فلمّا كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول:
« ما أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلايّ شيء يريدني في هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غ*** إليه إن شاء الله. » فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن عليّ وباب سوق يحيى. ثم قال:
« يا معشر الأبناء، اسمعوا مني أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه. » ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتى كشفوهم.
فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء.
إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أم جعفر
وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر وحبسه هناك، وكذلك فعل بأمّ جعفر.
فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها في القول، حتى [ أ ] جلست في محفّة وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض فقام محمد بن أبي خالد بباب الشام فقال:
« أيّها الناس والله ما أدري بأيّ سبب تأمّر الحسين بن عليّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإني أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيي فليعتزل. » وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره.
وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس:
« اسكتوا. » فسكتوا. فقال:
« أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟ » قالوا: « لا. » قال: « فما بالكم خذلتموه حتى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. »
الحربية يناهضون الحسين بن علي ويحررون محمدا من الأسر
ثم نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض في العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتى هزموهم وأسروا الحسين بن عليّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتى أخذوا السلاح من الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن عليّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال:
« ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟
ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟ » قال: « بلى. » قال: « فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب الناس عليّ؟ » قال: « خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل. » قال: « فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك. » ثم دعا بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثم خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتى عبر الجسر ووقف حتى خفّ الناس، ثم قطع الجسر وهرب.
فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد في طريق نهر بين فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثم حمل عليهم حملات في كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثم عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتى قتلوه. فقال عليّ بن جبلة الحربي:
ألا قاتل الله الأولى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثميّ حسين
لقد أوّدوا منه قناة صليبة ** بشطب يمانيّ ورمح ردين
رجا في خلاف الحقّ عزّا وإمرة ** فألبسه التأميل خفّ حنين
قتل محمد بن يزيد المهلبي
وفي هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبي.
وكان السبب في ذلك
أنّ محمد بن يزيد المهلّبي جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال:
« ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم عليّ؟
فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز. » فقالوا: « الرأي أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك. » فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه: « من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره. » وقاتل الناس بين يديه حتى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد منهزمين فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه: « ما ترون؟ » قالوا: « في ما ذا؟ » قال: « أرى من معي قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. » فقالوا: « والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثم نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك. » ثم نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله.
فحكى الهيثم بن عديّ قال: دخل ابن أبي عيينة المهلّبي على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ** في الصّدر محصورة عن الكلم
فتبسّم طاهر ثم قال:
« أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب في تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة. »
قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [ بن ] حاتم.
وأقام طاهر بالأهواز حتى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثم توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثم كتب منصور بن المهدي وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثم كتب إليه المطّلب بن عبيد الله - وكان بالموصل - بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا ولمّا رآها قال:
« نعم موضع العسكر. » وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن.
فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه في كلّ يوم والصلات والخلع.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
فلمّا قرب طاهر منها قدّم قريش بن شبل على مقدّمته. فلمّا سمع أصحاب البرمكي طبوله أسرجوا الدوابّ، وأخذ البرمكي في تعبئة الرجال وجعل من في أوائل الناس ينضمّ إلى آخرهم، فيردّهم البرمكي ويسوّى صفوفه، فكلّما سوّى صفّا انتقض عليه. فقال:
« اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان. » ثم التفت إلى صاحب ساقته وقال:
« خلّ سبيل الناس فإني أرى جندا لا خير عندهم. » فركب بعضهم بعضا نحو بغداد ونزل طاهر المدائن وقدّم قريش بن شبل والعباس بن بخار أخذاه إلى درزيجان وكان نصر بن منصور بن نصر بن مالك، وأحمد بن سعيد الحرشي معسكرين بنهر ديالى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداذ وتقدّم طاهر حتى صار إلى الدّرزيجان حيال نصر وأحمد، ثم سيّر إليهما الرجال في السفن للقتال، فلم يجر بينهم كبير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر نحو ذات اليسار إلى نهر صرصر فعقد بها جسرا ونزلها.
خلع محمد في مكة والمدينة
وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى عامل مكّة والمدينة محمدا وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين. ثم خرج بنفسه.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ محمدا كتب إلى داود بن عيسى بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث بجند إلى الكتابين اللذين كتبهما هارون وعلّقهما في الكعبة، فأخذهما. فلمّا بلغه في هذا الوقت غلبة طاهر على البلاد وقتله من قتل، جمع الحجبة حجبة الكعبة، وأهل الشرف والفقهاء، فذكّرهم عهد الرشيد إليهم والمواثيق التي أخذها عند بيت الله الحرام عليهم حين بايع لابنيه: لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم. ثم قال:
« قد رأيتم محمدا كيف بدأ بالظلم والبغي على أخويه وكيف بايع لابنه وهو طفل رضيع لم يفطم، واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبا ظالما فحرّقهما بالنار، وقد رأيت خلعه ومبايعة عبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيّا عليه. » فقال القوم بأجمعهم:
« رأينا رأيك. » فوعدهم صلاة الظهر وأرسل إلى فجاج مكّة صائحا يصيح:
« الصلاة جامعة. » فلمّا اجتمع الناس صلّى بهم الظهر، وكان وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعده، وكان داود فصيحا جهيرا فخطب خطبة حسنة ذكّرهم فيها بالشرف والقدمة، وأنّ المسلمين وفود الله إليكم وبكم تأتمّ الناس، ثم ذكّرهم عهد الرشيد وما جرى في الكتابين، وعظّم عليهم الأمر ودعاهم إلى خلع محمد، والبيعة للمأمون، وقال:
« إني قد خلعت محمدا كما خلعت قلنسوتي هذه. - ورمى بها عن رأسه إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برد حبرة حمراء مسلسلة وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - وقد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين، ألا فقوموا إلى البيعة. »
فصعد إليه من قرب من الوجوه والأشراف رجل رجل إلى وقت العصر، ثم نزل وصلّى بالناس وجلس ناحية وتتابع الناس عليه جماعة جماعة يقرأ كتاب البيعة ويصافحونه.
فعل ذلك أيّاما وكتب إلى ابنه سليمان بن داود وكان خليفته على المدينة يأمره أن يفعل بالمدينة كما فعل هو بمكّة، ثم رحل يريد المأمون بمرو، فمرّ على البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان حتى صار إلى المأمون بمرو، فسرّ به المأمون وتيمّن ببركة مكّة والمدينة، وكتب إليهم كتابا لطيفا يعدهم فيه الخير، وأمر أن يكتب لداود عهدان على مكّة والمدينة وأعمالهما وزيّد ولاية عكّ، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم.
وورد داود ومن معه بغداد فنزل على طاهر بن الحسين، فأكرمه وقرّبه، ووجّه معه يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وعقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وكان ضمن له يزيد بن جرير أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك اليمن حتى يخلعوا محمدا ويبايعوا المأمون، وساروا جميعا. فأقام داود على عمله بمكّة ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى البيعة للمأمون وخلع محمد وقرأ عليهم كتاب طاهر وأعلمهم عدل المأمون وإنصافه ووعدهم ومنّاهم، فأجابه أهل اليمن واستبشروا فسار فيهم يزيد بأحسن سيرة وكتب بإجابتهم وبيعتهم.
وفي هذه السنة عقد محمد نحو أربعمائة لواء لقوّاد شتّى، وأمر على جميعهم عليّ بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين. فساروا فالتقوا بجللتا فهزمهم هرثمة وأسر عليّ بن محمد بن نهيك وبعث به هرثمة إلى المأمون وزحف هرثمة فنزل النهروان.
استئمان جماعة من أصحاب طاهر إلى محمد
واستأمن إلى محمد جماعة من أصحاب طاهر، ففرّق محمد فيهم مالا عظيما وقوّد منهم جماعة وغلّل لحاهم بالغالية فسمّوا قوّاد الغالية.
وكان سبب استئمان أصحاب طاهر ما كان يبلغهم من عطاء محمد وبذله الأموال والكسى. فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان فسرّ بهم محمد، ووعدهم ومنّاهم وأثبت أسماءهم في الثمانين، ودسّ محمد إلى أصحاب طاهر، وفرّق فيهم الجواسيس وأطمعهم، فشغبوا على طاهر، وراسل طاهر عيونه وجواسيسه ببغداد بأن يغرى أصاغرهم بأكابرهم، لأنّه فرّق في الأكابر خاصّة مال، فشغبوا على محمد.
ثم أخرج محمد المستأمنة مع خلق كثير - ومع كلّ عشرة أنفس منهم طبل - إلى طاهر، فأرعدوا وأجلبوا حتى أشرفوا على نهر صرصر فعبّى طاهر أصحابه كراديس وجعل يمرّ على كردوس كردوس فيقول:
« لا يغرنّكم كثرة من ترون، فإنّ النصر مع الصدق والفلح مع الصبر. » ثم أمرهم بالتقدّم، فصبر الفريقان ثم انهزم أهل بغداد وانتهبهم أصحاب طاهر، ثم كثر الشغب على محمد ونقب أهل السجون سجونهم وخرجوا، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعّار والشطّار، فعزّ الفاجر وذلّ المؤمن واختلّ الصالح وساءت حال الناس، إلّا من كان في عسكر طاهر، لتفقّده الأمور، وغادي القتال وراوحه حتى خربت بغداد، وتواكل الفريقان وقاتل الأخ أخاه والابن أباه واحترب الناس.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
محاصرة طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمدا ببغداد
وفي هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد.
أمّا زهير فنزل قصرا برقّة كلواذى ونصب المجانيق والعرّادات واحتفر الخنادق، وكان إذا اشتغل الجند بحرب طاهر يرمى بالعرّادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال التجار ويجتبى السفن. وآذى الناس وبلغ منهم كلّ مبلغ وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا ما نزل بهم من زهير، ثم قصده الناس بالحرب وبلغ ذلك هرثمة فأمدّه بالجند وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس.
وأمّا هرثمة فنزل نهربين وجعل عليه خندقا وحائطا، وأعدّ المجانيق والعرّادات، وأنزل طاهر عبيد الله بن الوضّاح الشماسية. وأمّا طاهر فنزل البستان الذي بباب الأنبار.
فذكر عن الحسين الخليع - وكان ينادم محمدا - أنّه قال: لمّا نزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار دخل محمدا أمر عظيم وضاق به ذرعا، وكان فرّق ما في يده من الأموال، فأمر ببيع كلّ ما في الخزائن وضرب آنية الفضّة والذهب دنانير ودراهم يفرّق في أصحابه وفي نفقاته.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فولّاه ناحية من الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة وأمر بحفر الخنادق وبناء الحيطان من كلّ ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمدّه بالنفقات والفعلة والفرسان والسلاح فكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكلّما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبي إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله وأحرق منزله، وفعل ذلك قوّاده وفرسانه ورجّالته حتى أوحشت بغداد. وقال الشعراء في ذلك شيئا كثيرا لم نجد فيه ما نختاره فتركناه.
وسمّى طاهر الأرباض التي خالفته سكانها ومدينة أبي جعفر والشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها: دار النكث، وقبض ضياع من لم ينجز إليه من بنى هاشم والقوّاد والموالي وغلّاتهم، حيث كانت من عمله فذلّوا وانكسروا، وتواكلت الأجناد عن القتال إلّا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين.
وكان الأمين قد تقدّم إلى خالد بن أبي الصقر والهرش بإباحتهم النهب والاستعانة بهم على قتال طاهر. وكان محمد بن عيسى بن نهيك صاحب شرطة محمد يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد وكان مهيبا في الحرب وكان من يجرى مجراه من أصحاب محمد عليّ أفراهمرد، وكان موكّلا بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر وفي يده مجانيق وعرّادات يحفظ بها ما في يده من تلك النواحي إلى حدّ الجسور، فأمر الباعة والغوعاء والعراة باتخاذ تراس من البواري وبالرمي بالمقاليع وما أشبهها، فكانوا يقاتلون ويؤثّرون في أصحاب طاهر وهرثمة، ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب ووكّل الأمر كلّها إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش.
فأمّا الفضل بن الربيع فإنّه استتر وخفى أمره قبل أن ينتهى بهم الأمر إلى هذا بزمان كثير، فاستكلب العيّارون والعراة وسلبوا من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الذمّة والملّة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أنّ مثله كان في شيء من الأوقات المتقدّمه. فأمّا في المستأنف فقد جرت أمور عظام قبيحة مثل هذا وأقبح منه سنذكرها إذا بلغنا إليها إن شاء الله.
فلمّا طال ذلك على الناس وضاقت بغداد بأهلها استأمن محمد بن عيسى صاحب الشرطة وعليّ افراهمرد إلى طاهر، فضعف أمر محمد جدّا وأيقن بالهلاك وخرج من بغداد كلّ من كانت به قوّة، بعد الغرم الفادح وبعد المضايقة العظيمة والخطر الفاحش، فكان الرجل أو المرأة إذا تخلّص من أصحاب الهرش وصار إلى أصحاب طاهر، ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من حليّها وغير ذلك، وكذلك الرجل.
ولمّا صارت الحرب بين العيّارين وبين أصحاب طاهر، خرج قائد من قوّاد خراسان، ممّن كان مع طاهر بن الحسين من أهل البأس والنجدة، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فاستهان بهم واستحقرهم وقال لأصحابه:
« ما يقاتلنا إلّا من أرى؟ » قالوا: « نعم، هؤلاء هم الآفة. » قال: « أفّ لكم حين تخيمون عن هؤلاء وتنكصون عنهم وأنتم في السلاح الظاهر والعدّة، وأنتم أصحاب الشجاعة والبسالة وما عسى أن يبلغ كيد هؤلاء بلا سلاح ولا جنّة؟ » ثم أوتر قوسه وتقدّم ووضع عينه على بعضهم، فقصد نحوه وفي يده بارية مقيّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلّما رمى بسهم استتر منه العيّار، فوقع في باريته وقريبا منه فيأخذه فيجعله في موضع من باريته قد هيّأه لذلك شبيها بالجعبة، فكلّما وقع في ترسه منهم أخذه وصاح.
« دنق. » أى ثمن النشّابة دنق قد أحرزه.
فلم يزل حال الخراساني وحال العيّار تلك، حتى أنفد الخراساني سهامه، ثم حمل على العيّار ليضربه بسيفه، فأخرج العيّار من مخلاته حجرا فجعله في مقلاعه ورماه، فما أخطأ به عينه، ثم ثنّاه سريعا فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحامله وكرّ راجعا وهو يقول:
« ما هؤلاء بإنس. » فحدّث طاهر بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إليهم. وقال بعض شعراء أهل بغداد:
خرّجت هذه الحروب رجالا ** لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا في جواشن الصّوف يعدو ** ن إلى الحرب كالأسود الضّوارى
وعليهم مغافر الخوص تجزي ** هم عن البيض والتّراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ** طال عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشدّ على أل ** فين عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذا طعن ال ** طّعنة خذها من الفتى العيّار
في أبيات كثيرة، ووصفهم الشعراء كثيرا.
وأخذ طاهر في الهدم والحرق على من خالفه ومنع الملّاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد ووضع الرّصد عليهم فكان يحوى في كلّ يوم ناحية بعد ناحية ويخندق عليها ويقيم عليها المقاتلة. فكان أصحاب محمد ينقضون، حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد ويكونون أضرّ عليهم من أصحاب طاهر.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ولمّا منع طاهر الميرة من بغداد وكان يأخذ من كلّ سفينة تحمل دقيقا أو غيره مالا عظيما غلت الأسعار، وصار أمر الناس إلى القنوط واليأس من الفرج وحسد المقيم منهم من قد خرج عنها. وصار أمر محمد إلى أن أمر غلامه زرنج بتتبّع الأموال وطلبها عند من وجد، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم ويبيّتهم ليلا ويأخذ بالظنّة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة وأهلك خلقا.
ثم إنّ حاتم بن الصقر من قوّاد محمد وكان قد واعد أصحابه العراة أن يواقعوا عبيد الله بن الوضّاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولّى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا.
الخبر عن هزيمة هرثمة
وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته وليردّ العسكر إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد ونشّبت الحرب بينهم فأسر رجل من العراة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على العريان فقطع يده وخلّص هرثمة، فمرّ منهزما وبلغ خبره أهل عسكره فتقوّض بما فيه وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز الليل أصحاب محمد عن الطلب والنهب والأسر، فلم يتراجع أصحاب هرثمة إلّا بعد يومين وثلاثة، وقويت العراة بما صار في أيديهم. وقيلت في هذه الوقعة أشعار كثيرة.
وبلغ طاهرا هزيمة عبيد الله بن الوضّاح وهرثمة وما صار إلى العراة من سلاحهم وأموالهم، فاشتدّ عليه وقام منه وقعد، ووجّه إلى أصحابه وعبّأهم وأمر بعقد جسر فوق الشمّاسيّة وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا النهر وقاتلوهم أشدّ قتال يكون، حتى ردّوا أصحاب محمد وأزالوهم عن الشماسية وردّ إليها جند عبيد الله وهرثمة. وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه بالخيزرانية بعد ظفر العراة ألفي ألف درهم في مواضعها وقد كانت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم. فحرقها أصحاب طاهر وكانت السقوف مذهّبة.
وهرب عبيد الله بن خازم بن خزيمة، لأنّ محمدا اتهمه وتحامل عليه قوم من السفلة والعيّارين، فخافهم على نفسه فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، وأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال وفعل ذلك بمواطأة طاهر.
وضاق على محمد أمره ونفذ ما كان عنده ولم يبق له حيلة، وطلب الناس الأرزاق فقال عند ضجره بذلك:
« وددت أنّ الله قتل الفريقين جميعا وأراحنى منهم، فما منهما إلّا عدوّ، وأمّا هؤلاء فيريدون مالي ولم يبق، وأمّا هؤلاء فيريدون نفسي. »
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
بين خزيمة وطاهر
وفيها كاتب طاهر خزيمة بن خازم يذكر له أنّ الأمر إن انقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته لم يقصر في مكروهه. فلمّا وصل كتابه إليه شاور ثقاته فقال له أصحابه وأهل بيته:
« نرى والله إنّ هذا الرجل آخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا. » فكتب إلى طاهر بطاعته وأخبره أنّه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه على كلّ هول، وأعلمه قلّة ثقته بهرثمة ويناشده ألّا يحمله على مكروه عظيم إلّا أن يضمن له القيام دونه، ووعده بإدخال هرثمة وقطع الجسور وأنّه يتّبع هواه ويؤثر رضاه، وأنّه إن لم يضمن ذلك فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف.
فكتب طاهرا إلى هرثمة يلومه ويعجّزه ويقول:
« جمعت الأجناد وأتلفت الأموال دون أمير المؤمنين ودوني في مثل حاجتي إلى النفقات وقد توقّفت عن قوم هيّنة شوكتهم يسير أمرهم توقّف المحجم الهائب لهم، استعدّ للدخول فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو ألّا يختلف عليك في ذلك اثنان، إن شاء الله. » فأجابه هرثمة:
« أنا عارف ببركة رأيك ويمن مشورتك فمر بما أحببت، فلن أخالفك. » قال: فكتب بذلك طاهر إلى خزيمة.
خزيمة ودعوته للمأمون
وكان كتب طاهر إلى محمد بن عليّ بن عيسى بمثل ذلك قبل، فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن عليّ بن عيسى على جسر دجلة، فقطعاه وركّزا أعلامهما عليه وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل الجانب الشرقي ولزموا منازلهم وأسواقهم من يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى تقدّمه قوم وعادوا إليه فحلفوا أنّه لا يرى مكروه فدخل حينئذ.
وباكر طاهر من غد ذلك اليوم وهو يوم الخميس المدينة وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتى الصراة العتيقة والحديثة واشتدّ عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه وقاتل بين يديه أصحابه حتى هزم أصحاب محمد، وفرّوا على وجوههم لا يلوى أحد على أحد حتى دخل قسرا بالسيف، وأمر مناديه بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضّاح وسوق الكرخ والأطراف قوّادا وجندا في كلّ موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبّها في دجلة بالخيول والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورماه.
وخرج محمد بأمّه وولده إلى مدينة أبي جعفر وتفرّق عنه عامّة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد وتفرّق الغوغاء والسفلة. وتحصّن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
فحكى طارق الخادم وكان من خاصّة محمد - وكان المأمون بعد ذلك أيضا يقدّمه - أن محمدا سأله يوما من الأيّام وهو محصور - أو قال في آخر يوم من أيّامه - أنّ أطعمه شيئا. قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا فجئت إلى حمرة العطّارة وكانت خازنة الجوهر فقلت لها:
« إنّ أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء؟ فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ » فقالت لجارية لها يقال لها بنان:
« أيّ شيء عندك؟ » فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل وطلب ماء يشربه فلم يجد في خزانة الشراب ماء، فأمسى وكان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه.
ذكر اتفاقات عجيبة
حكى إبراهيم بن المهدي أنّه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب لمّا حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرّج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار في قرن الصراة في جوف الليل، ثم أرسل إليّ فصرت إليه، فقال لي:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)