حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أن عون، قال: حدثنا الحسن، قال: أنبأني وثّاب - قال: وكان فيمن أدركه عتق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، قال: ورأيت بحلقة أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يومئذ يوم الدار - قال: بعثني عثمان، فدعوت له الأشتر، فجاء - قال ابن عون: فأظنّه قال: فطرحت لأمير المؤمنين وسادة وله وسادة - فقال: يا أشتر؛ ما يريد الناس مني؟ قال: ثلاثًا ليس من إحداهن بدٌّ؛ قال: ما هنَّ؟ قال: يخبرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا له من شئتم، وبين أن تقصَّ من نفسك؛ فإن أبيت هاتين فإنّ القوم قاتلوك. فقال: أما من إحداهن بدٌّ! قال: ما من إحداهنّ بدٌّ، فقال: أمّا أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالًا سربلنيه الله عز وجل - قال: وقال غيره: والله لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبُّ إلي من أن أخلع قميصًاَ قمّصنيه الله وأترك أمّة محمد يعد وبعضها على بعض. قال ابن عون: وهذا أشبه بكلامه - وأمّا أن أقصّ من نفسي؛ فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قد كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وأما أن تقتلوني، فو الله لئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبدًا، ولا تصلّون جميعًا بعدي أبدًا، ولا تقاتلون بعدي عدوًّا جميعًا أبدًا. قال: فقام الأشتر فانطلق؛ فمكثنا أيامًا. قال: مثم جاء رويجل كأنه ذئب، فاطّلع من باب، ثم رجع وجاء محمد بن أبي بكر وثلاثة عشر حتى انتهى إلى عثمان، فأخذ بلحيته، فقال بها حتى سمعت وقع أضراسه، وقال: ما أغني عنك معاوية، ما إغني عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتب! قال: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي. قال: وأنا رأيته استعدي رجلًا من القوم بعينه، فقام إليه بمشقص حتى وجأ به في رأسه. قلت: ثم مه؛ قال: تغاووا عليه حتى قتلوه.
وذكر الواقدي أنّ يحيى بن عبد العزيز حدثه عن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة، قال: خرجت في نفر من قومي إلى المصريين وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي - وقد كان هذا الاسم غلب حتى كان يقال: حبيس بن الحمق - وابن النِّباع. قال: فدخلت عليهم وهم في خباء لهم أربعتهم، ورأيت الناس لهم تبعًا، قال: فعظّمت حقّ عثمان وما في رقابهم من البيعة، وخوّفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أنّ في قتله اختلافًا وأمرًا عظيمًا؛ فلا تكونوا أوّلأ من فتحه، وأنه ينزع عن هذه الخصال التي نقمتم منها عليه، وأنا ضامن لذلك. قال القوم: فإن لم ينزع؟ قال: قلت: فأمركم إليكم. قال: فانصرف القوم وهو راضون، فرجعت إلى عثمان، فقلت: أخلني فأخلاني، فقلت: الله الله يا عثمان في نفسك! إنّ هؤلاء القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أصحابك لك؛ لا بل هم يقوّون عدوّك عليك. قال: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرًا. قال: ثمّ خرجت من عنده، فأقمت ما شاء الله أن أقيم.
قال: وقد تكلّم عثمان برجوع المصريين، وذكر أنهم جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن آتيه فأعنِّفه بهما، ثم سكتّ فإذا قائل يقول: قد قدم المصريون وهم بالسُّويداء، قال: قلت: أحقُّ ما تقول؟ قال: نعم، قال: فأرسل إلي عثمان.
قال: وإذا الخير قد جاءه، وقد نزل القوم من ساعتهم ذا خشب، فقال: يا أباعبد الرحمن، هؤلاء القوم قد رجعوا، فما الرأي فيهم؟ قال: قلت: والله ما أردي؛ إلّا أني أظن أنهم لم يرجعوا لخير. قال: فارجع إليهم فارددهم، قال: قلت: لا والله ما أنا بفاعل، قال: ولم؟ قال: لأنّي ضمنت لهم أمورًا تزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها. قال: فقال: الله المستعان.
قال: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عثمان.
قال: وجاءني عبد الرحمن بن عبديس ومع سودان بن حمران وصاحباه، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ألم تعلم أنّك مكلّمتنا وراتنا وعمت أنّ صاحبنا نازعٌ عمّا نكره؟ فقلت بلى، قال: فإذا هم يخرجون إلي صحيفة صغيرة.
قال: وإذا قصبة من رصاص؛ فإذا هم يقولون: وجدنا جملًا من إبلالصدقة عليه غلام عثمان، فأخذنا متاعه ففتّشناه، فوجدنا فيه هذا الكتاب؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حتى يأتيك أمري؛ وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك، وسودان بن حمران مثل ذلك؛ وعروة بن النباع الليثي مثل ذلك. قال: فقلت: وما يدريكم أنّ عثمان كتب بهذا؟ قالوا: فيفتات مروان على عثمان بهذا! فهذا شرّ؛ فيخرج نفسه من هذا الأمر. ثم قالوا: انطلق معنا إليه، فقد كلمنا عليًّا، ووعدنا أن يكلّمه إذا صلى الظهر. وجئنا سعد بن أبي وقّاص، فقال: لا أدخل في أمركم. وجئنا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال مثل هذا؛ فقال محمد: فأين وعدكم علي؟ قالوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عليه.
قال محمد: فصليت مع علي، قال: ثم دخلت أنا وعلي عليه، فقلنا: إن هؤلاء المصريين بالبا، فأذن لهم - قال: ومروان عنده جالس - قال: فقال مروان: دعني جعلت فداك أكلّمهم! قال: فقال عثمان: فضّ الله فاك! اخرج عني؛ وما كلامك في هذا الأمر! قال: فخرج مروان، قال: وأقبل علي عليه - قالب: وقد أنهى المصريُّون إليه مثل الذي أنهوا إلي - قال: فجعل علي يخبره ما وجدوا في كتابهم. قال: فجعل يقسم بالله ما كتب ولا علم ولا شوور فيه. قال: فقال محمد بن مسلمة: والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك؛ فاخرج إليهم، فكلِّمهم؛ فإنهم يسمعون منك. قال علي: والله ما أنا بفاعل؛ ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم؛ قال: فادخلوا.
قال محمد بن مسلمة: فدخلوا يومئذ، فما سلّموا عليه بالخلافة، فعرفت أنه الشرّ بعينه؛ قالوا: سلام عليكم، فقلنا: وعليكم السلام، قال: فتكلَّم القوم وقد قدّموا في كلامهم ابن عديس، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملًا منه على المسلمين وأهل الذمّة، وذكر استئثارًا منه في غنائم المسلمين؛ فإذا قيل له في ذلك، قال: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدنية، وما خالف به صاحبيه. قال: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع؛ مفردّنا علي ومحمد مبن مسلمة، وضمن لنا محمد النزوع عن كلّ ما تكلمنا فيه - ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة، فقالوا: هل قلت ذاك لنا؟ قال محمد: فقلت: نعم - ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكونن حجة لنا بعد حجّة حتى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد، تأمره فيه بجلد ظهورنا، والمثل بنا في أشعارنا وطول الحبس لنا؛ وهذا كتابك.
قال: فحمد الله عثمان وأنثى عليه، ثم قال: والله ما كتبت ولا أمرت، ولا شوورت ولا علمت. قال: فقلت وعلي جميعًا: قد صدق. قال: فاستراح إليها عثمان، فقال المصريون: فمن كتبه؟ قال: لا أدري، قال: أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات لامسلمين، وينقش على خاتمك، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قال: نعم، قالوا: فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه قال: لا أنزع قميصًا مألبسنيه الله عز وجل. مقال: وكثرت الأصوات واللغط، فما كنت أظنّ أنهم يخرجون حتى يواثبوه. قال: وقام علي فخرج، قال: فلمّا قام علي قمت، قال: وقال للمصريين: اخرجوا، فخرجوا. قال: ورجعت إلى منزلي ورجع علي إلى منزله، فما برحوا محاصريه حتى قتلوه.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن سفيان بن أبي العوجاء، قال: قدم المصريّون القدمة الأولى، فكلتم عثمان محمد بن مسلمة، فخرج في خمسين راكبًا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردّهم، ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب، وجدوا غلامًا لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد، فكرّوا، فانتهوا إلى المدينة، وقد تخلّف بها من الناس الأشتر موحيم بن جمبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عثمان أن يكون كتبه، وقال: هذا مفتعل، قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قال: أجل؛ ولكنّه كتبه بغيرأمري، قالوا: فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؛ قال: أجل؛ ولكنه خرج بغير إذني، قالوا: فالجمل جملك، قال: أجل؛ ولكنه أخذ بغير علمي، قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب؛ فإن كنت كاذبًا فد استحققت مالخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقًا فقد استحققت أنتخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته. وقالوا له: إنّك ضربت رجالًا من أصحاب النبي وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك؛ فأقدمن نفسك من ضربته وأنت له ظالم، فقال: الإمام يخطىء ويصيب؛ فلا أقيد من نفسي؛ لأني لو أقدت كلّ من أصبته بخطإ آتي على نفسي؛ قالوا: إنك قد أحدثت أحداثًا عظامًا فاستحققت بها الخلع؛ فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عدت إليها وإلى مثلها، ثم تدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق؛ ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا ما حدث من أمر، فأخفرته فتبرّأ منك، وقال: لا أدخل في أمره؛ فرجعنا أوّلأ مرة لنقطع محجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك؛ نستظهر بالله عز وجل عليك؛ فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب. وزعمت أنه متب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عليك بذلك التُّهمة القبيحة، مع ما بلونا منك قبل ذلك ممن الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس، والإظهار للتوبة، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة، ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله من لم يحدث مثل مما جرّبنا منك، ولم يقع عليه من التُّهمة ما وقع عليك؛ فازدد خلافتنا؛ واعتزل أمرنا، فإنّ ذلك أسلم لنا منك، وأسلم لك منا.
فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسلوه؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. أمّا بعد، فإنكم لم تعدلوا في المنطق، ولم تنصفوا في القضاء؛ أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصًا قمَّصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصّني به على غيري؛ ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون؛ فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه. قالوا: إنّ هذا لو كان أوّلأ حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تقم عليه؛ لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك؛ ولكنه قد كان منك من الإحداث قبل هذا ما قد علمت، ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا، ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك. وكيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أنك لا تعطى من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت إليه؛ فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي مرحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم؛ حتى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. مفقال عثمان: أمَّا أن أتبرَأ من الإمارة؛ فإن تصلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من أمر الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني؛ فإنّي لا آمر أحدًا بقتالكم، لقد كنت كتبت إلى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق؛ فالله الله في أنفسكم فأبقوا عليها إن لم تبقوا علي؛ فإنكم مجتلبون بهذا الأمر - إن قتلتموني - دمًا. قال: ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم، فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين.
قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن مسلم، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان؛ دخل عليه ثم خرج من عنده وهو يسترجع مما يرى على الباب؛ فقال له مروان: الآن تندم! أنت أشعرته. فأسمع سعدًا يقول: أستغفر الله، لم أكن أظنّ الناس يجترئون هذه الجرأة، ولا يطلبون دمه، وقد دخلت عليه الآن فتكلم بكلام لم تحضره أنت ولا أصحابك، فنزع عن كلّ ما كره منه، وأعطى التوبة، وقال: لا أتمادى في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق؛ فأنا أتوب وأنزع. فقال مروان: إن كنت تريد أن تذبّ عنه؛ فعليك بابن أبي طالب، فإنه متستّر، وهو لا يجبه؛ فخرج سعد حتى أتى عليًّا وهو بين القبر والمنبر، فقال: يا أبا حسن؛ قم فداك أبي وأمّي! جئتك والله بخير ما جاء به أحد قطّ إلى أحد، تصل رحم ابن عمّك، وتأخذ بالفضل عليه، وتحقن دمه، ويرجع الأمر على ما نحبّ، قد أعطى خليفتك من نفسه الرضا. فقال علي: تقبّل الله منه يا أبا إسحاق! والله ما زلت أذبّ عنه حتى إني لأستحي؛ ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد ابن العاص هم صنعوا به ما ترى؛ فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتى جاء ما ترى. قال: فبينا هم كذلك جاء محمد بن أبي بكر. فسارّ عليًّا؛ فأخذ علي بيدي، ونهض علي وهو يقول: وأي خير توبته هذه! فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة؛ أن عثمان قد قتل؛ فلم نزل والله في شرّ إلى يومنا هذا.
قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، قال: لما خرج المصريّون إلى عثمان رضي الله عنه، بعث عبد الله بن سعد رسولًا أسرع السير يعلم عثمان بمخرجهم، ويخبره أنهم يظهرون أنهم يريدون العمرة. فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عثمان، وبعث إلى أهل مكة يحذّر من هناك هؤلاء المصريين، ويخبّرهم أنهم قد طعنوا على إمامهم. ثمّ إن عبد الله بن سعد خرج إلى عثمان في آثار المصريين - وقد كان كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له - فقدم ابن سعد؛ حتى إذا كان بأيلة بلغه أنّ المصريين قد رجعوا إلى عثمان، وأنهم قد حصروه، ومحمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما بلغ محمدًا حصر عثمان وخروج عبد الله بن سعد عنه غلب على مصر، فاستجابوا له، فأقبل عبد الله بن سعد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حذيفة، فوجّه إلى فلسطين، فأقام بها حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وأقبل المصريون حتى نزلوا بالأسواف، فحصروا عثمان، وقدم حكيم بن جبلة من البصرة في ركب، وقدم الأشتر في أهل الكوفة، فتوافوا بالمدينة، فاعتزل الأشتر؛ فاعتزل حكيم بن جبلة، وكان ابن عديس وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يومًا، حتى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين.
قال محمد: وحدثني إبراهيم بن سالم، عن أبيه، عن بسر بن سعيد، قال: وحدثني عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة، قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه، فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا بن عياش، تعال. فأخذ بيدي، فأسمعني كلام من على باب عثمان، فسمعنا كلامًا؛ منهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا علسى أن يراجع، فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله؛ فوقف فقال: أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا، قال: فجاءه ابن عديس، فناجاه بشيء، ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على هذا الرجل؛ ولا يخرج من عنده. قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله. ثم قال عثمان: اللهمّ اكفني طلحة بن عبيد الله، فإنه حمل علي هؤلاء وألّبهم؛ والله إني لأرجو أن يكون منها صفرًا، وأن يسفك دمه، إنه انتهك مني ما لا يحلّ له، سمعت رسول الله يقول: " لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم، أو رجل قتل نفسًا بغير نفس "، ففيم أقتل! قال: ثم رجع عثمان. قال ابن عياش: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى مرّ بي محمد بن أبي بكر فقال: خلّوه، فخلّوني.
قال محمد: حدثني يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: رأيت اليوم الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم خوخة هناك حتى دخلوا الدار، فناوشوهم شيئًا من مناوشة ودخلوا، فوالله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران، فأسمعه يقول: أين طلحة بن عبيد الله؟ قد قتلنا ابن عفان! قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، عن أبي حفصة اليماني، قال: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته - يعني مروان - فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعًا؛ وكنت أكون معه، فلما حصر عثمان رضي الله عنه، شمّرت معه بنو أمية، ودخل معه مروان الدار. قال: فكنت معه في الدار، قال: فأنا والله أنشبت القتال بين الناس؛ رميت من فوق الدار رجلًا من أسلم فقتلته؛ وهو نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثم نزلت، فاقتتل الناس على الباب، وقاتل مروان حتى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عليه، وألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان، فاحترق بعضها، فقال عثمان: ما احترق الباب إلّا لما هو أعظم منه، لا يحرّكنّ رجل منكم يده؛ فوالله لو كنت أقصاكم لتخطّوكم حتى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله ، لأصرعنّ مصرعي الذي كتب الله عز وجل. فقال مروان: والله لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثم خرج بالسيف على الباب يتمثّل بهذا الشعر:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
أنّي أروع أوّل الرعيل ** بفارةٍ مثل قطا الشليل
قال محمد: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن أبي حفصة، قال: لما كان يوم الخميس دلّيت حجرًا من فوق الدار، فقتلت رجلًا من أسلم يقال له نيار، فأرسلوا إلى عثمان: أن أمكنّا من قاتله. قال: والله ما أعرف له قاتلًا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأوّل من طلع علينا كنانة بن عتّاب، في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا، قد فتح له من دار آل حزم، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنّفط؛ فقاتلناهم ساعة على الخشب، وقد اضطرم الخسب، فأسمع عثمان يقول لأصحابه: ما بعد الحريق شيء! قد احترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره؛ فإنما يريدني القوم، وسيندمون على قتلي؛ والله لو تركوني لظننت أني لا أحبّ الحياة؛ ولقد تغيّرت حالي، وسقط أسناني، ورقّ عظمي.
قال: ثم قال لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مروان، فقال: والله لا تقتل، ولا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثم خرج إلى الناس. فقلت: ما لمولاي متّرك! فخرجت معه أذبّ عنه، ونحن قليل، فأسمع مروان يتمثّل:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
ثم صاح: من يبارز؟ وقد رفع أسفل درعه؛ فجعله في منطقته. قال: فيثب إليه ابن النباع فضربه ضربة على رقبته من خلفه فأثبته؛ حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم بن العدي. قال: فكان عبد الملك وبنو أميّة يعرفون ذلك لآل العدي.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن ابن الحراث بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن الحارث بن هشام، قال: كأني أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبي الله وعثمان بن عفان رضي الله عنه محصور، فخرج مروان بن الحكم، فقال من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إلى هذا الرجل، فقام إليه غلام شابّ طوال؛ فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فأعور له عن ساقه، فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأني أنظر إليه حين استدار. وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرفي ليدفّف عليه، قال: فوثبت عليه فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم ابن عدي - قال: وكانت أرضعت مروان وأرضعت له - فقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل؛ وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. قال: فكفّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها، فاستعلموا ابنها إبراهيم بعد.
وقال ابن إسحاق: قال عبد الرحمن بن عديس البلوي حين سار إلى المدينة من مصر:
أقبلن من بلبيس والصّعيد ** مستحقبات حلق الحديد
يطلبن حقّ الله في سعيد ** حتى رجعن بالذي نريد
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، قال: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلّا الإقامة على أمره، وأرسل إلى حشمه وخاصّته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي يقال له نيار بن عياض - وكان شيخًا كبيرًا - فنادى: يا عثمان؛ فأشرف عليه من أعلى داره؛ فناشده الله، وذكّره الله لمّا اعتزلهم! فبينا هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أنّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي؛ فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي؛ فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه؛ وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة في عصابة؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مددًا من أهل البصرة قد نزلوا صرارًا - وهي من المدينة على ليلة - وأن أهل الشام قد توجّهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزًا:
قد علمت جارية عطبول ** لها وشاح ولها حجول
أتى بنصل السيف خنشليل
فحمل عليه عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو يقول:
إن تك بالسّيف كما تقول ** فاثبت لقرن ماجد يصول
بمشرفي حدّه مصقول
فضربه عبد الله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى أنه قتله؛ وجرح عبد الله بن الزبير جراحات، وانهزم القوم حتى لجئوا إلى القصر، فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عليه قتالًا شديدًا، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان، ثمّ نادى الناس فأقبلوا عليه من داره، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا، وخلّى لهم عن باب الدار؛ فخرجوا هرّابًا في طرق المدينة؛ وبقي عثمان في أناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه؛ وقتل عثمان رضي الله عنه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري، قال: أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه ذات يوم، فقال: السلام عليكم، قال: فما سمع أحدًا من الناس ردّ عليه إلّا أن يردّ رجل في نفسه، فقال: أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين! قال: قيل: نعم. قال: فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر! قال: أنشدكم الله هل علمتم أنّي اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أحدًا من الناس منع أن يصلّي فيه قبلي! قال: أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله يذكر كذا وكذا؛ أشياء في شأنه، وذكر الله إياه أيضًا في كتابه المفصّل. قال: ففشا النهى.
قال: فجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين، قال: وفشا النهي. قال: وقام الأشتر - قال: ولا أدري يومئذ أو في يوم آخر - فقال: لعله قد مكر به وبكم! قال: فوطئه الناس، حتى لقي كذا وكذا، قال: فرأيته أشرف عليهم مرّة أخرى، فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة. وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة أوّل ما يسمعونها؛ فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم. قال: ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه. قال: وذاك أنه رأى من الليل أنّ نبي الله يقول: " أفطر عندنا الليلة ".
قال أبو المعتمر: فحدثنا الحسن: أنّ محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته. قال: فقال له: قد أخذت منّا مأخذًا، وقعدت مني مقعدًا ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه. قال: فخرج وتركه. قال: ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود. قال: فخنقه تم خفقه. قال: ثم خرج فقال: والله ما رأيت شيئًا قطّ ألين من حلقه؛ والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه يتردّد في جسده كنفس الجانّ. قال: فخرج.
قال في حديث أبي سعيد: دخل على عثمان رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله - قال: والمصحف بين يديه - قال: فيهوي له بالسيف، فاتّقاه بيده، فقطعها، فقال: لا أدري أبانها أم قطعها ولم يبنها. قال: فقال: أما والله إنها لأوّل كفّ خطّت المفصّل. وقال في غير حديث أبي سعيد: فدخل عليه التجيبي، فأشعره مشقصًا فانتضح الدم على هذه الآية: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ". قال: فإنها في المصحف ما حكّت.
قال: وأخذت ابنة الفرافصة - في حديث أبي سعيد - حليها فوضعته في حجرها، وذلك قبل أن يقتل، قال: فلما أشعر - أو قال: قتل - ناحت عليه. قال: فقال بعضهم: قاتلها الله! ما أعظم عجيزتها! قال: فعلمت أن عدوّ الله لم يرد إلّا الدنيا.
وأما سيف، فإنه قال - فيما كتب إلى السري، عن شعيب، عنه: ذُكر عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إنّ الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إنّ الدنيا تفنى، والآخرة تبقى؛ فلا تبطرنّكم الفانية، ولا تشغلنّكم عن الباقية؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإن الدنيا منقطعة؛ وإنّ المصير إلى الله. اتقوا الله جلّ وعزّ، فإنّ تقواه جنّة من بأسه، ووسيلة عنده؛ واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم، لا تصيروا أحزابًا، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته وعزم وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله، قال: اخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب، وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني. وأرسل إلى طلحة والزبير وعلي وعدّة: أن ادنوا. فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يأيّها الناس؛ اجلسوا، فجلسوا جميعًا؛ المحارب الطارىء، والمسالم المقيم، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّي أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي؛ وإنّي والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءهه؛ ولأدعنّ هؤلاء وما وراء بابي غير معطيهم شيئًا يتّخذونه عليكم دخلا في دين الله أو دنيا حتى يكون الله عز وجل الصانع في ذلك ما أحبّ. وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلّا الحسن ومحمدًا وابن الزبير وأشباهًا لهم؛ فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم؛ وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة، قالوا: كان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيّأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشأم، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة؛ فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان؛ ومنعوه كلّ شيء حتى الماء؛ وقد كان يدخل علي بالشيء مما يريد. وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علّة، فعثروا في داره بالحجارة ليرموا؛ فيقولوا: قوتلنا - وذلك ليلًا - فناداهم: ألا تتّقون الله! ألا تعلمون أنّ في الدار غيري! قالوا: لا والله ما رميناك. قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم؛ إنّ الله عز وجل لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئوننا. وأشرف عثمان على آل حزم وهم جيرانه؛ فسرّح ابنًا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا من الماء فافعلوا. وإلى طلحة وإلى الزبير، وإلى عائشة رضي الله عنها وأزواج النبي ؛ فكان أوّلهم إنجادًا له علي وأمّ حبيبة؛ جاء علي في الغلس، فقال: يأيّها الناس؛ إنّ الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين؛ لا تقطعوا عن هذا الرجل المادّة؛ فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي؛ وما تعرّض لكم هذا الرجل؛ فبم تستحلّون حصره وقتله! قالوا: لا والله ولا نعمة عين؛ لا نتركه يأكل ولا يشرب؛ فرمى بعمامته في الدار بأنّي قد نهضت فيما أنهضتني؛ فرجع. وجءات أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملةً على إداوة، فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إنّ وصايا بني أميّة إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل. قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندّت بأمّ حبيبة، فتلقّاها الناس، وقد مالت رحالتها، فتعلّقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها. وتجهزّت عائشة خارجة إلى الحجّ هاربة، واستتبعت أخاها، فأبى؛ فقالت: أما والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ.
وجاء حنظلة الكاتب حتى قام على محمد بن أبي بكر، فقال: يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمّية! فقال: يا بن الخثعميّة؛ إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف، وانصرف وهو يقول:
عجبت لما يخوض الناس فيه ** يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ** ولاقوا بعدها ذلًّا ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ** سواء كلّهم ضلّوا السبيلا
ولحق بالكوفة. وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظًا على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أمّ المؤمنين؛ لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأمّ حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني! لا والله ولا أعيّر ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء! وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات، عليهم الرقباء، فأشرف عثمان على الناس، فقال: يا عبد الله بن عباس - فدعى له - فقال: اذهب فأنت على الموسم - وكان ممّن لزم الباب - فقال: والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحبّ إلي من الحج؛ فأقسم عليه لينطلقنّ. فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة؛ ورمى عثمان إلى الزبير بوصيّته، فانصرف بها - وفي الزبير اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله - وقال عثمان: " يا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح.. " الآية، اللهم حل بين الأحزاب وبين ما يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، قال: بعثت ليلى ابنة عميس إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فقالت: إنّ المصباح يأكل نفسه، ويضيء للناس؛ فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما؛ فإنّ هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدًا، فاتّقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم؛ فلجّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان؛ وتقول: ما صنع بكما! ألّا ألزمكما الله! فلقيهما سعيد بن العاص، وقد كان بين محمد بن أبي بكر وبينه شيء، فأنكره حين لقيه خارجًا من عند ليلى، فتمثل له في تلك الحال بيتًا:
استبق ودّك للصّديق ولا تكن ** فيئًا يعضّ بخاذل ملجاجا
فأجابه سعيد متمثلًا:
ترون إذًا ضربًا صميمًا من الذي ** له جانب ناءٍ عن الجرم معور
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: فلمّا بويع الناس جاء السابق فقدم بالسلامة، فأخبرهم من الموسم أنهم يريدون جميعًا المصريين وأشياعهم، وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجّهم؛ فلمّا أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار، أعلقهم الشيطان، وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرجل؛ فيشتغل بذلك الناس عنّا، ولم يبق خصلة يرجون بها النجداة إلا قتله. فراموا الباب؛ فمنعهم من ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، واجتلدوا، فناداهم عثمان: الله الله! أنتم في حلٍّ من نصرتي فأبوا، ففتح الباب، وخرج ومعه الترس والسيف لينهنههم؛ فلما رأوه أدبر المصريون، وركبهم هؤلاء، ونهنههم فتراجعوا وعظم على الفريقين، وأقسم على الصحابة ليدخلنّ، فأبوا أن ينصرفوا، فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين - وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حجّ، ثم تعجّل في نفر حجّوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل وشهد المناوشة، ودخل الدار فيمن دخل وجلس على الباب من داخل؛ وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألّا ندعهم حتى نموت! فاتّخذ عثمان تلك الأيام القرآن نحبًا، يصلّى وعنده المصحف؛ فإذا أعيا جلس فقرأ فيه - وكانوا يرون القراءة في المصحف من العبادة - وكان القوم الذين كفكفهم بينه وبين الباب؛ فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا يقدرون على الدخول جاءوا بنار، فأحرقوا الباب والسقيفة، فتأجّج الباب والسقيفة؛ حتى إذا احترق الخشب خرّت السقيفة على الباب، فثار أهل الدار وعثمان يصلّي؛ حتى منعوهم الدخول؛ وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس، وهو يرتجز:
قد علمت جارية عطبول ** ذات وشاح ولها جديل
أنّي بنصل السيف خنشليل ** لأمنعنّ منكم خليلي
بصارم ليس بذي فلول
وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ** حتى أسير إلى طمار شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ** وردّ أحزابًا على رغم معدّ
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقب ** بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنّا غداة الروع في الدار نصرة ** نشافههم بالضّرب والموت ثاقب
فكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير؛ وأمره عثمان أن يصير إلى أبيه في وصيّة بما أراد، وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم؛ فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم؛ فما زال يدّعي بها، ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة، وقد افتتح " طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " - وكان سريع القراءة، فما كرثه ما سمع، وما يخطىء وما يتتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه - ثم عاد فجلس إلى عند المصحف وقرأ: " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه:
قد علمت ذات القرون الميل ** والحلي والأنامل الطفول
لتصدقنّ بيعتي خليلي ** بصارم ذي رونق مصقول
لا أستقيل إن أقلت قيلي
وأقبل أبو هريرة، والناس محجمون عن الدار إلا أولئك العصبة، فدسروا فاستقتلوا، فقام معهم، وقال: أنا إسوتكم؛ وقال هذا يوم طاب امضرب - يعني أنه حلّ القتال، وطاب وهذه لغة حمير - ونادى: يا قوم، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار! وبادر مروان يومئذ ونادى: رجل رجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع؛ فاختلفا، فضربه مروان أسفل رجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكبّ مروان، واستلقى، فاجترّ هذا أصحابه، واجترّ الآخر أصحابه؛ فقال المصريون: أما والله لولا أن تكونوا حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد تحذير، فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد، وهو يقول:
أضربهم باليابس ** ضرب غلام بائس
من الحياة آيس
فأجابه صاحبه** وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله! فقال له عبد الرحمن بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم، فقيل لي: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار؛ فابتُليت به، وقتل فباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملئوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القباس على أبنائهم؛ فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم، وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت، فقال: اخلعها وندعك، فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهليّة ولا إسلام، ولا تغنّيت ولا تمنّيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله ؛ ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله عز وجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشقاء.
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله؛ والله ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحلّ لنا قتله؛ فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي؛ فقال: لستَ بصاحبي، قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فلن تضيع؛ فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال: يا عثمان؛ إني قاتلك، قال: كلّا يا فلان، لا تقتلني، قال: وكيف؟ قال: إنّ رسول الله استغفر لك يوم كذا وكذا؛ فلن تقارف دمًا حرامًا. فاستغفر ورجع، وفارق أصحابه فأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار ينهاهم عن قتله، وقال: يا قوم لا تسلّوا سيف الله عليكم؛ فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة؛ فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إنّ مدينتكم محفوفة بملائكة الله؛ والله لئن قتلتموه لتتركنّها؛ فقالوا: يا بن اليهودية؛ وما أنت وهذا! فرجع عنهم.
قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب! هل لي إليك جرم إلّا حقّه أخذته منك! فنكل ورجع.
قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان ابن حمران السكونيّان والغافقي؛ فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف، فاستقرّ بين يديه؛ وسالت عليه الدماء؛ وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبّت عليه نائلة ابنة الفرافصة، واتّقت السيف بيدها، فتعمّدها، ونفح أصابعها، فأطنّ أصابع يدها وولّت؛ فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه - وقد كان عثمان أعتق من كفّ منهم - فلمّا رأوا سودان قد ضربه، أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت؛ وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى. فلما خرجوا إلى الدار، وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا؛ حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة - والرجل يدعى كلثوم بن تجيب - فتنحّت نائلة، فقال: ويح أمّك من عجيزة ما أتمّك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقتل، وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه؛ وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم؛ وليس فيه إلّا غرارتان، فقالوا: النجاء؛ فإن القوم إنّما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتّانىء يسترجع ويبكي، والطارىء يفرح. ندم القوم، وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلّا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحم الله عثمان. وانتصر له؛ وقيل: إنّ القوم نادمون؛ فقال: دبّروا دبّروا، " وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. " الآية. وأتى الخبر طلحة، فقال: رحم الله عثمان! وانتصر له وللإسلام؛ وقيل له: إن القوم نادمون، فقال تبًّا لهم! وقرأ: " فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون ". وأتى عليٌّ فقيل: قتل عثمان، فقال رحم الله عثمان، وخلف علينا بخير! وقيل: ندم القوم، فقرأ: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.. "، الآية. وطلب سعد، فإذا هو في حائطه، وقد قال: لا أشهد قتله، فلما جاءه قتله قال: فررنا إلى المدنية تدنينا؛ وقرأ: " الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا ". اللهمّ أندمهم ثم خذهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)