وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا
وقال مطرف بن عبد الله: لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس
وقال مصرف في دعائه بعرفة: اللهم لا ترد الناس لأجلي
وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم
وقال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك
وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش: صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول: تصدع الجبال منه قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترىء أن يسألك الجنة قال: ثم رجع واصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شىء الله به عالم
وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة
وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني اسرائيل في صومعة منذ ستين سنة فأتي في منامه فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك ليلة بعد ليلة فأتى الإسكافي فسأله عن عمله فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فأثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورا ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها
فالنفس داعية إلى المهالك معينة للأعداء طامحة إلى كل قبيح متبعة لكل سوء فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة
فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها والتخلص من رقها فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها ومقتا لها
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي حدثنا عامر بن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل: يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر قال: إن الإنسان لظلوم كفار
قال: وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار حدثنا عقبة ابن صهبان الهنائي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر: 32 ] فقالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله شهد له رسول الله بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا
وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة رضي الله عنها فقالت: سمعت النبي يقول: إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له: اسمع ما تقول أمك. فقام عمر رضى الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك بالله أمنهم أنا قالت: لا ولن أبرئ بعدك أحدا
فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب ولم ترد أنك وحدك البرىء من ذلك دون سائر الصحابة
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد فجاء شاب حتى قام على باب المسجد فقال: ليس مثلي يدخل معكم أنا صاحب كذا أنا صاحب كذا يزري على نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: أن فلانا صديق
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا منذر عن وهب: أن رجلا سائحا عبد الله تعالى سبعين سنة ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه واعترف بذنبه فأتاه آت من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إلى من عملك فيما مضى من عمرك
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد أبو هلال عن قتادة قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: سلوني فإني لين القلب صغير عند نفسي
وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رياح الأنصاري قال: كان داود عليه السلام ينظر أعمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين
وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام يا رب أين أبغيك قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم فإني أدنو منهم كل يوم باعا ولولا ذلك انهدموا
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن رجلا من بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة فلم يظفر بها فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك فأتى في منامه فقيل له: أرأيت ازدراءك نفسك تلك الساعة فإنه خير من عبادتك تلك السنين
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدى عليه وهي قليلة المنفعة جدا
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة وأنه إن أحيل على عمله هلك فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره: هل قام به كما ينبغي
ثانيا وأفضل الفكر الفكر في ذلك فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره ومفتقرا فقرا فيه غناه وذليلا ذلا فيه عزه ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: إذا ذكرتنى فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكرى خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدى فقم مقام العبد الحقير الذليل وذم نفسك فهي أولى بالذم وناجنى حين تناجينى بقلب وجل ولسان صادق ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يدل بعمل أصلا كائنا ما كان ومن أدل بعمله لم يصعد إلى الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى فقال له: إنك أن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك فإن صلاة الدال لا تصعد فوقه
فقال له: أوصنى قال: عليك بالزهد في الدنيا وأن لا تنازعها أهلها وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره وأوصيك بالنصح لله تعالى نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم وينصحهم
ومن هذا أخذ الشاطبي قوله:
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله... ولا يأتلي في نصحهم متبذلا
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا الجريرى قال بلغني أن رجلا من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة فتعبد واجتهد ثم طلب إلى الله تعالى حاجته فلم ير نجاحا فبات ليلة مزريا على نفسه وقال: يا نفس مالك لا تقضي حاجتك فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم إطلاقه نفسه فقال: أما والله ما من قبل ربي أتيت ولكن من قبل نفسي أتيت وألزم نفسه الملامة فقضيت حاجته
الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان
هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعا والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها فإنهم توسعوا في ذلك وقصروا في هذا الباب
ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله: إن النفس لامارة بالسوء [ يوسف: 53 ] واللوامة في قوله: ولا أقسم بالنفس اللوامة [ القيامة: 2 ] وذكرت النفس المذمومة في قوله: ونهى النفس عن الهوى [ النازعات: 40 ] وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع وأفردت له سورة تامة فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس وهذا هو الذي لا ينبغي غيره فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه وموضع شرعه ومحل طاعته وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله وقد جمع النبي بين الاستعاذة من الأمرين في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك
فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان وغايته: إما أن تعود على العامل أو على أخيه المسلم فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل إليهما
فصل
قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
ومعنى استعذ بالله: امتنع به واعتصم به والجأ إليه ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ وغالب استعماله في المستعاذ به ومنه قوله لقد عذت بمعاذ وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه: أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها وجمعها عوذ كحمر ومنه في حديث الحذيبية معهم العوذ المطافيل والمطافيل: [ جمع ] مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها
قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم ولا حاجة إلى ذلك بل اللفظ على حقيقته أي قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلا خاليا فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه فأمر أن يستعيذ بالله تعالى منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها
وكأن من قال إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى وهو لعمر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارىء القرآن وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح فقال : تلك الملائكة والشيطان ضد الملك وعدوه فأمر القارىء أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين
ومنها: أن الشيطان يجلب على القارىء بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارىء به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله تعالى منه
ومنها: أن القارىء يناجي الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذنا للقارىء الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء فأمر القارىء أن يطرده بالاستعاذة عند مناجأة الله تعالى واستماع الرب قراءته
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته قال الشاعر في عثمان:
تمنى كتاب الله أول ليله... وآخره لاقى حمام المقادر
فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم ولهذا يغلط القارىء تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه فيخبط عليه لسانه أو يشوش عليه ذهنه وقلبه فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارىء هذا أو هذا وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه
ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وفي الصحيح عن النبي إن شيطانا تفلت على البارحة فأراد أن يقطع على صلاتي الحديث وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمع يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرافه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال: فعصاه فجاهد
فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم رواه ابن أبي حاتم في تفسيره فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا ثم يأخذ في السير كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى ثم شرع ذلك للقارىء وإن كان وحده لما ذكرنا من الحكم وغيرها
فهذه بعض فوائد الاستعاذة
وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ لقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ]
وقال في رواية ابن مشيش: كلما قرأ يستعيذ وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم
وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: من همزه ونفخه ونفثه
وقال ابن المنذر: جاء عن النبي أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو رواية عن أحمد لظاهر الآية وحديث ابن المنذر
وعن أحمد من رواية عبد الله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لحديث أبي سعيد وهو مذهب الحسن وابن سيرين ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأن قوله: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ] ظاهره أنه يستعيذ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله في الآية الأخرى: فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكذة بحرف إن لأنه سبحانه هكذا ذكر
وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذكر عن النبي اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه
وقد جاء في الحديث تفسير ذلك قال: وهمزه المؤتة ونفخه: الكبر ونفثه: الشعر
وقال تعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 97 ] والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة وأصل الهمز الدفع قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته ولمزته ولهزته ونهزته إذا دفعته والتحقيق: أنه دفع بنخز وغمز يشبه الطعن فهو دفع خاص فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب قال ابن عباس والحسن: همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم وهذا قول مجاهد وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث وقد يقال وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك
ثم قال: وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 98 ] قال ابن زيد: في أموري وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن وقال عكرمة: عند النزع والسياق فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم بالهمز وقربهم ودنوهم منه
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: ادفع بالتي هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ المؤمنون: 96 ] فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم
ونظير هذا قوله في سورة الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ الأعراف: 199 ] فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف: 200 ] ونظير ذلك قوله في سورة فصلت: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم [ فصلت: 34 ]
فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام في: السميع العليم وقال في الأعراف: إنه سميع عليم وسر ذلك والله أعلم أنه حيث اقتصر على مجرد الإسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة وهذا المعنى شامل للموضعين وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمه بهم كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله فأنزل الله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ فصلت: 22 ] فجاء التوكيد في قوله: إنه هو السميع العليم في سياق هذا الإنكار: أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون وحسن ذلك أيضا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبة بقوله وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ فصلت: 35 ] فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ
وأيضا فإن السياق ههنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله ومن آياته الليل والنهار [ فصلت: 37 ] وبقوله: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة [ فصلت: 39 ] فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السميع العليم كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها فإنه سميع عليم وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فكيف تسوونها به في العبادة فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير كما لا يليق بذلك غير التعريف والله أعلم بأسرار كلامه ولما كان المستعاذ منه في سورة حم المؤمن هو شر مجادلة الكفار في آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ غافر: 56 ] فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: إنه هو السميع البصير وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله
فصل
فالقرآن أرشد إلى دفع هذين العدوين بأسهل الطرق بالاستعاذة والإعراض عن الجاهلين ودفع ودفع إساءتهم بالإحسان وأخبر عن عظم حظ من لقاه ذلك فإنه ينال بذلك كف شر عدوه وانقلابه صديقا ومحبة الناس له وثناءهم عليه وقهر هواه وسلامة قلبه من الغلوالحقد وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه وهذا غاية الحظ عاجلا وآجلا ولما كان ذلك لا ينال إلا بالصبر قال: وما يلقاها إلا الذين صبروا فإن النزق الطائش لا يصبر على المقابلة
ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان ف إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة
والصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم: لا من جهة الحجة ولا من جهة القدرة والقدرة داخلة في مسمى السلطان وإنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين فقال في سورة الحجر: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر: 39 ]
وقال في سورة النحل: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل: 99 ] فتضمن ذلك أمرين: أحدهما نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص: 83 ]
فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله تعالى وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله فهؤلاء رعيته فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم
فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك [ سبأ: 20 ]
قيل: إن كان الضمير في قوله: وما كان له عليهم من سلطان. عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط ويكون الاستثناء منقطعا: أي لكن امتحناهم بإبليس لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وإن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه [ سبأ: 20 ] وهو الظاهر ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي ويكون المعنى: وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة
قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا ولأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيه يتم وإنما قال ظانا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء
وعلى هذا فيكون السلطان ههنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها وهم الذين تولوه وأشركوا به فيكون السلطان ثابتا لا منفيا فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات
فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم حيث يقول لأهل النار:
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ ابراهيم: 22 ] وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقررا له لا منكرا فدل على أنه كذلك
قيل: هذا سؤال جيد وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع: هو الحجة والبرهان أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم كما قال ابن عباس: ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم أي: ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وصدقتم مقالتي واتبعتموني بلا برهان ولا حجة وأما السلطان الذي أثبته في قوله: إنما سلطانه على الذين يتولونه [ النحل: 100 ] فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه ولا يدعهم يتركونه كما قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. قال ابن عباس: تغريهم إغراء وفي رواية تشليهم إشلاء وفي لفظ تحرضهم تحريضا وفي آخر تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وفي آخر توقدهم أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته قال الأخفش: توهجهم
وحقيقة ذلك: أن الأز هو التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز لأن الماء يتحرك عند الغليان ومنه الحديث: لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء قال أبو عبيدة: الأزيز الالتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال: از قدرك أي ألهب تحتها بالنار وأيزت القدر إذا اشتد غليانها فقد حصل للأز معنيان: أحدهما: التحريك والثاني: إلايقاد والإلهاب وهما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب
فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك ولكن ليس له على ذلك سلطان حجة وبرهان وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سلط عليهم عقوبة لهم وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء: 141 ] فالآية على عمومها وظاهرها وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه والشرك وفروعه يوجب سلطانه والجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده ومردها إليه وله الحجة البالغة فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك: فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [ السجانيه: 36 ]
الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم=
قال الله تعالى إخبارا عن عدوه إبليس لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن ينظره فأنظره ثم قال عدو الله: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف: 17 ]
قال جمهور المفسرين والنحاة: حذف على فانتصب الفعل والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك والظاهر: أن الفعل مضمر فإن القاعد على الشيء ملازم له فكأنه قال: لألزمنه ولأرصدنه ولأعوجنه ونحو ذلك
قال ابن عباس: دينك الواضح وقال ابن مسعود: هو كتاب الله وقال جابر: هو الإسلام وقال مجاهد: هو الحق
والجميع عبارات عن معنى واحد وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى وقد تقدم حديث سبرة بن الفاكه: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها الحديث فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك
وقوله: ثم لآتينهم من بين أيديهم [ الأعراف: 17 ] قال ابن عباس في رواية عطية عنه: من قبل الدنيا وفي رواية علي عنه أشككهم في آخرتهم
وكذلك قال الحسن: من قبل الآخرة تكذيبا بالبعث والجنة والنار
وقال مجاهد: من بين أيديهم: من حيث يبصرون
ومن خلفهم قال ابن عباس أرغبهم في دنياهم وقال الحسن: من قبل دنياهم أزينها لهم وأشهيها لهم
وعن ابن عباس رواية أخرى: من قبل الآخرة
وقال أبو صالح أشككهم في الآخرة وأباعدها عليهم وقال مجاهد أيضا: من حيث لا يبصرون
وعن أيمانهم قال ابن عباس: أشبه عليهم أمر دينهم وقال أبو صالح الحق أشككهم فيه وعن ابن عباس أيضا: من قبل حسناتهم
قال الحسن من قبل الحسنات أثبطهم عنها
وقال أبو صالح أيضا: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أنفقه عليهم وأرغبهم فيه
وقال الحسن: وعن شمائلهم السيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويزينها في أعينهم
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم قال الشعبي: فالله تعالى أنزل الرحمة عليهم من فوقهم
وقال قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله
قال الواحدي: وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات والشمائل كناية عن السيئات حسن لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك تريد: اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وأنشد لابن الدمينة:
ألبنى أفي يمني يديك جعلتني... فأفرح أم صيرتني في شمالك
وروى أبو عبيد عن الأصمعي: هو عندنا باليمين: أي بمنزلة حسنة وبضد ذلك: هو عندنا بالشمال وأنشد:
رأيت بني العلات لما تظافروا... يحوزون سهمي بينهم في الشمائل
أي ينزلوني بالمنزلة السيئة
وحكى الأزهري عن بعضهم في هذه الآية لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة ومن خلفهم بأمر البعث وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أي لأضلنهم فيما يعملون لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا لأنهما الأصل في التصرف فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما
وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشري واللفظ لأبي إسحاق ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد أي: لآتينهم من جميع الجهات والحقيقة والله أعلم أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم
وقال الزمخشري: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه كقوله: واستفزز من استطعت منهم بسوطك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ الاسراء: 64 ]
وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قال السلف فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين
قال شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ طه: 82 ] وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على من أخلفه فاقرأ: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود: 6 ] ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء فاقرأ: والعاقبة للمتقين [ الأعراف: 128 ] ومن قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ: وحيل بينهم وبين ما يشتهون [ سبأ: 24 ]
قلت: السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه وتارة على شماله وتارة أمامه وتارة يرجع خلفه فأي سبيل سلكلها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له فإن سلكها في طاعة وجده عليها يثبعطه عنها ويقطعه أو يعوقه ويبطئه وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك
ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ فصلت: 25 ]
قال الكلبي: ألزمناهم قرناء من الشياطين وقال مقاتل هيأنا لهم قرناء من الشياطين
وقال ابن عباس: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة
والمعنى زينوا لهم الدنيا حتى آثروها ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها
وقال الكلبي: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة وهذا اختيار الفراء
وقال ابن زيد: زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم وما يستقبلون منها والمعنى على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه
فنقول عدو الله تعالى: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم [ الأعراف: 17 ] يتناول الدنيا والآخرة وقوله: وعن أيمانهم وعن شمائلهم [ الأعراف: 17 ] فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه وإن ملك الشيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها وهذا يفصل ما أجمله في قوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ ص: 82 ] وقال تعالى: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأنخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنعيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ النساء: 118 ] قال الضحاك: مفروضا أي معلوما وقال الزجاج: أي نصيبا افترضته على نفسي قال الفراء: يعني ما جعل له عليه السبيل من الناس فهو كالمفروض قلت: حقيقة الفرض هو التقدير والمعنى: أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظعه المقسوم فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه وأولياء الله وحزبه وخاصته
وقوله: ولأضلنهم يعني عن الحق ولأمنينهم قال ابن عباس: يريد تعويق التوبة وتأخيرها
وقال الكلبي: أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
وقال الزجاج: أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة
وقيل: لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع
قيل: أمنيهم طول البقاء في نعيم الدنيا فأطيل لهم الأمل ليؤثروها على الآخرة
وقوله: ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام البتك القطع وهو في هذا الموضع: قطع آذان البحيرة عن جميع المفسرين ومن ههنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذني الطفل للحلق ورخص بعضهم في ذلك للأنثى دون الذكر لحاجتها إلى الحلية واحتجوا بحديث أمع زرع وفيه أناس من حلي أذنى وقال النبي كنت لك كأبي زرع لأمع زرع ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك في حق البنت وكراهته في حق الصبي
وقوله: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قال ابن عباس: يريد دين الله وهو قول إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك وقتاة والسدى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة وهي ملة الإسلام كما قال تعالى: فأقم وجهك للدعين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه [ الروم: 30 ] ولهذا قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء فهل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ثم قرأ أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية [ الروم: 30 ] متفق عليه
فجمع بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير وتغيير الخلقة بالجدع وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها وغير الصورة بالجدع والبتك فغير الفطرة إلى الشرك والخلقة إلى البتك والقطع فهذا تغيير خلقة الروح وهذا تغيير خلقة الصورة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)