وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن جعفر بن المنصور؛ وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدًا فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمدًا أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية.
وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها. ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بن صفوان.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع؛ وذلك أن سعيدًا الحرشي حصر بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا - فيما ذكر - جميعًا، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه، ووجهوا به إلى المهدي وهو بجلب.
ذكر الخبر غزو الروم
وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، وأقام به نحوًا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد. وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجهًا إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بن المهدي، وكاتبه يومئذ أيان بن صدقة؛ وعلى خاتمه عبد الله بن علاثة، وعلى حرسة علي بن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بن خازم؛ فذكر العباس بن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه؛ فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا فقدت فلا تحتشمتا. فقاللما حدثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا أمير المؤمنين.
وذكر إبراهيم بن زياد، عن الهيثم بن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بن قحطبة.
قال محمد بن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس؛ إذ جاء والحسن بن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعمته أنه راكب، فقال: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بن قحطبة: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بأن نخلي جميعًا بابك؛ فإما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك. قال: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء؛ لا كما فعل الحجام ابن الحجام - يعني عامر بن إسماعيل - وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله.
وذكر عبد الله بن أحمد بن الوضاح، قال: سمعت جدي أبا بديل، قال: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح بن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب؛ فلما فصل ودخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب. قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي. قال: فسر حتى تلحق به وبهما؛ واذكر ما تحتاج إليه. قال: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجًا؟ قال: قلت من غد، قال: فودعته وخرجت، فلحقت القوم. قال: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصواجة، وانظر إلى موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ وهما يتضاحكان منه. قال: فصرت إلى الربيع والحسن - وكنا لا نفترق - قال فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرًا؛ فقالا: إيه، وما الخبر؟ قال: قلت: موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسًا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعة يدخلون عليه ويخلوه في سائر أيامه لما يريد! قال: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل. قال: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة. قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين. قال: فقلت ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنه ما نقص، أفلستم أول من نعى إليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة - يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل - فأتى به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة، قال:
فوالله لولا أني لولا أني رأيت العشر في تلك الأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة. قال: ووجه المهدي خالد بن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بن خالد - وكان أمر هارون كله إليه - وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك؛ وكان يشاورهما ويعمل برأيهما؛ ففتح الله عليهم فتوحًا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاءً جميلًا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد؛ وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركًا به، ونظرًا إليه. قال: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلًا.
قال يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى ادن، فدنوت، ثم قال لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلًا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به؛ إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره. قال: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونةً على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له.
قال: وأوفد الربيع بن سليمان بن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدًا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم لذلك.
عزل عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وتولية زفر بن الحارث
وفي هذه السنة؛ سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي.
ذكر السبب في عزله إياه
ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلًا، ولا أصلح له قناطر. فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطًا، وأمر بأخذه بإقامة النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربى ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه. وأقام له العباس بن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة. ففعل، وأتاه بهم وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، وأشخص جماعة من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان. فسار هارون حتى نزل رستاقًا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيًا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريبٍ لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين؛ وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم؛ فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها.
وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بن محمد والفضل بن صالح وعلي بن سليمان وخاله يزيد بن المنصور.
وفيها عزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بن منصور حتى رده عليها.
وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح بن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.
وفيها عزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بن زهير.
وفيها عزل يحيى الحرشى عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بن سعيد.
وفيها عزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر بن العلاء.
وفيها عزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن المهدي.
وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بن سليمان، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق - فيما ذكر - في نحو من تسعين ألفًا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكريم ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق.
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بن داود على ما كان إلى محمد بن سليمان، ووجه معه عاصم بن موسى الخراساني الكاتب على الخراج وأمره بأخذ حماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان وعبيد الله بن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم.
وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة؛ وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة.
وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجًا، فأقام برصافة الكوفة أيامًا، ثم خرج متوجهًا إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء؛ لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى أشرفوا على الهلكة.
وفيها توفي نصر بن محمد بن الأشعث بالسند.
وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجواهر والعنبر ما أقر به، فرده إليه، واستعمل مكانه منصور بن يزيد بن منصور.
وفيها وجه المهدي صالح بن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس. فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها هاشم بن سعيد بن منصور، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس صالح بن داود بن علي، وعلى السند سطيح بن عمر، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى الموصل محمد بن الفضل. وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بن صالح، وإفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بن دعلج.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
غزوة هارون بن المهدي الصائفة ببلاد الروم
فمن ذلك غزوة هارون بن المهدي الصائفة، ووجهه أبوه - فيما ذكر - يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيًا إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبادره يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم. وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسة وتسعين ألفًا وسبع مائة وثلاثة وتسعين رجلًا، وحمل لهم من العين مائة ألف دينار وأربعة وتسعين ألفًا وأربع مائة وخمسين دينارًا، ومن الورق أحدًا وعشرين ألف ألف وأربع مائة ألف وأربعة عشر ألفًا وثمانمائة درهم. وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون؛ وذلك أن ابنها كان صغيرًا قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه؛ وذلك أنه دخل مدخلًا صعبًا مخوفًا على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولًا إلى المهدي بما بذلك على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى. وكان الذي أفاء على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسًا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفًا، وقتل من الأسارى صبرًا ألفان وتسعون أسيرًا. ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدراتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس. وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفًا بدرهم، فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:
أطفئت بقسطنطينية الروم مسندًا ** إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها ** بجزيتها، والحرب تغلي قدورها
وفيها عزل خلف بن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن أبي جعفر المنصور.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة هم عمالها في السنة الماضية؛ غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك قفول هارون بن المهدي؛ ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك - فيما قيل - أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية وألفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزي. وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين خزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.
وفيها عزل جعفر بن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود.
ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب
ذكر علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان داود بن طهمان - وهو أبو يعقوب بن داود - وإخوته كتابًا لنصر بن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان؛ فلما كانت أيام يحيى بن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم؛ فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من أصحاب نصر، أتاه داود بن طهمان مطمئنًا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثًا بمرو، فلما فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر؛ فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب يجول البلاد منفردًا بنفسه، ومع إبراهيم بن عبد الله أحيانًا، في طلب البيعة لمحمد بن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بن عبد الله كتب علي بن داود - وكان أسن من يعقوب - لإبراهيم بن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم؛ فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليًا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما. وكان معهما في المطبق إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن - وكانا لا يفارقانه - وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك صداقة. وكان إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالح بني هاشم جميعًا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله لا تصلح إلا في بني هاشم؛ وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم؛ وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب؛ وكان هو ويعقوب بن داود يتجاريان ذلك؛ فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يومًا: لو وجدت رجلًا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بن زيد، وله فقه فأجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بن زيد! فدل على يعقوب بن داود، فأتى به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة وكرابيس وكساء أبيض غليظ. فكلمه وفاتحه، فوجده رجلًا كاملًا، فسأله عن عيسى بن زيد؛ فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك؛ إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما كانت للسعاية بآل علي. ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة؛ فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ** إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ** خلبفة الله بين الدف والعود
قال: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه.
ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بن إبراهيم بن الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة. قال: ولما علم آل الحسن بن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه؛ وقد كاتبهم؛ وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل؛ فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.
قال علي بن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائمًا على رأسه يومًا يذب عنه إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلًا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت رجلًا يصلح لذلك. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمك إسحاق بن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قال: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قال: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه.
وقال موسى بن إبراهيم المسعودي: قال المهدي: وصف لي يعقوب بن داود في منامي، فقيل لي أن أتخذه وزيرًا. فلما رآه، قال: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرًا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينًا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه - وكان حظيًا عنده - فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي، قال لي: قد بنى متنزهًا أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسي أحمد بن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بن داود، فبينا يعقوب بين يديه لببه، فضرب به الأرض، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين! قال: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون؛ فكان هذا أول سبب أمره.
قال: كان يعقوب بن داود قد عرف عن المهدي خلعًا واستهتارًا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بن داود يصف من نفسه في ذلك شيئًا كثيرًا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلًا فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب؛ فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرًا! فيقول: نعم فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثًا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.
قال: وقال لي الموصلي: قال يعقوب بن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بن يعقوب بن داود عن أبيه، قال: بعث إلي المهدي يومًا فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئًا أحسن منه؛ وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قوامًا، ولا أحسن اعتدالًا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك. فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به. قال: فدعوت له بما يجب. قال: ثم قال: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قال: فوثبت قائمًا ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قال: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قال: والله - قلت والله ثلاثًا - قال: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قال: فضع يدك عليه واحلف به، قال: فوضعت يدي عليه، وحلفتله به لأعلمنبما قال، ولآقضين حاجته. قال: فلما استوثق مني في نفسه، قال: هذا فلان بن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك. قال: قلت: أفعل، قال فخذه إليك، فحولتهإ لي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.
قال: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.
قال: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قال: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قال: إن فعلت خيرًا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار. قال: فقلت له أي الطريق أحب إليك؟ قال: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قال: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبًا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا - الذي اتفقوا عليه - في وقت كذا وكذا من الليل؛ وإذا الجارية قد حفظت علي قولي؛ فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك؛ صنع وفعل كذا وكذا؛ حتى ساقت الحديث كله. قال: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، وعلى السجية التي حكتها الجارية. قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني - قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوي بالًا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة - فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: والله، ثم قال: قم فضع يدك على رأسي؛ قال فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به. قال: فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال: فبقيت متحيرًا، وسقط في يدي، وامتنع مني الكلام، فما أدري ما أقول! فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق؛ ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري؛ حتى استرسل كهيئة شعور البهائم. قال: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث أيت هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قال: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قال: رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قال: نعم؛ قلت: ما أشك في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قال: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قال: قلت: المقام بمكة، قال: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قال: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ، قال: فراشدًا. قال: فخرجت فكان وجهي إلى مكة. قال ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات.
قال محمد بن عبد الله: قال لي أبي: قال يعقوب بن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ إلا تحرجًا؛ ولكنه كان لا يشتهيه؛ وكان أصحابه عمر بن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قال: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك؛ أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قال: كان يقول: قد سمع عبد الله بن جعفر، قال: قلت: ليس هذا من حسناته؛ لو أن رجلًا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدًا! وقال محمد بن عبد الله: حدثني أبي قال: كان أبي يعقوب بن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه؛ وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه؛ واستقبل وقدم النية في تركه موضعه. قال: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين؛ والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلي مما أنا فيه؛ وإني لأركب إليك فأتمنى يدًا خاطئة تصيبني في الطريق، فاعفني وول غيري من شئت؛ فإني أحب أن أسلم عليك أنا وولدي؛ ووالله إني لأتفزع في النوم؛ وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضًا من آخرتي. قال: فكان يقول لي: اللهم غفرًا! اللهم أصلح قلبه، قال: فقال شاعر له:
فدع عنك يعقوب بن داود جانبًا ** وأقبل على صهباء طيبة النشر
قال عبد الله بن عمر: وحدثني جعفر بن أحمد بن زيد العلوي، قال: قال بن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بن داود جاريةً، وكان بضعف، قال: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الأرض مطية أوطأ منها حاشا سامع. فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.
وقال علي بن محمد النوفلي: حدثني أبي، قال:
كان يعقوب بن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلًا يحادثه ويسامره؛ فبينا هو ليلة عنده؛ وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي؛ وهو الأزرق الخفيف؛ وكان الطيلسان قد دق دقًا شديدًا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب فاستدبره فضربه ضربةً على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيًا؛ فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدًا عليه المهدي مع الفجر؛ وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أيامًا ثلاثةً متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله؛ فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأتي عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في أصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه. ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن بصر.
قال النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر ان يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.
وقال علي بن محمد: لما حبس يعقوب بن داود وأهل بيته، وتفرق عماله واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلًا وإلى يعقوب، فأتى به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت؛ وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قال: وتكذبني وترد على قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطًا ضربًا مبرحًا، وأمربه فرد إلى الحبس.
قال: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه. وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وأبوك الباقي بعد رسول الله ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر؛ وأنت في البستان وأنا عندك؛ إذ دخل أبو الوزير - قال علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بن داود على ابنة صالح بن داود - فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قال: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكثت محبوسًا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم.
وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينة الرسول وبين مكة واليمن؛ بغالًا وإبلًا؛ ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج بأمر المهدي.
وفيها أخذ داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن سليمان بن مجالد ومحمد بن أبي أيوب المكي ومحمد بن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلي سبيلهم، وبعث بداود بن روح إلى أبيه روح؛ وهو يومئذ بالبصرة عاملًا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.
وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بن أبي عبيد الله الوزير - وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام - وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بزندقة. وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.
وفيها ولي إبراهيم بن يحيى بن محمد على المدينة؛ مدينة رسول الله ، على الطائف ومكة عبيد الله بن قثم.
وفيها عزل المنصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي.
وفيها خلى المهدي عبد الصمد بن علي من حسبه الذي كان فيه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد.
وكان عامل الكوفة من هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى قضائها خالد بن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى نصر إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي. وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ولم يكن في هذه السنة صائفة؛ للهدنة التي كانت فيها.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة
ذكر الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز - فيما ذكر - أحد بمثله إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها إبان بن صدقة على رسائله، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعًا مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، وعبد الله بن خازم على شرطه؛ فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشيروين، وأمر عليهم يزيد مزيد فحاصرهما.
وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، وولى الكوفة يومئذ روح بن حاتم، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن. وقيل إن عيسى بن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحًا يصلي على عيسى بن موسى؛ فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بن عيسى، فصلى على أبيه. وبلغ ذلك المهدي فغضب على روح، وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى؛ أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أوليس إنما ذلك مقامي لو حضرت. فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وأمر بمحاسبته؛ وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث.
وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده؛ وكان يكره التقدم عليه لجلالته.
وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور، فأقر - فيما ذكر - فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بن واقد؛ وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.
وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة.
وفيها توفي أبان بن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام؛ فدخلت فيه دور كثيرة. وولى بناء ما زيد فيه يقطين بن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان؛ وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي.
وفيها أظلمت الدنيا لليالٍ بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار.
ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.
وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيغ، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها.
وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي.
وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي.
وعلى مصر موسى بن مصعب. وعلى أفريقية موسى بن حاتم. وعلى طبرستان والرويان عمر بن العلاء، وعلى حرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي جرى بينهم وبين هارون بن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم؛ وذلك في شهر رمضان من هذه السنة؛ فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرًا، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذٍ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر بن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا.
وفيها وجه المهدي سعيدًا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل. وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة. وولى مكانه حمدويه، وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان.
وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد.
وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها.
وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط - وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته؛ يصلهم بذلك.
وفيها ولي المهدي علي بن يقطين ديوان زمام الأزمة علي عمر بن بزيع.
وذكر أحمد بن موسى بن حمزة، عن أبيه، قال: أول من عمل ديوان الزمام عمر بن بزيع في خلافة المهدي؛ وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر؛ فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون على كل ديوان؛ فاتخذ دواوين الأزمة، وولي كل ديوان رجلًا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج إسماعيل ابن صبيح؛ ولم يكن لبني أميه دواوين أزمة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن رليطه.
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
ذكر الخبر عن خروج المهدي إلى ماسبذان
فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان.
ذكر الخبر عن خروجه إليها
ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.
وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره - وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه - قال: سأل علي بن يقطين المهدي أن يتغذى عنده، فوعده أن يفعل، ثم إعتزم على إتيان ماسبذان؛ فوالله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقًا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين؛ إنك قد وعدتني أن تتغذى عندي غدًا، قال: فاحمل غداءك إلى النهروان. قال: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.
وفيها توفي المهدي.
ذكر الخبر عن موت المهدي
ذكر الخبر عن سبب وفاته
اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قال: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر، وانصرفت إلى مضربي - وكان بعيدا من مضربه - فلما كان في السحر الأكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي؛ إذ لقيني أسود عريان على قتد رحل، فدنا مني؛ ثم قال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي؛ فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنابه مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد العصر؛ وهو أسر ما كان حالًا وأصحه بدنًا، فما كان الخبر؟ قال: طردت الكلاب ظبيًا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.
وذكر أن علي بن أبي نعيم الروزي، قال:
بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم؛ وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له إنه مسموم. وحدثني أحمد بن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسًا في علية في قصر بماسبذان، ويشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية - وكان المهدي يعجبه الكمثرى - وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدي - وكان يتخطاها - تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رأى ورأى معها الكمثرى؛ دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.
وذكر عن عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب، قال: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فأمسكت به وما به علة،؛ فوالله ما أصبح إلا ميتًا، فرأيت حسنة وقد رجعت؛ وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأصبح ** ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده ** ر له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عم ** رت ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن ** كنت لابد تنوح
وذكر صالح أن علي بن يقطين، قال: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يومًا فقال: إني أصبحت جائعًا، فأتى بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قال: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق؛ فانتبهنا ببكائه؛ فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئًا، قال: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ** وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجةٍ ** وملكٍ إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ** تنادي عليه معولاتٍ حلائله
قال: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.
وكانت وفاته - فيما قال أبو معشر الواقدي - في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم؛ وكانت خلافته عشر سنين وشهرًا ونصف شهر.
وقال بعضهم: وكانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يومًا؛ وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
وقال هشام بن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليالٍ خلون منه؛ فملك عشر سنين وشهرًا واثنين وعشرين يومًا، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه
ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ؛ وفي ذلك يقول بكار بن رباح:
ألا رحمة الرحمن في كل ساعةٍ ** على رمةٍ رمت بماسبذان
لقد غيب القبر الذي تم سوددا ** وكفين بالمعروف تبتدران
وصلى عليه ابنه هارون؛ ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.
وكان طويلًا مضمر الخلق، جعدًا. واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.
وكان في عينه اليمنى - في قول بعضهم - نكتة بياض. وقال بعضهم: كان ذلك بعينه اليسرى.
وكان ولد بإيذج.
ذكر بعض سير المهدي وأخباره
ذكر عن هارون بن أبي عبيد الله، قال: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة؛ فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: حدثني علي بن صالح، قال:
جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته ومن أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة؛ العشرة الآف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قال: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت. قال: كان يسرك أن أقتل؟ قال: لا، قال: فوالذي أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.
قال الحسن: وحدثني علي بن صالح، قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟ قال: إلى أبدٍ نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا؛ فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.
وذكر محمد بن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قال: كان هشام الكلبي صديقًا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد؛ فكنت أراه في حالٍ رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته؛ فما راعني إلا وقد لقيني يومًا على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرةً، قال لي: نعم، أخبرك عنها، فاكتم؛ فبينما وأنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر؛ إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خالٍ ليس عنده أحد؛ وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه. ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه. قال: فنظرت في الكتاب؛ فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه؛ اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قال: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبًا عجيبا، لم يبق له فيه شيئًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قال: هذا صاحب الأندلس، قال: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته. قال: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قال: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب. قال: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكتاب من المهدي جوابًا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت؛ فلم أبق شيئًا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس. قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.
قال الحسن: وحدثني مسور بن مساور، قال: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلامًا صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنه عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي. قال: قال المهدي: ادنه، فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قال: قلت: نعم، قال: فادن مني، فدنوت حتى التزقت بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلت: أصلح الله القاضي! سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إلي بعد الخلافة. قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
قال: وحدثني عبد الله بن الربيع، قال: سمعت مجاهدًا الشاعر يقول: خرج المهدي متنزهًا، ومعه عمر بن بزيع مولاه، قال: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟ قال: ما من شيء، قال: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قال: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، قال: وكراث؟ قال: نعم، ماشئت وتمر. قال: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلًا كثيرًا، وشبعًا، فقال المهدي لعمر بن بزيع: قل في هذا شعرًا، فقال:
إن من يطعم الربيثاء بالزي ** ت وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أو بثنتي ** ن لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا**
لحقيق ببدرة أو بثنتي ** ن لحسن الصنيع أو بثلاث
قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وذكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أبو غانم، قال: كان زيد الهلالي رجلًا شريفًا سخيًا مشهورًا من بني هلال؛ وكان نقش خاتمه: " افلح يا زيد من زكا عمله ". فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:
زيد الهلالي نقش خاتمه ** أفلح يا زيد من زكا عمله
قال: وقال حسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعًا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدًا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعدائنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك؛ قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.
وقال الموصلي: قال عبد الصمد بن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، إنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم؛ وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه؛ قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قال: يا أبا محمد، إن الموالي يستحقون ذلك؛ وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك إلا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك؛ ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.
قال علي بن محمد: قال الفضل بن الربيع: قال المهدي لعبد الله بن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه؛ فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه. فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك. قال: أما سمعت قول الشاعر:
ومولاك لا يهضم لديك فإنما ** هضيمة مولى القوم جدع المناخر
قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بن مجاشع التيمي - من أهل مرو بقرية يقال لها باران - الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام ** "، إلى آخر الآية. ثم كتب: والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة بعده. قال: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها. قال أبو الخطاب: فلم يزل في قلب أبي عبيد الله الوزير؛ فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية. قال: وقال الهيثم بن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المنصور شتمني وقذف أمي؛ فإما أمرتني أن أحله؛ وإلا عوضتني واستغفرت الله له. قال: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته؛ فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحمًا وأوجب عليه حقًا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع؛ وما أساء من انتصر لابن عمه. قال: إنه كان عدوًا له، قال: فلم ينتصر للعداوة؛ وإنما انتصر للرحم؛ فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قال: لعلك أردت أمرًا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قال: نعم، قال: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
قال: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قال: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه! وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قال: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
وذكر أبو الأشعث الكندي، قال: حدثني بن عبد الله، قال: قال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة؛ فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم ثيابه! قال: فقرأ هذه الآية:
" فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، قال: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بن جعفر، وكان محبوسًا عندي! قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلاموسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.
وذكر إبراهيم بن أبي علي، قال: سمعت سليمان بن داود، يقول: سمعت المهدي يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت "، في سورة النساء.
وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، قال: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم؛ فتقدم إليه رجل من آل الزبير؛ فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أميه، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي؛ وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها؛ منهم عمر بن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بن عبد العزيز؛ وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم يرد ردها، قال: وكل أفعال عمر ترضى؟ قال: وأي أفعاله لا ترضى؟ قال: منها أنه كان يفرض للسقط من بنى أمية في خرقه في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين. قال: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قال: نعم؛ قال: اردد على الزبير ضيعته.
وذكر عن عمر بن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قال: كتب المهدي إلى جعفر بن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة تهم بالقدر، فحمل إليه رجالًا؛ منهم عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وعبد الله بن يزيد بن قيس الهذلي، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي، وإبراهيم بن محمد بن أبي بكر الأسامي؛ فأدخلوا على المهدي، فانبرى له عبد الله بن أبي عبيدة بينهم؛ فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قال: لا، ذاك عمي داود. قال: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وكان به يدين. فأطلقهم.
وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك؛ وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد. قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم؛ فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا بن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي، قلت: فأنا بن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله؛ فابن من؟ قال: عباس؛ فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر. قال: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدي؛ فتحدث الناس بها حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله ، فرفع رأسه فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: إني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه. وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.
وذكر أحمد بن الهيثم القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عطاء، قال: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم؛ أبناء سبيل، وأنضاء طريق؛ وصية الله ووصية الرسول؛ فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه الله في أهله! قال: فأمر نصيرًا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول:
كان أول من افترش الطبري المهدي؛ وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدى إليه الطبري من طبرستان، وجعل الثلج والخلاف حوله؛ حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.
وذكر محمد بن زياد، قال: قال المفضل: قال لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك. قال: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها؛ فوصلني وأحسن إلي.
قال علي بن محمد: كان الرجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه. فقال له يومًا: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي: لمن الديار بقنة الحجر فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر؛ فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.
وذكر أن أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض، فعاده المهدي؛ فإذا منزل رث وبناء سوء؛ وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن. قال: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته. وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين؛ وألا يميتني على فراشه حتى أقتل في طاعتك؛ وإني لواثق بألا أموت حتى أبلى الله في طاعتك ما هو أهله؛ فإنا قد روينا، قال: فأظهر له المهدي رأيًا جميلًا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك؛ فوالله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنًا ما كان؛ فقل وأوص. قال: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين؛ حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه. قال: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك؛ إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما. قال: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه؛ فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم. قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قال لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيًا بالذهب والفضة؛ وأنتم إذا وجدتم درهمًا بنيتم بالساج والذهب.
وذكر أبو عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: خطب المهدي يومًا، فقال: عباد الله؛ اتقوا الله؛ فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله؛ فإنك تعمل بغير الحق. قال: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم؛ فلما أدخل عليه قال: يا ابن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قال: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قال: ما أراك إلا نبطيًا، قال: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله. قال: فرئي الرجل بعد ذلك؛ فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي. قال: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام.
وقال هارون بن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قال: قال المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدًا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
قال: وذكر خالد بن يزيد بن وهب بن جرير، أن أباه حدثه، قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ هجا صالح بن داود بن طهمان - أخا يعقوب بن داود - حين ولي البصرة، فقال:
هم حملوا المنابر صالحًا ** أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب بن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قال: ويلك! وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاد ذلك، قال: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:
خليفة يزني بعماته ** يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ** ودس موسى في حر الخيزران
قال: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهدي فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.
وذكر عبد الله بن عمر. حدثني جدي أبو الحي العبسي، قال: لما دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ ** لبني البنات وراثة الأعمام
فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:
بسبعين ألفًا راشني من حبائه ** ومانالها في الناس من شاعر قبلي
وذكر أحمد بن سليمان، قال: أخبرني أبو عدنان السلمي، قال: قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعرًا؟ قال: والبة بن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:
ولها ولا ذنب لها ** حب كأطراف الرماح
في القلب يفدح والحشا ** فالقلب مجروح النواحي
قال: صدقت والله، قال: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قال: يمنعني والله من منادمته، قوله:
قلت لساقينا على خلوة ** أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على وجهك لي ساعةً ** إني امرؤ أنكح جلاسي
أفتريد أن يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي. قال: فأدخل عليه فأنشده شعرًا يقول فيه: وجوارٍ زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قال: وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ولا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.
قال ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بن يزيد:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)