الدنيا و هي حسية مثلها. و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه. و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، و هي في الجسد. قاله الغزالي رحمه الله، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها. بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن و صورا. و أنا أقول: إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك. أي مدرك كان، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه. و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه، بما يحصل به الحق في توحيدنا. و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء. الفصل السابع عشر: في علم التصوف هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة. و قال القشيري رحمه الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس. و الظاهر أنه لقب. و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال: و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه. قلت: و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان: إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان. و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء. و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه و سلم: من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان. و إذا وقع، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك. و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه. و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة. و غاية أهل


  • #20
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال. و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. و صار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات. و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك. كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم. و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك. ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها. و الروح من تلك العوالم. و سبب هذا الكشف أن. الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما. و يكشف حجاب الحس، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها. و هو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم. و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية. و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها. و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم. ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة. ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين. و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته. و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا. فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك. و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك. و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم. و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات. تفصيل و تحقيق: يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل. و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه. و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى إنه هو عينها. و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا. فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين: أحدهما المباينة في الحيز و الجهة، و يقابله الاتصال. و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد. بالمكان إما صريحا و هو تجسيم، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة. و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته، و لا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده. فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا، و أما مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده. كما يقال في الجماد، لا عالم و لا جاهل، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي. و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. و البارئ سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال: و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به، و لا داخل فيه و لا خارج عنة. و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات. و هو مبسوط في علم الكلام. وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة و المخالفة فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته. و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط. و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم. و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته. و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون و سقراط، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء. فإن تلك مغايرة صريحة. و لا يقولون بذلك. و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة. و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها، متحدة بها في المتصورين، و هي كلها مظاهر له، و هو القائم عليها، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول. الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات. و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية، و هي أوهام. و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة، و وجود في المدرك البشري فقط. و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال، كما

  • صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. مقدمة ابن خلدون - الجزء الرابع
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 72
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 03:15 AM
    2. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:47 AM
    3. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:24 AM
    4. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM
    5. باب الحارة الجزء الخامس
      بواسطة En.muhammed manla في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 03-09-2010, 12:41 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1