حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما سمعت هوازن برسول الله وما فتح الله عليه من مكة؛ جمعها مالك بن عوف النصري؛ وأجتمعت إليه مع هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال؛ وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب؛ ولم يشهدها منهم أحد له إسم، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير؛ ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا كبيرًا مجربًا؛ وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع مالك المسير إلى رسول الله حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؛ فلما نزل بأوطاس، إجتمع إليه الناس؛ وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به؛ فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعى له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك؛ وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم؛ قال: فأنقض به ثم قال: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قال: غاب الجد والحد؛ لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب؛ ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب؛ فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة؛ بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئًا، أرفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم؛ ثم ألق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك؛ والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأى. قال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده؛ ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ** كأنها شاة صدع
وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم؛ ولكن السن أدركته حتى فنى - وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة بن جداعة بن غزية ابن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن - ثم قال مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فأكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أمية ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونًا من رجاله لينظروا له، ويأتوه بخبر الناس؛ فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا على خيل بلق؛ فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! فلم ينهه ذلك عن وجهه؛ أن مصى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم رسول الله بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الإسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبر منهم؛ ويعلم من علمهم. فأنطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام معهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ، وعلم أمر مالك وأمر هوازن وما هم عليه. ثم أتى رسول الله، فأخبره الخبر؛ فدعا رسول الله عمر بن الخطاب، فأخبره خبر ابن أبي حدرد، فقال: عمر: كذب! فقال ابن أبي حدرد: إن تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر! فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله إلى ما يقول ابن أبي حدرد! فقال رسول الله : قد كنت ضالًا فهداك الله يا عمر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: لما أجمع رسول الله السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا، فأرسل إليه، فقال: يا أبا أمية - وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدًا. فقال له صفوان: أغصبًا يا محمد! قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح؛ فزعموا أن رسول الله سأله أن يكفيه حملها ففعل.
قال أبو جعفر محمد بن علي: فمضت السنة أن العارية مضمونة مؤداة.
قال أبو جعفر محمد بن علي: فمضت السنة أن العارية مضمونة مؤداة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، قال: ثم خرج رسول الله ص؛ ومعه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا أثنى عشر ألفًا، وأستعمل رسول الله ص عتاب بن أسيد ابن العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة أميرًا على من غاب عنه من الناس، ثم مضى على وجهه يريد لقاء هوازن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما أستقبلنا وادي حنين، أنحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه أنحدارًا - قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا - فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد؛ وأنهزم الناس أجمعوا، فأنشمروا لا يلوي أحد على أحد؛ وأنحاز رسول الله ص ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس! هلم إلى! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شيء، أحتملت الإبل بعضها بعضًا، فأنطلق الناس؛ إلا أنه قد بقي مع رسول الله ص نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر، عمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وأبنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن - وأسامة بن زيد بن حارثة. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، أمام الناس وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه؛ فأتبعوه. ولما أنهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله ص من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ والأزلام معه في منانته؛ وصرخ كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية بن خلف وكان أخاه لأمه، وصفوان يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله ص - فقال: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: أسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخوبني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدًا. قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، قال: إني لمع رسول الله ص آخذ بحكمة بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت أمرأً جسيمًا شديد الصوت، قال: ورسول الله ص يقول حين رأى من الناس ما رأى: أين أيها الناس! فلما رأى الناس لا يلوون على شيء قال: يا عباس، أصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! قال: فأجابوا: أن لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل منهم يريد ليثني بعيره؛ فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ثم يؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله ص؛ حتى إذا أجتمع إليه منهم مائة رجل أستقبلوا الناس، فأقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار! ثم جعلت أخيرًا: يا للخزرج! وكانوا صبرًا عند الحرب؛ فأشرف رسول الله ص في ركابه، فنظر مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمى الوطيس! حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كان أبو سفيان بن الحارث يقود بالنبي بغلته يوم حنين، فلما غشى النبي المشركون، نزل فجعل يرتجز، ويقول:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب
فما رئي من الناس أشد منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع؛ إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار؛ يريدانه، فيأتيه على من خلفه، فيضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فأنجعف عن رحله. قال: وأجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين؛ وقد ألتفت رسول الله ص إلى أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب - وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله ص، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلته - فقال: من هذا؟ قال: ابن أمك يا رسول الله! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ص ألتفت، فرأى أم سليم بنت ملحان - وكانت مع زوجها أبي طلحة - حازمة وسطها ببرد لها؛ وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال رسول الله ص: أم سليم! قالت: نعم؛ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله ص: أو يكفي الله يا أم سليم! ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته معي؛ إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به. قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع ما تقول أم سليم يا رسول الله!.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس ابن مالك، قال: لقد أستلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلًا وحده هو قتلهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أبيه، أنه حدث عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم؛ فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي؛ فلم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فلما أنهزمت هوازن أستحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلًا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب؛ جد ابن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، فال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عامر بن وهب بن الأسود بن مسعود، قال: لما بلغ رسول الله قتل عثمان، قال: أبعده الله! فإنه كان يبغض قريشًا.
حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي يوم حنين على بغلة بيضاء، يقال لها دلدل، فلما أنهزم المسلمون، قال النبي لبغلته: البدي دلدل! فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ النبي حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: " حم لا ينصرون! ". فولى المشركون مدبرين، ما ضرب بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أغرل. قال: فبينا رجل من الأنصار يستلب قتلي من ثقيف، إذ كشف العبد ليستلبه، فوجده أغرل، فصرخ بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفًا غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: فأخذت بيده، وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي! إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له قتلانا فأقول: ألا تراهم مخنين! قال: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما هزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف، فلم يقتل منهم إلا رجلان؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، وآخر من بني كنة يقال له: الجلاح، فقال رسول الله حين بلغه قتل الجلاح: قتل اليوم سيد شباب ثقيف؛ إلا ما كان من ابن هنيدة - وأبن هنيدة الحارث بن أوس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما أنهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة - ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف - فتبعت خيل رسول الله ص من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن أمرئ القيس - وكان يقال له ابن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبة - دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله؛ وهو يظن أنه أمرأة؛ وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير؛ وإذا هو دريد بن الصمة، لا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئًا، فقال: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل في الشجار، ثم أضرب به وأرفع عن العظام، وأخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة؛ فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثًا.
قال أبو جعفر: وبعث رسول الله ص في آثار من توجه قبل أوطاس؛ فحدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: لما قدم النبي من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريدًا، وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: فبعثني مع أبي عامر، قال: فرمى أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فأنتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أبو عامر لأبي موسى، فقال: إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني! قال أبو موسى: فقصدت له فأعتمدته، فلحقته، فلما رآني ولي عني ذاهبًا، فأتبعه، وجعلت أقول له: ألا تستحي! ألست عربيًا! ألا تثبت! فكر، فالتقيت أنا وهو، فاختلفنا ضربتين، فضربته بالسيف، ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فأنزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، فقال: يا بن أخي، أنطلق إلى رسول الله، فأفرئه منى السلام، وقل له إنه يقول لك: أستغفر لي.
قال: وأستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيرًا. ثم إنه مات.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن سلمة بن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فقال سلمة بن دريد في قتله أبا عامر:
إن تسألوا عني فإني سلمه ** ابن سمادير لمن توسعه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه وسمادير أم سلمة،
فانتهى إليها.
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم؛ فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض بني سعد بن بكر، أن رسول الله ص قال يومئذ لخيله التي بعث: إن قدرتم على يجاد - رجل من بني سعد ابن بكر - فلا يفلتنكم؛ وكان بجاد قد أحدث حدثًا، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا أخته الشيماء بنت الحارث بن عبد الله بن عبد العزي، أخت رسول الله ص من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق معهم، فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي، قال: لما أنتهى بالشيماء إلى رسول الله قالت: يا رسول الله، إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. قال: فعرف رسول الله العلامة، فبسط لها رداءه، ثم قال: ها هنا، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعك وترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله ص، وردها إلى قومها؛ فزعمت بنو سعد بن بكر أنه أعطاها غلامًا له يقال له مكحول، وجارية؛ فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
قال ابن إسحاق: أستشهد يوم حنين من قريش، ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد - وهو ابن أم أيمن، مولاة رسول الله ص - ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل - ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدي بن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري. ثم جمعت إلى رسول الله سبايا حنين وأموالها؛ وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فأمر رسول الله ص بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال؛ ولم يشهد حنينًا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة؛ كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق.
غزوة الطائف
فحدثنا علي بن نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: سار رسول الله يوم حنين من فوره ذلك - يعني منصرفه من حنين - حتى نزل الطائف، فأقام نصف شهر يقاتلهم رسول الله وأصحابه، وقاتلتهم ثقيف من وراء الحصن؛ لم يخرج إليه في ذلك أحد منهم؛ وأسلم من حولهم من الناس كلهم؛ وجاءت رسول الله وفودهم؛ ثم رجع النبي ولم يحاصرهم إلا نصف شهر حتى نزل الجعرانة؛ وبها السبي الذي سبي رسول الله من حنين من نسائهم وأبنائهم - ويزعمون أن ذلك السبي الذي أصاب يومئذ من هوازن كانت عدته ستة آلاف من نسائهم وأبنائهم - فلما رجع النبي إلى الجعرانة، قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فأعتق أبناءهم ونساءهم كلهم، وأهل بعمرة من الجعرانة؛ وذلك في ذي القعدة.
ثم إن رسول الله ص رجع إلى المدينة، وأستخلف أبا بكر رضي الله تعالى عنه على أهل مكة، وأمره أن يقيم للناس الحج، ويعلم الناس الإسلام، وأمره أن يؤمن من حج من الناس؛ ورجع إلى المدينة؛ فلما قدمها قدم عليه وفود ثقيف، فقاضوه على القضية التي ذكرت؛ فبايعوه، وهو الكتاب الذي عندهم كاتبوه عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب؛ أن رسول الله ص سلك إلى الطائف من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فأبتني بها مسجدًا، فصلى فيه، فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم - وهو أول دم أقيد به في الإسلام - رجلًا من بني ليث؛ قتل رجلًا من هذيل، فقتله رسول الله ؛ وأمره رسول الله وهو بلبية بحصن مالك بن عوف فهدم؛ ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها، سأل على أسمها، فقال: ما أسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيفة، فقال: بل هي اليسرى. ثم خرج رسول الله على نخب؛ حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريبًا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله ص: إما أن تخرج؛ وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله ص بإخرابه.
ثم مضى رسول الله حتى نزل قريبًا من الطائف؛ فضرب عسكره، فقتل أناس من أصحابه بالنبل؛ وذلك أن العسكر أقترب من حائط الطائف فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، غلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل، أرتفع، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم؛ فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلة؛ ومعه أمرأتان من نسائه؛ إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية وأخرى معها - قال الواقدي: الأخرى زينب بنت جحش - فضرب لهما قبتين، فصلى بين القبتين ما أقام.
فلما أسلمت ثقيف، بني علي مصلى رسول الله ص ذلك أبو أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك مسجدًا، وكانت في ذلك المسجد سارية - فيما يزعمون - لا تطلع عليها الشمس يومًا من الدهر؛ إلا سمع لها نقيض؛ فحاصرهم رسول الله ص، وقاتلهم قتالًا شديدًا، وتراموا بالنبل حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة؛ ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالًا؛ فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف، فوقع فيها الناس يقطعون.
وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف. فناديا ثقيفًا: أن أمنونا حتى نكلمكم! فأمنوهما؛ فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما - وهما يخافان عليهن السباء - فأبين؛ منهن آمنة بنت أبي سفيان، كانت عند عروة بن مسعود له منها داود بن عروة وغيرها.
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف، أستشار رسول الله نوفل بن معاوية الديلي، وقال: يا نوفل، ما ترى في المقام عليهم؟ قال: يا رسول الله؛ ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: قد بلغني أن رسول الله ص قال لأبي بكر بن أبي قحافة، وهو محاصر ثقيفًا بالطائف: يا أبا بكر، إني رأيت أنه أهديت لي قعبة مملوءة زبدًا، فنقرها ديك فأهراق ما فيها؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد يا رسول الله. فقال رسول الله ص: وأنا لا أرى ذلك.
ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية - وهي أمرأة عثمان بن مظعون - قالت: يا رسول الله، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان بن سلمة، أو حلى الفارغة بنت عقيل - وكانتا من أحلى نساء ثقيف - قال: فذكر لي أن رسول الله قال لها: وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة! فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل عمر على رسول الله ، فقال: يا رسول الله، ما حديث حد ثتنيه خويلة أنك قلته! قال: قد قلته، قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله! قال: لا، قال: أفلا أؤذن بالرحيل في الناس! قال: بلى؛ فأذن عمر بالرحيل؛ فلما أستقل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج الثقفي: ألا إن الحي مقيم! قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله مجدة كرامًا! فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة! أتمدح قومًا من المشركين بالأمتناع من رسول الله، وقد جئت تنصره! قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفًا؛ ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتبطنها لعلها أن تلد لي رجلًا؛ فإن ثقيفًا قوم مناكير.
واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله ص اثنا عشر رجلًا؛ سبعة من قريش ورجل من بني ليث، وأربعة من الأنصار.
أمر أموال هوازن وعطايا المؤلفة قلوبهم منها
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)